﴿وإذْ قُلْنا﴾ أيْ: واذْكُرْ زَمانَ قَوْلِنا بِواسِطَةِ الوَحْيِ ﴿لَكَ﴾ يا مُحَمَّدُ ﴿إنَّ رَبَّكَ أحاطَ بِالنّاسِ﴾ أيْ: عِلْمًا كَما رَواهُ غَيْرُ واحِدٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ فَلا يَخْفى عَلَيْهِ سُبْحانَهُ شَيْءٌ مِن أحْوالِهِمْ وأفْعالِهِمُ الماضِيَةِ والمُسْتَقْبَلَةِ مِنَ الكُفْرِ والتَّكْذِيبِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما جَعَلْنا الرُّؤْيا الَّتِي أرَيْناكَ إلا فِتْنَةً لِلنّاسِ﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلى تَحَقُّقِها بِالِاسْتِدْلالِ عَلَيْها بِما صَدَرَ عَنْهم عِنْدَ مَجِيءِ بَعْضِ الآياتِ لِاشْتِراكِ الكُلِّ في كَوْنِها أُمُورًا خارِقَةً لِلْعاداتِ مُنَزَّلَةً مِن جَنابِ رَبِّ العِزَّةِ جَلَّ مَجْدُهُ لِتَصْدِيقِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَتَكْذِيبُهم بِبَعْضِها يَدُلُّ عَلى تَكْذِيبِ الباقِي كَما أنَّ تَكْذِيبَ الأوَّلِينَ بِغَيْرِ المُقْتَرَحَةِ يَدُلُّ عَلى تَكْذِيبِهِمْ بِالمُقْتَرَحَةِ، والمُرادُ بِالرُّؤْيا ما عايَنَهُ ﷺ لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ مِنَ العَجائِبِ السَّماوِيَّةِ والأرْضِيَّةِ كَما أخْرَجَهُ البُخارِيُّ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ وجَماعَةٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وهي عِنْدَ كَثِيرٍ بِمَعْنى الرُّؤْيَةِ مُطْلَقًا وهُما مَصْدَرُ رَأى مِثْلَ القُرْبى والقَرابَةِ.
وقالَ بَعْضٌ: هي حَقِيقَةٌ في رُؤْيا المَنامِ ورُؤْيا اليَقَظَةِ لَيْلًا والمَشْهُورُ اخْتِصاصُها لُغَةً بِالمَنامِيَّةِ وبِذَلِكَ تَمَسَّكَ مَن زَعَمَ أنَّ الإسْراءَ كانَ مَنامًا وفي الآيَةِ ما يَرُدُّ عَلَيْهِ، والقائِلُونَ بِهَذا المَشْهُورِ الذّاهِبُونَ إلى أنَّهُ كانَ يَقَظَةً كَما هو الصَّحِيحُ قالُوا: إنَّ التَّعْبِيرَ بِها إمّا مُشاكَلَةً لِتَسْمِيَتِهِمْ لَهُ رُؤْيا أوْ جارٍ عَلى زَعْمِهِمْ كَتَسْمِيَةِ الأصْنامِ آلِهَةً؛ فَقَدْ رُوِيَ أنَّ بَعْضَهم قالَ لَهُ ﷺ لَمّا قَصَّ عَلَيْهِمُ الإسْراءَ: لَعَلَّهُ شَيْءٌ رَأيْتَهُ في مَنامِكَ أوْ عَلى التَّشْبِيهِ بِالرُّؤْيا لِما فِيها مِنَ العَجائِبِ أوْ لِوُقُوعِها لَيْلًا أوْ لِسُرْعَتِها؛ أيْ: وما جَعَلْنا الرُّؤْيا الَّتِي أرَيْناكَها عِيانًا مَعَ كَوْنِها آيَةً عَظِيمَةً وأيَّةُ آيَةٍ وقَدْ أقَمْتَ البُرْهانَ عَلى صِحَّتِها إلّا فِتْنَةً افْتَتَنَ بِها النّاسُ حَتّى ارْتَدَّ بَعْضُ مَن أسْلَمَ مِنهم ﴿والشَّجَرَةَ﴾ عُطِفَ عَلى ﴿الرُّؤْيا﴾ أيْ: وما جَعَلْنا الشَّجَرَةَ ﴿المَلْعُونَةَ في القُرْآنِ﴾ إلّا فِتْنَةً لَهم أيْضًا.
والمُرادُ بِها كَما رَوى البُخارِيُّ وخَلْقٌ كَثِيرٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، والمُرادُ بِلَعْنِها لَعْنُ طاعِمِيها مِنَ الكَفَرَةِ كَما رُوِيَ عَنْهُ أيْضًا، ووَصْفُها بِذَلِكَ مِنَ المَجازِ في الإسْنادِ وفِيهِ مِنَ المُبالَغَةِ ما فِيهِ (p-106)أوْ لَعْنُها نَفْسَها ويُرادُ بِاللَّعْنِ مَعْناهُ اللُّغَوِيُّ وهو البُعْدُ؛ فَهي لِكَوْنِها في أبْعَدِ مَكانٍ مِنَ الرَّحْمَةِ وهو أصْلُ الجَحِيمِ الَّذِي تَنْبُتُ فِيهِ مَلْعُونَةٌ حَقِيقَةً.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ الحَبْرِ أنَّها وُصِفَتْ بِالمَلْعُونَةِ لِتَشْبِيهِ طَلْعِها بِرُؤُوسِ الشَّياطِينِ، والشَّياطِينُ مَلْعُونُونَ. وقِيلَ: تَقُولُ العَرَبُ لِكُلِّ طَعامٍ مَكْرُوهٍ ضارٍّ: مَلْعُونٌ، ورُوِيَ في جَعْلِها فِتْنَةً لَهم أنَّهُ لَمّا نَزَلَ في أمْرِها في الصّافّاتِ وغَيْرِها ما نَزَلَ. قالَ أبُو جَهْلٍ وغَيْرُهُ: هَذا مُحَمَّدٌ ﷺ يَتَوَعَّدُكم بِنارٍ تَحْرِقُ الحِجارَةَ ثُمَّ يَقُولُ يَنْبُتُ فِيها الشَّجَرُ وما نَعْرِفُ الزَّقُّومَ إلّا بِالتَّمْرِ بِالزُّبْدِ، وأمَرَ أبُو جَهْلٍ جارِيَةً لَهُ فَأحْضَرَتْ تَمْرًا وزُبْدًا وقالَ لِأصْحابِهِ تَزَقَّمُوا.
وافْتُتِنَ بِهَذِهِ المَقالَةِ أيْضًا بَعْضُ الضُّعَفاءِ ولَقَدْ ضَلُّوا في ذَلِكَ ضَلالًا بَعِيدًا حَيْثُ كابَرُوا قَضِيَّةَ عُقُولِهِمْ؛ فَإنَّهم يَرَوْنَ النَّعامَةَ تَبْتَلِعُ الجَمْرَ وقِطَعَ الحَدِيدِ المُحْماةَ الحُمْرَ فَلا تَضُرُّها، والسَّمَندَلُ يُتَّخَذُ مِن وبَرِهِ مَنادِيلُ تُلْقى في النّارِ إذا اتَّسَخَتْ فَيَذْهَبُ الوَسَخُ وتَبْقى سالِمَةً، ومِن أمْثالِهِمْ في كُلِّ شَجَرٍ نارٌ واسْتَمْجَدَ المَرْخُ والعَفارُ.
وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّها الكَشُوثُ المَذْكُورَةُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ ما لَها مِن قَرارٍ﴾ ولَعْنُها في القُرْآنِ وصْفُها فِيهِ بِما سَمِعْتَ في هَذِهِ الآيَةِ، ومَرَّ آنِفًا ما مَرَّ عَنِ العَرَبِ، والِافْتِتانُ بِها أنَّهم قالُوا عِنْدَ سَماعِ الآيَةِ: ما بالُ الحَشائِشِ تُذْكَرُ في القُرْآنِ، والمَعْمُولُ عَلَيْهِ عِنْدَ الجُمْهُورِ رِوايَةُ الصَّحِيحِ عَنِ الحَبْرِ.
وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما: «والشَّجَرَةُ» بِالرَّفْعِ عَلى الِابْتِداءِ وحَذْفِ الخَبَرِ؛ أيْ: والشَّجَرَةُ المَلْعُونَةُ في القُرْآنِ كَذَلِكَ.
﴿ونُخَوِّفُهُمْ﴾ بِذَلِكَ ونَظائِرِهِ مِنَ الآياتِ فَإنَّ الكُلَّ لِلتَّخْوِيفِ، وإيثارُ صِيغَةِ الِاسْتِقْبالِ لِلدَّلالَةِ عَلى الِاسْتِمْرارِ التَّجَدُّدِيِّ.
وقَرَأ الأعْمَشُ: «ويُخَوِّفُهُمْ» بِالياءِ آخِرِ الحُرُوفِ ﴿فَما يَزِيدُهُمْ﴾ التَّخْوِيفُ ﴿إلا طُغْيانًا﴾ تَجاوُزًا عَنِ الحَدِّ ﴿كَبِيرًا﴾ لا يُقادَرُ قَدْرُهُ، فَلَوْ أرْسَلْنا بِما اقْتَرَحُوهُ مِنَ الآياتِ لَفَعَلُوا بِها فِعْلَهم بِإخْوانِها وفُعِلَ بِهِمْ ما فُعِلَ بِأمْثالِهِمْ وقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا بِتَأْخِيرِ العُقُوبَةِ العامَّةِ إلى الطّامَّةِ الكُبْرى هَذا فِيما أرى هو الأوْفَقُ بِالنَّظْمِ الكَرِيمِ واخْتارَهُ في إرْشادِ العَقْلِ السَّلِيمِ.
وعَنِ الحَسَنِ ومُجاهِدٍ وقَتادَةَ وأكْثَرِ المُفَسِّرِينَ تَفْسِيرُ الإحاطَةِ بِالقُدْرَةِ، والكَلامُ مَسُوقٌ لِتَسْلِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَمّا عَسى يَعْتَرِيهِ مِن عَدَمِ الإجابَةِ إلى إنْزالِ الآياتِ المُقْتَرَحَةِ لِمُخالَفَتِها لِلْحِكْمَةِ مَن نَوْعِ حُزْنٍ مِن طَعْنِ الكَفَرَةِ حَيْثُ كانُوا يَقُولُونَ: لَوْ كُنْتَ رَسُولًا حَقًّا لَأتَيْتَ بِهَذِهِ المُعْجِزَةِ كَما أتى بِها مِن قَبْلَكَ مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ فَكَأنَّهُ قِيلَ: اذْكُرْ وقْتَ قَوْلِنا لَكَ: إنَّ رَبَّكَ اللَّطِيفَ بِكَ قَدْ أحاطَ بِالنّاسِ فَهم في قَبْضَةِ قُدْرَتِهِ لا يَقْدِرُونَ عَلى الخُرُوجِ مِن رِبْقَةِ مَشِيئَتِهِ فَهو يَحْفَظُكَ مِنهم فَلا تَهْتَمَّ بِهِمْ وامْضِ لِما أمَرْتُكَ بِهِ مِن تَبْلِيغِ الرِّسالَةِ، ألا تَرى أنَّ الرُّؤْيا الَّتِي أرَيْناكَ مِن قَبْلُ جَعَلْناها فِتْنَةً لِلنّاسِ مُورِثَةً لِلشُّبْهَةِ مَعَ أنَّها ما أوْرَثَتْ ضَعْفًا لِأمْرِكَ وفُتُورًا في حالِكَ وبَعْضُهم حَمَلَ الإحاطَةَ عَلى الإحاطَةِ بِالعِلْمِ إلّا أنَّهُ ذَكَرَ في حاصِلِ المَعْنى ما يَقْرُبُ مِمّا ذُكِرَ فَقالَ: أيْ إنَّهُ سُبْحانَهُ عالِمٌ بِالنّاسِ عَلى أتَمِّ وجْهٍ فَيَعْلَمُ قَصْدَهم إلى إيذائِكَ إذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِما اقْتَرَحُوا ويَعْصِمُكَ مِنهم فامْضِ عَلى ما أنْتَ فِيهِ مِنَ التَّبْلِيغِ والإنْذارِ ألا تَرى إلَخْ.
ولا يَخْفى أنَّ ذِكْرَ الرَّبِّ مُضافًا إلى ضَمِيرِهِ ﷺ وأمْرَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِذِكْرِ ذَلِكَ القَوْلِ أنْسَبُ بِكَوْنِ الآيَةِ مَسُوقَةً لِتَسْلِيَتِهِ عَلى الوَجْهِ الَّذِي نُقِلَ، وذُكِرَ التَّخْوِيفُ وأنَّهُ ما يَزِيدُهم إلّا طُغْيانًا كَبِيرًا أوْفَقُ (p-107)بِما فُسِّرَتْ بِهِ الآيَةُ أوَّلًا، وادَّعى بَعْضُهم أنَّهُ لا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ تَسْلِيَةٍ، وقِيلَ: الإحاطَةُ هُنا الإهْلاكُ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ والنّاسُ قُرَيْشٌ ووَقْتُ ذَلِكَ الإهْلاكِ يَوْمُ بَدْرٍ، وعُبِّرَ عَنْهُ بِالماضِي مَعَ كَوْنِهِ مُنْتَظَرًا حَسْبَما يُنْبِئُ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَيُهْزَمُ الجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ﴾ وغَيْرُ ذَلِكَ لِتَحَقُّقِ الوُقُوعِ، وأُوِّلَتِ الرُّؤْيا بِما رَآهُ ﷺ في المَنامِ مِن مَصارِعِهِمْ كَما صَرَّحَ بِهِ في بَعْضِ الرِّواياتِ.
وصَحَّ «أنَّهُ ﷺ لَمّا ورَدَ ماءَ بَدْرٍ كانَ يَقُولُ: واللَّهِ لَكَأنِّي أنْظُرُ إلى مَصارِعِ القَوْمِ وهو يَضَعُ يَدَهُ الشَّرِيفَةَ عَلى الأرْضِ هاهُنا وهاهُنا ويَقُولُ: هَذا مَصْرَعُ فُلانٍ هَذا مَصْرَعُ فُلانٍ».
وهُوَ ظاهِرٌ في كَوْنِ ذَلِكَ مَنامًا.
ويُرْوى أنَّ قُرَيْشًا سَمِعَتْ بِما أُوحِيَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في شَأْنِ بَدْرٍ وما أُرِيَ في مَنامِهِ مِن مَصارِعِهِمْ فَكانُوا يَضْحَكُونَ ويَسْخَرُونَ وهو المُرادُ بِالفِتْنَةِ، وبِما رَآهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّهُ سَيَدْخُلُ مَكَّةَ وأخْبَرَ أصْحابَهُ فَتَوَجَّهَ إلَيْها فَصَدَّهُ المُشْرِكُونَ عامَ الحُدَيْبِيَةِ وإلَيْهِ ذَهَبَ أبُو مُسْلِمٍ والجُبائِيُّ، واعْتَذَرَ عَنْ كَوْنِ ما ذُكِرَ مَدَنِيًّا بِأنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الوَحْيُ بِإهْلاكِهِمْ وكَذا الرُّؤْيا واقِعًا بِمَكَّةَ وذِكْرُ الرُّؤْيا وتَعْيِينُ المَصارِعِ واقِعَيْنِ بَعْدَ الهِجْرَةِ، ويَلْزَمُ مِنهُ أنْ يَكُونَ الِافْتِتانُ بِذَلِكَ بَعْدَ الهِجْرَةِ وأنْ يَكُونَ ازْدِيادُهم طُغْيانًا مُتَوَقَّعًا غَيْرَ واقِعٍ عِنْدِ نُزُولِ الآيَةِ، وكُلُّ ذَلِكَ خِلافُ الظّاهِرِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قالَ: «رَأى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَنِي أُمَيَّةَ يَنْزُونَ عَلى مِنبَرِهِ نَزْوَ القِرَدَةِ فَساءَهُ ذَلِكَ فَما اسْتَجْمَعَ ضاحِكًا حَتّى ماتَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ: ﴿وما جَعَلْنا الرُّؤْيا﴾ إلَخْ».
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ وابْنُ عَساكِرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ قالَ: «رَأى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَنِي أُمَيَّةَ عَلى المَنابِرِ فَساءَهُ ذَلِكَ فَأوْحى اللَّهُ تَعالى إلَيْهِ: إنَّما هي دُنْيا أُعْطُوها؛ فَقَرَّتْ عَيْنُهُ، وذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما جَعَلْنا﴾ إلَخْ».
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ يَعْلى بْنِ مُرَّةَ قالَ: ««قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: رَأيْتُ بَنِي أُمَيَّةَ عَلى مَنابِرِ الأرْضِ وسَيَمْلِكُونَكم فَتَجِدُونَهم أرْبابَ سُوءٍ، واهْتَمَّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِذَلِكَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ: ﴿وما جَعَلْنا﴾ الآيَةَ»».
وأُخْرِجَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ««رَأيْتُ ولَدَ الحَكَمِ بْنِ أبِي العاصِ عَلى المَنابِرِ كَأنَّهُمُ القِرَدَةُ، وأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى في ذَلِكَ: ﴿وما جَعَلْنا﴾ إلَخْ والشَّجَرَةُ المَلْعُونَةُ الحَكَمُ ووَلَدُهُ»».
وفِي عِبارَةِ بَعْضِ المُفَسِّرِينَ هي بَنُو أُمَيَّةَ.
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ «عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها أنَّها قالَتْ لِمَرْوانَ بْنِ الحَكَمِ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ لِأبِيكَ وجَدِّكَ: إنَّكُمُ الشَّجَرَةُ المَلْعُونَةُ في القُرْآنِ»».
فَعَلى هَذا مَعْنى إحاطَتِهِ تَعالى بِالنّاسِ إحاطَةُ أقْدارِهِ بِهِمْ، والكَلامُ عَلى ما قِيلَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ؛ أيْ: وما جَعَلْنا تَعْبِيرَ الرُّؤْيا أوِ الرُّؤْيا فِيهِ مَجازٌ عَنْ تَعْبِيرِها، ومَعْنى جَعْلِ ذَلِكَ فِتْنَةً لِلنّاسِ جَعْلُهُ بَلاءً لَهم ومُخْتَبَرًا، وبِذَلِكَ فَسَّرَهُ ابْنُ المُسَيِّبِ، وكانَ هَذا بِالنِّسْبَةِ إلى خُلَفائِهِمُ الَّذِينَ فَعَلُوا ما فَعَلُوا وعَدَلُوا عَنْ سَنَنِ الحَقِّ وما عَدَلُوا، وما بَعْدَهُ بِالنِّسْبَةِ إلى ما عَدا خُلَفاءَهم مِنهم مِمَّنْ كانَ عِنْدَهم عامِلًا ولِلْخَبائِثِ عامِلًا أوْ مِمَّنْ كانَ مِن أعْوانِهِمْ كَيْفَما كانَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُرادُ: ما جَعَلْنا خِلافَتَهم وما جَعَلْناهم أنْفُسَهم إلّا فِتْنَةً، وفِيهِ مِنَ المُبالَغَةِ في ذَمِّهِمْ ما فِيهِ، وجُعِلَ ضَمِيرُ ( نُخَوِّفُهم ) عَلى هَذا لِما كانَ لَهُ أوَّلًا أوْ لِلشَّجَرَةِ بِاعْتِبارِ أنَّ المُرادَ بِها بَنُو أُمَيَّةَ، ولَعَنَهم لِما صَدَرَ مِنهم مَنِ اسْتِباحَةِ الدِّماءِ المَعْصُومَةِ والفُرُوجِ المُحْصَنَةِ وأخْذِ الأمْوالِ مِن غَيْرِ حَلِّها ومَنعِ الحُقُوقِ عَنْ أهْلِها وتَبْدِيلِ الأحْكامِ والحُكْمِ بِغَيْرِ ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ (p-108)والسَّلامُ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ القَبائِحِ العِظامِ والمَخازِي الجِسامِ الَّتِي لا تَكادُ تُنْسى ما دامَتِ اللَّيالِي والأيّامُ، وجاءَ لَعْنُهم في القُرْآنِ إمّا عَلى الخُصُوصِ كَما زَعَمَتْهُ الشِّيعَةُ أوْ عَلى العُمُومِ كَما نَقُولُ، فَقَدْ قالَ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ﴾ وقالَ عَزَّ وجَلَّ: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا في الأرْضِ وتُقَطِّعُوا أرْحامَكُمْ﴾ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأصَمَّهم وأعْمى أبْصارَهُمْ﴾ إلى آياتٍ أُخَرَ ودُخُولُهم في عُمُومٍ ذَلِكَ يَكادُ يَكُونُ دُخُولًا أوَّلِيًّا، لَكِنْ لا يَخْفى أنَّ هَذا لا يُسَوِّغُ عِنْدَ أكْثَرِ أهْلِ السُّنَّةِ لَعْنَ واحِدٍ مِنهم بِخُصُوصِهِ؛ فَقَدْ صَرَّحُوا أنَّهُ لا يَجُوزُ لَعْنُ كافِرٍ بِخُصُوصِهِ ما لَمْ يَتَحَقَّقْ مَوْتُهُ عَلى الكُفْرِ كَفِرْعَوْنَ ونَمْرُودَ فَكَيْفَ مَن لَيْسَ كافِرًا، وادَّعى السِّراجُ البُلْقِينِيُّ جَوازَ لَعْنِ العاصِي المُعَيَّنِ ونَوَّرَ دَعَواهُ بِحَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ: ««إذا دَعا الرَّجُلُ امْرَأتَهُ إلى فِراشِهِ فَأبَتْ أنْ تَجِيءَ فَباتَ غَضْبانَ لَعَنَتْها المَلائِكَةُ حَتّى تُصْبِحَ»».
وقالَ ولَدُهُ الجَلالُ: بَحَثْتُ مَعَ والِدِي في ذَلِكَ بِاحْتِمالِ أنْ يَكُونَ لَعْنُ المَلائِكَةِ لَها بِالعُمُومِ بِأنْ يَقُولَ: لَعَنَ اللَّهُ تَعالى مَن باتَتْ مُهاجِرَةً فِراشَ زَوْجِها ولَوِ اسْتُدِلَّ لِذَلِكَ بِخَبَرِ مُسْلِمٍ «أنَّهُ ﷺ مَرَّ بِحِمارٍ وُسِمَ بِوَجْهِهِ فَقالَ: «لَعَنَ اللَّهُ تَعالى مَن فَعَلَ هَذا»» لَكانَ أظْهَرَ.
إذِ الإشارَةُ بِهَذا صَرِيحَةٌ في لَعْنِ مُعَيَّنٍ إلّا أنْ يُؤَوَّلَ بِأنَّ المُرادَ فاعِلُ جِنْسِ ذَلِكَ لا فاعِلُ هَذا المُعَيَّنِ وفِيهِ ما فِيهِ، واسْتَدَلَّ بَعْضُ مَن وافَقَهُ لِذَلِكَ أيْضًا بِما صَحَّ أنَّهُ ﷺ قالَ: ««اللَّهُمَّ العَنْ رِعْلًا وذَكْوانَ وعُصَيَّةَ عَصَوُا اللَّهَ تَعالى ورَسُولَهُ»».
فَإنَّ فِيهِ لَعْنَ أقْوامٍ بِأعْيانِهِمْ، وأُجِيبَ بِأنَّهُ يَجُوزُ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَلِمَ مَوْتَهم أوْ مَوْتَ أكْثَرِهِمْ عَلى الكُفْرِ فَلَمْ يَلْعَنْ إلّا مَن عَلِمَ مَوْتَهُ عَلَيْهِ وهو كَما تَرى، ولا يَخْفى أنَّ تَفْسِيرَ الآيَةِ بِما ذُكِرَ غَيْرُ ظاهِرِ المُلاءَمَةِ لِلسِّياقِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِصِحَّةِ الأحادِيثِ، وقِيلَ: الشَّجَرَةُ المَلْعُونَةُ مَجازٌ عَنْ أبِي جَهْلٍ وكانَ فِتْنَةً وبَلاءً عَلى المُسْلِمِينَ لَعَنَهُ اللَّهُ تَعالى، وقِيلَ: مَجازٌ عَنِ اليَهُودِ الَّذِينَ تَظاهَرُوا عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ولَعْنُهم في القُرْآنِ ظاهِرٌ، وفِتْنَتُهم أنَّهم كانُوا يَنْتَظِرُونَ بِعْثَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَلَمّا بُعِثَ كَفَرُوا بِهِ وقالُوا: لَيْسَ هو الَّذِي كُنّا نَنْتَظِرُهُ فَثَبَّطُوا كَثِيرًا مِنَ النّاسِ بِمَقالَتِهِمْ عَنِ الإسْلامِ.
{"ayah":"وَإِذۡ قُلۡنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِۚ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلرُّءۡیَا ٱلَّتِیۤ أَرَیۡنَـٰكَ إِلَّا فِتۡنَةࣰ لِّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلۡمَلۡعُونَةَ فِی ٱلۡقُرۡءَانِۚ وَنُخَوِّفُهُمۡ فَمَا یَزِیدُهُمۡ إِلَّا طُغۡیَـٰنࣰا كَبِیرࣰا"}