الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَسْألُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهم قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ﴾ الآيَةَ . ذَكَرُوا في الطَّيِّباتِ قَوْلَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّها بِمَعْنى: الحَلالِ، وذَلِكَ أنَّ ضِدَّ الطَّيِّبِ هو الخَبِيثُ، والخَبِيثُ حَرامٌ، فَإذًا الطَّيِّبُ هو الحَلالُ، والأصْلُ فِيهِ الِاسْتِلْذاذُ، فَيُشْبِهُ الحَلالَ في انْتِفاءِ المَضَرَّةِ مِنها جَمِيعًا. وقالَ تَعالى: ﴿يا أيُّها الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ﴾ [المؤمنون: ٥١] يَعْنِي: الحَلالَ. وقالَ: ﴿ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبائِثَ﴾ [الأعراف: ١٥٧] وهي المُحَرَّماتُ. وهَذا فِيهِ بُعْدٌ مِن وجْهٍ؛ فَإنَّهُ إنْ كانَ الطَّيِّبُ بِمَعْنى الحَلالِ، فَتَقْدِيرُهُ: يَسْألُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ، قُلْ أُحِلَّ لَهُمُ الحَلالُ، فَيَكُونُ مَعْناهُ: إعادَةُ العِبارَةِ عَمّا سَألُوا عَنْهُ مِن غَيْرِ زِيادَةِ بَيانٍ، فَيَكُونُ بِمَثابَةِ مَن يَقُولُ: يَسْألُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ؟ قُلْ: أُحِلَّ لَهم ما أُحِلَّ لَكُمْ، وهو لا يَلِيقُ بِبَيانِ صاحِبِ الشَّرِيعَةِ. وكَذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يا أيُّها الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ﴾ [المؤمنون: ٥١] لَيْسَ المُرادُ بِهِ الحَلالَ فَقَطْ. (p-٢٣)وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ﴾ [الأعراف: ١٥٧] . ومَعْنى الجَمِيعِ ما يُسْتَطابُ مِنَ المَأْكُولاتِ لَيْسَ أنَّهُ التَّعْبِيرُ عَنْ نَفْسِ الشَّيْءِ. وأبانَ بِذَلِكَ أنَّهُ عَلى مُناقَضَةِ اليَهُودِ الَّذِينَ أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم بِقَوْلِهِ: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٦٠] . فَقالَ مُخْبِرًا عَنْ هَذا الدِّينِ: إنَّ هَذا الدِّينَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ، ويَتَضَمَّنُ التَّسْهِيلَ، ودَفْعَ الإصْرِ والأغْلالِ الَّتِي كانَتْ عَلى المُتَقَدِّمِينَ. وهَذا حَسَنٌ بَيِّنٌ في إبانَةِ مَعْنى الآيَةِ عَلى خِلافِ ما قالُوهُ مِنَ المَعْنى الآخَرِ، ولَمّا كانَ كَذَلِكَ قالَ الشّافِعِيُّ: أبانَ اللَّهُ تَعالى أنَّهُ أحَلَّ الطَّيِّباتِ، والطِّباعُ فِيما يُسْتَطابُ مِنَ الأشْياءِ واسْتِخْبائِها مُخْتَلِفَةٌ، فَوَجَبَ اعْتِبارُ حالِ فَرِيقٍ مِنَ الفِرَقِ الَّذِينَ بُعِثَ الرَّسُولُ إلَيْهِمْ، فَإنَّهُ ﷺ بُعِثَ إلى أُمَمٍ مُخْتَلِفَةِ الهِمَمِ والأخْلاقِ والطِّباعِ، ولا يُمْكِنُ اعْتِبارُ اسْتِطابَةِ الأُمَمِ عَلى اخْتِلافِها، فَجَعَلَتِ العَرَبُ الَّذِينَ هم قَوْمُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أصْلًا، وجَعَلَ مَن عَداهم تَبَعًا لَهُمْ، فَكُلُّ ما تَسْتَطِيبُهُ العَرَبُ هو حَلالٌ، كالثَّعْلَبِ والضَّبِّ، وما لا فَلا. فَبَيَّنَ الشّافِعِيُّ عِلَّةَ حِلِّ لَحْمِ الضَّبِّ، فَإنَّ الضَّبَّ مُسْتَطابٌ عِنْدَ العَرَبِ وإنْ كانَ لا تَشْتَهِيهِ نُفُوسُ العَجَمِ. فَهَذا تَمامُ ما أرَدْنا بَيانَهُ مِن هَذا المَعْنى. * * * وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾: (p-٢٤)اعْلَمْ أنَّ في ظاهِرِ الآيَةِ وقْفَةً