الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى ﴿وإذْ قُلْتُمْ يامُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ مِن بَقْلِها وقِثّائِها وفُومِها وعَدَسِها وبَصَلِها قالَ أتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هو أدْنى بِالَّذِي هو خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإنَّ لَكم ما سَألْتُمْ وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ والمَسْكَنَةُ وباءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأنَّهم كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ ذَلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّ القِراءَةَ المَعْرُوفَةَ يَخْرُجُ لَنا بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ الرّاءِ، تُنْبِتُ بِضَمِّ التّاءِ وكَسْرِ الباءِ، وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِفَتْحِ الياءِ وضَمِّ الرّاءِ، تَنْبُتُ بِفَتْحِ التّاءِ وضَمِّ الباءِ، ثُمَّ اعْلَمْ أنَّ أكْثَرَ الظّاهِرِيِّينَ مِنَ المُفَسِّرِينَ زَعَمُوا أنَّ ذَلِكَ السُّؤالَ كانَ مَعْصِيَةً، وعِنْدَنا أنَّهُ لَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿كُلُوا واشْرَبُوا﴾ مِن (p-٩٢)قَبْلِ هَذِهِ الآيَةِ عِنْدَ إنْزالِ المَنِّ والسَّلْوى لَيْسَ بِإيجابٍ بَلْ هو إباحَةٌ، وإذا كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهم: ﴿لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فادْعُ لَنا رَبَّكَ﴾ مَعْصِيَةً لِأنَّ مَن أُبِيحَ لَهُ ضَرْبٌ مِنَ الطَّعامِ يَحْسُنُ مِنهُ أنْ يَسْألَ غَيْرَ ذَلِكَ إمّا بِنَفْسِهِ أوْ عَلى لِسانِ الرَّسُولِ، فَلَمّا كانَ عِنْدَهم أنَّهم إذا سَألُوا مُوسى أنْ يَسْألَ ذَلِكَ مِن رَبِّهِ كانَ الدُّعاءُ أقْرَبَ إلى الإجابَةِ جازَ لَهم ذَلِكَ ولَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعْصِيَةٌ. واعْلَمْ أنَّ سُؤالَ النَّوْعِ الآخَرِ مِنَ الطَّعامِ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ لِأغْراضٍ: الأوَّلُ: أنَّهم لَمّا تَناوَلُوا ذَلِكَ النَّوْعَ الواحِدَ أرْبَعِينَ سَنَةً مَلُّوهُ فاشْتَهَوْا غَيْرَهُ. الثّانِي: لَعَلَّهم في أصْلِ الخِلْقَةِ ما تَعَوَّدُوا ذَلِكَ النَّوْعَ وإنَّما تَعَوَّدُوا سائِرَ الأنْواعِ ورَغْبَةُ الإنْسانِ فِيما اعْتادَهُ في أصْلِ التَّرْبِيَةِ وإنْ كانَ خَسِيسًا فَوْقَ رَغْبَتِهِ فِيما لَمْ يَعْتَدْهُ وإنْ كانَ شَرِيفًا. الثّالِثُ: لَعَلَّهم مَلُّوا مِنَ البَقاءِ في التِّيهِ فَسَألُوا هَذِهِ الأطْعِمَةَ الَّتِي لا تُوجَدُ إلّا في البِلادِ وغَرَضُهُمُ الوُصُولُ إلى البِلادِ لا نَفْسُ تِلْكَ الأطْعِمَةِ. الرّابِعُ: أنَّ المُواظَبَةَ عَلى الطَّعامِ الواحِدِ سَبَبٌ لِنُقْصانِ الشَّهْوَةِ وضَعْفِ الهَضْمِ وقِلَّةِ الرَّغْبَةِ، والِاسْتِكْثارَ مِنَ الأنْواعِ يُعِينُ عَلى تَقْوِيَةِ الشَّهْوَةِ وكَثْرَةِ الِالتِذاذِ، فَثَبَتَ أنَّ تَبْدِيلَ النَّوْعِ بِالنَّوْعِ يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ مَقْصُودَ العُقَلاءِ، وثَبَتَ أنَّهُ لَيْسَ في القُرْآنِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّهم كانُوا مَمْنُوعِينَ عَنْهُ، فَثَبَتَ أنَّ هَذا القَدْرَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً، ومِمّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإنَّ لَكم ما سَألْتُمْ﴾ كالإجابَةِ لِما طَلَبُوا ولَوْ كانُوا عاصِينَ في ذَلِكَ السُّؤالِ لَكانَتِ الإجابَةُ إلَيْهِ مَعْصِيَةً وهي غَيْرُ جائِزَةٍ عَلى الأنْبِياءِ، لا يُقالُ: إنَّهم لَمّا أبَوْا شَيْئًا اخْتارَهُ اللَّهُ لَهم أعْطاهم عاجِلَ ما سَألُوهُ كَما قالَ: ﴿ومَن كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنها﴾ [الشُّورى: ٢٠] لِأنّا نَقُولُ هَذا خِلافُ الظّاهِرِ، واحْتَجُّوا عَلى أنَّ ذَلِكَ السُّؤالَ كانَ مَعْصِيَةً بِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهم: ﴿لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ﴾ دَلالَةٌ عَلى أنَّهم كَرِهُوا إنْزالَ المَنِّ والسَّلْوى، وتِلْكَ الكَراهَةُ مَعْصِيَةٌ. الثّانِي: أنَّ قَوْلَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿أتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هو أدْنى بِالَّذِي هو خَيْرٌ﴾ اسْتِفْهامٌ عَلى سَبِيلِ الإنْكارِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ مَعْصِيَةً. الثّالِثُ: أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وصَفَ ما سَألُوهُ بِأنَّهُ أدْنى وما كانُوا عَلَيْهِ بِأنَّهُ خَيْرٌ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى ما قُلْناهُ. والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: أنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ قَوْلِهِمْ: ﴿لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ﴾ دَلالَةٌ عَلى أنَّهم ما كانُوا راضِينَ بِهِ فَقَطْ، بَلِ اشْتَهَوْا شَيْئًا آخَرَ، ولِأنَّ قَوْلَهم: ﴿لَنْ نَصْبِرَ﴾ إشارَةٌ إلى المُسْتَقْبَلِ لِأنَّ كَلِمَةَ لَنْ لِلنَّفْيِ في المُسْتَقْبَلِ فَلا يَدُلُّ عَلى أنَّهم سَخِطُوا الواقِعَ. وعَنِ الثّانِي: أنَّ الِاسْتِفْهامَ عَلى سَبِيلِ الإنْكارِ قَدْ يَكُونُ لِما فِيهِ مِن تَفْوِيتِ الأنْفَعِ في الدُّنْيا وقَدْ يَكُونُ لِما فِيهِ مِن تَفْوِيتِ الأنْفَعِ في الآخِرَةِ. وعَنِ الثّالِثِ: بِقَرِيبٍ مِن ذَلِكَ، فَإنَّ الشَّيْءَ قَدْ يُوصَفُ بِأنَّهُ خَيْرٌ مِن حَيْثُ كانَ الِانْتِفاعُ بِهِ حاضِرًا مُتَيَقَّنًا ومِن حَيْثُ إنَّهُ يَحْصُلُ عَفْوًا بِلا كَدٍّ كَما يُقالُ ذَلِكَ في الحاضِرِ، فَقَدْ يُقالُ في الغائِبِ المَشْكُوكِ فِيهِ: إنَّهُ أدْنى مِن حَيْثُ لا يُتَيَقَّنُ ومِن حَيْثُ لا يُوصَلُ إلَيْهِ إلّا بِالكَدِّ، فَلا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ مُرادُهُ: ﴿أتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هو أدْنى بِالَّذِي هو خَيْرٌ﴾ هَذا المَعْنى أوْ بَعْضُهُ فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّ ذَلِكَ السُّؤالَ ما كانَ مَعْصِيَةً بَلْ كانَ سُؤالًا مُباحًا، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ والمَسْكَنَةُ وباءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِما تَقَدَّمَ بَلْ لِما ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى بَعْدَ ذَلِكَ وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ فَبَيَّنَ أنَّهُ إنَّما ضَرَبَ الذِّلَّةَ (p-٩٣)والمَسْكَنَةَ عَلَيْهِمْ وجَعَلَهم مَحَلَّ الغَضَبِ والعِقابِ مِن حَيْثُ كانُوا يَكْفُرُونَ لا لِأنَّهم سَألُوا ذَلِكَ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ﴾ لَيْسَ المُرادُ أنَّهُ واحِدٌ في النَّوْعِ بَلْ أنَّهُ واحِدٌ في النَّهْجِ وهو كَما يُقالُ: إنَّ طَعامَ فُلانٍ عَلى مائِدَتِهِ طَعامٌ واحِدٌ إذا كانَ لا يَتَغَيَّرُ عَنْ نَهْجِهِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: القِراءَةُ المَعْرُوفَةُ: ﴿وقِثّائِها﴾ بِكَسْرِ القافِ، وقَرَأ الأعْمَشُ وطَلْحَةُ وقُثّائِها بِضَمِّ القافِ والقِراءَةُ المَعْرُوفَةُ: ﴿وفُومِها﴾ بِالفاءِ وعَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وثُومِها وهي قِراءَةُ ابْنِ عَبّاسٍ قالُوا: وهَذا أوْفَقُ لِذِكْرِ البَصَلِ واخْتَلَفُوا في الفُومِ فَعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ الحِنْطَةُ، وعَنْهُ أيْضًا أنَّ الفُومَ هو الخُبْزُ وهو أيْضًا المَرْوِيُّ عَنْ مُجاهِدٍ وعَطاءٍ وابْنِ زَيْدٍ وحُكِيَ عَنْ بَعْضِ العَرَبِ: فَوِّمُوا لَنا أيِ اخْبِزُوا لَنا وقِيلَ هو الثُّومُ وهو مَرْوِيٌّ أيْضًا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ واخْتِيارُ الكِسائِيِّ واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ في حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وثُومِها. الثّانِي: أنَّ المُرادَ لَوْ كانَ هو الحِنْطَةَ لَما جازَ أنْ يُقالَ: ﴿أتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هو أدْنى بِالَّذِي هو خَيْرٌ﴾ لِأنَّ الحِنْطَةَ أشْرَفُ الأطْعِمَةِ. الثّالِثُ: أنَّ الثُّومَ أوْفَقُ لِلْعَدَسِ والبَصَلِ مِنَ الحِنْطَةِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: القِراءَةُ المَعْرُوفَةُ: ﴿أتَسْتَبْدِلُونَ﴾ وفي حَرْفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: ”أتُبْدِلُونَ“ بِإسْكانِ الباءِ، وعَنْ زُهَيْرٍ الفُرْقُبِيِّ: ”أدْنَأُ“ بِالهَمْزَةِ مِنَ الدَّناءَةِ. واخْتَلَفُوا في المُرادِ بِالأدْنى وضَبْطُ القَوْلِ فِيهِ أنَّ المُرادَ إمّا أنْ يَكُونَ كَوْنُهُ أدْنى في المَصْلَحَةِ في الدِّينِ أوْ في المَنفَعَةِ في الدُّنْيا، والأوَّلُ غَيْرُ مُرادٍ لِأنَّ الَّذِي كانُوا عَلَيْهِ لَوْ كانَ أنْفَعَ في بابِ الدِّينِ مِنَ الَّذِي طَلَبُوهُ لَما جازَ أنْ يُجِيبَهم إلَيْهِ، لَكِنَّهُ قَدْ أجابَهم إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا فَإنَّ لَكم ما سَألْتُمْ﴾ فَبَقِيَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ المَنفَعَةَ في الدُّنْيا ثُمَّ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ أنَّ هَذا النَّوْعَ الَّذِي أنْتُمْ عَلَيْهِ أفْضَلُ مِنَ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ لِما بَيَّنّا أنَّ الطَّعامَ الَّذِي يَكُونُ ألَذَّ الأطْعِمَةِ عِنْدَ قَوْمٍ قَدْ يَكُونُ أخَسَّها عِنْدَ آخَرِينَ، بَلِ المُرادُ ما بَيَّنّا أنَّ المَنَّ والسَّلْوى مُتَيَقَّنُ الحُصُولِ وما يَطْلُبُونَهُ مَشْكُوكُ الحُصُولِ والمُتَيَقَّنُ خَيْرٌ مِنَ المَشْكُوكِ أوْ لِأنَّ هَذا يَحْصُلُ مِن غَيْرِ كَدٍّ ولا تَعَبٍ، وذَلِكَ لا يَحْصُلُ إلّا مَعَ الكَدِّ والتَّعَبِ، فَيَكُونُ الأوَّلُ أوْلى. فَإنْ قِيلَ: كانَ لَهم أنْ يَقُولُوا هَذا الَّذِي يَحْصُلُ عَفْوًا صَفْوًا لَمّا كَرِهْناهُ بِطِباعِنا كانَ تَناوُلُهُ أشَقَّ مِنَ الَّذِي لا يَحْصُلُ إلّا مَعَ الكَدِّ إذا اشْتَهَتْهُ طِباعُنا. قُلْنا: هَبْ أنَّهُ وقَعَ التَّعارُضُ مِن هَذِهِ الجِهَةِ لَكِنَّهُ وقَعَ التَّرْجِيحُ بِما أنَّ الحاضِرَ المُتَيَقَّنَ راجِحٌ عَلى الغائِبِ المَشْكُوكِ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: القِراءَةُ المَعْرُوفَةُ: ﴿اهْبِطُوا﴾ بِكَسْرِ الباءِ وقُرِئَ بِضَمِّ الباءِ. القِراءَةُ المَشْهُورَةُ: ﴿مِصْرًا﴾ بِالتَّنْوِينِ وإنَّما صَرَفَهُ مَعَ اجْتِماعِ السَّبَبَيْنِ فِيهِ وهُما التَّعْرِيفُ والتَّأْنِيثُ لِسُكُونِ وسَطِهِ كَقَوْلِهِ: ﴿ونُوحًا هَدَيْنا﴾ [الأنْعامِ: ٨٤] ﴿ولُوطًا﴾ [الأنْعامِ: ٨٦] وفِيهِما العُجْمَةُ والتَّعْرِيفُ وإنْ أُرِيدَ بِهِ البَلَدُ، فَما فِيهِ إلّا سَبَبٌ واحِدٌ، وفي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ وقَرَأ بِهِ الأعْمَشُ: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ كَقَوْلِهِ: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ﴾ [يُوسُفَ: ٩٩] واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في قَوْلِهِ: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ تَرْكُ التَّنْوِينِ، وقالَ الحَسَنُ: الألِفُ في (مِصْرًا) زِيادَةٌ مِنَ الكاتِبِ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ مَعْرِفَةً فَيَجِبُ أنْ تُحْمَلَ عَلى ما هو المُخْتَصُّ بِهَذا الِاسْمِ وهو البَلَدُ الَّذِي كانَ فِيهِ فِرْعَوْنُ وهو مَرْوِيٌّ عَنْ أبِي العالِيَةِ والرَّبِيعِ، وأمّا الَّذِينَ قَرَءُوا بِالتَّنْوِينِ وهي القِراءَةُ المَشْهُورَةُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا، فَمِنهم مَن قالَ: المُرادُ البَلَدُ الَّذِي كانَ فِيهِ فِرْعَوْنُ ودُخُولُ التَّنْوِينِ فِيهِ كَدُخُولِهِ في نُوحٍ ولُوطٍ، وقالَ آخَرُونَ: المُرادُ الأمْرُ بِدُخُولِ أيِّ بَلَدٍ كانَ كَأنَّهُ قِيلَ لَهُمُ ادْخُلُوا بَلَدًا أيَّ بَلَدٍ كانَ لِتَجِدُوا فِيهِ هَذِهِ الأشْياءَ، وبِالجُمْلَةِ فالمُفَسِّرُونَ قَدِ اخْتَلَفُوا في أنَّ المُرادَ مِن مِصْرَ هو البَلَدُ الَّذِي كانُوا فِيهِ أوَّلًا أوْ بَلَدٌ آخَرُ (p-٩٤)فَقالَ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ هو البَلَدَ الَّذِي كانُوا فِيهِ مَعَ فِرْعَوْنَ واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: (﴿ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكم ولا تَرْتَدُّوا عَلى أدْبارِكُمْ﴾ [المائِدَةِ: ٢١] والِاسْتِدْلالُ بِهَذِهِ الآيَةِ مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدَّسَةَ﴾ إيجابٌ لِدُخُولِ تِلْكَ الأرْضِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي المَنعَ مِن دُخُولِ أرْضٍ أُخْرى. والثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿كَتَبَ اللَّهُ﴾ يَقْتَضِي دَوامَ كَوْنِهِمْ فِيهِ. والثّالِثُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولا تَرْتَدُّوا عَلى أدْبارِكُمْ﴾ صَرِيحٌ في المَنعِ مِنَ الرُّجُوعِ عَنْ بَيْتِ المَقْدِسِ. الرّابِعُ: أنَّهُ تَعالى بَعْدَ أنْ أمَرَ بِدُخُولِ الأرْضِ المُقَدَّسَةِ قالَ: ﴿فَإنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ في الأرْضِ﴾ [المائِدَةِ: ٢٦] فَإذا تَقَدَّمَ هَذا الأمْرُ ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى أنَّهم مَمْنُوعُونَ مِن دُخُولِها هَذِهِ المُدَّةَ فَعِنْدَ زَوالِ العُذْرِ وجَبَ أنْ يَلْزَمَهم دُخُولُها، وإذا كانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن مِصْرَ سِواها. فَإنْ قِيلَ: هَذِهِ الوُجُوهُ ضَعِيفَةٌ. أمّا الأوَّلُ: فَلِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدَّسَةَ﴾ أمْرٌ والأمْرُ لِلنَّدْبِ فَلَعَلَّهم نُدِبُوا إلى دُخُولِ الأرْضِ المُقَدَّسَةِ مَعَ أنَّهم ما مُنِعُوا مِن دُخُولِ مِصْرَ. أمّا الثّانِي: فَهو كَقَوْلِهِ: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [المائِدَةِ: ٢١] فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلى دَوامِ تِلْكَ النَّدْبِيَّةِ. وأمّا الثّالِثُ: وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَرْتَدُّوا عَلى أدْبارِكُمْ﴾ فَلا نُسَلِّمُ أنَّ مَعْناهُ ولا تَرْجِعُوا إلى مِصْرَ بَلْ فِيهِ وجْهانِ آخَرانِ: الأوَّلُ: المُرادُ لا تَعْصُوا فِيما أُمِرْتُمْ بِهِ إذِ العَرَبُ تَقُولُ لِمَن عَصى فِيما يُؤْمَرُ بِهِ: ارْتَدَّ عَلى عَقِبِهِ، والمُرادُ مِن هَذا العِصْيانِ أنْ يُنْكِرَ أنْ يَكُونَ دُخُولُ الأرْضِ المُقَدَّسَةِ أوْلى. الثّانِي: أنْ يُخَصَّصَ ذَلِكَ النَّهْيُ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَقَطْ. قُلْنا: ثَبَتَ في أُصُولِ الفِقْهِ أنَّ ظاهِرَ الأمْرِ لِلْوُجُوبِ فَيَتِمُّ دَلِيلُنا بِناءً عَلى هَذا الأصْلِ، وأيْضًا فَهَبْ أنَّهُ لِلنَّدْبِ ولَكِنَّ الإذْنَ في تَرْكِهِ يَكُونُ إذْنًا في تَرْكِ المَندُوبِ، وذَلِكَ لا يَلِيقُ بِالأنْبِياءِ. قَوْلُهُ: لا نُسَلِّمُ أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولا تَرْتَدُّوا﴾ لا تَرْجِعُوا. قُلْنا: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ لَمّا أمَرَ بِدُخُولِ الأرْضِ المُقَدَّسَةِ، ثُمَّ قالَ بَعْدَهُ: ﴿ولا تَرْتَدُّوا عَلى أدْبارِكُمْ﴾ [المائِدَةِ: ٢١] تَبادَرَ إلى الفَهْمِ أنَّ هَذا النَّهْيَ يَرْجِعُ إلى ما تَعَلَّقَ بِهِ ذَلِكَ الأمْرُ. قَوْلُهُ: أنْ يُخَصَّصَ ذَلِكَ النَّهْيُ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ، قُلْنا: التَّخْصِيصُ خِلافُ الظّاهِرِ. أمّا أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ فَإنَّهُ جَوَّزَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِصْرَ فِرْعَوْنَ واحْتُجَّ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ: الوَجْهُ الأوَّلُ: أنّا إنْ قَرَأْنا: ”اهْبِطُوا مِصْرَ“ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ كانَ لا مَحالَةَ عَلَمًا لِبَلَدٍ مُعَيَّنٍ ولَيْسَ في العالَمِ بَلْدَةٌ مُلَقَّبَةٌ بِهَذا اللَّقَبِ سِوى هَذِهِ البَلْدَةِ المُعَيَّنَةِ فَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ ولِأنَّ اللَّفْظَ إذا دارَ بَيْنَ كَوْنِهِ عَلَمًا وبَيْنَ كَوْنِهِ صِفَةً فَحَمْلُهُ عَلى العَلَمِ أوْلى مِن حَمْلِهِ عَلى الصِّفَةِ مِثْلَ ظالِمٍ وحادِثٍ فَإنَّهُما لَمّا جاءا عَلَمَيْنِ كانَ حَمْلُهُما عَلى العَلَمِيَّةِ أوْلى. أمّا إنْ قَرَأْناهُ بِالتَّنْوِينِ فَإمّا أنْ نَجْعَلَهُ مَعَ ذَلِكَ اسْمَ عَلَمٍ ونَقُولَ: إنَّهُ إنَّما دَخَلَ فِيهِ التَّنْوِينُ لِسُكُونِ وسَطِهِ كَما في نُوحٍ ولُوطٍ فَيَكُونُ التَّقْرِيرُ أيْضًا ما تَقَدَّمَ بِعَيْنِهِ، وأمّا إنْ جَعَلْناهُ اسْمَ جِنْسٍ فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ كَما إذا قالَ: أعْتِقْ رَقَبَةً فَإنَّهُ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ بَيْنَ جَمِيعِ رِقابِ الدُّنْيا. الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ اللَّهَ تَعالى ورَّثَ بَنِي إسْرائِيلَ أرْضَ مِصْرَ وإذا كانَتْ مَوْرُوثَةً لَهُمُ امْتَنَعَ أنْ يُحَرِّمَ عَلَيْهِمْ دُخُولَها بَيانُ أنَّها مَوْرُوثَةٌ لَهم، قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأخْرَجْناهم مِن جَنّاتٍ وعُيُونٍ وكُنُوزٍ ومَقامٍ كَرِيمٍ﴾ [الشُّعَراءِ: ٥٧] إلى قَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ وأوْرَثْناها بَنِي إسْرائِيلَ﴾ [الشُّعَراءِ: ٥٩] ولَمّا ثَبَتَ أنَّها مَوْرُوثَةٌ لَهم وجَبَ أنْ لا يَكُونُوا مَمْنُوعِينَ مِن دُخُولِها لِأنَّ الإرْثَ يُفِيدُ المِلْكَ والمِلْكُ مُطْلَقٌ لِلتَّصَرُّفِ. فَإنْ قِيلَ: الرَّجُلُ قَدْ يَكُونُ مالِكًا لِلدّارِ وإنْ كانَ مَمْنُوعًا عَنْ دُخُولِها بِوَجْهٍ آخَرَ، كَحالِ مَن أوْجَبَ عَلى نَفْسِهِ اعْتِكافَ أيّامٍ في المَسْجِدِ، فَإنَّ دارَهُ وإنْ (p-٩٥)كانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ لَكِنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ دُخُولُها، فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ اللَّهَ ورَّثَهم مِصْرَ بِمَعْنى الوِلايَةِ والتَّصَرُّفِ فِيها، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ دُخُولَها مِن حَيْثُ أوْجَبَ عَلَيْهِمْ أنْ يَسْكُنُوا الأرْضَ المُقَدَّسَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدَّسَةَ﴾ [المائِدَةِ: ٢١] قُلْنا: الأصْلُ أنَّ المِلْكَ مُطْلَقٌ لِلتَّصَرُّفِ والمَنعُ مِنَ التَّصَرُّفِ خِلافُ الدَّلِيلِ، أجابَ الفَرِيقُ الأوَّلُ عَنْ هاتَيْنِ الحُجَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرَهُما أبُو مُسْلِمٍ فَقالُوا: أمّا الوَجْهُ الأوَّلُ فالجَوابُ عَنْهُ أنّا نَتَمَسَّكُ بِالقِراءَةِ المَشْهُورَةِ وهي الَّتِي فِيها التَّنْوِينُ. قَوْلُهُ: هَذِهِ القِراءَةُ تَقْتَضِي التَّخْيِيرَ، قُلْنا: نَعَمْ لَكِنّا نُخَصِّصُ العُمُومَ في حَقِّ هَذِهِ البَلْدَةِ المُعَيَّنَةِ بِما ذَكَرْناهُ مِنَ الدَّلِيلِ. أمّا الوَجْهُ الثّانِي: فالجَوابُ عَنْهُ أنّا لا نُنازِعُ في أنَّ المِلْكَ مُطْلَقٌ لِلتَّصَرُّفِ ولَكِنْ قَدْ يُتْرَكُ هَذا الأصْلُ لِعارِضٍ كالمَرْهُونِ والمُسْتَأْجَرِ، فَنَحْنُ تَرْكَنا هَذا الأصْلَ لِما قَدَّمْناهُ مِنَ الدَّلالَةِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ فالمَعْنى جُعِلَتِ الذِّلَّةُ مُحِيطَةً بِهِمْ حَتّى مُشْتَمِلَةً عَلَيْهِمْ فَهم فِيها كَمَن يَكُونُ في القُبَّةِ المَضْرُوبَةِ أوْ أُلْصِقَتْ بِهِمْ حَتّى لَزِمَتْهم ضَرْبَةُ لازِمٍ كَما يُضْرَبُ الطِّينُ عَلى الحائِطِ فَيَلْزَمُهُ والأقْرَبُ في الذِّلَّةِ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنها ما يَجْرِي مَجْرى الِاسْتِحْقاقِ كَقَوْلِهِ تَعالى فِيمَن يُحارِبُ ويُفْسِدُ: ﴿ذَلِكَ لَهم خِزْيٌ في الدُّنْيا﴾ [المائِدَةِ: ٣٣] فَأمّا مَن يَقُولُ المُرادُ بِهِ الجِزْيَةُ خاصَّةً عَلى ما قالَ تَعالى: ﴿حَتّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وهم صاغِرُونَ﴾ [التَّوْبَةِ: ٢٩] فَقَوْلُهُ بَعِيدٌ لِأنَّ الجِزْيَةَ ما كانَتْ مَضْرُوبَةً عَلَيْهِمْ مِن أوَّلِ الأمْرِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والمَسْكَنَةُ﴾ فالمُرادُ بِهِ الفَقْرُ والفاقَةُ وتَشْدِيدُ المِحْنَةِ، فَهَذا الجِنْسُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ كالعُقُوبَةِ، ومِنَ العُلَماءِ مَن عَدَّ هَذا مِن بابِ المُعْجِزاتِ لِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أخْبَرَ عَنْ ضَرْبِ الذِّلَّةِ والمَسْكَنَةِ عَلَيْهِمْ ووَقَعَ الأمْرُ كَذَلِكَ فَكانَ هَذا إخْبارًا عَنِ الغَيْبِ فَيَكُونُ مُعْجِزًا. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وباءُوا﴾ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: البَوْءُ الرُّجُوعُ، فَقَوْلُهُ: ”باءُوا“ أيْ رَجَعُوا وانْصَرَفُوا بِذَلِكَ ولا يُقالُ باءَ إلّا بِشَرٍّ. وثانِيها: البَوْءُ التَّسْوِيَةُ. فَقَوْلُهُ: ”باءُوا“ أيِ اسْتَوى عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللَّهِ. قالَهُ الزَّجّاجُ. وثالِثُها: باءُوا أيِ اسْتَحَقُّوا، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنِّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بِإثْمِي وإثْمِكَ﴾ [المائِدَةِ: ٢٩] أيْ تَسْتَحِقُّ الإثْمَيْنِ جَمِيعًا. وأمّا غَضَبُ اللَّهِ فَهو إرادَةُ الِانْتِقامِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ﴾ فَهو عِلَّةٌ لِما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِن ضَرْبِ الذِّلَّةِ والمَسْكَنَةِ عَلَيْهِمْ وإلْحاقِ الغَضَبِ بِهِمْ. قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: لَوْ كانَ الكُفْرُ حَصَلَ فِيهِمْ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعالى كَما حَصَلَتِ الذِّلَّةُ والمَسْكَنَةُ فِيهِمْ بِخَلْقِهِ لَما كانَ جَعْلُ أحَدِهِما جَزاءً لِلثّانِي أوْلى مِنَ العَكْسِ، وجَوابُهُ المُعارَضَةُ بِالعِلْمِ والدّاعِي، وأمّا حَقِيقَةُ الكُفْرِ فَقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ فِيها. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ فالمَعْنى أنَّهم يَسْتَحِقُّونَ ما تَقَدَّمَ لِأجْلِ هَذِهِ الأفْعالِ أيْضًا وفِيهِ سُؤالاتٌ. السُّؤالُ الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿يَكْفُرُونَ﴾ دَخَلَ تَحْتَهُ قَتْلُ الأنْبِياءِ فَلِمَ أعادَ ذِكْرَهُ مَرَّةً أُخْرى ؟ . الجَوابُ: المَذْكُورُ هاهُنا الكُفْرُ بِآياتِ اللَّهِ، وذَلِكَ هو الجَهْلُ والجَحْدُ بِآياتِهِ فَلا يَدْخُلُ تَحْتَهُ قَتْلُ الأنْبِياءِ. السُّؤالُ الثّانِي: لِمَ قالَ: ﴿بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ وقَتْلُ الأنْبِياءِ لا يَكُونُ إلّا عَلى هَذا الوَجْهِ ؟ . ٥٠ الجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ الإتْيانَ بِالباطِلِ قَدْ يَكُونُ حَقًّا؛ لِأنَّ الآتِيَ بِهِ اعْتَقَدَهُ حَقًّا لِشُبْهَةٍ وقَعَتْ في قَلْبِهِ وقَدْ يَأْتِي بِهِ (p-٩٦)مَعَ عِلْمِهِ بِكَوْنِهِ باطِلًا، ولا شَكَّ أنَّ الثّانِيَ أقْبَحُ فَقَوْلُهُ: ﴿ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ أيْ أنَّهم قَتَلُوهم مِن غَيْرِ أنْ كانَ ذَلِكَ القَتْلُ حَقًّا في اعْتِقادِهِمْ وخَيالِهِمْ بَلْ كانُوا عالِمِينَ بِقُبْحِهِ ومَعَ ذَلِكَ فَقَدْ فَعَلُوهُ. وثانِيها: أنَّ هَذا التَّكْرِيرَ لِأجْلِ التَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ﴾ [المُؤْمِنُونَ: ١١٧] ويَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ لِمُدَّعِي الإلَهِ الثّانِي بُرْهانٌ. وثالِثُها: أنَّ اللَّهَ تَعالى لَوْ ذَمَّهم عَلى مُجَرَّدِ القَتْلِ لَقالُوا: ألَيْسَ أنَّ اللَّهَ يَقْتُلُهم ولَكِنَّهُ تَعالى قالَ: القَتْلُ الصّادِرُ مِنَ اللَّهِ قَتْلٌ بِحَقٍّ ومِن غَيْرِ اللَّهِ قَتْلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ. * * * وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ بِما عَصَوْا﴾ فَهو تَأْكِيدٌ بِتَكْرِيرِ الشَّيْءِ بِغَيْرِ اللَّفْظِ الأوَّلِ وهو بِمَنزِلَةِ أنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ وقَدِ احْتَمَلَ مِنهُ ذُنُوبًا سَلَفَتْ مِنهُ فَعاقَبَهُ عِنْدَ آخِرِها: هَذا بِما عَصَيْتَنِي وخالَفْتَ أمْرِي، هَذا بِما تَجَرَّأْتَ عَلَيَّ واغْتَرَرْتَ بِحِلْمِي، وهَذا بِكَذا؛ فَيُعِدُّ عَلَيْهِ ذُنُوبَهُ بِألْفاظٍ مُخْتَلِفَةٍ تَبْكِيتًا. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكانُوا يَعْتَدُونَ﴾ فالمُرادُ مِنهُ الظُّلْمُ: أيْ تَجاوَزُوا الحَقَّ إلى الباطِلِ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ إنْزالَ العُقُوبَةِ بِهِمْ بَيَّنَ عِلَّةَ ذَلِكَ فَبَدَأ أوَّلًا بِما فَعَلُوهُ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى وهو جَهْلُهم بِهِ وجَحْدُهم لِنِعَمِهِ ثُمَّ ثَنّاهُ بِما يَتْلُوهُ في العِظَمِ وهو قَتْلُ الأنْبِياءِ ثُمَّ ثَلَّثَهُ بِما يَكُونُ مِنهم مِنَ المَعاصِي الَّتِي تَخُصُّهم ثُمَّ رَبَّعَ بِما يَكُونُ مِنهم مِنَ المَعاصِي المُتَعَدِّيَةِ إلى الغَيْرِ مِثْلَ الِاعْتِداءِ والظُّلْمِ، وذَلِكَ في نِهايَةِ حُسْنِ التَّرْتِيبِ. فَإنْ قِيلَ: قالَ هاهُنا: ﴿ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ ذَكَرَ الحَقَّ بِالألِفِ واللّامِ مَعْرِفَةً، وقالَ في آلِ عِمْرانَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٢١] نَكِرَةً، وكَذَلِكَ في هَذِهِ السُّورَةِ: ﴿ويَقْتُلُونَ الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِما عَصَوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ لَيْسُوا سَواءً﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١١٢ ) فَما الفَرْقُ ؟ . الجَوابُ: الحَقُّ المَعْلُومُ فِيما بَيْنَ المُسْلِمِينَ الَّذِي يُوجِبُ القَتْلَ، قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلّا بِإحْدى مَعانٍ ثَلاثٍ كُفْرٌ بَعْدَ إيمانٍ وزِنًا بَعْدَ إحْصانٍ وقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ» “، فالحَقُّ المَذْكُورُ بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ إشارَةٌ إلى هَذا وأمّا الحَقُّ المُنْكَرُ فالمُرادُ بِهِ تَأْكِيدُ العُمُومِ أيْ لَمْ يَكُنْ هُناكَ حَقٌّ لا هَذا الَّذِي يَعْرِفُهُ المُسْلِمُونَ ولا غَيْرُهُ البَتَّةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب