ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ؛ لِلتَّعْرِيفِ بِمُطابَقَةِ الخَبَرِ الخَبَرَ: ”اذْكُرْ أنّا قُلْنا لَكَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: ٩٦] ﴿ولَوْ جاءَتْهم كُلُّ آيَةٍ﴾ [يونس: ٩٧]؛ واذْكُرْ ما وقَعَ مِن ذَلِكَ ماضِيًا؛ مِن آياتِ الأوَّلِينَ؛ وحالًا؛ مِن قِصَّةِ الإسْراءِ؛ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿وإذْ﴾؛ أيْ: واذْكُرْ إذْ؛ ﴿قُلْنا﴾؛ عَلى ما لَنا مِنَ العَظَمَةِ المُحِيطَةِ؛ ﴿لَكَ إنَّ رَبَّكَ﴾؛ المُتَفَضِّلَ بِالإحْسانِ إلَيْكَ؛ بِالرِّفْقِ بِأُمَّتِكَ؛ ﴿أحاطَ بِالنّاسِ﴾؛ عِلْمًا وقُدْرَةً؛ تَجِدُ ذَلِكَ إذا طَبَّقْتَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ أمْرًا سَوِيًّا؛ حَذْوَ القِذَّةِ؛ لا تَفاوُتَ فِيهِ؛ واعْلَمْ أنَّهُ مانِعُكَ مِنهُمْ؛ وحائِطُكَ؛ ومُظْهِرٌ دِينَكَ؛ كَما وعَدَكَ؛ ثُمَّ عَطَفَ عَلى“وما نُرْسِلُ”؛ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿وما جَعَلْنا﴾؛ أيْ: بِما لَنا مِنَ القُوَّةِ الباهِرَةِ؛ الَّتِي لَها الغِنى المُطْلَقُ؛ ﴿الرُّؤْيا الَّتِي أرَيْناكَ﴾؛ أيْ: بِتِلْكَ العَظَمَةِ؛ الَّتِي شاهَدْتَها لَيْلَةَ الإسْراءِ؛ ﴿إلا فِتْنَةً﴾؛ أيْ: امْتِحانًا؛ واخْتِبارًا؛ ﴿لِلنّاسِ﴾؛ لِيَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ في عالَمِ الشَّهادَةِ المُتَّقِي المُحْسِنُ؛ والجاهِلُ المُسِيءُ؛ كَما هو عِنْدَنا في عالَمِ الغَيْبِ؛ فَنُقِيمَ بِها عَلَيْهِمُ الحُجَّةَ؛ لا لِيُؤْمِنَ أحَدٌ مِمَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِمُ الكَلِمَةُ؛ ولا لِنَزْدادَ نَحْنُ عِلْمًا (p-٤٥٨)بِسَرائِرِهِمْ؛ ولا شَكَّ في أنَّ قِصَّةَ الإسْراءِ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ؛ ثُمَّ إلى السَّماواتِ العُلا؛ كانَ يَقَظَةً؛ لا مَنامًا؛ بِالدَّلِيلِ القَطْعِيِّ المُتَواتِرِ؛ مِن تَكْذِيبِ مَن كَذَّبَ؛ وارْتِدادِ مَنِ ارْتَدَّ؛ وهَذا مَذْهَبُ الجُمْهُورِ؛ وأهْلِ السُّنَّةِ؛ والجَماعَةِ؛ وقَدْ ورَدَ في صِحَّتِهِ ما لا يُحْصى مِنَ الأخْبارِ؛ هَذا النَّقْلُ؛ وأمّا الإمْكانُ العَقْلِيُّ فَثابِتٌ؛ غَيْرُ مُحْتاجٍ إلى بَيانٍ؛ فَإنَّ كُلَّ ذَرَّةٍ مِن ذَرّاتِ المَوْجُوداتِ فِيها مِنَ العَجائِبِ؛ والغَرائِبِ؛ والدَّقائِقِ؛ والرَّقائِقِ؛ ما يَتَحَيَّرُ فِيهِ العُقُولُ؛ لَكِنْ لَمّا كانَ عَلى وفْقِ العادَةِ ألِفَتْهُ الطِّباعُ؛ فَلَمْ تُنْكِرْهُ الأبْصارُ؛ ولا الأسْماعُ؛ وأمّا مِثْلُ هَذا فَلَمّا كانَ عَلى خِلافِ العادَةِ اسْتَنْكَرَهُ ضُعَفاءُ العُقُولِ؛ الَّذِينَ لا يَتَجاوَزُ فَهْمُهُمُ المَحْسُوساتِ؛ عَلى ما ألِفُوا مِنَ العاداتِ؛ وأمّا أُولُو الألْبابِ؛ الَّذِينَ سَلِمُوا مِن نَزْعاتِ الشَّيْطانِ؛ ووَساوِسِ العادَةِ؛ ونَظَرُوا بِأعْيُنِ البَصائِرِ إلى آثارِ رَحْمَةِ اللَّهِ في صُنْعِ المَصْنُوعاتِ؛ وإحْداثِ المُحْدَثاتِ في المُلْكِ والمَلَكُوتِ؛ والشَّهادَةِ والغَيْبِ؛ والخَلْقِ والأمْرِ؛ فاعْتَرَفُوا بِهِ؛ وإنَّهُ مِن عَظِيمِ الآياتِ؛ وبَدائِعِ الدَّلائِلِ النَّيِّراتِ؛ وأدَلُّ دَلِيلٍ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ (تَعالى):“فِتْنَةً”؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ رُؤْيا مَنامٍ لَمْ يَكُنْ بِحَيْثُ يَسْتَبْعِدُهُ أحَدٌ؛ فَلَمْ يَكُنْ فِتْنَةً؛ ولَعَلَّهُ إنَّما سَمّاهُ رُؤْيا - وهي لِلْمَنامِ - عَلى وجْهِ (p-٤٥٩)التَّشْبِيهِ؛ والِاسْتِعارَةِ؛ لِما فِيهِ مِنَ الخَوارِقِ الَّتِي هي بِالمَنامِ ألْيَقُ في مَجارِي العاداتِ؛ رَوى البُخارِيُّ في التَّفْسِيرِ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - ﴿وما جَعَلْنا الرُّؤْيا الَّتِي أرَيْناكَ﴾؛ الآيَةَ؛ قالَ: هي رُؤْيا عَيْنٍ؛ أُرِيَها رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ - لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ.
ولَمّا كانَ كُلُّ ما خَفِيَ سَبَبُهُ؛ وخَرَجَ عَنِ العادَةِ؛ فِتْنَةً؛ يَعْلَمُ بِهِ مَن في طَبْعِهِ الحَقُّ؛ ومَن في طَبْعِهِ الباطِلُ؛ ومَن هو سَلِيمُ الفِطْرَةِ؛ ومَن هو مَعْكُوسُها؛ وكانَ قَدْ أخْبَرَ أنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ تَنْبُتُ في أصْلِ الجَحِيمِ؛ وكانَ ذَلِكَ في غايَةِ الغَرابَةِ؛ ضَمَّهُ إلى الإسْراءِ في ذَلِكَ؛ فَقالَ (تَعالى): ﴿والشَّجَرَةَ﴾؛ عَطْفًا عَلى“الرُّؤْيا”؛ ﴿المَلْعُونَةَ في القُرْآنِ﴾؛ بِكَوْنِها ضارَّةً؛ والعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ ضارٍّ مَلْعُونًا؛ وبِكَوْنِها في دارِ اللَّعْنَةِ؛ وكُلُّ مَن لَهُ عَقْلٌ يُرِيدُ بُعْدَها عَنْهُ؛ وهي - كَما رَواهُ البُخارِيُّ؛ في التَّفْسِيرِ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما -؛ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ؛ جَعَلْناها أيْضًا فِتْنَةً لِلنّاسِ؛ نُقِيمُ بِها عَلَيْهِمُ الحُجَّةَ في الكُفْرِ؛ والإيمانِ؛ فَنُثَبِّتُهُمْ؛ أيْ: مَن أرَدْنا إيمانَهُ مِنهم بِالأوَّلِ؛ وهو الإسْراءُ؛ ﴿ونُخَوِّفُهُمْ﴾؛ بِالثّانِي؛ وأمْثالِهِ؛ ﴿فَما يَزِيدُهُمْ﴾؛ أيْ: الكافِرِينَ مِنهُمُ؛ التَّخْوِيفُ؛ حالَ التَّخْوِيفِ؛ فَما بَعْدَهُ مِن أزْمِنَةِ الِاسْتِقْبالِ؛ أجْدَرُ بِالزِّيادَةِ؛ (p-٤٦٠)﴿إلا طُغْيانًا﴾؛ أيْ: تَجاوُزًا لِلْحَدِّ؛ هو في غايَةِ العِظَمِ؛ ﴿كَبِيرًا﴾؛ فَيَقُولُونَ في الأوَّلِ ما تَقَدَّمَ في أوَّلِ السُّورَةِ؛ وفي الثّانِي: إنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُ: إنَّ وقُودَ النّارِ النّاسُ والحِجارَةُ؛ ثُمَّ يَقُولُ: إنَّ فِيها شَجَرًا؛ قَدْ عَلِمْتُمْ أنَّ النّارَ تَحْرِقُ الشَّجَرَ؛ ولَمْ يَقُولُوا ما هم أعْلَمُ النّاسِ بِهِ؛ مِن أنَّ الَّذِي جَعَلَ لَهم مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نارًا؛ قادِرٌ عَلى أنْ يَجْعَلَ في النّارِ شَجَرًا؛ ومِن أنْسَبِ الأشْياءِ اسْتِحْضارًا هُنا ما ذَكَرَهُ العَلّامَةُ؛ شَيْخُ مَشايِخِنا؛ زَيْنُ الدِّينِ أبُو بَكْرِ بْنُ الحُسَيْنِ المَراغِيُّ؛ بِمُعْجَمِ العَيْنِ المَدَنِيِّ؛ في تَأْرِيخِ المَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ؛ في أوائِلِ البابِ الرّابِعِ؛ في ذِكْرِ الأوْدِيَةِ؛ فَإنَّهُ قالَ: وادِي الشَّظاةِ - أيْ: بِمُعْجَمَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ - يَأْتِي مِن شَرْقِيِّ المَدِينَةِ؛ مِن أماكِنَ بَعِيدَةٍ عَنْها؛ إلى أنْ يَصِلَ السَّدَّ الَّذِي أحْدَثَتْهُ نارُ الحَرَّةِ الَّتِي ظَهَرَتْ في جُمادى الآخِرَةِ سَنَةَ أرْبَعٍ وخَمْسِينَ وسِتِّمِائَةٍ - يَعْنِي: وهي المُشارُ إلَيْها بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ وسَلَّمَ - «“لا تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى تَخْرُجَ نارٌ بِالحِجازِ تُضِيءُ لَها أعْناقُ الإبِلِ بِبَصْرى"؛» قالَ: وكانَ ظُهُورُها مِن وادٍ يُقالُ لَهُ أحِيلِيِّينَ في الحَرَّةِ الشَّرْقِيَّةِ؛ وصارَتْ مِن مُخْرَجِها إلى جِهَةِ الشَّمالِ؛ مُدَّةَ ثَلاثَةِ أشْهُرٍ؛ (p-٤٦١)تَدِبُّ دَبِيبَ النَّمْلِ؛ تَأْكُلُ ما مَرَّتْ عَلَيْهِ مِن جَبَلٍ؛ وحَجَرٍ؛ ولا تَأْكُلُ الشَّجَرَ؛ فَلا تَمُرُّ عَلى شَيْءٍ مِن ذَلِكَ إلّا صارَ سَدًّا؛ لا مَسْلَكَ لِإنْسانٍ فِيهِ؛ ولا دابَّةٍ؛ إلى مُنْتَهى الحَرَّةِ مِن جِهَةِ الشَّمالِ؛ فَذَكَرَ القِصَّةَ؛ وهي غَرِيبَةٌ؛ وأسْنَدَ فِيها عَنِ المَطَرِيِّ فِيما يَتَعَلَّقُ بِعَدَمِ أذاها لِلْخَشَبِ.
{"ayah":"وَإِذۡ قُلۡنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِۚ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلرُّءۡیَا ٱلَّتِیۤ أَرَیۡنَـٰكَ إِلَّا فِتۡنَةࣰ لِّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلۡمَلۡعُونَةَ فِی ٱلۡقُرۡءَانِۚ وَنُخَوِّفُهُمۡ فَمَا یَزِیدُهُمۡ إِلَّا طُغۡیَـٰنࣰا كَبِیرࣰا"}