لِلْمُتَأمِّلِ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿يَسْألُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ﴾ ثُمَّ قالَ في الجَوابِ: ﴿قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وما عَلَّمْتُمْ﴾، فَيَقْتَضِي أنْ يَكُونَ الحِلُّ المَسْؤُولُ عَنْهُ مُتَناوِلًا لِلْمُعَلَّمِ مِنَ الجَوارِحِ المُتَكَلِّبِينَ، وذَلِكَ لَيْسَ مَذْهَبًا لَنا ولا لِأحَدٍ، فَإنَّ الَّذِي يُبِيحُ لَحْمَ الكَلْبِ إنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْ مالِكٍ، فَلا يُخَصِّصُ الإباحَةَ بِالمُعَلَّمِ، فَقُلْ هَذا في الكَلامِ حَذْفٌ وتَقْدِيرُهُ: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ -ومِن جُمْلَتِهِ- صَيْدُ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ ما رُوِيَ عَنْ «عَدِيِّ بْنِ حاتِمٍ قالَ: لَمّا سَألْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ صَيْدِ الكَلْبِ لَمْ يَدْرِ ما يَقُولُ حَتّى نَزَلَتْ: ﴿وما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾» . وذَكَرَ بَعْضُ مَن صَنَّفَ في أحْكامِ القُرْآنِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ الآيَةَ تَناوَلَتْ ما عَلَّمْنا مِنَ الجَوارِحِ، وهو يَنْتَظِمُ الكَلْبَ وسائِرَ جَوارِحِ الطَّيْرِ، وذَلِكَ يُوجِبُ إباحَةَ سائِرِ الِانْتِفاعِ، فَدَلَّ عَلى جَوازِ بَيْعِ الكَلْبِ والجَوارِحِ والِانْتِفاعِ بِها بِسائِرِ وُجُوهِ المَنافِعِ، إلّا ما خَصَّهُ الدَّلِيلُ وهو الأكْلُ، وهَذا في غايَةِ البُعْدِ عَنِ الحَقِّ. فَإنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعالى: ﴿يَسْألُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ﴾ لَمْ يَتَناوَلِ السُّؤالَ عَنْ وُجُوهِ الِانْتِفاعِ بِالأعْيانِ في البِياعاتِ والهِباتِ والإجاراتِ، فَإنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ جَوابُهُ ذِكْرَ الطَّيِّباتِ وما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ، ثُمَّ يَقُولُ في مَساقِ ذَلِكَ: ﴿فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ ولا يَتَعَرَّضُ لِسائِرِ وُجُوهِ الِانْتِفاعِ مِنَ البَيْعِ والهِبَةِ. يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أنَّ السُّؤالَ إنَّما يَتَناوَلُ الأكْلَ فَقَطْ، والجَوابُ كانَ عَنْ ذَلِكَ، وكَيْفَ يَنْتَظِمُ في الكَلامِ أنْ يَسْألَ عَمّا يَنْتَفِعُ بِهِ مِنَ الأشْياءِ، (p-٢٥)فَيَذْكُرُ في خِلالِ ذَلِكَ الكَلْبَ بِمَعْنى البَيْعِ، وصَيْدَ الكَلْبِ بِمَعْنى الأكْلِ، ولَيْسَ جَوازَ البَيْعِ في المُعَلَّمِ لِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا، فَإنَّ غَيْرَ المُعَلَّمِ مِثْلُهُ مِن كَلْبِ الحِراثَةِ والحِراسَةِ وغَيْرِهِما؟ وقَوْلُهُ: ﴿وما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ﴾: يَقْتَضِي بِمُطْلَقِهِ جَوازَ تَناوُلِ كُلِّ ما اصْطادَهُ الكَلْبُ المُعَلَّمُ لِمالِكِهِ، وإنْ لَمْ يَجْرَحْهُ، وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مُكَلِّبِينَ﴾ مَعَ قَوْلِهِ: ﴿مِنَ الجَوارِحِ﴾ يَتَناوَلُ الكَلْبَ والفَهْدَ والصَّقْرَ، لِأنَّ اسْمَ الجَوارِحِ يَقَعُ عَلى الجَمِيعِ. ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ في بَعْضِ السَّوادِ أنَّهُ قالَ: لا يَصْلُحُ ما قَتَلَهُ البُزاةُ، وذَلِكَ خِلافُ الإجْماعِ، واسْمُ الجَوارِحِ يَقَعُ عَلى كُلِّ ما يَجْرَحُ أوْ يَجْتَرِحُ، أوْ إنْ عَنى بِهِ الكَواسِبَ لِلصَّيْدِ عَلى أهْلِها كالكِلابِ وسِباعِ الطُّيُورِ والَّتِي تَصْطادُ وغَيْرِها، واحَدُها جارِحٌ، وبِهِ سُمِّيَتِ الجارِحَةُ لِأنَّهُ يَكْتَسِبُ بِها، وقالَ تَعالى: ﴿ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ﴾ [الأنعام: ٦٠]: أيْ: ما كَسَبْتُمْ. ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ﴾ [الجاثية: ٢١] . وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى جَوازِ الِاصْطِيادِ لِكُلِّ ما عَلِمَ الِاصْطِيادُ مِن سائِرِ ذِي النّابِ مِنَ السِّباعِ، والمِخْلَبِ مِنَ الطَّيْرِ، وقِيلَ في الطَّيْرِ: إنَّها تَجْرَحُ أوْ تَخْلُبُ، وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ: ”مُكَلَّبِينَ“ أيْ: مُضْرِينَ عَلى الصَّيْدِ كَما تَضْرى الكِلابُ، والتَّكْلِيبُ هو التَّضْرِيَةُ، يُقالُ: كَلُبَ يَكْلُبُ إذا ضَرى بِالنّاسِ، ولا تَخْصِيصَ في ذَلِكَ لِلْكِلابِ دُونَ غَيْرِها مِنَ الجَوارِحِ. (p-٢٦)وإذا كانَتِ التَّضْرِيَةُ شامِلَةً وثَبَتَ ذَلِكَ، فَقَدْ صارَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحابَةِ أيْ إنَّ الإمْساكَ عَلى المالِكِ المَذْكُورِ في الآيَةِ في قَوْلِهِ: ﴿فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ هو الِانْقِيادُ لِلْمالِكِ في الإضْراءِ والإرْعِواءِ، فَإذا لَمْ تَهْرُبْ مِنهُ بَعْدَ الِاصْطِيادِ واحِدَةٌ فَلا يَحْرُمُ أصْلًا، وإنْ أكَلَ مِنهُ. وأبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ شَرَطُوا تَرْكَ الأكْلِ في الكَلْبِ والفَهْدِ، ولَمْ يَشْتَرِطُوهُ في الطُّيُورِ. والشّافِعِيُّ مالَ إلى هَذا الفَرْقِ في قَوْلٍ، وسَوّى في تَرْكِ الأكْلِ بَيْنَهُما، وهو القِياسُ. وإذا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ إنْ كانَ المُرادُ بِهِ تَرْكَ الأكْلِ، ما كانَ قَوْلُهُ: ﴿وما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ﴾ مُتَناوِلًا لِلْبازِي، ولِأجْلِ ذَلِكَ قالَ عَلِيٌّ: لا يَحِلُّ صَيْدُ البازِي أصْلًا، فَإنَّهُ لا يَتَحَقَّقُ تَعْلِيمُهُ عَلى تَرْكِ الأكْلِ. واعْلَمْ أنَّ الظّاهِرَ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾: أيْ: كُلُوا مِمّا اصْطَدْنَ بِأمْرِكم وإرْسالِكُمْ، وكانَ الِاصْطِيادُ صادِرًا عَنْ إعْزائِكم، ولِذَلِكَ ذَكَرَ الجَوارِحَ مُطْلَقًا ولَمْ يَتَهَيَّأْ لِعاقِلٍ أنْ يَقُولَ: إنَّ تَرْكَ الأكْلِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الكَلْبَ قَصَدَ الإمْساكَ لِلْمالِكِ، فَإنَّهُ لا وُقُوفَ عَلى نِيَّةِ الكَلْبِ، ولا أنَّ كَلْبًا في العالَمِ يَنْوِي الأخْذَ لِلْمالِكِ دُونَ نَفْسِهِ، بَلْ قَصَدَهُ لِنَفْسِهِ تَحْقِيقًا. وقِيلَ: الصَّيْدُ هو الذَّكاةُ، وتَرْكُ الأكْلِ شَرْطٌ بَعْدَ المَوْتِ، ويَبْعُدُ أنْ يَكُونَ ما بَعْدَ المَوْتِ شَرْطًا في الذَّبْحِ. (p-٢٧)نَعَمْ، إنّا نَشْتَرِطُ مَعْرِفَةَ غايَةِ الِانْقِيادِ لِلْمالِكِ ومُخالَفَةَ عادَتِهِ القَدِيمَةِ، وذَلِكَ بِأنْ لا يُقَدَّمَ دُونَ إرْسالِ الصَّيْدِ، وإنْ أوْقَفَهُ وقَفَ، وكانَ الَّذِي شَرَطَ تَرْكَ الأكْلِ، شَرَطَ ذَلِكَ لِيُبَيِّنَ بِهِ مُخالَفَةَ عادَتِهِ وطَبْعِهِ. وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ صَحَّ مِن هَذِهِ الجِهَةِ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ لَيْسَ أنَّهُ أرادَ بِهِ نِيَّةَ الكَلْبِ في الإمْساكِ لِلْمالِكِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب