الباحث القرآني

﴿وإذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ﴾ الظّاهِرُ أنَّهُ داخِلٌ في تَعْدادِ النِّعَمِ وتَفْصِيلِها، وهو إجابَةُ سُؤالِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿اهْبِطُوا﴾ إلَخْ، مَعَ اسْتِحْقاقِهِمْ كَمالَ السُّخْطِ، لِأنَّهم كَفَرُوا نِعْمَةَ إنْزالِ الطَّعامِ اللَّذِيذِ عَلَيْهِمْ، وهم في التِّيهِ مِن غَيْرِ كَدٍّ وتَعَبٍ، حَيْثُ سَألُوا (بِلَنْ نَصْبِرَ)، فَإنَّهُ يَدُلُّ عَلى كَراهِيَّتِمْ إيّاهُ، إذِ الصَّبْرُ حَبْسُ النَّفْسِ في المَضِيقِ، ولِذا أنْكَرَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أتَسْتَبْدِلُونَ﴾ إلَخْ، فالآيَةُ في الأُسْلُوبِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ﴾ إلَخْ، حَيْثُ عانَدُوا بَعْدَ سَماعِ الكَلامِ، وأُهْلِكُوا، ثُمَّ أفاضَ عَلَيْهِمْ نِعْمَةَ الحَياةِ، قالَ مَوْلانا السّالِيكُوتِيُّ: ومِن هَذا ظَهَرَ ضَعْفُ ما قالَ الإمامُ الرّازِيُّ، لَوْ كانَ سُؤالُهم مَعْصِيَةً لَما أجابَهُمْ، لِأنَّ الإجابَةَ إلى المَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ، وهي غَيْرُ جائِزَةٍ عَلى الأنْبِياءِ، وإنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿كُلُوا واشْرَبُوا﴾ أمْرُ إباحَةٍ لا إيجابٍ، فَلا يَكُونُ سُؤالُهم غَيْرَ ذَلِكَ الطَّعامِ مَعْصِيَةً، ووَصْفُ الطَّعامِ بِواحِدٍ، وإنْ كانا طَعامَيْنِ المَنَّ والسَّلْوى اللَّذَيْنِ رُزِقُوهُما في التِّيهِ إمّا بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ عَلى نَهْجٍ واحِدٍ كَما يُقالُ: طَعامُ مائِدَةِ الأمِيرِ واحِدٌ، ولَوْ كانَ ألْوانًا شَتّى، بِمَعْنى أنَّهُ لا يَتَبَدَّلُ ولا يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الأوْقاتِ، أوْ بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ ضَرْبًا واحِدًا، لِأنَّ المَنَّ والسَّلْوى مِن طَعامِ أهْلِ التَّلَذُّذِ والسَّرَفِ، وكَأنَّ القَوْمَ كانُوا فَلّاحَةً، فَما أرادُوا إلّا ما ألِفُوهُ، وقِيلَ: إنَّهم كانُوا يَطْبُخُونَهُما مَعًا، فَيَصِيرُ طَعامًا واحِدًا، والقَوْلُ بِأنَّ هَذا القَوْلَ كانَ قَبْلَ نُزُولِ السَّلْوى نازِلٌ مِنَ القَوْلِ، وأهْوَنُ مِنهُ القَوْلُ بِأنَّهم أرادُوا بِالطَّعامِ الواحِدِ السَّلْوى، لِأنَّ المَنَّ كانَ شَرابًا أوْ شَيْئًا يَتَحَلَّوْنَ بِهِ، فَلَمْ يَعُدُّوهُ طَعامًا آخَرَ، وإلّا نَزَلَ القَوْلُ بِأنَّهُ عَبَّرَ بِالواحِدِ عَنِ الِاثْنَيْنِ، كَما عَبَّرَ بِالِاثْنَيْنِ عَنِ الواحِدِ، في نَحْوِ ﴿يَخْرُجُ مِنهُما اللُّؤْلُؤُ والمَرْجانُ﴾ وإنَّما يَخْرُجُ مِن أحَدِهِما، وهو المِلْحُ دُونَ العَذْبِ، ﴿فادْعُ لَنا رَبَّكَ﴾ أيْ سَلْهُ لِأجْلِنا بِدُعائِكَ إيّاهُ بِأنْ يُخْرِجَ لَنا كَذا وكَذا، والفاءُ لِسَبَبِيَّةِ عَدَمِ الصَّبْرِ لِلدُّعاءِ، ولُغَةُ بَنِي عامِرٍ (فادْعِ) بِكَسْرِ العَيْنِ، جَعَلُوا دَعا مِن ذَواتِ الياءِ كَرَمى، وإنَّما سَألُوا مِن مُوسى أنْ يَدْعُوَ لَهم لِأنَّ دُعاءَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ أقْرَبُ لِلْإجابَةِ مِن دُعاءِ غَيْرِهِمْ، عَلى أنَّ دُعاءَ الغَيْرِ لِلْغَيْرِ مُطْلَقًا أقْرَبُ إلَيْها، فَما ظَنُّكَ بِدُعاءِ الأنْبِياءِ لِأُمَمِهِمْ، ولِهَذا «قالَ ﷺ (p-274)لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: (أشْرِكْنا في دُعائِكَ)،» وفي الأثَرِ: «(ادْعُونِي بِألْسِنَةٍ لَمْ تَعْصُونِي فِيها)،» وحُمِلَتْ عَلى ألْسِنَةِ الغَيْرِ، والتَّعَرُّضِ لِعُنْوانِ الرُّبُوبِيَّةِ لِتَمْهِيدِ مَبادِي الإجابَةِ، وقالُوا: (رَبَّكَ) ولَمْ يَقُولُوا: رَبَّنا، لِأنَّ في ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِصاصِ بِهِ ما لَيْسَ فِيهِمْ مِن مُناجاتِهِ وتَكْلِيمِهِ وإيتائِهِ التَّوْراةَ، فَكَأنَّهم قالُوا: ادْعُ لَنا المُحْسِنَ إلَيْكَ بِما لَمْ يُحْسِنْ بِهِ إلَيْنا، فَكَما أحْسَنَ إلَيْكَ مِن قَبْلُ نَرْجُو أنْ يُحْسِنَ إلَيْكَ في إجابَةِ دُعائِكَ. ﴿يُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِن بَقْلِها وقِثّائِها وفُومِها وعَدَسِها وبَصَلِها﴾ المُرادُ بِالإخْراجِ المَعْنى المَجازِيَّ اللّازِمَ لِلْمَعْنى الحَقِيقِيِّ، وهو الإظْهارُ بِطَرِيقِ الإيجادِ لا بِطَرِيقِ إزالَةِ الخَفاءِ، والحَمْلُ عَلى المَعْنى الحَقِيقِيِّ يَقْتَضِي مَخْرَجًا عَنْهُ، وما يَصْلُحُ لَهُ ها هُنا هو الأرْضُ، وبِتَقْدِيرِهِ يَصِيرُ الكَلامُ سَخِيفًا، (ويُخْرِجْ) مَجْزُومٌ، لِأنَّهُ جَوابُ الأمْرِ، وجَزْمُهُ بِلامِ الطَّلَبِ مَحْذُوفَةً لا يَجُوزُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، (ومِنَ) الأوْلى تَبْعِيضِيَّةٌ، أيْ مَأْكُولًا بَعْضُ ما تُنْبِتُ، وادَّعى الأخْفَشُ زِيادَتَها، ولَيْسَ بِشَيْءٍ، (وما) مَوْصُولَةٌ، والعائِدُ مَحْذُوفٌ، أيْ تُنْبِتُهُ، وجَعْلُها مَصْدَرِيَّةً لَمْ يُجَوِّزْهُ أبُو البَقاءِ لِأنَّ المُقَدَّرَ جَوْهَرٌ، ونِسْبَةُ الإنْباتِ إلى الأرْضِ مَجازٌ مِن بابِ النِّسْبَةِ إلى القابِلِ، وقَدْ أوْدَعَ اللَّهُ تَعالى في الطَّبَقَةِ الطِّينِيَّةِ مِنَ الأرْضِ أوْ فِيها قُوَّةً قابِلَةً لِذَلِكَ، وكَوْنُ القُوَّةِ القابِلَةِ مُودَعَةً في الحَبِّ دُونَ التُّرابِ، رُبَّما يُفْضِي إلى القَوْلِ بِقِدَمِ الحَبِّ بِالنَّوْعِ، (ومِنَ) الثّانِيَةُ بَيانِيَّةٌ، فالظَّرْفُ مُسْتَقِرٌّ واقِعٌ مَوْقِعَ الحالِ، أيْ كائِنًا مِن بَقْلِها، وقالَ أبُو حَيّانَ: تَبْعِيضِيَّةٌ واقِعَةٌ مَوْقِعَ البَدَلِ مِن كَلِمَةِ (ما) فالظَّرْفُ لَغْوٌ مُتَعَلِّقٌ (بِيُخْرِجْ)، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ، كَما قالَ السّالِيكُوتِيُّ يُفِيدُ أنَّ المَطْلُوبَ إخْراجُ بَعْضِ هَؤُلاءِ، ولَوْ جُعِلَ بَيانًا لَما أفادَهُ (مِنَ) التَّبْعِيضِيَّةُ، كَما قالَهُ المَوْلى عِصامُ الدِّينِ: لَخَلا الكَلامُ عَنِ الإفادَةِ المَذْكُورَةِ، وأوْهَمَ أنَّ المَطْلُوبَ إخْراجُ جَمِيعِ هَؤُلاءِ لِعَدَمِ العَهْدِ، والبَقْلُ جِنْسٌ يَنْدَرِجُ فِيهِ النَّباتُ الرَّطْبُ مِمّا يَأْكُلُهُ النّاسُ والأنْعامُ، والمُرادُ بِهِ هُنا أطايِبُ البُقُولِ الَّتِي يَأْكُلُها النّاسُ، والقِثّاءُ هو هَذا المَعْرُوفُ، وقالَ الخَلِيلُ: هو الخِيارُ، وقَرَأ يَحْيى ابْنُ وثّابٍ وغَيْرُهُ بِضَمِّ القافِ، وهو لُغَةٌ، والفُومُ الحِنْطَةُ، وعَلَيْهِ أكْثَرُ النّاسِ، حَتّى قالَ الزَّجّاجُ: لا خِلافَ عِنْدَ أهْلِ اللُّغَةِ أنَّ الفُومَ الحِنْطَةُ، وسائِرُ الحُبُوبِ الَّتِي تُخْتَبَزُ يَلْحَقُها اسْمُ الفُومِ، وقالَ الكِسائِيُّ وجَماعَةٌ: هو الثُّومُ، وقَدْ أُبْدِلَتْ ثاؤُهُ فاءً، كَما في جَدَثٍ وجَدَفٍ، وهو بِالبَصَلِ، والعَدَسِ، أوْفَقُ، وبِهِ قَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، ونَفْسُ شَيْخِنا عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ إلَيْهِ تَمِيلُ، والقَوْلُ بِأنَّهُ الخُبْزُ يُبْعِدُهُ الإنْباتُ مِنَ الأرْضِ، وذِكْرُهُ مَعَ البَقْلِ وغَيْرِهِ، وما في المَعالِمِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما مِن أنَّ الفُومَ الخُبْزُ يُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ بِأنَّ مَعْناهُ إنَّهُ يُقالُ عَلَيْهِ، ووَجْهُ تَرْتِيبِ النَّظْمِ أنَّهُ ذُكِرَ أوَّلًا ما هو جامِعٌ لِلْحَرارَةِ، والبُرُودَةِ، والرُّطُوبَةِ، واليُبُوسَةِ، وهو البَقْلُ، إذْ مِنهُ ما هو بارِدٌ رَطْبٌ، كالهِنْدَبا، ومِنهُ ما هو حارٌّ يابِسٌ كالكَرَفْسِ والسَّذابِ، ومِنهُ ما هو حارٌّ وفِيهِ رُطُوبَةٌ كالنَّعْناعِ، وثانِيًا ما هو بارِدٌ رَطْبٌ، وهو القِثّاءُ، وثالِثًا ما هو حارٌّ يابِسٌ، وهو الثُّومُ، ورابِعًا ما هو بارِدٌ يابِسٌ، وهو العَدَسُ، وخامِسًا ما هو حارٌّ رَطْبٌ، وهو البَصَلُ، وإذا طُبِخَ صارَ بارِدًا رَطْبًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ، أوْ يُقالُ: إنَّهُ ذُكِرَ أوَّلًا ما يُؤْكَلُ مِن غَيْرِ عِلاجِ نارٍ، وذُكِرَ بَعْدَهُ ما يُعالَجُ بِهِ مَعَ ما يَنْبَغِي فِيهِ ذَلِكَ ويَقْبَلُهُ. ﴿قالَ أتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هو أدْنى بِالَّذِي هو خَيْرٌ﴾ اسْتِئْنافٌ وقَعَ جَوابًا عَنْ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ، كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا قالَ لَهُمْ؟ فَقِيلَ: قالَ ﴿أتَسْتَبْدِلُونَ﴾ إلَخْ، والقائِلُ إمّا اللَّهُ تَعالى عَلى لِسانِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، ويُرَجِّحُهُ كَوْنُ المَقامِ مَقامُ تَعْدادِ النِّعَمِ، أوْ مُوسى نَفْسُهُ، وهو الأنْسَبُ بِسِياقِ النَّظْمِ، والِاسْتِفْهامُ لِلْإنْكارِ، والِاسْتِبْدالُ الِاعْتِياضُ، (p-275)فَإنْ قُلْتَ: كَوْنُهم لا يَصْبِرُونَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ، أفْهَمَ طَلَبَ ضَمِّ ذَلِكَ إلَيْهِ لا اسْتِبْدالَهُ بِهِ، أُجِيبَ بِأنَّ قَوْلَهم: ﴿لَنْ نَصْبِرَ﴾ يَدُلُّ عَلى كَراهَتِمْ ذَلِكَ الطَّعامَ، وعَدَمُ الشُّكْرِ عَلى النِّعْمَةِ دَلِيلُ الزَّوالِ، فَكَأنَّهم طَلَبُوا زَوالَها، ومَجِيءَ غَيْرِها، وقِيلَ: إنَّهم طَلَبُوا ذَلِكَ، وخِطابُهم بِهَذا إشارَةٌ إلى أنَّهُ تَعالى إذا أعْطاهم ما سَألُوا مَنَعَ عَنْهُمُ المَنَّ والسَّلْوى، فَلا يَجْتَمِعانِ، وقِيلَ: الِاسْتِبْدالُ في المَعِدَةِ، وهو كَما تَرى، وقَرَأ أُبَيٌّ (أتُبَدِّلُونَ)، وهو مَجازٌ، لِأنَّ التَّبْدِيلَ لَيْسَ لَهُمْ، إنَّما ذَلِكَ إلى اللَّهِ تَعالى، لَكِنَّهم لَمّا كانُوا يَحْصُلُ التَّبْدِيلُ بِسُؤالِهِمْ جُعِلُوا مُبَدِّلِينَ، وكانَ المَعْنى: أتَسْألُونَ تَبْدِيلَ الَّذِي إلَخْ، والَّذِي مَفْعُولُ تَسْتَبْدِلُونَ، وهو الحاصِلُ، والَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ الباءُ هو الزّائِلُ، وهو (أدْنى) صِلَةُ (الَّذِي)، وهو هُنا واجِبُ الإثْباتِ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، إذْ لا طُولَ، (وأدْنى) إمّا مِنَ الدُّنُوِّ، أوْ مَقْلُوبٌ مِنَ الدُّونِ، وهو عَلى الثّانِي ظاهِرٌ، وعَلى الأوَّلِ مَجازٌ اسْتُعِيرَ فِيهِ الدُّنُوُّ بِمَعْنى القُرْبِ المَكانِيِّ لِلْخِسَّةِ، كَما اسْتُعِيرَ البُعْدُ لِلشَّرَفِ، فَقِيلَ: بَعِيدُ المَحَلِّ بَعِيدُ الهِمَّةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَهْمُوزًا مِنَ الدَّناءَةِ، وأُبْدِلَتْ فِيهِ الهَمْزَةُ ألِفًا، ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ زُهَيْرٍ والكِسائِيِّ (أدْنَأُ) بِالهَمْزَةِ، وأُرِيدَ بِالَّذِي هو خَيْرٌ المَنُّ والسَّلْوى، ومَعْنى خَيْرِيَّةِ هَذا المَأْكُولِ بِالنِّسْبَةِ إلى ذَلِكَ غَلاءُ قِيمَتِهِ، وطِيبُ لَذَّتِهِ، والنَّفْعُ الجَلِيلُ في تَناوُلِهِ، وعَدَمُ الكُلْفَةِ في تَحْصِيلِهِ، وخُلُوُّهُ عَنِ الشُّبْهَةِ في حِلِّهِ، ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ جُمْلَةٌ مَحْكِيَّةٌ بِالقَوْلِ كالأُولى، وإنَّما لَمْ يُعْطَفْ إحْداهُما عَلى الأُخْرى في المَحْكِيِّ لِأنَّ الأُولى خَبَرٌ مَعْنًى، وهَذِهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، ولِكَوْنِها كالمُبَيِّنَةِ لَها، فَإنَّ الإهْباطَ طَرِيقُ الِاسْتِبْدالِ، هَذا إذا جُعِلَ الجُمْلَتانِ مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى، أوْ كَلامِ مُوسى، وإنْ جُعِلَ إحْداهُما مِن مُوسى، والأُخْرى مِنَ اللَّهِ تَعالى فَوَجْهُ الفَصْلِ ظاهِرٌ، والوَقْفُ عَلى خَبَرٍ كافٍ عَلى الأوَّلِ، وتامٌّ عَلى الثّانِي، والهُبُوطُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَكانِيًّا بِأنْ يَكُونَ التِّيهُ أرْفَعَ مِنَ المِصْرِ، وأنْ يَكُونَ رُتَبِيًّا، وهو الأنْسَبُ بِالمَقامِ، وقُرِئَ (اهْبُطُوا) بِضَمِّ الهَمْزَةِ والباءِ، والمِصْرُ البَلَدُ العَظِيمُ، وأصْلُهُ الحَدُّ والحاجِزُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، قالَ: ؎وجاعِلُ الشَّمْسِ مِصْرًا لا خَفاءَ بِهِ بَيْنَ النَّهارِ وبَيْنَ اللَّيْلِ قَدْ فَصَلا وإطْلاقُهُ عَلى البَلَدِ، لِأنَّهُ مَمْصُورٌ، أيْ مَحْدُودٌ، وأخْذُهُ مِن مَصَرْتُ الشّاةَ أمْصُرُها إذا حَلَبْتَ كُلَّ شَيْءٍ في ضَرْعِها بَعِيدٌ، وحُكِيَ عَنْ أشْهَبَ أنَّهُ قالَ: قالَ لِي مالِكٌ: هي مِصْرُ قَرْيَتُكَ مَسْكَنُ فِرْعَوْنَ، فَهو إذًا عَلَمٌ، وأسْماءُ المَواضِعِ قَدْ تُعْتَبَرُ مِن حَيْثُ المَكانِيَّةُ فَتُذَكَّرُ، وقَدْ تُعْتَبَرُ مِن حَيْثُ الأرْضِيَّةُ فَتُؤَنَّثُ، فَهو إنْ جُعِلَ عَلَمًا فَإمّا بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ بَلْدَةً، فالصَّرْفُ مَعَ العَلَمِيَّةِ والتَّأْنِيثِ لِسُكُونِ الوَسَطِ، وإمّا بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ بَلَدًا، فالصَّرْفُ عَلى بابِهِ، إذِ الفَرْعِيَّةُ الواحِدَةُ لا تَكْفِي في مَنعِهِ، ويُؤَيِّدُ ما قالَهُ الإمامُ مالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ في مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ ( مِصْرَ ) بِلا ألِفٍ بَعْدِ الرّاءِ، ويُبْعِدُهُ أنَّ الظّاهِرَ مِنَ التَّنْوِينِ التَّنْكِيرُ، وأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدَّسَةَ﴾ يَعْنِي الشّامَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ تَعالى لَكم لِلْوُجُوبِ، كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ عَطْفُ النَّهْيِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي المَنعَ مِن دُخُولِ أرْضٍ أُخْرى، وأنْ يَكُونَ الأمْرُ بِالهُبُوطِ مَقْصُورًا عَلى بِلادِ التِّيهِ، وهو ما بَيْنَ بَيْتِ المَقْدِسِ إلى قِنَّسْرِينَ، ومِنَ النّاسِ مَن جَعَلَ مِصْرَ مُعَرَّبَ مِصْرائِيمَ، كَإسْرائِيلَ، اسْمٌ لِأحَدِ أوْلادِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، وهو أوَّلُ مَنِ اخْتَطَّها، فَسُمِّيَتْ بِاسْمِهِ، وإنَّما جازَ الصَّرْفُ حِينَئِذٍ لِعَدَمِ الِاعْتِدادِ بِالعُجْمَةِ لِوُجُودِ التَّعْرِيبِ والتَّصَرُّفِ فِيهِ، فافْهَمْ وتَدَبَّرْ. ﴿فَإنَّ لَكم ما سَألْتُمْ﴾ تَعْلِيلٌ لِلْأمْرِ بِالهُبُوطِ، وفي البَحْرِ أنَّها جَوابٌ لِلْأمْرِ، وكَما يُجابُ بِالفِعْلِ يُجابُ بِالجُمْلَةِ، وفي ذَلِكَ مَحْذُوفانِ ما يَرْبِطُ الجُمْلَةَ بِما قَبْلَها، والضَّمِيرُ العائِدُ عَلى ما، والتَّقْدِيرُ فَإنَّ لَكم فِيها ما سَألْتُمُوهُ، (p-276)والتَّعْبِيرُ عَنِ الأشْياءِ المَسْؤُولَةِ (بِـما) لِلِاسْتِهْجانِ بِذِكْرِها، وقَرَأ النَّخَعِيُّ ويَحْيى (سِألْتُمْ) بِكَسْرِ السِّينِ. ﴿وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ والمَسْكَنَةُ﴾ أيْ جُعِلَ ذَلِكَ مُحِيطًا بِهِمْ إحاطَةَ القُبَّةِ بِمَن ضُرِبَتْ عَلَيْهِ، أوْ أُلْصِقَ بِهِمْ مِن ضَرْبِ الطِّينِ عَلى الحائِطِ، فَفي الكَلامِ اسْتِعارَةٌ بِالكِنايَةِ حَيْثُ شَبَّهَ ذَلِكَ بِالقُبَّةِ، أوْ بِالطِّينِ، (وضُرِبَتِ) اسْتِعارَةٌ تَبَعِيَّةٌ تَحْقِيقِيَّةٌ لِمَعْنى الإحاطَةِ والشُّمُولِ أوِ اللُّزُومِ واللُّصُوقِ بِهِمْ، وعَلى الوَجْهَيْنِ، فالكَلامُ كِنايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ أذِلّاءَ مُتَصاغِرِينَ، وذَلِكَ بِما ضُرِبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الجِزْيَةِ الَّتِي يُؤَدُّونَها عَنْ يَدٍ وهم صاغِرُونَ، وبِما أُلْزِمُوهُ مِن إظْهارِ الزِّيِّ لِيُعْلَمَ أنَّهم يَهُودُ، ولا يَلْتَبِسُوا بِالمُسْلِمِينَ، وبِما طُبِعُوا عَلَيْهِ مِن فَقْرِ النَّفْسِ وشُحِّها، فَلا تَرى مِلَّةً مِنَ المِلَلِ أحْرَصَ مِنهُمْ، وبِما تَعَوَّدُوا عَلَيْهِ مِن إظْهارِ سُوءِ الحالِ مَخافَةَ أنْ تُضاعَفَ عَلَيْهِمُ الجِزْيَةُ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا تَراهُ في اليَهُودِ اليَوْمَ، وهَذا الضَّرْبُ مُجازاةٌ لَهم عَلى كُفْرانِ تِلْكَ النِّعْمَةِ، وبِهَذا ارْتَبَطَتِ الآيَةُ بِما قَبْلَها، وإنَّما أوْرَدَ ضَمِيرَ الغائِبِ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ ذَلِكَ راجِعٌ إلى جَمِيعِ اليَهُودِ، وشامِلٌ لِلْمُخاطَبِينَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنَّ لَكم ما سَألْتُمْ﴾ ولِمَن يَأْتِي بَعْدَهم إلى يَوْمِ القِيامَةِ، فَلَيْسَ مِن قَبِيلِ الِالتِفاتِ عَلى ما وُهِمَ، ﴿وباءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ أيْ نَزَلُوا وتَمَكَّنُوا بِما حَلَّ بِهِمْ مِنَ البَلاءِ والنِّقَمِ في الدُّنْيا، أوْ بِما تَحَقَّقَ لَهم مِنَ العَذابِ في العُقْبى، أوْ بِما كُتِبَ عَلَيْهِمْ مِنَ المَكارِهِ فِيهِما، أوْ رَجَعُوا بِغَضَبٍ، أيْ صارَ عَلَيْهِمْ، ولِذا لَمْ يُحْتَجْ إلى اعْتِبارِ المَرْجُوعِ إلَيْهِ، أوْ صارُوا أحِقّاءَ بِهِ، أوِ اسْتَحَقُّوا العَذابَ بِسَبَبِهِ، وهو بَعِيدٌ، وأصْلُ البَواءِ بِالفَتْحِ، والضَّمِّ، مُساواةُ الأجْزاءِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ في كُلِّ مُساواةٍ، فَيُقالُ: هو بَواءُ فُلانٍ أيْ كَفْؤُهُ، ومِنهُ بُؤْ، لِشِسْعِ نَعْلِ كُلَيْبٍ، وحَدِيثُ (فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النّارِ)، وفي وصْفِ الغَضَبِ بِكَوْنِهِ مِنَ اللَّهِ تَعالى تَعْظِيمٌ لِشَأْنِهِ بَعْدَ تَعْظِيمٍ، وتَفْخِيمٌ بَعْدَ تَفْخِيمٍ. ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ أشارَ بِذَلِكَ إلى ما سَبَقَ مِن ضَرْبِ الذِّلَّةِ والمَسْكَنَةِ، والبَوْءِ بِالغَضَبِ العَظِيمِ، وإنَّما بَعَّدَهُ لِبُعْدِ بَعْضِهِ حَتّى لَوْ كانَ إشارَةً إلى البَوْءِ لَمْ يَكُنْ عَلى لَفْظِ البَعِيدِ أوْ لِلْإشارَةِ إلى أنَّهم أدْرَكَتْهم هَذِهِ الأُمُورُ مَعَ بُعْدِهِمْ عَنْها لِكَوْنِهِمْ أهْلَ الكِتابِ، أوْ لِلْإيماءِ إلى بُعْدِها في الفَظاعَةِ، والباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ وهي داخِلَةٌ عَلى المَصْدَرِ المُؤَوَّلِ، ولَمْ يُعَبِّرْ بِهِ، وعَبَّرَ بِما عَبَّرَ تَنْبِيهًا عَلى تَجَدُّدِ الكُفْرِ، والقَتْلِ مِنهم حِينًا بَعْدَ حِينٍ، واسْتِمْرارِهِمْ عَلَيْهِما فِيما مَضى، أوْ لِاسْتِحْضارِ قَبِيحِ صُنْعِهِمْ، والآياتُ إمّا المُعْجِزاتُ مُطْلَقًا، أوِ التِّسْعُ الَّتِي أتى بِها مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، أوْ ما جاءَ بِهِ مِنَ التِّسْعِ وغَيْرِها، أوْ آياتُ الكُتُبِ المَتْلُوَّةِ مُطْلَقًا، أوِ التَّوْراةُ، أوْ آياتٌ مِنها كالآياتِ الَّتِي فِيها صِفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أوِ الَّتِي فِيها الرَّجْمُ، أوِ القُرْآنُ، وفي إضافَةِ الآياتِ إلى اسْمِهِ تَعالى زِيادَةُ تَشْنِيعٍ عَلَيْهِمْ، وبَدَأ سُبْحانَهُ بِكُفْرِهِمْ بِآياتِهِ لِأنَّهُ أعْظَمُ كُلِّ عَظِيمٍ، وأرْدَفَهُ بِقَتْلِهِمُ النَّبِيِّينَ لِأنَّهُ كالمُنْشَإ لَهُ، وأتى بِالنَّبِيِّينَ الظّاهِرِ في القِلَّةِ دُونَ الأنْبِياءِ الظّاهِرِ في الكَثْرَةِ إذْ فَرَّقَ بَيْنَ الجَمْعَيْنِ إذا كانا نَكِرَتَيْنِ، وأمّا إذا دَخَلَتْ عَلَيْهِما (ألْ) فَيَتَساوَيانِ، كَما في البَحْرِ، فَلا يَرُدُّ أنَّهم قَتَلُوا ثَلاَثَمِائَةِ نَبِيٍّ في أوَّلِ النَّهارِ، وأقامُوا سُوقَهم في آخِرِهِ، وقَيَّدَ القَتْلَ بِغَيْرِ الحَقِّ مَعَ أنَّ قَتْلَ الأنْبِياءِ لا يَكُونُ إلّا كَذَلِكَ، لِلْإيذانِ بِأنَّ ذَلِكَ بِغَيْرِ الحَقِّ عِنْدَهُمْ، إذْ لَمْ يَكُنْ أحَدٌ مُعْتَقِدًا حَقِّيَّةَ قَتْلِ أحَدٍ مِنهم عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وإنَّما حَمَلَهم عَلَيْهِ حُبُّ الدُّنْيا واتِّباعُ الهَوى، والغُلُوُّ في العِصْيانِ، والِاعْتِداءِ، فاللّامُ في الحَقِّ عَلى هَذا لِلْعَهْدِ، وقِيلَ: الأظْهَرُ أنَّها لِلْجِنْسِ، والمُرادُ بِغَيْرِ حَقٍّ أصْلًا إذْ لامُ الجِنْسِ المُبْهَمِ كالنَّكِرَةِ، ويُؤَيِّدُهُ ما في آلِ عِمْرانَ (بِغَيْرِ الحَقِّ)، فَيُفِيدُ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَقًّا بِاعْتِقادِهِمْ أيْضًا، ويُمْكِنُ أنْ يَكُونَ فائِدَةُ التَّقْيِيدِ إظْهارَ مَعايِبِ صَنِيعِهِمْ، فَإنَّهُ قُتِلَ النَّبِيُّ، ثُمَّ جَماعَةٌ مِنهُمْ، ثُمَّ كَوْنُهُ بِغَيْرِ الحَقِّ، وهَذا أوْفَقُ بِما هو الظّاهِرُ مِن كَوْنِ المَنهِيِّ القَتْلَ بِغَيْرِ الحَقِّ في نَفْسِ الأمْرِ (p-277)سَواءٌ كانَ حَقًّا عِنْدَ القاتِلِ، أوْ لا، إلّا أنَّ الِاقْتِصارَ عَلى القَتْلِ بِغَيْرِ الحَقِّ عِنْدَهم أنْسَبُ لِلتَّعْرِيضِ بِما هم فِيهِ عَلى ما قِيلَ، والقَوْلُ: بِأنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: لَوْ لَمْ يُقَيِّدْ بِغَيْرِ الحَقِّ، لَأفادَ أنَّ مِن خَواصِّ النُّبُوَّةِ أنَّهُ لَوْ قَتَلَ أحَدًا بِغَيْرِ الحَقِّ لا يَقْتَصُّ، فَفائِدَةُ التَّقْيِيدِ أنْ يَكُونَ النَّظْمُ مُفِيدًا لِما هو الحُكْمُ الشَّرْعِيُّ بَعِيدٌ كَما لا يَخْفى، قالَ بَعْضُ المُتَأخِّرِينَ: هَذا كُلُّهُ إذا كانَ الغَيْرُ بِمَعْنى النَّفْيِ، أيْ بِلا حَقٍّ، أمّا إذا كانَ مَعْناهُ أيْ بِسَبَبِ أمْرٍ مُغايِرٍ لِلْحَقِّ، أيِ الباطِلِ، فالتَّقْيِيدُ مُفِيدٌ لِأنَّ قَتْلَهُمُ النَّبِيِّينَ بِسَبَبِ الباطِلِ، وحِمايَتِهِ، وقَرِيبٌ مِن هَذا ما قالَهُ القَفّالُ: مِن إنَّهم كانُوا يَقُولُونَ: إنَّهم كاذِبُونَ، وأنَّ مُعْجِزاتِهِمْ تَمْوِيهاتٌ، ويَقْتُلُونَهم بِهَذا السَّبَبِ، وبِأنَّهم يُرِيدُونَ إبْطالَ ما هم عَلَيْهِ مِنَ الحَقِّ بِزَعْمِهِمْ، ولَعَلَّ ذَلِكَ غالِبُ أحْوالِهِمْ، وإلّا فَإشْعِياءُ، ويَحْيى وزَكَرِيّا عَلَيْهِمُ السَّلامُ لَمْ يُقْتَلُوا لِذَلِكَ، وإنَّما قُتِلَ إشْعِياءُ لِأنَّ مَلِكًا مِن بَنِي إسْرائِيلَ لَمّا ماتَ مَرَجَ أمَرُ بَنِي إسْرائِيلَ، وتَنافَسُوا المُلْكَ، وقَتَلَ بَعْضُهم بَعْضًا، فَنَهاهم عَلَيْهِ السَّلامُ فَبَغَوْا عَلَيْهِ، وقَتَلُوهُ، ويَحْيى عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما قُتِلَ لِقِصَّةِ تِلْكَ الِامْرَأةِ لَعَنَها اللَّهُ تَعالى، وكَذَلِكَ زَكَرِيّا، لِأنَّهُ لَمّا قُتِلَ ابْنُهُ انْطَلَقَ هارِبًا، فَأرْسَلَ المَلِكُ في طَلَبِهِ غَضَبًا لِما حَصَلَ لِامْرَأتِهِ مِن قَتْلِ ابْنِهِ، فَوُجِدَ في جَوْفِ شَجَرَةٍ، فَفَلَقُوا الشَّجَرَةَ مَعَهُ فِلْقَتَيْنِ طُولًا بِمِنشارٍ، ثُمَّ الظّاهِرُ أنَّ الجارَّ والمَجْرُورَ مِمّا تَنازَعَ فِيهِ الكُفْرُ والقَتْلُ، وفي البَحْرِ أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِما عِنْدَهُ، وزَعَمَ بَعْضُ المُلْحِدِينَ أنَّ بَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ، وما أشْبَهَها، وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا﴾ تَناقُضًا، وأُجِيبَ بِأنَّ المَقْتُولِينَ مِنَ الأنْبِياءِ، والمَوْعُودَ بِنَصْرِهِمُ الرُّسُلُ، ورُدَّ بِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿أفَكُلَّما جاءَكم رَسُولٌ﴾ إلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ المَقْتُولَ رُسُلٌ أيْضًا، وأجابَ بَعْضُهم بِأنَّ المُرادَ النُّصْرَةُ بِغَلَبَةِ الحُجَّةِ، أوِ الأخْذِ بِالثَّأْرِ، كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّ اللَّهَ تَعالى قَدَّرَ أنْ يَقْتُلَ بِكُلِّ نَبِيٍّ سَبْعِينَ ألْفًا، وبِكُلِّ خَلِيفَةٍ خَمْسًا وثَلاثِينَ ألْفًا، ولا يَخْفى ما فِيهِ، فالأحْسَنُ أنَّ المُرادَ بِالرُّسُلِ المَأْمُورُونَ بِالقِتالِ كَما أجابَ بِهِ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ، لِأنَّ أمْرَهم بِالقِتالِ وعَدَمَ عِصْمَتِهِمْ لا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ العَزِيزِ الحَكِيمِ، وقَرَأ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: (يُقَتِّلُونَ) بِالتَّشْدِيدِ، والحَسَنُ في رِوايَةٍ عَنْهُ (وتَقْتُلُونَ) بِالتّاءِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الِالتِفاتِ، وقَرَأ نافِعٌ بِهَمْزِ النَّبِيِّينَ، وكَذا النَّبِيُّ والنُّبُوَّةُ، واسْتُشْكِلَ بِما رُوِيَ «أنَّ رَجُلًا قالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ: (يا نَبِيءَ اللَّهِ)، بِالهَمْزِ، فَقالَ: (لَسْتُ بِنَبِيءِ اللَّهِ) يَعْنِي مَهْمُوزًا، (ولَكِنْ نَبِيُّ اللَّهِ)، بِغَيْرِ هَمْزَةٍ،» فَأنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، ولِهَذا مَنَعَ بَعْضُهم مِن إطْلاقِهِ عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، عَلى أنَّهُ اسْتُشْكِلَ أيْضًا جَمْعُ النَّبِيِّ عَلى نَبِيِّينَ، وهو فَعِيلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، وقَدْ صَرَّحُوا بِأنَّهُ لا يُجْمَعُ جَمْعَ مُذَكَّرٍ سالِمٍ، وأُجِيبَ عَنِ الأوَّلِ بِأنَّ أبا زَيْدٍ حَكى نَبَأْتُ مِنَ الأرْضِ إذا خَرَجْتَ مِنها، فَمُنِعَ لِوَهْمِ أنَّ مَعْناهُ يا طَرِيدَ اللَّهِ تَعالى، فَنَهاهُ عَنْ ذَلِكَ لِإيهامِهِ، ولا يَلْزَمُ مِن صِحَّةِ اسْتِعْمالِ اللَّهِ تَعالى لَهُ في حَقِّ نَبِيِّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ الَّذِي بَرَّأهُ مِن كُلِّ نَقْصٍ جَوازُهُ مِنَ البَشَرِ، وقِيلَ: إنَّ النَّهْيَ كانَ خاصًّا في صَدْرِ الإسْلامِ، حَيْثُ دَسائِسُ اليَهُودِ كانَتْ فاشِيَةً، وهَذا كَما نُهِيَ عَنْ قَوْلِ (راعِنا) إلى قَوْلِ (انْظُرْنا)، وعَنِ الثّانِي بِأنَّهُ لَيْسَ بِمُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، إذْ قِيلَ: إنَّهُ بِمَعْنى فاعِلٍ، ولَوْ سُلِّمَ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ مَعْناهُ الأصْلِيِّ، ولَمْ يُلاحَظْ فِيهِ هَذا، إذْ يُطْلِقُهُ عَلَيْهِ مَن لا يَعْرِفُ ذَلِكَ، فَصَحَّ جَمْعُهُ بِاعْتِبارِ المَعْنى الغالِبِ عَلَيْهِ، فَتَدَبَّرْ. ﴿ذَلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ﴾ إشارَةٌ إلى الكُفْرِ والقَتْلِ الواقِعَيْنِ سَبَبًا لِما تَقَدَّمَ، وجازَتِ الإشارَةُ بِالمُفْرَدِ إلى مُتَعَدِّدٍ لِلتَّأْوِيلِ بِالمَذْكُورِ، ونَحْوِهِ مِمّا هو مُفْرَدٌ لَفْظًا مُتَعَدِّدٌ مَعْنًى، وقَدْ يَجْرِي مِثْلُ ذَلِكَ في الضَّمِيرِ حَمْلًا عَلَيْهِ، والباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وما بَعْدَها سَبَبٌ لِلسَّبَبِ، والمَعْنى: إنَّ الَّذِي حَمَلَهم عَلى الكُفْرِ بِآياتِ اللَّهِ تَعالى وقَتْلِهِمُ الأنْبِياءَ إنَّما هو تَقَدُّمُ عِصْيانِهِمْ واعْتِدائِهِمْ ومُجاوَزَتِهِمُ الحُدُودَ، والذَّنْبُ يَجُرُّ الذَّنْبَ، وأكَّدَ الأوَّلَ لِأنَّهُ مَظِنَّةُ الِاسْتِبْعادِ بِخِلافِ مُطْلَقِ العِصْيانِ، وقِيلَ: الباءُ بِمَعْنى مَعَ، وقِيلَ: الإشارَةُ بِذَلِكَ إلى ما أُشِيرَ إلَيْهِ بِالأوَّلِ، وتُرِكَ العاطِفُ لِلدِّلالَةِ (p-278)عَلى أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مُسْتَقِلٌّ في اسْتِحْقاقِ الضَّرْبِ، فَكَيْفَ إذا اجْتَمَعا، وضُعِّفَ هَذا الوَجْهُ بِأنَّ التَّكْرارَ خِلافُ الأصْلِ مَعَ فَواتِ مَعْنًى لَطِيفٍ حَصَلَ بِالأوَّلِ، وسابِقِهِ، بِأنَّهُ لا يَظْهَرُ حِينَئِذٍ لِإيرادِ كَلِمَةِ ذَلِكَ فائِدَةٌ، إذِ الظّاهِرُ بِما عَصَوْا إلَخْ، ويَفُوتُ أيْضًا ما يَفُوتُ، وحَظُّ العارِفِ مِن هَذِهِ الآياتِ الِاعْتِبارُ بِحالِ هَؤُلاءِ الَّذِينَ لَمْ يَرْضَوْا بِالقَضاءِ، ولَمْ يَشْكُرُوا عَلى النَّعْماءِ، ولَمْ يَصْبِرُوا عَلى البَلْواءِ، كَيْفَ ضَرَبَ عَلَيْهِمْ ذُلَّ الطُّغْيانِ قَبْلَ وُجُودِ الأكْوانِ، وقَهَرَهم بِلَطْمَةِ المَسْكَنَةِ في بَيْداءِ الخِذْلانِ، وألْبَسَ قُلُوبَهم حُبَّ الدُّنْيا، وأهْبَطَهم مِنَ الدَّرَجَةِ العُلْيا. * * * ومِن بابِ الإشارَةِ الطَّعامُ الواحِدُ هو الغِذاءُ الرُّوحانِيُّ مِنَ الحِكْمَةِ والمَعْرِفَةِ، وما تُنْبِتُهُ الأرْضُ هو الشَّهَواتُ الخَبِيثَةُ، واللَّذّاتُ الخَسِيسَةُ، والتَّفَكُّهاتُ البارِدَةُ النّاشِئَةُ مِن أرْضِ النُّفُوسِ المُبْتَذَلَةِ في مِصْرَ البَدَنِ، المُوجِبَةُ لِلذِّلَّةِ لِمَن ذاقَها، والمَسْكَنَةِ لِمَن لاكَها، والهَلاكِ لِمَنِ ابْتَلَعَها وسَبَبُ طَلَبِ ذَلِكَ الِاحْتِجابِ عَنْ آياتِ اللَّهِ تَعالى وتَجَلِّياتِهِ، وتَسْوِيدِ القُلُوبِ بِدَرَنِ الذُّنُوبِ، وقَطْعِ ورِيدِها بِقَطْعِ وارِدِها، والَّذِي يَجُرُّ إلى هَذا الغَفْلَةُ عَنِ المَحْبُوبِ، والِاعْتِياضُ بِالأغْيارِ عَنْ ذَلِكَ المَطْلُوبِ، نَسْألُ اللَّهَ تَعالى لَنا ولَكُمُ العافِيَةَ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب