الباحث القرآني
ولَمّا امْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ العَظِيمَةِ مِن أكْلِ المَنِّ والسَّلْوى وشُرْبِ هَذا الماءِ الرَّبّانِيِّ بَيَّنَ أنَّهم كَفَرُوها بِالتَّضَجُّرِ مِنها وطَلَبِ غَيْرِها وبِالتِّيهِ كانَ قَرِيبًا مِنها بَلْ كَما أنَّ هَذِهِ في غايَةِ العُلُوِّ كانَ مَطْلُوبُهم في غايَةِ الدَّناءَةِ والسُّفُولِ فَقالَ تَعالى ﴿وإذْ قُلْتُمْ﴾ أيْ بَعْدَ هَذِهِ النِّعَمِ كُلِّها ﴿يا مُوسى﴾ مُنادِينَ لَهُ بِاسْمِهِ مِن غَيْرِ تَعْظِيمٍ ﴿لَنْ نَصْبِرَ﴾ أيْ طَوِيلًا ﴿عَلى طَعامٍ﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: الطَّعامُ ما يَقُوتُ المُتَطَعِّمَ ويَصِيرُ جَزاءً مِنهُ ﴿فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ إلى طَعامِهِ﴾ [عبس: ٢٤] الآيَةَ. انْتَهى.
﴿واحِدٍ﴾ أيْ لا يَتَبَدَّلُ وإنْ كانَ مُتَعَدِّدًا (p-٤١٣)وإنْ كانَ شَرِيفًا لا تَعَبَ فِيهِ ﴿فادْعُ لَنا﴾ قالَ الحَرالِّيُّ: مِنَ الدُّعاءِ وهو نِداءٌ لِاقْتِضاءِ غَلَبَةٍ لِما تَدْعُو الحاجَةُ إلَيْهِ مِنَ القائِمِ عَلى الدّاعِي بِتَذَلُّلٍ وافْتِقارٍ وهو في مُقابَلَةِ الأمْرِ مِنَ الأعْلى، لِأنَّهُ اقْتِضاءٌ لِما لا تَدْعُو إلَيْهِ حاجَةٌ مِنَ الآمِرِ لِأنَّ الآمِرَ بِالحَقِيقَةِ إنَّما هو الغَنِيُّ لا المُفْتَقِرُ لِما يَقْضِيهِ. انْتَهى.
﴿رَبَّكَ﴾ مُضِيفِينَ لِهَذا الِاسْمِ إلَيْهِ دُونَ أنْفُسِكم مَعَ كَثْرَةِ تَجَلِّيهِ لَكم بِهَذا الوَصْفِ النّاظِرِ إلى الإحْسانِ ﴿يُخْرِجْ لَنا﴾ أيْ وإنْ كُنْتَ أنْتَ غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إلى ذَلِكَ ﴿مِمّا تُنْبِتُ﴾ مِنَ الإنْباتِ وهو التَّغْذِيَةُ والتَّنْمِيَةُ - قالَهُ الحَرالِّيُّ.
﴿الأرْضُ﴾ ثُمَّ بَيَّنُوا ما أرادُوا بِقَوْلِهِمْ ﴿مِن بَقْلِها﴾ أيْ (p-٤١٤)خَضِرِها. قالَ الحَرالِّيُّ: البَقْلُ ما يَكْثُرُ بِهِ الأُدْمُ، والأُدْمُ الأشْياءُ الدَّسِمَةُ فَما يَصْلُحُ مَعَها مِن نَجْمِ الأرْضِ فَهو بَقْلٌ. انْتَهى.
﴿وقِثّائِها وفُومِها﴾ أيِ الحِنْطَةِ. وقالَ الحَرالِّيُّ: يُقالُ هو الحُبُّ الَّذِي يُخْبَزُ. انْتَهى.
﴿وعَدَسِها وبَصَلِها﴾ فَكَأنَّهُ قِيلَ إنَّ هَذا العَجَبَ مِنهم فَما قالَ ؟ فَقِيلَ قالَ ﴿قالَ﴾ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ ﴿أتَسْتَبْدِلُونَ﴾ أيْ أتَأْخُذُونَ ﴿الَّذِي هو أدْنى﴾ أيْ مَنزِلَةً ﴿بِالَّذِي هو خَيْرٌ﴾ أيْ بَدَلَهُ. فالباءُ داخِلَةٌ هُنا عَلى المَتْرُوكِ وهَذِهِ المادَّةُ أعْنِي الباءَ والدّالَ المُهْمَلَةَ واللّامَ بِهَذا التَّرْتِيبِ لَها اسْتِعْمالاتٌ كَثِيرَةٌ يَخْتَلِفُ مَعْناها مَعَها فَيُشْكِلُ فَهْمُها بِسَبَبِ ذَلِكَ، فَإنَّهُ قَدْ يُذْكَرُ مَعَها المُتَقابِلانِ فَقَطْ، وقَدْ يُذْكَرُ مَعَها غَيْرُها، وقَدْ لا يَكُونُ كَذَلِكَ، وقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مَعَ التَّبَدُّلِ والِاسْتِبْدالِ مَصْحُوبًا أحَدُهُما بِالباءِ، وقَدْ لا يَكُونُ كَذَلِكَ، وقَدْ يُذْكَرانِ مَعَ التَّبْدِيلِ والإبْدالِ، وتارَةً تَكُونُ الباءُ داخِلَةً عَلى المَتْرُوكِ، وتارَةً عَلى المَأْخُوذِ، وقَدْ يُعَدّى الفِعْلُ بِنَفْسِهِ إلى المَفْعُولَيْنِ، وتارَةً يُقْتَصَرُ بِهِ عَلى مَفْعُولٍ واحِدٍ؛ ولِبَعْضِ الِاسْتِعْمالاتِ (p-٤١٥)مَعْنًى غَيْرُ مَعْنى الآخَرِ وسَيَأْتِي تَحْرِيرُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى في سُورَةِ سَبَأٍ فَكَأنَّهُ قِيلَ: فَهَلْ أجابَهم إلى سُؤالِهِمْ ؟ فَقِيلَ: نَعَمْ، قالَ ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ أيْ مِنَ الأمْصارِ، قالَ الحَرالِّيُّ: المِصْرُ هو البَلَدُ الجامِعُ لِما يُتَعاوَنُ عَلَيْهِ مِن أُمُورِ الدُّنْيا الَّذِي يَجْمَعُ هَذِهِ المَطالِبَ الَّتِي طَلَبُوها لِأنَّ ما دُونُ الأمْصارِ لا يَكُونُ فِيها إلّا بَعْضُها، ومِنهُ سُمِّيَتْ مِصْرُ لِجِماعِ أمْرِ ما في الدُّنْيا فِيها (p-٤١٦)وغَرابَةِ سُقْياها، وإنْ وافَقَ ذَلِكَ ما يُقالُ إنَّها سُمِّيَتْ مِصْرُ بِاسْمِ رَجُلٍ فالوِفاقُ في حِكْمَةِ اللَّهِ، لِأنَّ كُلَّ دَقِيقٍ وجَلِيلٍ فِيها جارٍ بِعِلْمِ اللَّهِ وحِكْمَتِهِ حَيْثُ كانَتْ مِن وراءِ حِجابٍ يُخْفِيها أوْ ظاهِرَةً بادِيَةً لِأهْلِ النَّظَرِ والِاسْتِبْصارِ. انْتَهى.
﴿فَإنَّ لَكُمْ﴾ أيْ فِيهِ ﴿ما سَألْتُمْ﴾ ويَنْقَطِعُ عَنْكُمُ المَنُّ والسَّلْوى، والسُّؤالُ قالَ الحَرالِّيُّ طَلَبُ ما تَدْعُو إلَيْهِ الحاجَةُ وتَقَعُ بِهِ الكِفايَةُ، قالَ: وذَكَرَ تَعالى أنَّ مَطْلَبَهم إنَّما يَجِدُونَهُ في الأمْصارِ الَّتِي أقَرَّ فِيها حِكْمَتَهُ لا في المَفاوِزِ الَّتِي تَظْهَرُ فِيها كَلِمَتُهُ، ولِذَلِكَ كَثِيرًا ما تَنْخَرِقُ العادَةُ لِأوْلِياءِ هَذِهِ الأُمَّةِ في المَفاوِزِ وقَلَّ ما تَنْخَرِقُ في الأمْصارِ والقُرى، لِما في هَذِهِ الآيَةِ مَضْمُونُهُ، ولِذَلِكَ حَرَصَ السّالِكُونَ عَلى السِّياحَةِ والِانْقِطاعِ عَنِ العَمائِرِ، لِما يَجِدُونَ في ذَلِكَ مِن رَوْحِ رِزْقِ اللَّهِ عَنْ كَلِمَتِهِ دُونَ كَلَفَةِ حِكْمَتِهِ.
ولَمّا نَظَمَ سُبْحانَهُ بِنَبَأِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ما كانَ مِن نَبَئِهِمْ مَعَ يُوشَعَ (p-٤١٧)عَلَيْهِ السَّلامُ بَعْدَهُ نَظَمَ في هَذِهِ الآيَةِ بِخِطابِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ما كانَ مِنهم بَعْدَ يُوشَعَ عَلَيْهِ السَّلامُ إلى آخِرِ اخْتِلالِ أمْرِهِمْ وانْقِلابِ أحْوالِهِمْ مِن حُسْنِ المُظاهَرَةِ لِنَبِيِّهِمْ إلى حالِ الِاعْتِداءِ والقَتْلِ لِأنْبِيائِهِمْ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وفي جُمْلَتِهِ إشْعارٌ بِأنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنهم إلّا لِأجْلِ إيثارِ الدُّنْيا ورِئاسَتِها ومالِها عَلى الآخِرَةِ إيثارًا لِلْعاجِلَةِ عَلى الآجِلَةِ، وفي طَيِّهِ أشَدُّ التَّحْذِيرِ لِهَذِهِ الأُمَّةِ في اتِّباعِهِمْ لِسُنَنِ أهْلِ الكِتابِ في مِثْلِ أحْوالِهِمْ؛ ولِذَلِكَ انْتَظَمَ بِها الآيَةُ الجامِعَةُ وابْتَدَأ بِذِكْرِ الَّذِينَ آمَنُوا مِن هَذِهِ الأُمَّةِ ثُمَّ اسْتَوْفى المِلَلَ الَّتِي لَها صِحَّةٌ عَلى ما يُذْكَرُ آنِفًا إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. انْتَهى. ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَفَعَلُوا ما أُمِرُوا بِهِ مِن هُبُوطِ المِصْرِ، فَكانَ ما وُعِدُوا بِهِ؛ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ مُلازِمَةً لَهم مُحِيطَةً بِهِمْ مِن جَمِيعِ الجَوانِبِ كَما يُحِيطُ البَيْتُ المَضْرُوبُ عَلى الإنْسانِ بِهِ، وهي اسْمٌ مِنَ الذُّلِّ وهو صَغارٌ في النَّفْسِ عَنْ قَهْرٍ وغَلَبَةٍ. قالَ الحَرالِّيُّ: وفي (p-٤١٨)عَطْفِهِ إفْهامٌ لِمُجاوَزَةِ أنْباءٍ عَدِيدَةٍ غايَتُها في الظُّهُورِ ما عَطَفَ عَلَيْها كَأنَّ الخِطابَ يُفْهَمُ فَأنْزَلْناهم حَيْثُ أنْزَلُوا أنْفُسَهم ومَنَعْناهم ما لا يَلِيقُ عَنْ حالِهِ مِثْلَ حالِهِمْ فَظَهَرَ مِنهم وُجُوهٌ مِنَ الفَسادِ، فَسُلِّطَ عَلَيْهِمُ العَدُوُّ فاسْتَأْصَلَ مِنهم مَن شاءَ اللَّهُ ومَن بَقِيَ مِنهم أُخِذُوا بِأنْواعٍ مِنَ الهَوانِ. انْتَهى.
﴿والمَسْكَنَةُ﴾ أيْ كَذَلِكَ مُناسِبَةٌ لِخَساسَةِ ما سَألُوهُ.
قالَ الحَرالِّيُّ: وهي ظُهُورُ مَعْنى الذُّلِّ أوِ التَّذَلُّلِ عَلى ظاهِرِ الهَيْئَةِ والصُّورَةِ سُكُونًا وانْكِفافَ حِراكٍ. انْتَهى.
﴿وباءُوا﴾ أيْ رَجَعُوا وكانُوا أحِقّاءَ ﴿بِغَضَبٍ﴾ (p-٤١٩)مِن باءَ فَلانٌ بِفُلانٍ إذا كانَ حَقِيقًا بِأنْ يُقْتَلَ بِهِ لِمُساواتِهِ لَهُ. قالَ الحَرالِّيُّ: مَعْناهُ إجْماعُ القاهِرِ عَلى الِانْتِقامِ في حَقِّ مُراغَمَةٍ. انْتَهى.
﴿مِنَ اللَّهِ﴾ المَلِكِ الأعْظَمِ لِجَرْأتِهِمْ عَلى هَذا المَقامِ الأعْظَمِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وكَرَّةً إثْرَ كَرَّةٍ. قالَ الحَرالِّيُّ: وفِيهِ تَهْدِيدٌ لِهَذِهِ الأُمَّةِ بِما غَلَبَ عَلى أهْلِ الدُّنْيا مِنهم مِن مِثْلِ أحْوالِهِمْ بِاسْتِبْدالِ الأدْنى في المَعْنى مِنَ الحَرامِ والمُتَشابِهِ بِالأعْلى مِنَ الطِّيِّبِ والأطْيَبِ المَأْخُوذِ عَفْوًا واقْتِناعًا. انْتَهى.
ثُمَّ ذَكَرَ سَبَبَ هَذا وقالَ الحَرالِّيُّ: ولَمّا كانَ الغَضَبُ إنَّما يَكُونُ عَلى مَن راغَمَ الجَلِيلَ في مَعْصِيَتِهِ ووَقَعَتْ مِنهُمُ المُراغَمَةُ في مَعْصِيَتِهِمْ واعْتِدائِهِمْ ذَكَرَ فِعْلَهم. انْتَهى. فَقالَ ﴿ذَلِكَ﴾ أيِ الأمْرُ العَظِيمُ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ مِنَ الغَضَبِ وما مَعَهُ، ويَجُوزُ أنْ يَرْجِعَ إلى اهْتِمامِهِمْ بِأمْرِ مَعاشِهِمْ وعِنايَتِهِمْ بِأحْوالِ شَهَواتِهِمْ عَلى هَذا النَّحْوِ الأخَسِّ الأدْنى ﴿بِأنَّهُمْ﴾ أيْ بِسَبَبِ أنَّهم (p-٤٢٠)﴿كانُوا﴾ أيْ جِبِلَّةً وطَبْعًا ﴿يَكْفُرُونَ﴾ أيْ مُجَدِّدِينَ مُسْتَمِرِّينَ ﴿بِآياتِ اللَّهِ﴾ أيْ يَسْتُرُونَ إذْعانَهم وتَصْدِيقَهم بِسَبَبِ آياتِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ جَمِيعُ العَظَمَةِ كِتْمانًا عَمَّنْ لا يَعْلَمُ الآياتِ وتَلْبِيسًا، وكانَ تَجْدِيدُ ذَلِكَ والإصْرارُ عَلَيْهِ دَيْدَنًا لَهم وخُلُقًا قائِمًا بِهِمْ. قالَ الحَرالِّيُّ: والكُفْرُ بِالآياتِ أبْعَدُ الرُّتَبِ مِنَ الإيمانِ، لِأنَّهُ أدْنى مِنَ الكُفْرِ بِاللَّهِ، لِأنَّ الكُفْرَ بِاللَّهِ كُفْرٌ بِغَيْبٍ والكَفْرَ بِآياتِ اللَّهِ كُفْرٌ بِشَهادَةٍ ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هم أصْحابُ المَشْأمَةِ﴾ [البلد: ١٩] انْتَهى.
﴿ويَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ﴾ أيْ كانَ ذَلِكَ جِبِلَّةً لَهم وطَبْعًا. قالَ الحَرالِّيُّ: وهَذا جَمْعُ نَبِيءٍ وهو مِنَ النَّبَأِ وهو الإخْبارُ عَنْ غَيْبٍ عَجَزَ عَنْهُ المُخْبِرُ بِهِ مِن حَيْثُ أخْبَرَ - انْتَهى. (p-٤٢١)ولَمّا كانَ النَّبِيُّ مَعْصُومًا دِينًا ودُنْيا قالَ ﴿بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ أيِ الكامِلِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ قَتْلَهُ لا يَقَعُ إلّا كَذَلِكَ، لَكِنَّ هَذا لا يَنْفِي أنْ يَكُونَ ثَمَّ شُبْهَةٌ كَظَنِّ التَّنَبُّؤِ فالذَّمُّ عَلى الإقْدامِ عَلى إراقَةِ الدَّمِ بِدُونِ الوُضُوحِ التّامِّ وِفاقًا لِنَهْيِ.
﴿ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالحَقِّ﴾ [الإسراء: ٣٣] فَهو أخَفُّ مِمّا في آلِ عِمْرانَ. ثُمَّ عَلَّلَ هَذِهِ الجَرْأةَ فَقالَ ﴿ذَلِكَ﴾ أيِ الأمْرُ الكَبِيرُ مِنَ الكُفْرِ والقَتْلِ الَّذِي هو مِن أعْظَمِ الكُفْرِ ﴿بِما عَصَوْا﴾ وهو مِنَ العِصْيانِ. قالَ الحَرالِّيُّ: وهو مُخالَفَةُ الأمْرِ. انْتَهى.
﴿وكانُوا﴾ أيْ جِبِلَّةً وغَرِيزَةً ﴿يَعْتَدُونَ﴾ أيْ يَتَجاوَزُونَ الحُدُودَ عَلى سَبِيلِ التَّجَدُّدِ والِاسْتِمْرارِ، فَإنَّ مَن فَعَلَ ذَلِكَ مَرَدَ عَلَيْهِ ومُرِّنَ فاجْتَرَأ عَلى العَظائِمِ. قالَ الحَرالِّيُّ: (p-٤٢٢)وهُوَ أيِ الِاعْتِداءُ تَكَلُّفُ العَداءِ، والعَداءُ مُجاوَزَةُ الحَدِّ، فِيما يُفْسَحُ فِيهِ إلى حَدٍّ لا عُذْرَ لِمُجاوِزِهِ مِن حَيْثُ فُسِحَ لَهُ سِعَةُ ما فُسِحَ وحُدَّ لَهُ ما حُدَّ. انْتَهى. وقَدْ جاءَ نَظْمُ هَذِهِ الآياتِ مِن قِصَصِهِمْ عَلى غَيْرِ تَرْتِيبِها في الوُجُودِ، وفي التَّوْراةِ لِما ذَكَرْتُ مِن هَذِهِ المُناسَباتِ العَظِيمَةِ واللَّهُ أعْلَمُ شَرْحُ أمْرِها. مِنَ التَّوْراةِ قالَ في آخِرِ السِّفْرِ الرّابِعِ مِنها في النُّسَخِ المَوْجُودَةِ بَيْنَ أظْهُرِ اليَهُودِ الآنَ في هَذا القَرْنِ التّاسِعِ فِيما قَرَأْتُهُ في نُسْخَةٍ مُتَرْجَمَةٍ بِالعَرَبِيَّةِ وخَطُّها كَذَلِكَ وعَلَيْها آثارُ قِراءَتِهِمْ لَها وبَيانُ الأوْقاتِ الَّتِي يُقْرَأُ فِيها كُلُّ فَصْلٍ مِنها ثُمَّ قابَلْتُها بِالمَعْنى كَما مَضى مَعَ شَخْصٍ مِنهم وكانَ هو القارِئَ ما نَصُّهُ: وهَذِهِ مَظاعِنُ بَنِي إسْرائِيلَ حَيْثُ خَرَجُوا مِن أرْضِ مِصْرَ بِأجْنادِهِمْ عَلى يَدَيْ مُوسى وهارُونَ عَلَيْهِما السَّلامُ وكَتَبَ مُوسى مَخارِجَهم ومَراحِلَهم عَنْ قَوْلِ الرَّبِّ ظَعَنُوا مِن رَعَمْسِيسَ - وفي نُسْخَةٍ: مِن عَيْنِ شَمْسٍ - في خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنَ الشَّهْرِ الأوَّلِ مِن غَدِ الفِصْحِ - وفي نُسْخَةٍ: (p-٤٢٣)بَعْدَ الفِصْحِ بِيَوْمٍ - والمُرادُ بِالشَّهْرِ الأوَّلِ عِنْدَهم نِيسانُ وهو شَهْرُ الفَرِيكِ، وخَرَجَ بَنُو إسْرائِيلَ بِقُوَّةٍ عَظِيمَةٍ تُجاهَ جَمِيعِ أهْلِ مِصْرَ كانُوا مَشاغِيلَ بِدَفْنِ الأبْكارِ الَّذِينَ قَتَلَهُمُ الرَّبُّ، وبِما انْتَقَمَ الرَّبُّ مِن آلِهَتِهِمْ، فَظَعَنَ بَنُو إسْرائِيلَ مِن رَعَمْسِيسَ - وفي نُسْخَةٍ: عَيْنِ شَمْسِ - ونَزَلُوا ساحُوتَ وارْتَحَلُوا مِن ساحُوتَ ونَزَلُوا آثَمَ - وفي نُسْخَةٍ: آثامَ - الَّتِي في أقاصِي المَفازَةِ وظَعَنُوا مِن آثامَ ونَزَلُوا في فُوَّهَةِ الخَنْدَقِ الَّذِي في جِبالِ بَعْلَصَفُونَ ونَزَلُوا بِإزاءِ مَغْدُولٍ - وفي نُسْخَةٍ: مَجْدُولٍ - وارْتَحَلُوا مِن فُوَّهَةِ الخَنْدَقِ وجازُوا في وسَطِ البَحْرِ إلى القَفْرِ - وفي نُسْخَةٍ: بَيْنَ البَحْرِ والقَفْرِ - وسارُوا مَسِيرَةَ ثَلاثَةِ أيّامٍ في بَرِّيَّةٍ آثامَ ونَزَلُوا مُرَرًا - وفي نُسْخَةٍ: المُرَيْرَةَ - وأتَوُا اليَمَّ وفي نُسْخَةٍ: ونَزَلُوا في المَرايِرِ وارْتَحَلُوا مِن (p-٤٢٤)المَرايِرِ وصارُوا إلى اليَمِّ - وكانَ في اليَمِّ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا مِن ماءٍ وسَبْعُونَ نَخْلَةً ونَزَلُوا هُناكَ عَلى الماءِ، وارْتَحَلُوا مِن اليَمِّ ونَزَلُوا ساحِلَ بَحْرِ سُوفَ - وفي نُسْخَةٍ: عَلى البَحْرِ الأحْمَرِ - وظَعَنُوا مِن شاطِئِ بَحْرِ سُوفَ - وفي نُسْخَةٍ: مِنَ البَحْرِ الأحْمَرِ - وفي أُخْرى: بَحْرِ القُلْزُمِ - ونَزَلُوا بَرِّيَّةَ سِينِينَ وارْتَحَلُوا مِن قَفْرِ سِينِينَ ونَزَلُوا ذِفْقا وظَعَنُوا مِن ذِفْقا ونَزَلُوا آلُوشَ وارْتَحَلُوا مِن آلُوشَ ونَزَلُوا رَفِيدِينَ - وفي نُسْخَةٍ: رَفِيدِيمَ - ولَمْ يَكُنْ هُناكَ ماءٌ يُشْرِبُ الشَّعْبَ وظَعَنُوا مِن رَفِيدِينَ - وفي نُسْخَةٍ: رَفِيدِيمَ - فَنَزَلُوا بَرِّيَّةً - وفي نُسْخَةٍ: قَفْرَ سَيْناءَ - وظَعَنُوا مِن قَفْرِ سَيْناءَ ونَزَلُوا المَوْضِعَ المَعْرُوفَ بِقُبُورِ الشَّهْوَةِ وارْتَحَلُوا مِن مَقْبَرَةِ الشَّهْوَةِ - وفي نُسْخَةٍ: قَفْرِ قُبُورِ الشَّهْوَةِ - فَنَزَلُوا حَصْرُوثَ وظَعَنُوا مِن حَصْرُوثَ فَنَزَلُوا رَثْما - (p-٤٢٥)وفِي نُسْخَةٍ: الرّامَةَ - وارْتَحَلُوا مَن رَثْما - وفي نُسْخَةٍ: الرّامَةِ - فَنَزَلُوا رِمُونَ فِيرُصَ.
وقالَ في السِّفْرِ الثّانِي عِنْدَ ذِكْرِ الإنْعامِ عَلَيْهِمْ بِاسْتِنْقاذِهِمْ مِن أيْدِي القِبْطِ بِتِلْكَ الآياتِ العَظِيمَةِ الَّتِي سَتُشْرَحُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى في سُورَةِ الأعْرافِ فَقالَ مُوسى لِلشَّعْبِ: اذْكُرُوا هَذا اليَوْمَ الَّذِي خَرَجْتُمْ فِيهِ مِن مِصْرَ مِنَ العُبُودِيَّةِ والرِّقِّ، لِأنَّ الرَّبَّ أخْرَجَكم مِن هَهُنا بِيَدٍ مَنِيعَةٍ فَلا يُؤْكَلُ الخَمِيرُ في هَذا اليَوْمِ وهو ذا أنْتُمْ خارِجُونَ في شَهْرِ الفِقاخِ - وفي نُسْخَةٍ: الفَرِيكِ - فَإذا أدْخَلَكُمُ الرَّبُّ إلى أرْضِ الكَنْعانِيِّينَ والحَيْثانِيِّينَ والأمُورانِيِّينَ والجاوانِيِّينَ واليابَسانِيِّينَ والفَرَزانِيِّينَ كالَّذِي أقْسَمَ لِآبائِكم أنْ يُعْطِيَكُمُ الأرْضَ الَّتِي تَغُلُّ السَّمْنَ والعَسَلَ، تَعْمَلُونَ هَذا العَمَلَ في هَذا الشَّهْرِ، كُلُوا الفَطِيرَ سَبْعَةَ أيّامٍ ولا يُوجَدَنَّ الخَمِيرُ عِنْدَكم؛ وتُعَلِّمُونَ أبْناءَكم في ذَلِكَ اليَوْمِ وتَقُولُونَ لَهم: إنَّ اللَّهَ فَعَلَ بِنا هَذا الفِعْلَ إذْ أخْرَجَنا مِن أرْضِ مِصْرَ، ولْيَكُنْ ذَلِكَ آيَةً عَلى يَدِكَ وعَلامَةً بَيْنَ عَيْنَيْكَ لِتَكُونَ سُنَّةُ الرَّبِّ وشَرِيعَتُهُ عَلى لِسانِكَ لِأنَّ الرَّبَّ أخْرَجَكَ مِن مِصْرَ بِيَدٍ عَزِيزَةٍ مَنِيعَةٍ واحْتَفِظْ بِهَذا، وهَذِهِ الوَصِيَّةُ مِن (p-٤٢٦)سَنَةٍ إلى سَنَةٍ في وقْتِهِ، وإذا أدْخَلَكَ الرَّبُّ إلى أرْضِ الكَنْعانِيِّينَ الَّتِي أقْسَمَ لَكَ ولِآبائِكَ أنْ يُعْطِيَكَها فَمَيَّزَ كُلُّ ذَكَرٍ بِفَتْحِ الرَّحِمِ لِلرَّبِّ وكُلُّ ذَكَرٍ مِنَ البَهائِمِ الَّتِي تَكُونُ لَكَ يَفْتَحُ الرَّحِمَ يَكُونُ خاصَّةً لِلرَّبِّ تَفْتَدِيهِ بِحِمْلٍ، فَإنْ لَمْ تَفْتَدِهِ فاذْبَحْهُ، وتَفْتَدِي كُلَّ بَكْرٍ ذَكَرٍ مِن أوْلادِكَ، فَإذا سَألَكَ ابْنُكَ غَدًا وقالَ لَكَ: ما هَذا العَمَلُ ؟ فَقُلْ: إنَّ الرَّبَّ أخْرَجَنا مِن أرْضِ مِصْرَ مِنَ العُبُودِيَّةِ والرِّقِّ بِيَدٍ مَنِيعَةٍ عَزِيزَةٍ، لِأنَّ فِرْعَوْنَ قَسا وفَظَّ وأبى أنْ يُرْسِلَنا، فَقَتَلَ الرَّبُّ جَمِيعَ أبْكارِ أرْضِ مِصْرَ مِن بِكْرِ البَشَرِ إلى بِكْرِ البَهائِمِ، فَمِن أجْلِ ذَلِكَ أذْبَحُ لِلرَّبِّ كُلَّ ذَكَرٍ بِفَتْحِ الرَّحِمِ وأفْتَدِي جَمِيعَ أبْكارِ ولَدِي، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلامَةً عَلى يَدِكَ وذِكْرًا بَيْنَ عَيْنَيْكَ، لِأنَّ الرَّبَّ أخْرَجَكَ مِن مِصْرَ بِيَدٍ مَنِيعَةٍ عَزِيزَةٍ.
فَلَمّا أرْسَلَ فِرْعَوْنُ الشَّعْبَ وانْطَلَقُوا لَمْ يُرْسِلْهُمُ اللَّهُ تَعالى في طَرِيقِ أرْضِ فِلَسْطِينَ، لِأنَّهُ كانَ قَرِيبًا ولِأنَّ اللَّهَ قالَ: لَعَلَّ الشَّعْبَ إذا ما عايَنُوا القِتالَ أنْ يَخافُوا ويَرْهَبُوا فَيَرْجِعُوا إلى مِصْرَ، فَساسَ اللَّهُ الشَّعْبَ في طَرِيقِ بَرِّيَّةِ بَحْرِ سُوفَ، وخَرَجَ بَنُو إسْرائِيلَ مِن أرْضِ مِصْرَ وهم مُتَسَلِّحُونَ، وحَمَلَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ عِظامَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ مَعَهُ، لِأنَّهُ أقْسَمَ عَلى (p-٤٢٧)بَنِي إسْرائِيلَ بِأيْمانٍ وقالَ: إنَّ اللَّهَ سَيَذْكُرُكم فَأصْعِدُوا عِظامِي مَعَكم مِن هَهُنا، فَظَعَنُوا مِن ساحُوتَ ونَزَلُوا آثامَ الَّتِي في أقْطارِ البَرِّيَّةِ، وكانَ الرَّبُّ يَسِيرُ أمامَهم بِالنَّهارِ في عَمُودِ السَّحابِ لِيُسْكِنَهم في الطَّرِيقِ وبِاللَّيْلِ في عَمُودِ نارٍ لِيُضِيءَ لَهم وكانَ يَسِيرُ أمامَهم بِاللَّيْلِ والنَّهارِ، ولَمْ يَكُنْ عَمُودُ الغَمامِ يَزُولُ بِالنَّهارِ وعَمُودُ النّارِ بِاللَّيْلِ مِن بَيْنِ يَدَيِ الشَّعْبِ، وكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسى وقالَ لَهُ: قُلْ لِآلِ إسْرائِيلَ أنْ يَرْجِعُوا فَيَنْزِلُوا عَلى شاطِئِ الخَنْدَقِ وما بَيْنَ مَغْرُولٍ والبَحْرِ أمامَ بَعْلَصَفُونَ، انْزِلُوا هُناكَ إزاءَ البَحْرِ حَتّى يَقُولَ فِرْعَوْنُ إنَّ بَنِي إسْرائِيلَ غُرَباءُ في الأرْضِ، فَيَظُنُّ أنَّهم قَدْ تاهُوا في القَفْرِ وأنَّ البَرَّ قَدِ انْغَلَقَ عَلَيْهِمْ؛ وقالَ الرَّبُّ لِمُوسى: أنا أُقَسِّي قَلْبَ فِرْعَوْنَ فَيَسِيرُ في طَلَبِكم فَأُمَجِّدُ بِفِرْعَوْنَ وجَمِيعِ جُنُودِهِ، فَيَعْلَمُ أهْلُ مِصْرَ أنِّي أنا الرَّبُّ، فَفَعَلُوا كَذَلِكَ؛ فَأسِفَ فِرْعَوْنُ وعَبِيدُهُ لِإرْسالِ الشَّعْبِ ونَدِمُوا، فَألْجَمَ خَيْلَهُ وسارَ في جَمِيعِ شَعْبِهِ وظَعَنَ في سِتِّمِائَةِ ألْفِ راكِبٍ مُخْتارَةٍ وجَمِيعِ مَواكِبِ المِصْرِيِّينَ أيْضًا والرِّجالُ - وفي نُسْخَةٍ: والقُوّادُ - عَلى جَمِيعِها، فَسارَ المِصْرِيُّونَ في طَلَبِهِمْ فَرَهِقُوهم وهم حُلُولٌ عَلى المَهْرَقانِ، فَقَرُبَ فِرْعَوْنُ ورَفَعَ بَنُو إسْرائِيلَ أبْصارَهم فَرَأوُا المِصْرِيِّينَ وهم في (p-٤٢٨)طَلَبِهِمْ فَخافُوا خَوْفًا شَدِيدًا، فَصَلّى بَنُو إسْرائِيلَ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ وقالُوا لِمُوسى: ألِقِلَّةِ القُبُورِ بِمِصْرَ أخْرَجْتَنا لِنَمُوتَ في البَرِّيَّةِ ؟ لِمَ فَعَلْتَ بِنا هَذا الفِعْلَ وأخْرَجْتَنا مِن مِصْرَ ؟ ألَيْسَ هَكَذا كُنّا نَقُولُ لَكَ ونَحْنُ بِمِصْرَ: دَعْنا نَتَعَبَّدْ لِلْمِصْرِيِّينَ كانَ خَيْرًا لَنا أنْ نَتَعَبَّدَ لِلْمِصْرِيِّينَ مِنَ المَوْتِ في هَذا القَفْرِ ؟ فَقالَ مُوسى لِلشَّعْبِ: لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ! انْتَظِرُوا فَأبْصِرُوا خَلاصَ الرَّبِّ إيّاكم في هَذا اليَوْمِ، لِأنَّكم عايَنْتُمُ المِصْرِيِّينَ يَوْمَنا هَذا، لا تَعُودُونَ أنْ تُعايِنُوهم أيْضًا إلى الأبَدِ، والرَّبُّ يُجاهِدُ عَنْكم إذْ أنْتُمْ في هُدُوءٍ وطُمَأْنِينَةٍ؛ فَصَلّى مُوسى بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ فَقالَ: مُرْ بَنِي إسْرائِيلَ أنْ يَظْعَنُوا وأنْتَ فارْفَعْ عَصاكَ واضْرِبْ ماءَ البَحْرِ، فَيَسِيرُ آلُ إسْرائِيلَ في البَحْرِ في اليَبَسِ، وها أنا ذا أقَسِّي قُلُوبَ المِصْرِيِّينَ وأُغَلِّظُها لِيَتْبَعُوهم، فَأُمَجِّدُ بِفِرْعَوْنَ وبِجَمِيعِ جُنُودِهِ وبِمُواكِبِهِ وفُرْسانِهِ، فَيَعْلَمُ أهْلُ مِصْرَ أنِّي أنا الرَّبُّ إذا مَجَّدْتُ بِفِرْعَوْنَ وبِجَمِيعِ جُنُودِهِ، فَظَعَنَ مَلَكُ اللَّهِ الَّذِي كانَ يَسِيرُ أمامَ عَسْكَرِ بَنِي إسْرائِيلَ فَصارَ عَلى ساقَتِهِمْ، فاحْتَمَلَ السَّحابُ الَّذِي كانَ أمامَهم فَوَقَفَ خَلْفَهم ودَخَلَ بَيْنَ عَسْكَرِ المِصْرِيِّينَ ومَحَلَّةِ بَنِي إسْرائِيلَ، وكانَ السَّحابُ والحِنْدِسُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بِأسْرِها وكانَ الضِّياءُ والنُّورُ لِبَنِي إسْرائِيلَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ كُلَّها، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلى الدُّنُوِّ إلَيْهِمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ.
