الباحث القرآني

يَقُولُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فِي إِنْزَالِي عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، طَعَامًا طَيِّبًا نَافِعًا هَنِيئًا سَهْلًا وَاذْكُرُوا دَبَرَكم وَضَجَرَكُمْ مِمَّا رزَقتكم [[في جـ: "مما رزقناكم".]] وَسُؤَالَكُمْ مُوسَى اسْتِبْدَالَ ذَلِكَ بِالْأَطْعِمَةِ الدَّنِيَّةِ مِنَ الْبُقُولِ وَنَحْوِهَا مِمَّا سَأَلْتُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَبَطَرُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَصْبِرُوا عَلَيْهِ، وَذَكَرُوا عَيْشَهُمُ [[في جـ: "شيمهم".]] الَّذِي كَانُوا فِيهِ، وَكَانُوا قَوْمًا أَهْلَ أَعْدَاسٍ وَبَصَلٍ وَبَقْلٍ وَفُومٍ، فَقَالُوا: ﴿يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا﴾ [وَهُمْ يَأْكُلُونَ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، لِأَنَّهُ لَا يَتَبَدَّلُ وَلَا يَتَغَيَّرُ كُلَّ يَوْمٍ فَهُوَ كَأَكْلٍ وَاحِدٍ] [[زيادة من جـ.]] . فَالْبُقُولُ وَالْقِثَّاءُ وَالْعَدَسُ وَالْبَصَلُ كُلُّهَا مَعْرُوفَةٌ. وَأَمَّا "الْفُومُ" فَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي مَعْنَاهُ فَوَقَعَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ "وَثُومِهَا" بِالثَّاءِ، وَكَذَلِكَ فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ فِي رِوَايَةِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْهُ، بِالثُّومِ. وَكَذَا الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَارَةَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْبَصْرِيُّ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿وَفُومِهَا﴾ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الثُّومُ. قَالُوا: وَفِي اللُّغَةِ الْقَدِيمَةِ: فَوِّمُوا لَنَا بِمَعْنَى: اخْتَبِزُوا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا، فَإِنَّهُ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُبْدَلَةِ كَقَوْلِهِمْ: وَقَعُوا فِي "عاثُور شَرّ، وَعَافُورِ شَرٍّ، وَأَثَافِيُّ وَأَثَاثِيُّ، وَمَغَافِيرُ وَمَغَاثِيرُ". وَأَشْبَاهُ [[في و: "وما أشبه".]] ذَلِكَ مِمَّا تُقْلَبُ الْفَاءُ ثَاءً وَالثَّاءُ فَاءً لِتَقَارُبِ مَخْرَجَيْهِمَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْفُومُ الْحِنْطَةُ، وَهُوَ الْبُرُّ الَّذِي يُعْمَلُ مِنْهُ الْخُبْزُ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قِرَاءَةً، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ قِرَاءَةً، حَدَّثَنِي نَافِعُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سئِل عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَفُومِهَا﴾ مَا فُومُهَا؟ قَالَ: الْحِنْطَةُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ كنتُ أَغْنَى النَّاسِ شَخْصًا وَاحِدًا ... وَرَدَ الْمَدِينَةَ عَنْ زرَاعة فُوم [[البيت في تفسير الطبري (٢/١٢٩) .]] وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ الْجَرْمِيُّ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ رِشْدِينَ بْنِ كُرَيْب، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَفُومِهَا﴾ قَالَ: الْفُومُ الْحِنْطَةُ بِلِسَانِ بَنِي هاشم. وَكَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَالضَّحَّاكُ [[في ط: "عن الضحاك".]] وَعِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْفُومَ: الْحِنْطَةُ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْج، عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ: ﴿وَفُومِهَا﴾ قَالَا وَخُبْزِهَا. وَقَالَ هُشَيْم عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ، وَحُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ: ﴿وَفُومِهَا﴾ قَالَ: الْحِنْطَةُ. وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَالسُّدِّيِّ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرِهِمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ [[في جـ، ط، أ، و: "فالله أعلم".]] . [وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْفُومُ: الْحِنْطَةُ. وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الْفُومُ: السُّنْبُلَةُ، وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنْ عَطَاءٍ وَقَتَادَةَ أَنَّ الْفُومَ كُلُّ حَبٍّ يُخْتَبَزُ. قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْحِمَّصُ لُغَةٌ شَامِيَّةٌ، وَمِنْهُ يُقَالُ لِبَائِعِهِ: فَامِيٌّ مُغَيَّرٌ عَنْ فُومِيٍّ] [[زيادة من جـ، ط، أ، و.]] . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحُبُوبُ الَّتِي تُؤْكَلُ كُلُّهَا فُومٌ. * * * وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾ فِيهِ تَقْرِيعٌ لَهُمْ وَتَوْبِيخٌ [[في جـ: "وتوبيخ لهم".]] عَلَى مَا سَأَلُوا مِنْ هَذِهِ الْأَطْعِمَةِ الدَّنِيَّةِ مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَيْشِ الرَّغِيدِ، وَالطَّعَامِ الْهَنِيءِ الطَّيِّبِ النَّافِعِ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ هَكَذَا هُوَ مُنَوَّنٌ مَصْرُوفٌ مَكْتُوبٌ بِالْأَلْفِ فِي الْمَصَاحِفِ الْأَئِمَّةِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَهُوَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِالصَّرْفِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلَا أَسْتَجِيزُ [[في أ: "ولا أستحسن".]] الْقِرَاءَةَ بِغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِإِجْمَاعِ الْمَصَاحِفِ عَلَى ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ قَالَ: مِصْرًا مِنَ الْأَمْصَارِ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ [[في جـ: "أبي سعد".]] الْبَقَّالِ سَعِيدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْهُ. قَالَ: وَرُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ نَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَعَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ: "اهْبِطُوا مِصْرَ" مِنْ غَيْرِ إِجْرَاءٍ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ صَرْفٍ. ثُمَّ رَوَى عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُمَا فَسَّرَا ذَلِكَ بِمِصْرِ فِرْعَوْنَ. وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَعَنِ الْأَعْمَشِ أَيْضًا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِصْرَ فِرْعَوْنَ عَلَى قِرَاءَةِ الْإِجْرَاءِ أَيْضًا. وَيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِاتِّبَاعِ لِكِتَابَةِ الْمُصْحَفِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَا﴾ [الْإِنْسَانِ: ١٥، ١٦] . ثُمَّ تَوَقَّفَ فِي الْمُرَادِ مَا هُوَ؟ أَمِصْرُ فِرْعَوْنَ أَمْ مِصْرٌ مِنَ الْأَمْصَارِ؟ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِيهِ نَظَرٌ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِصْرٌ مِنَ الْأَمْصَارِ كَمَا روي عن ابن عباس وغيره، وَالْمَعْنَى عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ لَهُمْ: هَذَا الَّذِي سَأَلْتُمْ لَيْسَ بِأَمْرٍ عَزِيزٍ، بَلْ هُوَ كَثِيرٌ فِي أَيِّ بَلَدٍ دَخَلْتُمُوهُ وَجَدْتُمُوهُ، فَلَيْسَ يُسَاوِي مَعَ دَنَاءَتِهِ وَكَثْرَتِهِ فِي الْأَمْصَارِ أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ فِيهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ﴾ أَيْ: مَا طَلَبْتُمْ، وَلَمَّا كَانَ سُؤَالُهُمْ [[في جـ، ط: "كان سألهم".]] هَذَا مِنْ بَابِ الْبَطَرِ وَالْأَشَرِ وَلَا ضَرُورَةَ فِيهِ، لَمْ يُجَابُوا إِلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾ أَيْ: وُضِعَتْ عَلَيْهِمْ وَأُلْزِمُوا بِهَا شَرْعًا وَقَدَرًا، أَيْ: لَا يَزَالُونَ مُسْتَذَلِّينَ، مَنْ وَجَدَهُمُ اسْتَذَلَّهُمْ وَأَهَانَهُمْ، وَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الصَّغَارَ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَذِلَّاءُ مُتَمَسْكِنُونَ [[في جـ: "مستذلين"، وفي ط، أ، و: "مستكينين".]] . قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾ قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ النِّيَالَاتِ [[في جـ، طـ، و: "القبالات"، وفي أ: "السالات".]] يَعْنِي أَصْحَابَ الْجِزْيَةِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ﴾ قَالَ: يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [[تفسير عبد الرزاق (١/ ٦٩) .]] ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ قَالَ: الذُّلُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَذَلَّهُمُ اللَّهُ فَلَا مَنَعَةَ لَهُمْ، وَجَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَقْدَامِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَقَدْ أَدْرَكَتْهُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَإِنَّ الْمَجُوسَ لَتَجْبِيهِمُ الْجِزْيَةَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ: الْمَسْكَنَةُ الْفَاقَةُ. وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: الْخَرَاجُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْجِزْيَةُ. * * * وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ قَالَ الضَّحَّاكُ: اسْتَحَقُّوا الْغَضَبَ مِنَ اللَّهِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: فحدَثَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ يَقُولُ: اسْتَوْجَبُوا سُخْطًا، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ انْصَرَفُوا ورجعوا، ولا يقال: باؤوا إِلَّا مَوْصُولًا إِمَّا بِخَيْرٍ وَإِمَّا بِشَرٍّ، يُقَالُ مِنْهُ: بَاءَ فُلَانٌ بِذَنْبِهِ يَبُوءُ بِهِ بَوْءًا وَبَوَاءً. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٢٩] يَعْنِي: تَنْصَرِفُ مُتَحَمِّلَهُمَا وَتَرْجِعُ بِهِمَا، قَدْ صَارَا عَلَيْكَ دُونِي. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا: فَرَجَعُوا مُنْصَرِفِينَ مُتَحَمِّلِينَ غَضَبَ اللَّهِ، قَدْ صَارَ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ غَضَبٌ، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ سُخْطٌ. * * * وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ يقول تعالى: هَذَا الَّذِي جَازَيْنَاهُمْ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ، وَإِحْلَالِ الْغَضَبِ بِهِمْ [[في جـ: "عليهم".]] بِسَبَبِ اسْتِكْبَارِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَإِهَانَتِهِمْ حَمَلَةَ الشَّرْعِ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَأَتْبَاعُهُمْ، فَانْتَقَصُوهُمْ إِلَى [[في جـ، ط، أ، و: "حتى".]] أَنْ أَفْضَى بِهِمُ الْحَالُ إِلَى أَنْ قَتَلُوهُمْ، فَلَا كبْر أَعْظَمَ مِنْ هَذَا، إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتَلُوا أَنْبِيَاءَ اللَّهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "الْكِبْرُ بَطَر الْحَقِّ، وغَمْط النَّاسِ" [[رواه مسلم في صحيحه برقم (٩١) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.]] . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كُنْتُ لَا أَحْجُبُ عَنِ النَّجْوى، وَلَا عَنْ كَذَا وَلَا عَنْ كَذَا قَالَ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَعِنْدَهُ مَالِكُ بْنُ مُرَارَةَ الرَّهَاوِيُّ، فَأَدْرَكْتُهُ [[في جـ، ط: "قال فأدركت".]] مِنْ آخِرِ حَدِيثِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ قُسِمَ لِي مِنَ الْجَمَالِ مَا تَرَى، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ فَضَلني بِشِرَاكَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا أَفَلَيَسَ ذَلِكَ هُوَ الْبَغْيُ؟ فَقَالَ: "لَا لَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْبَغْيِ، وَلَكِنَّ الْبَغْيَ مَنْ بَطَرَ -أَوْ قَالَ: سَفِهَ الْحَقَّ-وغَمط النَّاسَ". يَعْنِي: رَدَّ الْحَقِّ وَانْتِقَاصَ النَّاسِ، وَالِازْدِرَاءَ بِهِمْ وَالتَّعَاظُمَ عَلَيْهِمْ. وَلِهَذَا لَمَّا ارْتَكَبَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْكُفْرِ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِ أَنْبِيَائِهِمْ، أَحَلَّ اللَّهُ بِهِمْ بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ، وَكَسَاهُمْ ذُلًّا فِي الدُّنْيَا مَوْصُولًا بِذُلِّ الْآخِرَةِ جَزَاءً وِفَاقًا [[المسند (١/٣٨٥) .]] . قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْيَوْمِ تَقْتُلُ ثَلَاثَمِائَةِ نَبِيٍّ، ثُمَّ يُقِيمُونَ سُوقَ بَقْلِهِمْ فِي آخِرِ النَّهَارِ. وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا أَبَانُ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ-أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ، أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا، وَإِمَامُ ضَلَالَةٍ وَمُمَثِّلٌ مِنَ الْمُمَثِّلِينَ" [[المسند (١/٤٠٧) .]] . * * * وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ وَهَذِهِ عِلَّةٌ أُخْرَى فِي مُجَازَاتِهِمْ بِمَا جُوزُوا بِهِ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْصُونَ وَيَعْتَدُونَ، فَالْعِصْيَانُ فِعْلُ الْمَنَاهِي، وَالِاعْتِدَاءُ الْمُجَاوَزَةُ فِي حَدِّ الْمَأْذُونِ فِيهِ أو المأمور به. والله أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب