الباحث القرآني

﴿وإذْ قُلْتُمْ يامُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ﴾: لَمّا سَئِمُوا مِنَ الإقامَةِ في التِّيهِ، والمُواظَبَةِ عَلى مَأْكُولٍ واحِدٍ، لِبُعْدِهِمْ عَنِ الأرْضِ الَّتِي ألِفُوها، وعَنِ العَوائِدِ الَّتِي عَهِدُوها، أخْبَرُوا عَمّا وجَدُوهُ مِن عَدَمِ الصَّبْرِ عَلى ذَلِكَ وتَشَوُّفِهِمْ إلى ما كانُوا يَأْلَفُونَ، وسَألُوا مُوسى أنْ يَسْألَ اللَّهَ لَهم. وأكْثَرُ أهْلِ الظّاهِرِ مِنَ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ هَذا السُّؤالَ كانَ مَعْصِيَةً، قالُوا: لِأنَّهم كَرِهُوا إنْزالَ المَنِّ والسَّلْوى، وتِلْكَ الكَراهَةُ مَعْصِيَةٌ، ولِأنَّ مُوسى وصَفَ ما سَألُوهُ بِأنَّهُ أدْنى وما كانُوا عَلَيْهِ بِأنَّهُ خَيْرٌ، وبِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿أتَسْتَبْدِلُونَ﴾ هو عَلى سَبِيلِ الإنْكارِ. والجَوابُ، أنَّ قَوْلَهم: ﴿لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ﴾ لا يَدُلُّ عَلى عَدَمِ الرِّضا بِهِ فَقَطْ، بَلِ اشْتَهَوْا أشْياءَ أُخَرَ. وأمّا الإنْكارُ فَلِأنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِما فِيهِ مِن تَفْوِيتِ الأنْفَعِ في الدُّنْيا، أوِ الأنْفَعِ في الآخِرَةِ. وأمّا الخَيْرِيَّةُ فَسَيَأْتِي الكَلامُ فِيها، وإنَّما كانَ سُؤالًا مُباحًا، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿كُلُوا واشْرَبُوا﴾ [البقرة: ٦٠] مِن قَبْلِ هَذِهِ الآيَةِ، عِنْدَ إنْزالِ المَنِّ وتَفْجِيرِ العَيْنِ لَيْسَ بِإيجابٍ بَلْ هو إباحَةٌ، وإذا كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهم: ﴿لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ﴾ مَعْصِيَةً لِأنَّ مَن أُبِيحَ لَهُ صُنُوفٌ مِنَ الطَّعامِ يَحْسُنُ مِنهُ أنْ يَسْألَ غَيْرَها، إمّا بِنَفْسِهِ أوْ عَلى لِسانِ الرَّسُولِ. ولَمّا كانَ سُؤالُ النَّبِيِّ أقْرَبَ لِلْإباحَةِ، سَألُوهُ عَنْ ذَلِكَ، ولِأنَّ النَّوْعَ الواحِدَ أرْبَعِينَ سَنَةً يُمَلُّ ويُشْتَهى إذْ ذاكَ غَيْرُهُ، ولِأنَّهم ما تَعَوَّدُوا ذَلِكَ النَّوْعَ. ورَغْبَةُ الإنْسانِ فِيما اعْتادَهُ وإنْ كانَ خَسِيسًا فَوْقَ رَغْبَةِ ما لَمْ يَعْتَدْهُ وإنْ كانَ شَرِيفًا، ولِأنَّ ذَلِكَ يَكُونُ سَبَبًا لِانْتِقالِهِمْ عَنِ التِّيهِ الَّذِي مَلُّوهُ؛ لِأنَّ تِلْكَ الأطْعِمَةَ لا تُوجَدُ فِيهِ، فَأرادُوا الحُلُولَ بِغَيْرِهِ، ولِأنَّ المُواظَبَةَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ سَبَبٌ لِنَقْصِ الشَّهْوَةِ وضَعْفِ الهَضْمِ وقِلَّةِ الرَّغْبَةِ، والِاسْتِكْثارُ مِنَ الأنْواعِ بِعَكْسِ ذَلِكَ. فَثَبَتَ بِهَذا أنَّ تَبْدِيلَ نَوْعٍ بِنَوْعٍ يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِلْعُقَلاءِ، وثَبَتَ أنَّهُ لَيْسَ في القُرْآنِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهم كانُوا مَمْنُوعِينَ عَنْهُ، فَثَبَتَ أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً. ومِمّا يُؤَكِّدُ (p-٢٣٢)ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإنَّ لَكم ما سَألْتُمْ﴾ هو كالإجابَةِ لِما طَلَبُوا. ولَوْ كانُوا عاصِينَ في ذَلِكَ السُّؤالِ لَكانَتِ الإجابَةُ إلَيْهِ مَعْصِيَةً، وهي غَيْرُ جائِزَةٍ عَلى الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ. ووَصَفَ الطَّعامَ بِواحِدٍ، وإنْ كانَ طَعامَيْنِ؛ لِأنَّهُ المَنُّ والسَّلْوى اللَّذانِ رُزِقُوهُما في التِّيهِ؛ لِأنَّهم أرادُوا بِالواحِدِ ما لا يَخْتَلِفُ ولا يَتَبَدَّلُ، ولَوْ كانَ عَلى مائِدَةِ الرَّجُلِ ألْوانٌ عَدِيدَةٌ يُداوِمُ عَلَيْها كُلَّ يَوْمٍ لا يُبَدِّلُها قِيلَ: لا يَأْكُلُ فُلانٌ إلّا طَعامًا واحِدًا، يُرادُ بِالوَحْدَةِ نَفْيُ التَّبَدُّلِ والِاخْتِلافِ. ويَجُوزُ أنْ يُرِيدُوا أنَّهُما ضَرْبٌ واحِدٌ لِأنَّهُما مَعًا مِن طَعامِ أهْلِ التَّلَذُّذِ والسَّرَفِ، ونَحْنُ قَوْمُ فِلاحَةٍ أهْلُ زِراعاتٍ، فَما نُرِيدُ إلّا ما ألِفْناهُ وضَرَيْنا بِهِ مِنَ الأشْياءِ المُتَفاوِتَةِ، كالحُبُوبِ والبُقُولِ ونَحْوِهِما. ذَكَرَ هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ في مَعْنى الواحِدِ الزَّمَخْشَرِيُّ. وقِيلَ: أعادَ عَلى لَفْظِ الطَّعامِ مِن حَيْثُ أنَّهُ مُفْرَدٌ لا عَلى مَعْناهُ. وقِيلَ: كانُوا يَأْكُلُونَ المَنَّ والسَّلْوى مُخْتَلِطَيْنِ، فَيَصِيرُ بِمَنزِلَةِ اللَّوْنِ الَّذِي يَجْمَعُ أشْياءَ ويُسَمّى لَوْنًا واحِدًا، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. وقِيلَ: كانَ طَعامُهم يَأْتِيهِمْ بِصِفَةِ الوَحْدَةِ، نَزَلَ عَلَيْهِمُ المَنُّ فَأكَلُوا مِنهُ مُدَّةً حَتّى سَئِمُوهُ ومَلُّوهُ، ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْهم، فَأنْزَلَ عَلَيْهِمُ السَّلْوى فَأكَلُوها مُدَّةً وحْدَها. وقِيلَ: أرادُوا بِالطَّعامِ الواحِدِ السَّلْوى؛ لِأنَّ المَنَّ كانَ شَرابًا أوْ شَيْئًا يَتَحَلَّوْنَ بِهِ، وما كانُوا يَعُدُّونَ طَعامًا إلّا السَّلْوى. وقِيلَ: عَبَّرَ عَنْهُما بِالواحِدِ، كَما عَبَّرَ بِالاثْنَيْنِ عَنِ الواحِدِ نَحْوَ: ﴿يَخْرُجُ مِنهُما اللُّؤْلُؤُ والمَرْجانُ﴾ [الرحمن: ٢٢]، وإنَّما يَخْرُجُ مِن أحَدِهِما وهو المِلْحُ دُونَ العَذْبِ. وقِيلَ: قالُوا ذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ أحَدِهِما. وقِيلَ: مَعْناهُ لَنْ نَصْبِرَ عَلى أنَّنا كُلَّنا أغْنِياءُ، فَلا يَسْتَعِينُ بَعْضُنا بِبَعْضٍ، ويَكُونُ قَدْ كَنى بِالطَّعامِ الواحِدِ عَنْ كَوْنِهِمْ نَوْعًا واحِدًا، وهو كَوْنُهم ذَوِي غِنًى، فَلا يَخْدُمُ بَعْضُهم بَعْضًا، وكَذَلِكَ كانُوا في التِّيهِ، فَلَمّا خَرَجُوا مِنهُ عادُوا لِما كانُوا عَلَيْهِ مِن فَقْرِ بَعْضٍ وغِنى بَعْضٍ. فَهَذِهِ تِسْعَةُ أقْوالٍ في مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿عَلى طَعامٍ واحِدٍ﴾ . ﴿فادْعُ لَنا رَبَّكَ﴾: مَعْناهُ: اسْألْهُ لَنا، ومُتَعَلِّقُ الدُّعاءِ مَحْذُوفٌ، أيِ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِأنْ يُخْرِجَ كَذا وكَذا. ولُغَةُ بَنِي عامِرٍ: (فادْعِ) بِكَسْرِ العَيْنِ، جَعَلُوا دَعا مِن ذَواتِ الياءِ، كَرَمى يَرْمِي، وإنَّما سَألُوا مِن مُوسى أنْ يَدْعُوَ لَهم بِما اقْتَرَحُوهُ ولَمْ يَدْعُ لَهم؛ لِأنَّ إجابَةَ الأنْبِياءِ أقْرَبُ مِن إجابَةِ غَيْرِهِمْ، ولِذَلِكَ قالُوا: (رَبَّكَ) ولَمْ يَقُولُوا: رَبَّنا؛ لِأنَّ في ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِصاصِ بِهِ ما لَيْسَ فِيهِمْ مِن مُناجاتِهِ وتَكْلِيمِهِ وإتْيانِهِ التَّوْراةَ، فَكَأنَّهم قالُوا: ادْعُ لَنا الَّذِي هو مُحْسِنٌ لَكَ، فَكَما أحْسَنَ إلَيْكَ في أشْياءَ، كَذَلِكَ نَرْجُو أنْ يُحْسِنَ إلَيْنا في إجابَةِ دُعائِكَ. ﴿يُخْرِجْ لَنا﴾: جَزْمُهُ عَلى جَوابِ الأمْرِ الَّذِي هو ادْعُ، وقَدْ مَرَّ نَظِيرُهُ في ﴿أوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة: ٤٠] . وقِيلَ: ثَمَّ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وقُلْ لَهُ أخْرِجْ فَيُخْرِجْ، مَجْزُومٌ عَلى جَوابِ هَذا الأمْرِ الَّذِي هو أخْرِجْ. وقِيلَ: جُزِمَ (يُخْرِجْ) بِلامٍ مُضْمَرَةٍ، وهي لامُ الطَّلَبِ، أيْ لِيُخْرِجْ، وهَذا عِنْدَ البَصْرِيِّينَ لا يَجُوزُ. ﴿مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ﴾: مَفْعُولُ (يُخْرِجْ) مَحْذُوفٌ و(مِن) تَبْعِيضِيَّةٌ: أيْ مَأْكُولًا مِمّا تُنْبِتُ، هَذا عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وقالَ الأخْفَشُ: (مِن) زائِدَةٌ، التَّقْدِيرُ: ما تُنْبِتُ، و(ما) مَوْصُولَةٌ، والعائِدُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: تُنْبِتُهُ، وفِيهِ شُرُوطُ جَوازِ الحَذْفِ، وأجازَ بَعْضُهم أنْ تَكُونَ (ما) مَصْدَرِيَّةً، تَقْدِيرُهُ: مِن إنْباتِ الأرْضِ. قالَ أبُو البَقاءِ: لا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأنَّ المَفْعُولَ المُقَدَّرَ لا يُوصَفُ بِالإنْباتِ؛ لِأنَّ الإنْباتَ مَصْدَرٌ والمَحْذُوفَ جَوْهَرٌ وإضافَةَ الإنْباتِ إلى الأرْضِ مَجازٌ، إذِ المُنْبِتُ هو اللَّهُ تَعالى، لَكِنَّهُ لَمّا جَعَلَ فِيها قابِلِيَّةَ الإنْباتِ نَسَبَ الإنْباتَ إلَيْها. ﴿مِن بَقْلِها﴾: هَذا بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ﴾، عَلى إعادَةِ حَرْفِ الجَرِّ، وهو فَصِيحٌ في الكَلامِ، أعْنِي أنْ يُعادَ حَرْفُ الجَرِّ في البَدَلِ، فَـ (مِن) عَلى هَذا التَّقْدِيرِ تَبْعِيضِيَّةٌ، كَهي في (مِمّا تُنْبِتُ)، ويَتَعَلَّقُ بِـ (يُخْرِجْ) إمّا الأُولى، وإمّا أُخْرى مُقَدَّرَةٌ عَلى الخِلافِ الَّذِي في العامِلِ في البَدَلِ، هَلْ هو العامِلُ الأوَّلُ، أوْ ذَلِكَ عَلى تَكْرارِ العامِلِ ؟ والمَشْهُورُ هَذا الثّانِي، وأجازَ الَمَهْدَوِيُّ أيْضًا، وابْنُ عَطِيَّةَ، وأبُو البَقاءِ أنْ تَكُونَ (مِن) في قَوْلِهِ: ﴿مِن بَقْلِها﴾ لِبَيانِ الجِنْسِ، وعَبَّرَ عَنْها (p-٢٣٣)الَمَهْدَوِيُّ بِأنَّها لِلتَّخْصِيصِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقالَ أبُو البَقاءِ: مَوْضِعُها نَصْبٌ عَلى الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ المَحْذُوفِ، تَقْدِيرُهُ: مِمّا تُنْبِتُهُ الأرْضُ كائِنًا مِن بَقْلِها، وقَدَّمَ ذِكْرَ هَذا الوَجْهِ قالَ: ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ بَدَلًا مِن (ما) الأوْلى بِإعادَةِ حَرْفِ الجَرِّ. وأمّا الَمَهْدَوِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ فَزَعَما مَعَ قَوْلِهِما: إنَّ (مِن) في ﴿مِن بَقْلِها﴾ بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿مِمّا تُنْبِتُ﴾ وذَلِكَ لِأنَّ (مِن) في قَوْلِهِ ﴿مِمّا تُنْبِتُ﴾ لِلتَّبْعِيضِ، و(مِن) في قَوْلِهِ ﴿مِن بَقْلِها﴾ عَلى زَعْمِهِما لِبَيانِ الجِنْسِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ مَدْلُولُ الحَرْفَيْنِ، واخْتِلافُ ذَلِكَ كاخْتِلافِ الحَرْفَيْنِ، فَلا يَجُوزُ البَدَلُ إلّا إنْ ذَهَبَ ذاهِبٌ إلى أنَّ (مِن) في قَوْلِهِ: ﴿مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ﴾ لِبَيانِ الجِنْسِ، فَيُمْكِنُ أنْ يُفَرَّعَ القَوْلُ بِالبَدَلِ عَلى كَوْنِها لِبَيانِ الجِنْسِ، والمُخْتارُ ما قَدَّمْناهُ مِن كَوْنِ (مِن) في المَوْضِعَيْنِ لِلتَّبْعِيضِ، وأمّا أنْ تَكُونَ لِبَيانِ الجِنْسِ، فَقَدْ أباهُ أصْحابُنا وتَأوَّلُوا ما اسْتَدَلَّ بِهِ مُثْبِتُ ذَلِكَ، والمُرادُ بِالبَقْلِ هُنا: أطايِبُ البُقُولِ الَّتِي يَأْكُلُها النّاسُ، كالنَّعْناعِ، والكَرَفْسِ، والكُرّاثِ، وأشْباهِها، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وقَرَأ يَحْيى بْنُ وثّابٍ وطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وغَيْرُهُما: (وقُثّائِها) بِضَمِّ القافِ، وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّها لُغَةٌ. ﴿وفُومِها﴾: تَقَدَّمَ الكَلامُ فِيهِ، ولِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ أقاوِيلُ سِتَّةٌ، أحَدُها: أنَّهُ الثُّومُ، وبَيَّنَتْهُ قِراءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: (وثَوْمِها) بِالثّاءِ، وهو المُناسِبُ لِلْبَقْلِ والعَدَسِ والبَصَلِ. الثّانِي: قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ وقَتادَةُ والسُّدِّيُّ: أنَّهُ الحِنْطَةُ. الثّالِثُ: أنَّهُ الحُبُوبُ كُلُّها. الرّابِعُ: أنَّهُ الخُبْزُ، قالَهُ مُجاهِدٌ وابْنُ عَطاءٍ وابْنُ زَيْدٍ. الخامِسُ: أنَّهُ الحِمَّصُ. السّادِسُ: أنَّهُ السُّنْبُلَةُ. ﴿وعَدَسِها وبَصَلِها﴾: وأحْوالُ هَذِهِ الخَمْسَةِ الَّتِي ذَكَرُوها مُخْتَلِفَةٌ، فَذَكَرُوا، أوَّلًا ما هو جامِعٌ لِلْحَرارَةِ والبُرُودَةِ والرُّطُوبَةِ واليُبُوسَةِ، إذِ البَقْلُ مِنهُ ما هو بارِدٌ رَطْبٌ كالهِنْدَبا، ومِنهُ ما هو حارٌّ يابِسٌ كالكَرَفْسِ والسَّدابِ، ومِنهُ ما هو حارٌّ وفِيهِ رُطُوبَةٌ عَرْضِيَّةٌ كالنَّعْناعِ. وثانِيًا: القِثّاءُ، وهو بارِدٌ رَطْبٌ. وثالِثًا: الثُّومُ، وهو حارٌّ يابِسٌ. ورابِعًا: العَدَسُ، وهو بارِدٌ يابِسٌ. وخامِسًا: البَصَلُ، وهو حارٌّ رَطْبٌ، وإذا طُبِخَ صارَ بارِدًا رَطْبًا، فَعَلى هَذا جاءَ تَرْتِيبُ ذِكْرِ هَذِهِ الخَمْسَةِ. ﴿قالَ أتَسْتَبْدِلُونَ﴾: الضَّمِيرُ في (قالَ) ظاهِرٌ عَوْدُهُ عَلى مُوسى، ويُحْتَمَلُ عُودُهُ عَلى الرَّبِّ تَعالى، ويُؤَيِّدُهُ ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإنَّ لَكم ما سَألْتُمْ﴾، والهَمْزَةُ في ﴿أتَسْتَبْدِلُونَ﴾ لِلْإنْكارِ، والِاسْتِبْدالُ: الِاعْتِياضُ. وقَرَأ أُبَيٌّ: أتُبَدِّلُونَ، وهو مَجازٌ؛ لِأنَّ التَّبْدِيلَ لَيْسَ لَهم إنَّما ذَلِكَ إلى اللَّهِ تَعالى، لَكِنَّهم لَمّا كانُوا يَحْصُلُ التَّبْدِيلُ بِسُؤالِهِمْ جُعِلُوا مُبَدِّلِينَ، وكانَ المَعْنى: أتَسْألُونَ تَبْدِيلَ. ﴿الَّذِي هو أدْنى بِالَّذِي هو خَيْرٌ﴾، والَّذِي: مَفْعُولُ ﴿أتَسْتَبْدِلُونَ﴾ وهو الحاصِلُ، والَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ الباءُ هو الزّائِلُ، كَما قَرَّرْناهُ في غَيْرِ مَكانٍ. ﴿هُوَ أدْنى﴾ صِلَةٌ لِلَّذِي، وهو هُنا واجِبُ الإثْباتِ عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ، إذْ لا طُولَ في الصِّلَةِ، وأدْنى: خَبَرٌ عَنْ هو، وهو أفْعَلُ التَّفْضِيلِ، و(مِن وما) دَخَلَتْ عَلَيْهِ حَذْفًا لِلْعِلْمِ، وحَسَّنَ حَذْفَهُما كَوْنُ أفْعَلِ التَّفْضِيلِ خَبَرًا، فَإنْ وقَعَ غَيْرَ خَبَرٍ مِثْلَ كَوْنِهِ حالًا أوْ صِفَةً قَلَّ الحَذْفُ، وتَقْدِيرُهُ: أدْنى مِن ذَلِكَ الطَّعامِ الواحِدِ، وحَسَّنَ حَذْفَهُما أيْضًا كَوْنُ المُفَضَّلِ عَلَيْهِ مَذْكُورًا بَعْدَ ذَلِكَ، وهو قَوْلُهُ: ﴿بِالَّذِي هو خَيْرٌ﴾، وأفْرَدَ: ﴿الَّذِي هو أدْنى﴾ لِأنَّهُ أحالَ بِهِ عَلى المَأْكُولِ الَّذِي هو ﴿مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ﴾، وعَلى (ما) مِن قَوْلِهِ: ﴿مِمّا تُنْبِتُ﴾، فَيَكُونُ قَدْ راعى المُبْدَلَ مِنهُ، إذْ لَوْ راعى البَدَلَ لَقالَ: أتَسْتَبْدِلُونَ اللّاتِي هي أدْنى، وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في (أدْنى) عِنْدِ الكَلامِ عَلى المُفْرَداتِ وذَكَرْنا الأقاوِيلَ الثَّلاثَةَ فِيها. وقَرَأ زُهَيْرٌ الفُرْقُبِيُّ ويُقالُ لَهُ زُهَيْرٌ الكِسائِيُّ: (أدْنَأُ) بِالهَمْزِ، ووَقَعَ لِبَعْضِ مَن جَمَعَ في التَّفْسِيرِ وهْمٌ في نِسْبَةِ هَذِهِ القِراءَةِ لِلْكِسائِيِّ، فَقالَ: وقَرَأ زُهَيْرٌ والكِسائِيُّ شاذًّا (أدْنَأُ) فَظَنَّ أنَّ هَذِهِ قِراءَةُ الكِسائِيُّ، وجَعَلَ زُهَيْرًا والكِسائِيَّ شَخْصَيْنِ، وإنَّما هو زُهَيْرٌ الكِسائِيُّ يُعْرَفُ بِذَلِكَ، وبِالفُرْقُبِيِّ، فَهو رَجُلٌ واحِدٌ. فَأمّا تَفْسِيرُ (الأدْنى والخَيْرِ) هُنا فَفِيهِ أقاوِيلُ، أحَدُها: قالَ الزَّجّاجُ: تَفاضُلُ الأشْياءِ بِالقِيَمِ، وهَذِهِ البُقُولُ لا خَطَرَ فِيها ولا عُلُوَّ قِيمَةٍ، والمَنُّ والسَّلْوى هُما أعْلى قِيمَةً وأعْظَمُ خَطَرًا، واخْتارَ هَذا الزَّمَخْشَرِيُّ، (p-٢٣٤)قالَ: أقْرَبُ مَنزِلَةً وأهْوَنُ مِقْدارًا، والدُّنُوُّ والقُرْبُ يُعَبَّرُ بِهِما عَنْ قِلَّةِ المِقْدارِ فَيُقالُ: هو أدْنى المَحَلِّ وقَرِيبُ المَنزِلَةِ، كَما يُعَبَّرُ بِالبُعْدِ عَنْ عَكْسِ ذَلِكَ فَيُقالُ: بَعِيدُ المَحَلِّ بَعِيدُ المَنزِلَةِ، يُرِيدُونَ الرِّفْعَةَ والعُلُوَّ. انْتَهى كَلامُهُ، وهو مِن كَلامِ الزَّجّاجِ. والثّانِي: أنَّ المَنَّ والسَّلْوى هو الَّذِي مَنَّ اللَّهُ بِهِ وأمَرَهم بِأكْلِهِ، وفي اسْتِدامَةِ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ وشُكْرِ نِعْمَتِهِ أجْرٌ وذُخْرٌ في الآخِرَةِ، والَّذِي طَلَبُوهُ عارٍ مِن هَذِهِ الخِصالِ فَكانَ أدْنى مِن هَذا الوَجْهِ. الثّالِثُ: أنَّ التَّفْضِيلَ يَقَعُ مِن جِهَةِ الطِّيبِ واللَّذَّةِ، والمَنُّ والسَّلْوى لا شَكَّ أنَّهُما أطْيَبُ مِنَ البُقُولِ الَّتِي طَلَبُوها. الرّابِعُ: أنَّ المَنَّ والسَّلْوى لا كُلْفَةَ في تَحْصِيلِهِ ولا تَعَبَ ولا مَشَقَّةَ، والبُقُولُ لا تَحْصُلُ إلّا بَعْدَ مَشَقَّةِ الحَرْثِ والزَّرْعِ والخِدْمَةِ والسَّقْيِ، وما حَصَلَ بِلا مَشَقَّةٍ خَيْرٌ مِمّا حَصَلَ بِمَشَقَّةٍ. الخامِسُ: أنَّ المَنَّ والسَّلْوى لا شَكَّ في حِلِّهِ وخُلُوصِهِ لِنُزُولِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ، والحُبُوبُ والأرْضُ يَتَخَلَّلُها العُيُوبُ والغُصُوبُ ويَدْخُلُها الحَرامُ والشُّبْهَةُ، وما كانَ حِلًّا خالِصًا أفْضَلُ مِمّا يَدْخُلُهُ الحَرامُ والشُّبْهَةُ. السّادِسُ: أنَّ المَنَّ والسَّلْوى يَفْضُلانِ ما سَألُوهُ مِن جِنْسِ الغِذاءِ ونَفْعِهِ. ومُلَخَّصُ هَذِهِ الأقْوالِ: هَلِ الأدْنَوِيَّةُ والخَيْرِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ إلى القِيمَةِ، أوِ امْتِثالِ الأمْرِ وما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، أوِ اللَّذَّةُ، أوِ الكُلْفَةُ، أوِ الحِلُّ، أوِ الجِنْسُ ؟ أقْوالٌ سِتَّةٌ. وأمّا قِراءَةُ زُهَيْرٍ فَهي مِنَ الدِّناءِ. وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ (أدْنى) غَيْرَ المَهْمُوزِ قِيلَ إنَّ أصْلَها الهَمْزَةُ فَسَهَّلَ كَهَذِهِ القِراءَةِ، ومَن قالَ بِالقَلْبِ وإنَّ أصْلَهُ أدْوَنُ، فالدَّناءَةُ والدُّونُ راجِعانِ إلى مَعْنًى واحِدٍ، وهو الخَمْسَةُ، وهو مِن جِهَةِ المَعْنى أحْسَنُ مُقابَلَةً لِقَوْلِهِ: ﴿بِالَّذِي هو خَيْرٌ﴾ . ومَن جَعَلَ (أدْنى) بِمَعْنى أقْرَبَ؛ لِأنَّ الأدْوَنَ والأدْنَأ يُقابِلُهُما الخَيْرُ، والأدْنى بِمَعْنى الأقْرَبِ يُقابِلُهُ الأبْعَدُ، وحُذِفَ (مِن) ومَعْمُولُها بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿هُوَ خَيْرٌ﴾ لِما ذَكَرْناهُ في قَوْلِهِ: هو أدْنى، مِن وُقُوعِ أفْعَلِ التَّفْضِيلِ خَبَرًا، وتَقْدِيرُهُ: مِنهُ، أيْ مِن: ﴿الَّذِي هو أدْنى﴾ . وكانَتْ هاتانِ الصِّلَتانِ جُمْلَتَيْنِ اسْمِيَّتَيْنِ لِثُبُوتِ الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، وكانَ الخَيْرُ أفْعَلَ التَّفْضِيلِ؛ لِأنَّهُ لا دَلالَةَ فِيها عَلى تَعْيِينِ زَمانٍ، بَلْ في ذَلِكَ إثْباتُ الأدْنَوِّيَةِ والخَيْرِيَّةَ مِن غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِزَمانٍ، بِخِلافِ الجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ، فَإنَّهُ كانَ يَتَعَيَّنُ الزَّمانُ، أوْ يَتَجَوَّزُ في ذَلِكَ، إنْ لَمْ يَقْصِدِ التَّعْيِينَ، فَكانَ الوَصْلُ بِما هو حَقِيقَةٌ في عَدَمِ الدَّلالَةِ عَلى التَّعْيِينِ أفْصَحَ، وكانَتْ صِلَةُ (ما) في قَوْلِهِ: (مِمّا تُنْبِتُ) جُمْلَةً فِعْلِيَّةً؛ لِأنَّ الفِعْلَ عِنْدَهم يُشْعِرُ بِالتَّجَدُّدِ والحُدُوثِ، والإنْباتُ مُتَجَدِّدٌ دائِمًا، فَناسَبَ كُلُّ مَكانٍ ما يَلِيقُ بِهِ مِنَ الصِّلَةِ. * * * ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾: في الكَلامِ حَذْفٌ عَلى تَقْدِيرِ أنَّ القائِلَ: ﴿أتَسْتَبْدِلُونَ﴾ هو مُوسى، وتَقْدِيرُ المَحْذُوفِ: فَدَعا مُوسى رَبَّهُ فَأجابَهُ، ﴿قالَ اهْبِطُوا﴾ [الأعراف: ٢٤] . وتَقَدَّمَ مَعْنى الهُبُوطِ، ويُقالُ: هَبَطَ الوادِيَ: حَلَّ بِهِ، وهَبَطَ مِنهُ: خَرَجَ، وكَأنَّ القادِمَ عَلى بَلَدٍ يَنْصَبُّ عَلَيْهِ. وقُرِئَ (اهْبُطُوا) بِضَمِّ الباءِ، وهُما لُغَتانِ، والأفْصَحُ الكَسْرُ، والجُمْهُورُ عَلى صَرْفِ مِصْرًا هُنا. وقَرَأ الحَسَنُ وطَلْحَةُ والأعْمَشُ وأبانُ بْنُ تَغْلِبَ: بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، وبَيِّنٌ كَذَلِكَ في مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، ومُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وبَعْضِ مَصاحِفِ عُثْمانَ. فَأمّا مَن صَرَفَ فَإنَّهُ يَعْنِي مِصْرًا مِنَ الأمْصارِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، واسْتَدَلُّوا بِالأمْرِ بِدُخُولِ القَرْيَةِ، وبِأنَّهم سَكَنُوا الشّامَ بَعْدَ التِّيهِ، وبِأنَّ ما سَألُوهُ مِنَ البَقْلِ وغَيْرِهِ لا يَكُونُ إلّا في الأمْصارِ، وهَذا قَوْلُ قَتادَةَ والسُّدِّيِّ ومُجاهِدٍ وابْنِ زَيْدٍ. وقِيلَ: هو مِصْرٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ لَكِنَّهُ مِن أمْصارِ الأرْضِ المُقَدَّسَةِ، بِدَلِيلِ: ﴿ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدَّسَةَ﴾ [المائدة: ٢١] . وقِيلَ: أرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿مِصْرًا﴾ وإنْ كانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ مِصْرَ فِرْعَوْنَ، وهو مِن إطْلاقِ النَّكِرَةِ ويُرادُ بِها المُعَيَّنُ، كَما تَقُولُ: ائْتِنِي بِرَجُلٍ، وأنْتَ تَعْنِي بِهِ زَيْدًا. قالَ أشْهَبُ، قالَ لِي مالِكٌ: هي مِصْرُ قَرْيَتُكَ مَسْكَنُ فِرْعَوْنَ. وأجازَ مَن وقَفْنا عَلى كَلامِهِ مِنَ المُعْرِبِينَ والمُفَسِّرِينَ أنَّ تَكُونَ مِصْرُ هَذِهِ المُنَوَّنَةُ هي الِاسْمَ العَلَمَ. والمُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿أنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتًا﴾ [يونس: ٨٧]، قالُوا: وصُرِفَ وإنْ كانَ فِيهِ العَلَمِيَّةُ والتَّأْنِيثُ، كَما صُرِفَ هِنْدٌ ودَعْدٌ لِمُعادَلَةِ أحَدِ السَّبَبَيْنِ، لِخِفَّةِ الِاسْمِ لِسُكُونِ وسَطِهِ، قالَهُ الأخْفَشُ، أوْ صُرِفَ لِأنَّهُ ذَهَبَ بِاللَّفْظِ مَذْهَبَ المَكانِ، فَذَكَّرَهُ (p-٢٣٥)فَبَقِيَ فِيهِ سَبَبٌ واحِدٌ فانْصَرَفَ. وشَبَّهَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ في مَنعِ الصَّرْفِ، وهو عَلَمٌ بِنُوحٍ ولُوطٍ حَيْثُ صُرِفا، وإنْ كانَ فِيهِما العَلَمِيَّةُ والعُجْمَةُ لِخِفَّةِ الِاسْمِ بِكَوْنِهِ ثُلاثِيًّا ساكِنَ الوَسَطِ، وهَذا لَيْسَ كَما ذَهَبُوا إلَيْهِ مِن أنَّهُ مُشْبِهٌ لِهِنْدٍ، أوْ مُشْبِهٌ لِنُوحٍ؛ لِأنَّ مِصْرَ اجْتَمَعَ فِيهِ ثَلاثَةُ أسْبابٍ وهي: التَّأْنِيثُ والعَلَمِيَّةُ والعُجْمَةُ، فَهو يَتَحَتَّمُ مَنعُ صَرْفِهِ بِخِلافِ هِنْدٍ، فَإنَّهُ لَيْسَ فِيهِ سِوى العَلَمِيَّةِ والتَّأْنِيثِ، عَلى أنَّ مِنَ النَّحْوِيِّينَ مَن خالَفَ في هِنْدٍ، وزَعَمَ أنَّهُ لا يَجُوزُ فِيهِ إلّا مَنعُ الصَّرْفِ، وزَعَمَ أنَّهُ لا دَلِيلَ عَلى ما ادَّعى النَّحْوِيُّونَ مِنَ الصَّرْفِ في قَوْلِهِ: ؎لَمْ تَتَلَفَّعْ بِفَضْلِ مِئْزَرِها دَعْدٌ ولَمْ تُسْقَ دَعْدٌ في العُلَبِ وبِخِلافِ نُوحٍ، فَإنَّ العُجْمَةَ لَمْ تُعْتَبَرْ إلّا في غَيْرِ الثُّلاثِيِّ السّاكِنِ الوَسَطِ، وأمّا إذا كانَ ثُلاثِيًّا ساكِنَ الوَسَطِ فالصَّرْفُ. وقَدْ أجازَ عِيسى بْنُ عُمَرَ مَنعَ صَرْفِهِ قِياسًا عَلى هِنْدٍ، ولَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ مِنَ العَرَبِ إلّا مَصْرُوفًا، فَهو قِياسٌ عَلى مُخْتَلَفٍ فِيهِ مُخالِفٌ لِنُطْقِ العَرَبِ، فَوَجَبَ اطِّراحُهُ. وقالَ الحَسَنُ بْنُ بَحْرٍ: المُرادُ بِقَوْلِهِ ﴿مِصْرًا﴾ البَيْتُ المُقَدَّسُ، يَعْنِي أنَّ اللَّفْظَ، وإنْ كانَ نَكِرَةً، فالمُرادُ بِهِ مُعَيَّنٌ، كَما قُلْنا في قَوْلِ مَن قالَ: إنَّهُ أرادَ بِهِ وإنْ كانَ نَكِرَةً مِصْرَ المُعَيَّنَةَ. وأمّا مَن قَرَأ (مِصْرَ) بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، فالمُرادُ مِصْرُ العَلَمُ، وهي دارُ فِرْعَوْنَ. واسْتَبْعَدَ بَعْضُ النّاسِ قَوْلَ مَن قالَ: إنَّها مِصْرُ فِرْعَوْنَ، قالَ: لِأنَّهم مِن مِصْرَ خَرَجُوا، وأُمِرُوا بِالهُبُوطِ إلى الأرْضِ المُقَدَّسَةِ لِقِتالِ الجَبّارِينَ فَأبَوْا، فَعُذِّبُوا بِالتِّيهِ أرْبَعِينَ سَنَةً لِتَخَلُّفِهِمْ عَنْ قِتالِ الجَبّارِينَ، ولِقَوْلِهِمْ: ﴿اذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا إنّا ها هُنا قاعِدُونَ﴾ [المائدة: ٢٤] فَماتُوا جَمِيعًا في التِّيهِ، وبَقِيَ أبْناؤُهم، فامْتَثَلُوا أمْرَ اللَّهِ، وهَبَطُوا إلى الشّامِ، وقاتَلُوا الجَبّارِينَ، ثُمَّ عادُوا إلى البَيْتِ المُقَدَّسِ، ولَمْ يُصَرِّحْ أحَدٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ والمُؤَرِّخِينَ أنَّهم هَبَطُوا مِنَ التِّيهِ إلى مِصْرَ. انْتَهى كَلامُهُ. فَتَلَخَّصَ مِن قِراءَةِ التَّنْوِينِ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِصْرًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ لا مِنَ الشّامِ ولا مِن غَيْرِهِ، أوْ مِصْرًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ مِن أمْصارِ الشّامِ، أوْ مُعَيَّنًا، وهو بَيْتُ المَقْدِسِ، أوْ مِصْرَ فِرْعَوْنَ، فَهَذِهِ أرْبَعَةُ أقْوالٍ. ﴿فَإنَّ لَكم ما سَألْتُمْ﴾: هَذِهِ الجُمْلَةُ جَوابٌ لِلْأمْرِ، كَما يُجابُ بِالفِعْلِ المَجْزُومِ، ويَجْرِي فِيهِ الخِلافُ الجارِي فِيهِ: هَلْ ضُمِّنَ (اهْبِطُوا مِصْرًا) مَعْنى أنْ تَهُبُّوا أوْ أُضْمِرَ الشَّرْطُ وفِعْلُهُ بَعْدَ فِعْلِ الأمْرِ كَأنَّهُ قالَ: إنْ تَهْبِطُوا مِصْرًا فَإنَّ لَكم ما سَألْتُمْ، وفي ذَلِكَ مَحْذُوفانِ: أحَدُهُما: ما يَرْبِطُ هَذِهِ الجُمْلَةَ بِما قَبْلَها، وتَقْدِيرُهُ: فَإنَّ لَكم فِيها ما سَألْتُمْ. والثّانِي: الضَّمِيرُ العائِدُ عَلى (ما) تَقْدِيرُهُ: ما سَألْتُمُوهُ، وشُرُوطُ جَوازِ الحَذْفِ فِيهِ مَوْجُودَةٌ. وقَرَأ إبْراهِيمُ النَّخَعِيُّ ويَحْيى بْنُ وثّابٍ: (سِألْتُمْ) بِكَسْرِ السِّينِ، وهَذا مِن تَداخُلِ اللُّغاتِ، وذَلِكَ أنَّ في سَألَ لُغَتَيْنِ، إحْداهُما: أنْ تَكُونَ العَيْنُ هَمْزَةً فَوَزْنُهُ فَعَلَ. والثّانِيَةُ: أنْ تَكُونَ العَيْنُ واوًا تَقُولُ: سَألَ يَسْألُ، فَتَكُونُ الألِفُ مُنْقَلِبَةً عَنْ واوٍ، ويَدُلُّ عَلى أنَّهُ مِنَ الواوِ قَوْلُهم: هُما يَتَساوَلانِ، كَما تَقُولُ: يَتَجاوَبانِ، وحِينَ كَسَرَ السِّينَ تَوَهَّمَ أنَّهُ فَتَحَها، فَأتى بِالعَيْنِ هَمْزَةً، قالَ الشّاعِرُ: ؎إذا جِئْتَهم وسَأْيَلْتَهم ∗∗∗ وجَدَتْ بِهِمْ عِلَّةً حاضِرَهْ الأصْلُ ساءَلْتَهم، والمَعْرُوفُ إبْدالُ الهَمْزَةِ ياءً، فَتَقُولُ: سايَلْتَهم، فَجَمَعَ بَيْنَ العِوَضِ وهو الياءُ، وبَيْنَ المُعَوَّضِ مِنهُ وهو الهَمْزَةُ لَكِنَّهُ لَمّا اضْطُرَّ قَدَّمَ الهَمْزَةَ قَبْلَ ألِفِ فاعِلٍ. وقالَ ابْنُ جِنِّي: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ إبْدالُ الهَمْزَةِ في (سَألْتُمْ) ياءً، كَما أُبْدِلَتْ ألِفًا في قَوْلِهِ: ؎سَألَتْ هُذَيْلٌ رَسُولَ اللَّهِ فاحِشَةً فانْكَسَرَ السِّينُ قَبْلَ الياءِ، ثُمَّ تَنَبَّهَ لِلْهَمْزِ فَهَمَزَ. والمَعْنى: ما سَألْتُمْ مِنَ البُقُولِ والحُبُوبِ الَّتِي اخْتَرْتُمُوها عَلى المَنِّ والسَّلْوى. وقِيلَ: ما سَألْتُمْ مِنَ اتِّكالِكم عَلى تَدْبِيرِ أنْفُسِكم في مَصالِحِ مَعاشِكم وأحْوالِ أقْواتِكم. ﴿وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ والمَسْكَنَةُ﴾: مَعْنى الضَّرْبِ هُنا: الإلْزامُ والقَضاءُ عَلَيْهِمْ، مِن ضَرَبَ الأمِيرُ البَعْثَ (p-٢٣٦)عَلى الجَيْشِ، وكَقَوْلِ العَرَبِ: ضَرْبَةُ لازِبٍ، ويُقالُ: ضَرَبَ الحاكِمُ عَلى اليَدِ، وضَرَبَ الدَّهْرُ ضَرَباتِهِ، أيْ ألْزَمَ إلْزاماتِهِ، وقِيلَ: مَعْناهُ الإحاطَةُ بِهِمْ والِاشْتِمالُ عَلَيْهِمْ مَأْخُوذٌ مِن ضَرَبَ القِبابَ، ومِنهُ قَوْلُ الفَرَزْدَقِ: ؎ضَرَبَتْ عَلَيْكَ العَنْكَبُوتُ بِنَسْجِها ∗∗∗ وقَضى عَلَيْكَ بِها الكِتابُ المُنَزَّلُ وقِيلَ: مَعْناهُ التَصَقَتْ بِهِمْ، مَن ضَرَبْتُ الحائِطَ بِالطِّينِ: ألْصَقْتُهُ بِهِ. وقِيلَ: مَعْناهُ: جُعِلَتْ. مِن ضَرَبْتُ الطِّينَ خَزَفًا، أيْ جُعِلَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ والمَسْكَنَةُ. أمّا الذِّلَّةُ فَقِيلَ: هي هَوانُهم بِما ضُرِبَ عَلَيْهِمْ مِنَ الجِزْيَةِ الَّتِي يُؤَدُّونَها عَنْ يَدٍ وهم صاغِرُونَ، وقِيلَ: هي ما أُلْزِمُوا بِهِ مِن إظْهارِ الزِّيِّ لِيُعْلَمَ أنَّهم يَهُودُ ولا يَلْتَبِسُوا بِالمُسْلِمِينَ، وقِيلَ: فَقْرُ النَّفْسِ وشُحُّها، فَلا تَرى مِلَّةً مِنَ المِلَلِ أذَلُّ وأحْرَصُ مِنَ اليَهُودِ. وأمّا المَسْكَنَةُ: فالخُشُوعُ، فَلا يُرى يَهُودِيٌّ إلّا وهو بادِي الخُشُوعِ، أوِ الخَراجُ، وهو الجِزْيَةُ، قالَهُ الحَسَنُ وقَتادَةُ، أوِ الفاقَةُ والحاجَةُ، قالَهُ أبُو العالِيَةِ، أوْ ما يُظْهِرُونَهُ مِن سُوءِ حالِهِمْ مَخافَةَ أنْ تُضاعَفَ عَلَيْهِمُ الجِزْيَةُ، أوِ الضَّعْفُ، فَتَراهُ ساكِنَ الحَرَكاتِ قَلِيلَ النُّهُوضِ. واسْتَبْعَدَ صاحِبُ المُنْتَخَبِ قَوْلَ مَن فَسَّرَ الذِّلَّةَ بِالجِزْيَةِ؛ لِأنَّ الجِزْيَةَ لَمْ تَكُنْ مَضْرُوبَةً عَلَيْهِمْ مِن أوَّلِ أمْرِهِمْ. وقِيلَ: هو مِنَ المُعْجِزاتِ؛ لِأنَّهُ أخْبَرَ عَنْهُ، ﷺ . فَكانَ كَما أخْبَرَ، والمَضْرُوبُ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ والمَسْكَنَةُ اليَهُودُ المُعاصِرُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، قالَهُ الجُمْهُورُ، أوِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وقَتَلُوا الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ. والقائِلُونَ: ﴿ادْعُ لَنا رَبَّكَ﴾ [البقرة: ٦٨]، ومَن تابَعَهم مِن أبْنائِهِمْ. أقْوالٌ ثَلاثَةٌ. ﴿وباءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ (باءَ) فَعَلى مَن قالَ: (باءَ) رَجَعَ، تَكُونُ الباءُ لِلْحالِ، أيْ مَصْحُوبِينَ بِغَضَبٍ، ومَن قالَ: اسْتَحَقَّ، فالباءُ صِلَةٌ نَحْوَ: لا يُقْرَأنَّ بِالسُّورِ، أيِ اسْتَحَقُّوا غَضَبًا، ومَن قالَ: نَزَلَ وتَمَكَّنَ أوْ تَساوَوْا، والباءُ ظَرْفِيَّةٌ، فَعَلى القَوْلِ الأوَّلِ تَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، وعَلى الثّانِي لا تَتَعَلَّقُ، وعَلى الثّالِثِ بِنَفْسِ (باءَ) وزَعَمَ الأخْفَشُ أنَّ الباءَ في قَوْلِهِ (بِغَضَبٍ) لِلسَّبَبِ، فَعَلى هَذا تَتَعَلَّقُ بِـ (باءَ) ويَكُونُ مَفْعُولُ (باءَ) مَحْذُوفًا، أيِ اسْتَحَقُّوا العَذابَ بِسَبَبِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، و(باءَ) يُسْتَعْمَلُ في الخَيْرِ: ﴿لَنُبَوِّئَنَّهم مِنَ الجَنَّةِ غُرَفًا﴾ [العنكبوت: ٥٨]، ﴿ولَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إسْرائِيلَ مُبَوَّأ صِدْقٍ﴾ [يونس: ٩٣]، ﴿نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ﴾ [الزمر: ٧٤] . وفي الشَّرِّ: ﴿وباءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾، ﴿أنْ تَبُوأ بِإثْمِي وإثْمِكَ﴾ [المائدة: ٢٩]، ﴿فَباءُوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ﴾ [البقرة: ٩٠] . وقَدْ جاءَ اسْتِعْمالُ المَعْنَيَيْنِ في الحَدِيثِ: «أبُوءُ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وأبُوءُ بِذَنْبِي» . وقالَ بَعْضُ النّاسِ: باءَ لا تَجِيءُ إلّا في الشَّرِّ. والغَضَبُ هُنا ما حَلَّ بِهِمْ مِنَ البَلاءِ والنِّقَمِ في الدُّنْيا، أوْ ما يَحِلُّ بِهِمْ مِنَ العَذابِ في الآخِرَةِ. ويَكُونُ (باءُوا) في مَعْنى يَبُوءُونَ، نَحْوَ ﴿أزِفَتِ الآزِفَةُ﴾ [النجم: ٥٧]، ﴿اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ﴾ [القمر: ١] . (مِنَ اللَّهِ) يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِباءُوا إذا كانَ باءَ بِمَعْنى رَجَعَ، وكَأنَّهم كانُوا مُقْبِلِينَ عَلى اللَّهِ تَعالى، فَبِعِصْيانِهِمْ رَجَعُوا مِنهُ، أيْ مِن عِنْدِهِ بِغَضَبٍ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ ويَكُونُ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ، أيْ بِغَضَبٍ كائِنٍ مِنَ اللَّهِ، وهَذا الوَجْهُ ظاهِرٌ إذا كانَ باءَ بِمَعْنى اسْتَحَقَّ، أوْ بِمَعْنى نَزَلَ وتَمَكَّنَ، ويَبْعُدُ الوَجْهُ الأوَّلُ، وفي وصْفِ الغَضَبِ بِكَوْنِهِ مِنَ اللَّهِ تَعْظِيمٌ لِلْغَضَبِ، وتَفْخِيمٌ لِشَأْنِهِ. (ذَلِكَ بِأنَّهم) الإشارَةُ إلى المَباءَةِ بِالغَضَبِ، أوِ المَباءَةِ والضَّرْبِ وهو مُبْتَدَأٌ، والجارُّ والمَجْرُورُ بَعْدَهُ خَبَرٌ، والباءُ لِلسَّبَبِ، أيْ ذَلِكَ كائِنٌ بِكُفْرِهِمْ وقَتْلِهِمْ. ﴿كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ﴾ الآياتُ: المُعْجِزاتُ التِّسْعُ وغَيْرُها الَّتِي أتى بِها مُوسى، أوِ التَّوْراةُ، أوْ آياتٌ مِنها، كالآياتِ الَّتِي فِيها صِفَةُ رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، أوْ فِيها الرَّجْمُ، أوِ القُرْآنُ، أوْ جَمِيعُ آياتِ اللَّهِ المُنَزَّلَةِ عَلى الرُّسُلِ، أقْوالٌ خَمْسَةٌ، وإضافَةُ الآياتِ إلى اللَّهِ لِأنَّها مِن عِنْدِهِ تَعالى. ﴿ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ﴾: قَتَلُوا يَحْيى وشَعِيا وزَكَرِيّا. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَتَلَ بَنُو إسْرائِيلَ سَبْعِينَ نَبِيًّا، وفي رِوايَةٍ ثَلاثَمِائَةِ نَبِيٍّ في أوَّلِ النَّهارِ، وقامَتْ سُوقُ قَتْلِهِمْ في آخِرِهِ. وعَلى هَذا يَتَوَجَّهُ قِراءَةُ مَن قَرَأ: (يُقَتِّلُونَ) بِالتَّشْدِيدِ لِظُهُورِ المُبالَغَةِ في القَتْلِ، وهي قِراءَةُ عَلِيٍّ. وقَرَأ الحَسَنُ: وتَقْتُلُونَ بِالتّاءِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنَ الِالتِفاتِ. (p-٢٣٧)ورُوِيَ عَنْهُ بِالياءِ كالجَماعَةِ، ولا فَرْقَ في الدَّلالَةِ بَيْنَ النَّبِيِّينَ والأنْبِياءِ؛ لِأنَّ الجَمْعَيْنِ إذا دَخَلَتْ عَلَيْهِما (ال) تَساوِيا بِخِلافِ حالِهِما إذا كانا نَكِرَتَيْنِ؛ لِأنَّ جَمْعَ السَّلامَةِ إذْ ذاكَ ظاهِرٌ في القِلَّةِ، وجَمْعُ التَّكْسِيرِ عَلى أفْعِلاءِ ظاهِرٌ في الكَثْرَةِ. وقَرَأ نافِعٌ بِهَمْزِ النَّبِيِّينَ والنَّبِيءِ والأنْبِياءِ والنُّبُوءَةِ، إلّا أنَّ قالُونَ أبْدَلَ وأدْغَمَ في الأحْزابِ في: ﴿إنْ وهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ﴾ [الأحزاب: ٥٠] إنْ أرادَ. وفي ﴿لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلّا أنْ﴾ [الأحزاب: ٥٣]، في الوَصْلِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْهِ في المُفْرَداتِ. ﴿بِغَيْرِ الحَقِّ﴾: مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (وتَقْتُلُونَ) وهو في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ في (تَقْتُلُونَ) أيْ تَقْتُلُونَهم مُبالَغَةً. قِيلَ: ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَنَعَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ قَتْلًا بِغَيْرِ حَقٍّ. وعَلى كِلا الوَجْهَيْنِ هو تَوْكِيدٌ، ولَمْ يَرِدْ هَذا عَلى أنَّ قَتْلَ النَّبِيِّينَ يَنْقَسِمُ إلى قَتْلٍ بِحَقٍّ وقَتْلٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، بَلْ ما وقَعَ مِن قَتْلِهِمْ إنَّما وقَعَ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ مَعْصُومٌ مِن أنْ يَأْتِيَ أمْرًا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ فِيهِ القَتْلَ، وإنَّما جاءَ هَذا القَيْدُ عَلى سَبِيلِ التَّشْنِيعِ لِقَتْلِهِمْ، والتَّقْبِيحِ لِفِعْلِهِمْ مَعَ أنْبِيائِهِمْ، أيْ بِغَيْرِ الحَقِّ عِنْدَهم، أيْ لَمْ يَدَّعُوا في قَتْلِهِمْ وجْهًا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ القَتْلَ عِنْدَهم. وقِيلَ: جاءَ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ: ﴿ولَكِنْ تَعْمى القُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ﴾ [الحج: ٤٦]، إذْ لا يَقَعُ قَتْلُ نَبِيٍّ إلّا بِغَيْرِ الحَقِّ، ولَمْ يَأْتِ نَبِيٌّ قَطُّ بِما يُوجِبُ قَتْلَهُ، وإنَّما قُتِلَ مِنهم مَن قُتِلَ كَراهَةً لَهُ وزِيادَةً في مَنزِلَتِهِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ: لَمْ يُقْتَلْ نَبِيٌّ قَطُّ مِنَ الأنْبِياءِ إلّا مَن لَمْ يُؤْمَرْ بِقِتالٍ، وكُلُّ مَن أُمِرَ بِقِتالٍ نُصِرَ. قِيلَ: وعُرِّفَ الحَقُّ هُنا لِأنَّهُ أُشِيرَ بِهِ إلى المَعْهُودِ في قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: " «لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلّا بِإحْدى ثَلاثٍ» . وأمّا المُنَكَّرُ فالمُرادُ بِهِ تَأْكِيدُ العُمُومِ، أيْ لَمْ يَكُنْ هُناكَ حَقٌّ لا ما يَعْرِفُهُ المُسْلِمُونَ ولا غَيْرُهُ. ﴿ذَلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ﴾ (ذَلِكَ) رَدٌّ عَلى الأوَّلِ وتَكْرِيرٌ لَهُ، فَأُشِيرَ بِهِ لِما أُشِيرَ بِـ (ذَلِكَ) الأوَّلِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ إشارَةً إلى الكُفْرِ والقَتْلِ المَذْكُورَيْنِ، فَلا يَكُونُ تَكْرِيرًا ولا تَوْكِيدًا، ومَعْناهُ: أنَّ الَّذِي حَمَلَهم عَلى جُحُودِ آياتِ اللَّهِ وقَتْلِهِمُ الأنْبِياءَ إنَّما هو تَقَدُّمُ عِصْيانِهِمْ واعْتِدائِهِمْ، فَجَسَّرَهَمْ هَذا عَلى ذَلِكَ، إذِ المَعاصِي بَرِيدُ الكُفْرِ. ﴿بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: ١٤]، ﴿وقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ﴾ [البقرة: ٨٨]، ﴿وقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ﴾ [النساء: ١٥٥] . وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ العِصْيانِ والِاعْتِداءِ لُغَةً، وقَدْ فُسِّرَ الِاعْتِداءُ هُنا أنَّهُ تَجاوُزُهم ما حَدَّ اللَّهُ لَهم مِنَ الحَقِّ إلى الباطِلِ. وقِيلَ: التَّمادِي عَلى المُخالَفَةِ وقَتْلُ الأنْبِياءِ. وقِيلَ: العِصْيانُ بِنَقْضِ العَهْدِ والِاعْتِداءُ بِكَثْرَةِ قَتْلِ الأنْبِياءِ. وقِيلَ: الِاعْتِداءُ بِسَبَبِ المُخالَفَةِ والإقامَةُ عَلى ذَلِكَ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ، أُثِرَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ، ﷺ، أنَّهُ قالَ: «اخْتَلَفَتْ بَنُو إسْرائِيلَ بَعْدَ مُوسى بِخَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ حِينَ كَثُرَ فِيهِمْ أوْلادُ السَّبايا، واخْتَلَفُوا بَعْدَ عِيسى بِمِائَةِ سَنَةٍ» . وقِيلَ: هو الِاعْتِداءُ في السَّبْتِ، قالَ تَعالى: ﴿وقُلْنا لَهم لا تَعْدُوا في السَّبْتِ﴾ [النساء: ١٥٤] . و(ما) في قَوْلِهِ ﴿بِما عَصَوْا﴾ مَصْدَرِيَّةٌ، أيْ ذَلِكَ بِعِصْيانِهِمْ، ولَمْ يُعْطَفْ الِاعْتِداءُ عَلى العِصْيانِ؛ لِئَلّا يَفُوتَ تَناسُبُ مَقاطِعِ الآيِ، ولِيَدُلَّ عَلى أنَّ الِاعْتِداءَ صارَ كالشَّيْءِ الصّادِرِ مِنهم دائِمًا. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى حُلُولَ العُقُوبَةِ بِهِمْ مِن ضَرْبِ الذِّلَّةِ والمَسْكَنَةِ والمَباءَةِ بِالغَضَبِ، وبَيَّنَ عِلَّةَ ذَلِكَ، فَبَدَأ بِأعْظَمِ الأسْبابِ في ذَلِكَ، وهو كُفْرُهم بِآياتِ اللَّهِ، ثُمَّ ثَنّى بِما يَتْلُو ذَلِكَ في العِظَمِ وهو قَتْلُ الأنْبِياءِ، ثُمَّ أعْقَبَ ذَلِكَ بِما يَكُونُ مِنَ المَعاصِي، وما يَتَعَدّى مِنَ الظُّلْمِ. قالَ مَعْنى هَذا صاحِبُ المُنْتَخَبِ. ويَظْهَرُ أنَّ قَوْلَهُ: ذَلِكَ بِأنَّهم كانُوا يَكْفُرُونَ ويَقْتُلُونَ، تَعْلِيلٌ لِضَرْبِ الذِّلَّةِ والمَسْكَنَةِ والمَباءَةِ بِالغَضَبِ، وأنَّ الإشارَةَ بِقَوْلِهِ ﴿ذَلِكَ بِما عَصَوْا﴾ إشارَةٌ إلى الكُفْرِ والقَتْلِ، وبِما تَعْلِيلٌ لَهُما فَيَعُودُ العِصْيانُ إلى الكُفْرِ، ويَعُودُ الِاعْتِداءُ إلى القَتْلِ، فَيَكُونُ قَدْ ذَكَرَ شَيْئَيْنِ وقابَلَهُما بِشَيْئَيْنِ، كَما ذَكَرَ أوَّلًا شَيْئَيْنِ وهُما الضَّرْبُ والمَباءَةُ، وقابَلَهُما بِشَيْئَيْنِ وهُما الكُفْرُ والقَتْلُ، فَجاءَ هَذا لَفًّا ونَشْرًا في المَوْضِعَيْنِ، وذَلِكَ مِن مَحاسِنِ الكَلامِ وجَوْدَةِ تَرْكِيبِهِ، ويَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنِ التَّأْكِيدِ الَّذِي لا يُصارُ إلَيْهِ إلّا عِنْدَ الحاجَةِ، (p-٢٣٨)وذَلِكَ بِأنْ يَكُونَ الكَلامُ يَبْعُدُ أنْ يُحْمَلَ عَلى التَّأْسِيسِ. وقَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآياتُ مِن لَطائِفِ الِامْتِنانِ وغَرائِبِ الإحْسانِ لِبَنِي إسْرائِيلَ فُصُولًا، مِنها: أنَّهم أُمِرُوا بِدُخُولِ القَرْيَةِ الَّتِي بِها يَتَحَصَّنُونَ، والأكْلُ مِن ثَمَراتِها ما يَشْتَهُونَ، ثُمَّ كُلِّفُوا النَّزْرَ مِنَ العَمَلِ والقَوْلِ، وهو دُخُولُ بابِها ساجِدِينَ، ونُطْقُهم بِلَفْظَةٍ واحِدَةٍ تائِبِينَ، ورُتِّبَ عَلى هَذا النَّزْرِ غُفْرانُ جَرائِمِهُمُ العَظِيمَةِ وخَطاياهُمُ الجَسِيمَةِ، فَخالَفُوا في الأمْرَيْنِ فِعْلًا وقَوْلًا، جَرْيًا عَلى عادَتِهِمْ في عَدَمِ الِامْتِثالِ، فَعاقَبَهم عَلى ذَلِكَ بِأشَدِّ النَّكالِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى ما كانَ عَلَيْهِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِنَ العَطْفِ عَلَيْهِمْ وسُؤالِ الخَيْرِ لَهم، وذَلِكَ بِأنْ دَعا اللَّهَ لَهم بِالسُّقْيا، فَأحالَهُ عَلى فِعْلِ نَفْسِهِ بِأنْ أنْشَأ لَهم مِن قَرْعِ الصَّفا بِالعَصا عُيُونًا يَجْرِي بِها ما يَكْفِيهِمْ مِنَ الماءِ مَعِينًا عَلى الوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ تَعالى مِن كَوْنِ تِلْكَ العُيُونِ عَلى عَدَدِ الأسْباطِ، حَتّى لا يَقَعَ مِنهم مُشاحَّةٌ ولا مُغالَبَةٌ، وأعْلَمَهم بِأنَّ ذَلِكَ مِنهُ رِزْقٌ، وأُمِرُوا بِالأكْلِ مِنهُ والشُّرْبِ، ثُمَّ نُهُوا عَنِ الفَسادِ، إذْ هو سَبَبٌ لِقَطْعِ الرِّزْقِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى تَبَرُّمَهم مِنَ الرِّزْقِ الَّذِي امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَلَجُّوا في طَلَبِ ما كانَ مَأْلَوفَهم إلى نَبِيِّهِمْ فَقالُوا: ادْعُ لَنا رَبَّكَ، وذَلِكَ جَرْيٌ عَلى عادَتِهِ مَعَهم، إذْ كانَ يُناجِي رَبَّهُ فِيما كانَ عائِدًا عَلَيْهِمْ بِصَلاحِ دِينِهِمْ ودُنْياهم، وذَكَرَ تَوْبِيخَهُ لَهم عَلى ما سَألُوهُ مِنِ اسْتِبْدالِ الخَسِيسِ بِالنَّفِيسِ، وبِما لا نَصَبٌ في اكْتِسابِهِ ما فِيهِ العَناءُ الشّاقُّ، إذْ ما طَلَبُوهُ يَحْتاجُ إلى اسْتِفْراغِ أوْقاتِهِمُ المُعَدَّةِ لِعِبادَةِ رَبِّهِمْ في تَحْصِيلِهِ، ومَعَ ذَلِكَ فَصارَتْ أغْذِيَةً مُضِرَّةً مُؤْذِيَةً جالِبَةً أخْلاطًا رَدِيئَةً، يَنْشَأُ عَنْها طَمْسُ أنْوارِ الأبْصارِ والبَصائِرِ، بِخِلافِ ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ، إذْ هو شَيْءٌ واحِدٌ جَيِّدٌ، يَنْشَأُ عَنْهُ صِحَّةُ البَدَنِ وجَوْدَةُ الإدْراكِ. كانَ الخَلِيلُ بْنُ أحْمَدَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، يَسْتَفُّ دَقِيقَ الشَّعِيرِ، ويَشْرَبُ عَلَيْهِ الماءَ العَذْبَ، وكانَ ذِهْنُهُ أشْرَقَ أذْهانِ أهْلِ زَمانِهِ، وكانَ قَوِيَّ البَدَنِ يَغْزُو سَنَةً ويَحُجُّ أُخْرى. ثُمَّ أُمِرُوا بِالحُلُولِ فِيما فِيهِ مَطْلَبُهم والهُبُوطِ إلى مَعْدِنِ ما سَألُوهُ، ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى بِما عاقَبَهم بِهِ مِن جَعْلِهِمْ أذِلّاءَ مَساكِينَ ومَباءَتِهِمْ بِغَضَبِهِ، وأنَّ ذَلِكَ مُتَسَبِّبٌ عَنْ كُفْرِهِمْ بِالآياتِ الَّتِي هي سَبَبُ الإيمانِ، لِما احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ الخَوارِقِ الَّتِي أعْجَزَتِ الإنْسَ والجانَّ، وعَنْ قَتْلِهِمْ مَن كانَ سَبَبًا لِهِدايَتِهِمْ، وهُمُ الأنْبِياءُ، إذْ بِاتِّباعِهِمْ يَحْصُلُ العِزُّ في الدُّنْيا والفَوْزُ في الأُخْرى، وأنَّ الَّذِي جَرَّ الكُفْرَ والقَتْلَ إلَيْهِمْ هو العِصْيانُ والِاعْتِداءُ اللَّذانِ كانا سَبَقا مِنهم قَبْلَ تَعاطِي الكُفْرِ والقَتْلِ. وقالَ: ؎إنَّ الأُمُورَ صَغِيرَها مِمّا يَهِيجُ لَهُ العَظِيمُ وقالَ: ؎والشَّرُ تُحَقِّرُهُ وقَدْ يَنْمى
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب