قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النَّاسُ هُنَا أَهْلُ مَكَّةَ، وَإِحَاطَتُهُ بِهِمْ إِهْلَاكُهُ إِيَّاهُمْ، أَيْ إِنَّ اللَّهَ سَيُهْلِكُهُمْ. وَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِ كَوْنِهِ. وَعَنَى بِهَذَا الْإِهْلَاكِ الْمَوْعُودِ مَا جَرَى يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ الْفَتْحِ. وَقِيلَ: مَعْنَى "أَحاطَ بِالنَّاسِ" أَيْ أَحَاطَتْ قُدْرَتُهُ بِهِمْ، فَهُمْ فِي قَبْضَتِهِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ مَشِيئَتِهِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَعْنَى أَحَاطَ عِلْمُهُ بِالنَّاسِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ عِصْمَتُهُ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَقْتُلُوهُ حَتَّى يُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ، أَيْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا، بَلْ عَلَيْكَ التَّبْلِيغُ، فَبَلِّغْ بِجِدِّكَ فَإِنَّا نَعْصِمُكَ مِنْهُمْ وَنَحْفَظُكَ، فَلَا تَهَبْهُمْ، وَامْضِ لِمَا آمُرُكَ بِهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، فَقُدْرَتُنَا مُحِيطَةٌ بِالْكُلِّ، قَالَ مَعْنَاهُ الْحَسَنُ وَعُرْوَةُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ﴾ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ إِنْزَالَ آيَاتِ الْقُرْآنِ تَتَضَمَّنُ التَّخْوِيفَ ضَمَّ إِلَيْهِ ذِكْرَ آيَةِ الْإِسْرَاءِ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي صَدْرِ السُّورَةِ. وَفِي الْبُخَارِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ" قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا النَّبِيُّ ﷺ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ: "وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ" هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَبِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَتْ عَائِشَةُ وَمُعَاوِيَةُ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَابْنُ زَيْدٍ. وَكَانَتِ الْفِتْنَةُ ارْتِدَادَ قَوْمٍ كَانُوا أَسْلَمُوا حِينَ أَخْبَرَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ. وَقِيلَ: كَانَتْ رُؤْيَا نَوْمٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْضِي بِفَسَادِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ رُؤْيَا الْمَنَامِ لَا فِتْنَةَ فِيهَا، وَمَا كَانَ أَحَدٌ لِيُنْكِرَهَا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الرُّؤْيَا الَّتِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ هِيَ رُؤْيَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ فِي سَنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَرُدَّ فَافْتُتِنَ الْمُسْلِمُونَ لِذَلِكَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُّ الْمُقْبِلُ دَخَلَهَا، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى" لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ [[راجع ج ١٦ ص ٢٨٩.]] ". وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ ضَعْفٌ، لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ وَتِلْكَ الرُّؤْيَا كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ ثَالِثَةٍ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى في المنام بنى مروان ينزون عَلَى مِنْبَرِهِ نَزْوَ الْقِرَدَةِ، فَسَاءَهُ ذَلِكَ فَقِيلَ: إِنَّمَا هِيَ الدُّنْيَا أُعْطُوهَا، فَسُرِّيَ عَنْهُ، وَمَا كَانَ لَهُ بِمَكَّةَ مِنْبَرٌ وَلَكِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرَى بِمَكَّةَ رُؤْيَا الْمِنْبَرِ بِالْمَدِينَةِ. وَهَذَا التَّأْوِيلُ الثَّالِثُ قَالَهُ أَيْضًا سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ سَهْلٌ إِنَّمَا هَذِهِ الرُّؤْيَا هِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَرَى بَنِي أُمَيَّةَ يَنْزُونَ عَلَى مِنْبَرِهِ نَزْوَ الْقِرَدَةِ، فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ، وَمَا اسْتَجْمَعَ ضَاحِكًا مِنْ يَوْمئِذٍ حَتَّى مَاتَ ﷺ. فَنَزَلَتِ الْآيَةُ مُخْبِرَةً أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَمَلُّكِهِمْ وَصُعُودِهِمْ يَجْعَلُهَا اللَّهُ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَامْتِحَانًا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي خُطْبَتِهِ فِي شَأْنِ بَيْعَتِهِ لِمُعَاوِيَةَ:" وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ [[راجع ج ١١ ص ٣٥٠.]] ". قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ نَظَرٌ، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الرُّؤْيَا عُثْمَانُ وَلَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَلَا مُعَاوِيَةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ﴾ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ مَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ. وَفِتْنَتُهَا أَنَّهُمْ لَمَّا خُوِّفُوا بِهَا قَالَ أَبُو جَهْلٍ اسْتِهْزَاءً: هَذَا مُحَمَّدٌ يَتَوَعَّدُكُمْ بِنَارٍ تُحْرِقُ الْحِجَارَةَ، ثُمَّ يَزْعُمُ أَنَّهَا تُنْبِتُ الشَّجَرَ وَالنَّارُ تَأْكُلُ الشَّجَرَ، وَمَا نَعْرِفُ الزَّقُّومَ إِلَّا التَّمْرَ وَالزُّبْدَ، ثُمَّ أَمَرَ أَبُو جَهْلٍ جَارِيَةً فَأَحْضَرَتْ تَمْرًا وَزُبْدًا وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: تَزَقَّمُوا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْقَائِلَ مَا نَعْلَمُ الزَّقُّومَ إِلَّا التَّمْرَ وَالزُّبْدَ ابْنُ الزِّبَعْرَى حَيْثُ قَالَ: كَثَّرَ اللَّهُ مِنَ الزَّقُّومِ فِي دَارِكُمْ، فَإِنَّهُ التَّمْرُ بِالزُّبْدِ بِلُغَةِ الْيَمَنِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَقُولَ كِلَاهُمَا ذَلِكَ. فَافْتُتِنَ أَيْضًا لِهَذِهِ الْمَقَالَةِ بَعْضُ الضُّعَفَاءِ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَ الْإِسْرَاءَ وَذِكْرَ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ فِتْنَةً وَاخْتِبَارًا لِيَكْفُرَ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ وَيُصَدِّقَ مَنْ سَبَقَ لَهُ الْإِيمَانُ. كَمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِيلَ لَهُ صَبِيحَةَ الْإِسْرَاءِ: إِنَّ صَاحِبَكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ جَاءَ الْبَارِحَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ فَلَقَدْ صَدَقَ. فَقِيلَ لَهُ: أَتُصَدِّقُهُ قَبْلَ أَنْ تسمع منه؟ فقال: أبن عُقُولُكُمْ؟ أَنَا أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ، فَكَيْفَ لَا أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالسَّمَاءُ أَبْعَدُ مِنْهَا بكثير.
قُلْتُ: ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ، وَنَصُّهُ: قَالَ كَانَ مِنَ الْحَدِيثِ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ مَسْرَاهُ ﷺ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَائِشَةَ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَالْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ وَابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ، مَا اجْتَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، كُلٌّ يُحَدِّثُ عنه بعض ما ذكر مِنْ أَمْرِهِ حِينَ أُسْرِيَ بِهِ ﷺ، وَكَانَ فِي مَسْرَاهُ وَمَا ذُكِرَ عَنْهُ بَلَاءٌ وَتَمْحِيصٌ وَأَمْرٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ فِيهِ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَهُدًى وَرَحْمَةٌ وَثَبَاتٌ لِمَنْ آمَنَ وَصَدَّقَ وَكَانَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى يَقِينٍ، فَأَسْرَى بِهِ ﷺ كَيْفَ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ لِيُرِيَهُ مِنْ آيَاتِهِ مَا أَرَادَ، حَتَّى عَايَنَ مَا عَايَنَ مِنْ أَمْرِهِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ، وَقُدْرَتِهِ الَّتِي يَصْنَعُ بِهَا مَا يُرِيدُ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُ يَقُولُ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِالْبُرَاقِ- وَهِيَ الدَّابَّةُ الَّتِي كَانَتْ تُحْمَلُ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ تَضَعُ حَافِرَهَا فِي مُنْتَهَى طَرَفِهَا- فَحُمِلَ عَلَيْهَا، ثُمَّ خَرَجَ بِهِ صَاحِبُهُ يَرَى الْآيَاتِ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَوَجَدَ فِيهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى فِي نَفَرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ جُمِعُوا لَهُ فَصَلَّى بِهِمْ ثُمَّ أُتِيَ بِثَلَاثَةِ آنِيَةٍ: إِنَاءٍ فِيهِ لَبَنٌ وَإِنَاءٍ فِيهِ خَمْرٌ، وَإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "فَسَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ حِينَ عُرِضَتْ عَلَيَّ إِنْ أَخَذَ الْمَاءَ فَغَرِقَ وَغَرِقَتْ أُمَّتُهُ وَإِنْ أَخَذَ الْخَمْر فَغَوِيَ وَغَوَتْ أُمَّتُهُ وَإِنْ أَخَذَ اللَّبَنَ فَهُدِيَ وَهُدِيَتْ أُمَّتُهُ قَالَ فَأَخَذْتُ إِنَاءَ اللَّبَنِ فشربت فقال لي جِبْرِيلُ هُدِيتَ وَهُدِيَتْ أُمَّتُكَ يَا مُحَمَّدُ". قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحُدِّثْتُ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ فِي الْحِجْرِ جَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ فَجَلَسْتُ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا ثُمَّ عُدْتُ لِمَضْجَعِي فَجَاءَنِي الثَّانِيَةَ فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ فَجَلَسْتُ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا فَعُدْتُ لِمَضْجَعِي فَجَاءَنِي الثَّالِثَةَ فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ فَجَلَسْتُ فَأَخَذَ بِعَضُدَيَّ فَقُمْتُ مَعَهُ فَخَرَجَ إِلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَإِذَا دَابَّةٌ أَبْيَضُ بَيْنَ الْبَغْلِ وَالْحِمَارِ فِي فَخِذَيْهِ جَنَاحَانِ يَحْفِزُ بِهِمَا رِجْلَيْهِ يَضَعُ حَافِرَهُ فِي مُنْتَهَى طَرْفِهِ فَحَمَلَنِي عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مَعِي لَا يَفُوتُنِي وَلَا أَفُوتُهُ".
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحُدِّثْتُ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:" لَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ لِأَرْكَبَهُ شَمَسَ [[شمست الدابة والقرس تشمس: شردت وجمحت ومنعت ظهرها.]] فَوَضَعَ جِبْرِيلُ يَدَهُ عَلَى مَعْرَفَتِهِ ثُمَّ قَالَ أَلَا تَسْتَحِي يَا بُرَاقُ مِمَّا تَصْنَعُ فَوَاللَّهِ مَا رَكِبَكَ عَبْدٌ لِلَّهِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ قَالَ فَاسْتَحْيَا حَتَّى ارْفَضَّ عَرَقًا ثُمَّ قَرَّ حَتَّى رَكِبْتُهُ". قَالَ الْحَسَنُ فِي حَدِيثِهِ: فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَمَضَى مَعَهُ (جِبْرِيلُ) حَتَّى انْتَهَى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَوَجَدَ فِيهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى فِي نَفَرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَأَمَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَصَلَّى بِهِمْ ثُمَّ أُتِيَ بِإِنَاءَيْنِ: فِي أَحَدِهِمَا خَمْرٌ وَفِي الْآخَرِ لَبَنٌ، قَالَ: فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِنَاءَ اللَّبَنِ فَشَرِبَ مِنْهُ وَتَرَكَ إِنَاءَ الْخَمْرِ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: هُدِيتَ الْفِطْرَةَ وَهُدِيَتْ أُمَّتُكَ وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْخَمْرُ. ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى قُرَيْشٍ فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ، فَقَالَ أَكْثَرُ النَّاسِ: هَذَا وَاللَّهِ الْأَمْرُ الْبَيِّنُ وَاللَّهِ إِنَّ الْعِيرَ لَتُطْرَدُ شَهْرًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ، مُدْبِرَةً شَهْرًا وَمُقْبِلَةً شَهْرًا، فَيَذْهَبُ ذَلِكَ مُحَمَّدٌ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَرْجِعُ إِلَى مَكَّةَ قَالَ: فَارْتَدَّ كَثِيرٌ مِمَّنْ كَانَ أَسْلَمَ، وَذَهَبَ النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا: هَلْ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ فِي صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَصَلَّى فِيهِ وَرَجَعَ إِلَى مَكَّةَ. قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّكُمْ تَكْذِبُونَ عَلَيْهِ. فَقَالُوا: بَلَى، هَا هُوَ ذَا فِي الْمَسْجِدِ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ قَالَهُ لَقَدْ صَدَقَ فَمَا يُعْجِبُكُمْ مِنْ ذَلِكَ فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَيُخْبِرُنِي أَنَّ الْخَبَرَ لَيَأْتِيِهِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَأُصَدِّقُهُ، فَهَذَا أَبْعَدُ مِمَّا تَعْجَبُونَ مِنْهُ. ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَحَدَّثْتَ هَؤُلَاءِ أَنَّكَ جِئْتَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ هَذِهِ اللَّيْلَةَ؟ قَالَ "نَعَمْ" قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَصِفْهُ لِي فَإِنِّي قَدْ جِئْتُهُ؟ فَقَالَ الْحَسَنُ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "رُفِعَ لِي حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ" فَجَعَلَ
رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَصِفُهُ لِأَبِي بَكْرٍ وَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: صَدَقْتَ، أَشْهَدُ إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. كلما وَصَفَ لَهُ مِنْهُ شَيْئًا قَالَ: صَدَقْتَ، أَشْهَدُ إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: حَتَّى إِذَا انْتَهَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "وَأَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقُ" فَيَوْمئِذٍ سَمَّاهُ الصِّدِّيقُ. قَالَ الْحَسَنُ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَنِ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ لِذَلِكَ: "وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً". فَهَذَا حَدِيثُ الْحَسَنِ عَنْ مَسْرَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَمَا دَخَلَ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ. وَذَكَرَ بَاقِي الْإِسْرَاءِ عَمَّنْ تَقَدَّمَ فِي السِّيرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذِهِ الشَّجَرَةُ بَنُو أُمَيَّةَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَفَى الْحَكَمَ. وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ مُحْدَثٌ وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، فَيَبْعُدُ هَذَا التَّأْوِيلُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ. وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ لِمَرْوَانَ: لَعَنَ اللَّهُ أَبَاكَ وَأَنْتَ فِي صُلْبِهِ فَأَنْتَ بَعْضٌ [[هذه عبارة الفخر الرازي. والذي في الأصول: "فأنتقطط من لعنة الله". والصواب ما في النهاية: فأنت فضض من لعنة. أي قطعة منها.]] مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: "وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ" ولم يجز فِي الْقُرْآنِ لَعْنُ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكُفَّارَ وَهُمْ آكِلُوهَا. وَالْمَعْنَى: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ آكِلُوهَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى قَوْلِ الْعَرَبِ لِكُلِّ طَعَامٍ مَكْرُوهٍ ضَارٍ: مَلْعُونٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشَّجَرَةُ الْمَلْعُونَةُ هِيَ هَذِهِ الشَّجَرَةُ الَّتِي تَلْتَوِي عَلَى الشَّجَرِ فَتَقْتُلُهُ، يَعْنِي الْكَشُوثَ.
(وَنُخَوِّفُهُمْ) أَيْ بِالزَّقُّومِ.
(فَما يَزِيدُهُمْ) التخويف إلا الكفر.
{"ayah":"وَإِذۡ قُلۡنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِۚ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلرُّءۡیَا ٱلَّتِیۤ أَرَیۡنَـٰكَ إِلَّا فِتۡنَةࣰ لِّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلۡمَلۡعُونَةَ فِی ٱلۡقُرۡءَانِۚ وَنُخَوِّفُهُمۡ فَمَا یَزِیدُهُمۡ إِلَّا طُغۡیَـٰنࣰا كَبِیرࣰا"}