فَرَفَعَ (p-٤٢٩)مُوسى يَدَهُ عَلى البَحْرِ فَزَجَرَ الرَّبُّ البَحْرَ بِرِيحٍ سَمُومٍ - وفي نُسْخَةٍ: قَبُولٌ عاصِفٌ - ألْيَلُ أجْمَعُ، فَصَيَّرَ ماءَ البَحْرِ في اليَبَسِ، وانْقَسَمَ الماءُ، فَدَخَلَ بَنُو إسْرائِيلَ في وسَطِ البَحْرِ في اليَبَسِ، فَصارَتِ المِياهُ كالسُّورِ بَيْنَ مَيامِنِهِمْ ومَياسِرِهِمْ، فَسارَ المِصْرِيُّونَ فَدَخَلُوا في طَلَبِهِمْ فَصارَ خَيْلُ فِرْعَوْنَ وجَمِيعُ مَواكِبِهِ في البَحْرِ، فَلَمّا كانَ عِنْدَ حَرِيمٍ الغَداةَ تَراءى الرَّبُّ لِعَسْكَرِ المِصْرِيِّينَ في عَمُودِ نارٍ ومُزْنَةِ غَمامَةٍ، فَأرْجَفَ عَسْكَرَ المِصْرِيِّينَ وأفْتَنَهُ ورَبَطَ مَواكِبَهم وحَبَسَها وجَعَلُوهم يُعْنِقُونَ بِالسَّيْرِ عَلَيْها، فَقالَ المِصْرِيُّونَ: سِيرُوا بِنا لِنَهْرُبَ بَيْنَ يَدَيْ آلِ إسْرائِيلَ، لِأنَّ الرَّبَّ حارَبَ عَنْهم بِمِصْرَ، فَقالَ الرَّبُّ لِمُوسى: ابْسُطْ يَدَكَ عَلى المَهْرَقانِ فَتَؤُولَ المِياهُ عَلى المِصْرِيِّينَ فَتَطْفَحَ عَلى مَواكِبِهِمْ وفُرْسانِهِمْ، فَرَفَعَ يَدَهُ عَلى البَحْرِ، فَرَجَعَ البَحْرُ عِنْدَ وقْتِ الغَداةِ إلى مَوْضِعِهِ والمِصْرِيُّونَ جَعَلُوا يَهْرُبُونَ إزاءَهُ، فَعَذَّبَ الرَّبُّ المِصْرِيِّينَ في البَحْرِ وأكْذَبَهم، فَجَرَتِ المِياهُ وطَفَتْ عَلى المَواكِبِ والفَرَسانِ وعَلى جَمِيعِ جُنُودِ فِرْعَوْنَ الَّذِينَ دَخَلُوا في البَحْرِ في طَلَبِهِمْ، ولَمْ يَنْجُ مِنهم واحِدٌ، فَخَلَّصَ آلَ إسْرائِيلَ في ذَلِكَ اليَوْمِ مِن أيْدِي المِصْرِيِّينَ، فَنَظَرَ بَنُو إسْرائِيلَ إلى المِصْرِيِّينَ مَوْتى عَلى شاطِئِ المَهْرَقانِ، وعايَنَ آلُ إسْرائِيلَ النِّقْمَةَ العَظِيمَةَ الَّتِي أنْزَلَها اللَّهُ بِالمِصْرِيِّينَ، (p-٤٣٠)وخافَ الشَّعْبُ الرَّبَّ وآمَنُوا بِهِ وصَدَّقُوا قَوْلَ مُوسى عَبْدِهِ، حِينَئِذٍ سَبَّحَ مُوسى وبَنُو إسْرائِيلَ بِهَذا التَّسْبِيحِ وقالُوا: نُسَبِّحُ الرَّبَّ ذا الجَلالِ الَّذِي تَعالى عَلى المَواكِبِ وغَرِقَ فُرْسانُها في البَحْرِ المَنِيعِ، والمَحْمُودُ الرَّبُّ الأزَلِيُّ، فَكانَ لِي مُنْجِيًا، هَذا إلَهُنا فَلْنَحْمَدْهُ ولْنُمَجِّدْهُ، إلَهُ آبائِنا فَلْنُعَظِّمْهُ ولْنُجِلَّهُ، الرَّبُّ ذُو المَلاحِمِ، جَبّارٌ اسْمُهُ، لِأنَّهُ قَذَفَ بِمَواكِبِ فِرْعَوْنَ وجُنُودِهِ في البَحْرِ وغَرِقَ جَبابِرَةٌ في بَحْرِ سُوفَ وغَطَّتْهُمُ الأمْواجُ وهَبَطُوا في القَعْرِ فَرَسَبُوا مِثْلَ الجَنادِلِ، يَمِينُكَ يا رَبُّ بَهِيَّةٌ بِالقُوَّةِ، يَمِينُكَ يا رَبُّ أهْلَكَتْ أعْداءَكَ بِعِظَمِ عِزِّكَ، كَبَتَّ شانِئَكَ أرْسَلْتَ غَضَبَكَ فَأحْرَقَهم كالسَّهْمِ بِرِيحِ وجْهِكَ وأمْرِكَ جَمَّدْتَ المِياهَ ووَقَفَ جَرْيُها كَأنَّهُ الأطْوادُ، ورَسَبَ الأغْمارُ في قَعْرِ البَحْرِ كالرَّصاصِ في الماءِ المَنِيعِ؛ فَمَن مِثْلُكَ ومَن يَفْعَلُ كَأفْعالِكَ أيُّها البَهِيُّ في قُدْسِهِ، المَرْهُوبُ المَحْمُودُ، مُظْهِرُ العَجائِبِ، سُسْتَ بِنِعْمَتِكَ هَذا الشَّعْبَ الَّذِي خَلَّصْتَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الشُّعُوبَ فارْتَجَفُوا وقَلِقُوا وغَشِيَ الخَوْفُ والرُّعْبُ سُكّانَ فِلَسْطِينَ، عِنْدَ ذَلِكَ ذُعِرَ أشْرافُ أدُومَ وغَشِيَ الرِّعْدَةُ والِارْتِعاشُ رِجالَ مُؤابٍ وانْكَسَرَ جَمِيعُ سُكّانِ كَنْعانَ فانْهَزَمُوا فَلْيَنْزِلْ بِهِمُ الخَوْفُ والقَلَقُ والرَّجْفَةُ بِعَظَمَةِ ذِراعِكَ، يَغْرَقُونَ كالجَنادِلِ حَتّى يَجُوزَ شَعْبُكَ الَّذِي خَلَّصْتَ، (p-٤٣١)تُقْبِلُ بِهِمْ فَتُقَدِّسُهم في جَبَلِ مِيرانْكَ، الرَّبُّ يَمْلِكُ إلى أبَدِ الآبِدِينَ؛ وظَعَنَ مُوسى بِبَنِي إسْرائِيلَ مِن بَحْرِ سُوفَ، فَخَرَجُوا حَتّى انْتَهَوْا إلى بَرِّيَّةِ أُسُودٍ، ثُمَّ سارُوا في البَرِّيَّةِ مَسِيرَةَ ثَلاثَةِ أيّامٍ فَلَمْ يَجِدُوا هُناكَ ماءً، ثُمَّ انْتَهَوْا إلى مُورِثٍ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلى أنْ يَشْرَبُوا ماءَ مُورِثٍ، لِأنَّهُ كانَ مُرًّا فَتَذَمَّرَ الشَّعْبُ عَلى مُوسى وقالُوا لَهُ: ما الَّذِي نَشْرَبُ الآنَ ؟ فَصَلّى مُوسى بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ، فَأظْهَرَ الرَّبُّ لَهُ عُودًا فَألْقاهُ في الماءِ، فَعَذَبَ الماءُ هُناكَ، عَلَّمَهُ السُّنَنَ والأحْكامَ، فَأتَوْا حَتّى انْتَهَوْا إلى اليَمِّ وكانَ هُناكَ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا مِن ماءٍ وسَبْعُونَ نَخْلَةً فَنَزَلُوا هُناكَ عَلى الماءِ، ثُمَّ ظَعَنُوا مِن اليَمِّ فَأتَوْا بَرِّيَّةَ سِينِينَ الَّتِي بَيْنَ اليَمِّ وسِينِينَ في خَمْسَةَ عَشَرَ مِنَ الشَّهْرِ الثّانِي مِنَ الزَّمانِ الَّذِي خَرَجُوا مِن مِصْرَ، فَتَذَمَّرَ جَمِيعُ جَماعَةِ بَنِي إسْرائِيلَ عَلى مُوسى وهارُونَ وقالُوا لَهُما: قَدْ كُنّا نُحِبُّ أنْ نُتَوَفّى في أرْضِ مِصْرَ إذْ كُنّا جُلُوسًا بَيْنَ أيْدِينا مَراجِلُ اللَّحْمِ وكِبارُ الخُبْزِ ونُفَضِّلُ فَأخْرَجْتُمانا إلى هَذِهِ البَرِّيَّةِ لِتَقْتُلا جَماعَةَ بَنِي إسْرائِيلَ بِالجُوعِ ! فَقالَ الرَّبُّ لِمُوسى: ها أنا ذا مُهْبِطٌ لَكُمُ الخُبْزَ مِنَ السَّماءِ فَلْيَخْرُجِ الشَّعْبُ (p-٤٣٢)فَلْيَلْتَقِطُوا طَعامَ يَوْمٍ بِيَوْمٍ لِكَيْ أمْتَحِنَهم هَلْ يَسِيرُونَ بِوَصايايَ وسُنَنِي ويَحْفَظُونَها أمْ لا، فَإذا كانَ اليَوْمُ السّادِسُ فَلْيَعُدُّوا فَضْلًا عَلى ما يَأْتُونَ بِهِ ولْيَكُنْ ذَلِكَ ضِعْفَ ما يَلْتَقِطُونَ في كُلِّ يَوْمٍ، فَقالَ مُوسى وهارُونُ لِجَمِيعِ بَنِي إسْرائِيلَ عِنْدَ الأصِيلِ: تَعْلَمُونَ أنَّ الرَّبَّ أخْرَجَكم مِن أرْضِ مِصْرَ وبِالغَداةِ تُعايِنُونَ مَجْدَ الرَّبِّ، لِأنَّ تَذَمُّرَكم بَلَغَ الرَّبَّ، ونَحْنُ فَمَن نَحْنُ إذْ تَتَذَمَّرُونَ عَلَيْنا، وقالَ لَهم مُوسى: إنَّ الرَّبَّ قَدْ أعْطاكم لَحْمًا عِنْدَ الأصِيلِ لِتَأْكُلُوا ورَزَقَكم خُبْزًا بِالغَداةِ لِتَشْبَعُوا، لِأنَّهُ قَدْ بَلَّغَ الرَّبَّ تَذَمُّرُكُمُ الَّذِي تُراطِنُونَ عَلَيْهِ، ونَحْنُ فَمَن نَحْنُ ولَيْسَ إنَّما تَتَذَمَّرُونَ عَلَيْنا بَلْ عَلى الرَّبِّ، وقالَ لِهارُونَ: مُرْ جَمِيعَ جَماعَةِ بَنِي إسْرائِيلَ أنْ يَدْنُوا فَيَقِفُوا بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ، فَلَمّا قالَ هارُونُ ذَلِكَ لِجَمِيعِ جَماعَةِ بَنِي إسْرائِيلَ التَفَتُوا فَإذا مَجْدُ الرَّبِّ قَدِ اعْتَلَنَ في السَّحابِ وقالَ الرَّبُّ لِمُوسى: قَدْ بَلَغَنِي تَذَمُّرُ بَنِي إسْرائِيلَ فَقُلْ: عِنْدَ مَغارِبِ الشَّمْسِ تَأْكُلُونَ اللَّحْمَ وبِالغَداةِ شَرْقًا تَشْبَعُونَ مِنَ الخُبْزِ فَتَعْلَمُونَ أنِّي أنا الرَّبُّ إلَهُكم، فَلَمّا كانَ عِنْدَ الأصِيلِ صَعِدَتِ السُّمانِيُّ فَتَغَشَّتِ العَسْكَرَ، وكانَ بِالغَداةِ ضُبابَةٌ تَقْطُرُ المَنَّ فَأحاطَتْ بِالعَسْكَرِ، (p-٤٣٣)فارْتَفَعَتِ الضُّبابَةُ فَإذا عَلى وجْهِ الأرْضِ دَقِيقٌ يَتَقَشَّرُ وكانَ شِبْهَ صَفائِحِ الجَلِيدِ عَلى الأرْضِ، فَقالَ مُوسى: هَذا الخُبْزُ الَّذِي أعْطاكُمُ الرَّبُّ لِتَأْكُلُوا، وهَذا قَوْلُ الرَّبِّ الَّذِي أمَرَ بِهِ لِيَلْتَقِطَ المَرْءُ مِنهُ عَلى قَدْرِ قُوَّتِهِ مِكْيالًا لِكُلِّ نَفْسٍ عَلى عَدَدِ رُؤُوسِكم لِيَأْخُذِ المَرْءُ لِكُلِّ مَن كانَ في خَيْمَتِهِ، فَصَنَعَ بَنُو إسْرائِيلَ كَما أمَرَهم مُوسى والتَقَطُوا، فَمِنهم مَن أخَذَ كَثِيرًا ومِنهم مَن تَناوَلَ قَلِيلًا وكالُوا ذَلِكَ، فَلَمْ يَفْضُلِ الَّذِي أخَذَ الكَثِيرَ والَّذِي أخَذَ القَلِيلَ لَمْ يَعْدِمْهُ، فَقالَ لَهم مُوسى: لا تُبْقِيَنَّ مِنهُ لِلْغَدِ شَيْئًا، فَلَمْ يُطِيعُوا مُوسى فَأفْضَلَ رَهْطٌ مِنهم لِلْغَدِ، فَدَبَّ فِيهِ الدُّودُ وأنْتَنَ، فَغَضِبَ مُوسى، فَجَعَلُوا يَلْتَقِطُونَهُ في كُلِّ غَداةٍ كُلُّ امْرِئٍ عَلى قَدْرِ قُوَّتِهِ، وكانَ إذا حَمِيَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يُمَيِّعُ، فَلَمّا كانَ اليَوْمُ السّادِسُ التَقَطُوا مِنَ الخُبْزِ ضَعْفَيْ ما كانُوا يَتَناوَلُونَ كُلُّ رَجُلٍ مِكْيالَيْنِ، فَأتى جَمِيعُ أشْياخِ الجَماعَةِ فَأخْبَرُوا مُوسى، فَقالَ لَهم: هَكَذا قالَ الرَّبُّ، إنَّ السَّبْتَ راحَةٌ ودَعَةٌ وغَدًا يَوْمُ قُدْسِ الرَّبِّ؛ وقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: لا تَعْمَلُوا فِيهِ عَمَلًا بَلْ يَكُونُ سَبْتًا لِلرَّبِّ في جَمِيعِ مَساكِنِكم، وكُلُّ ما أرَدْتُمْ أنْ تَخْتَبِزُوهُ فاخْبِزُوهُ واطْبُخُوا ما أرَدْتُمْ طَبْخَهُ واحْتَفِظُوا بِما تُفَضِّلُونَ بارِدًا لِلْغَدِ، فَأبْقَوْا مِنهُ لِلْغَدِ كَما أمَرَ مُوسى، فَلَمْ يُنْتِنْ ولَمْ يَدِبَّ فِيهِ الدُّودُ فَقالَ لَهم مُوسى: (p-٤٣٤)كُلُوهُ يَوْمَكم هَذا، لِأنَّ اليَوْمَ يَوْمُ سَبْتٍ لِلرَّبِّ ولَسْتُمْ تَقْدِرُونَ عَلَيْهِ اليَوْمَ في الحَقْلِ، كُونُوا تَلْتَقِطُونَهُ سِتَّةَ أيّامٍ واليَوْمُ السّابِعُ هو سَبْتٌ لا يُؤْخَذُ فِيهِ، فَلَمّا كانَ اليَوْمُ السّابِعُ خَرَجَ رَهْطٌ مِنَ الشَّعْبِ لِيَلْتَقِطُوا فَلَمْ يَجِدُوا فَقالَ الرَّبُّ لِمُوسى: حَتّى مَتى يَأْبَوْا أنْ يَقْبَلُوا وصايايَ وسُنَنِي، فاسْتَراحَ الشَّعْبُ في اليَوْمِ السّابِعِ، فَسَمّاهُ بَنُو إسْرائِيلَ المَنَّ وهو كَحَبَّةِ الكُزْبَرَةِ وطَعْمُهُ كَشَهْدِ العَسَلِ.
وقالَ في السِّفْرِ الرّابِعِ: والمَنُّ كانَ يُشْبِهُ حَبَّةَ الكُزْبَرَةِ وكانَ مَنظَرُهُ أبْيَضَ كالمَها، وكانَ الشَّعْبُ يَتَرَدَّدُونَ ويَلْتَقِطُونَهُ ويَطْحَنُونَهُ في الرَّحى ويَهْرُسُونَهُ في المِهْراسِ ويَطْبُخُونَهُ في القُدُورِ ويُصَيِّرُونَ مِنهُ مَلِيلًا ويَصِيرُ طَعْمُهُ مِثْلَ طَعْمِ الخُبْزِ الَّذِي يُعْجَنُ دَقِيقُهُ بِالزَّيْتِ. رَجَعَ إلى الثّانِي قالَ: فَأكَلَ بَنُو إسْرائِيلَ المَنَّ أرْبَعِينَ سَنَةً ولَمْ يَزالُوا يَأْكُلُونَ المَنَّ حَتّى انْتَهَوْا إلى أقْطارِ الأرْضِ ذاتِ السُّكْنى وحَتّى انْتَهَوْا إلى أقْطارِ أرْضِ كَنْعانَ، وكانَ ذَلِكَ المِكْيالُ عَشْرَ جَرِيبٍ أيْ عَشْرَ ويْبَةٍ، وإنَّ جَماعَةَ بَنِي إسْرائِيلَ ظَعَنُوا مِن بَرِّيَّةِ سِينِينَ في مَظاعِنِهِمْ كَما أمَرَ الرَّبُّ فَوَرَدُوا رَفِيدِينَ ولَمْ يَكُنْ لِلشَّعْبِ ماءٌ يَشْرَبُونَ، فَضَجَّ الشَّعْبُ عَلى مُوسى (p-٤٣٥)وقالُوا لَهُ: أعْطِنا ماءً لِنَشْرَبَ، فَقالَ: ما بالُكم تَضِجُّونَ وكَمْ تُجَرِّبُونَ الرَّبَّ ؟ واشْتَدَّ عَطَشُ الشَّعْبِ هُناكَ فَتَذَمَّرُوا عَلى مُوسى وقالُوا لَهُ: لِمَ أصَعَدْتَنا مِن أرْضِ مِصْرَ لِتَقْتُلَنا وأبْناءَنا ومَواشِيَنا بِالعَطَشِ ؟ فَصَلّى مُوسى أمامَ الرَّبِّ وقالَ: ما أصْنَعُ بِهَذا الشَّعْبِ ؟ إنَّهم كادُوا أنْ يَرْجُمُونِي، فَقالَ الرَّبُّ لِمُوسى: جُزَّ قُدّامَ الشَّعْبِ وانْطَلِقْ بِبَعْضِ أشْياخِ بَنِي إسْرائِيلَ والعَصا الَّتِي ضَرَبْتَ بِها البَحْرَ فَفَلَقَتْهُ، خُذْها بِيَدِكَ وانْطَلِقْ وها أنا ذا واقِفًا بَيْنَ يَدَيْكَ عَلى حَجَرِ الظِّرّانِ بَحُورِيبَ فاضْرِبْ عِنْدَ ذَلِكَ الظِّرّانِ فَيَخْرُجَ الماءُ ويَشْرَبَ الشَّعْبُ، فَصَنَعَ مُوسى هَذا الصَّنِيعَ بَيْنَ أشْياخِ بَنِي إسْرائِيلَ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ المَوْضِعُ التَّجْرِيبَ والتَّذَمُّرَ، لِأنَّ بَنِي إسْرائِيلَ تَنازَعُوا واصْطَخَبُوا ولِأنَّهم جَرَّبُوا اللَّهَ وقالُوا: هَلِ اللَّهُ بَيْنَنا أمْ لا ؟ ولَمّا كانَ في الشَّهْرِ الثّالِثِ بَعْدَ خُرُوجِ بَنِي إسْرائِيلَ مِن مِصْرَ انْتَهَوْا إلى بَرِّيَّةِ سَيْناءَ إذْ ظَعَنُوا مِن رَفِيدِينَ فَأتَوْا بَرِّيَّةَ سَيْناءَ وحَلَّ هُناكَ إسْرائِيلُ قُبالَةَ الجَبَلِ، فَصَعِدَ مُوسى إلى الجَبَلِ فَدَعاهُ اللَّهُ مِنَ الجَبَلِ وقالَ: هَكَذا قُلْ لِآلِ يَعْقُوبَ: قَدْ رَأيْتُمْ ما صَنَعْتُ بِالمِصْرِيِّينَ وحَمَلْتُكم كَأنَّكم عَلى أجْنِحَةِ النُّسُورِ وأقْبَلْتُ بِكم إلَيَّ، فَإنْ أنْتُمُ الآنَ أطَعْتُمْ قَوْلِي وحَفِظْتُمْ عَهْدِي فَأنْتُمْ أحَبُّ إلَيَّ مِن (p-٤٣٦)جَمِيعِ شُعُوبِ الأرْضِ، فَأتى مُوسى فَدَعا بِأشْياخِ الشَّعْبِ فَقَصَّ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ هَذِهِ الآياتِ الَّتِي أمَرَهُ بِها الرَّبُّ، فَأجابَ الشَّعْبُ كُلُّهم جَمِيعًا وقالُوا: نَحْنُ فاعِلُونَ جَمِيعَ ما أمَرَنا بِهِ الرَّبُّ، فَرَدَّ مُوسى جَوابَ الشَّعْبِ عَلى الرَّبِّ فَقالَ الرَّبُّ لِمُوسى: ها أنا ذا مُناجِيكَ في سَحابَةٍ مُظْلِمَةٍ لِكَيْ يَسْمَعَ الشَّعْبُ كَلامِي إذا كَلَّمْتُكَ فَيَقْبَلُوا كَلامَكَ ويُصَدِّقُوكَ إلى الأبَدِ، فَقالَ الرَّبُّ لِمُوسى: انْطَلِقْ إلى الشَّعْبِ وطَهِّرْهُمُ اليَوْمَ وغَدًا ولْيُبَيِّضُوا ثِيابَهم ويَرْحَضُوها ولْيَسْتَعِدُّوا في اليَوْمِ الثّالِثِ فَناشِدِ الشَّعْبَ وتَقَدَّمْ إلَيْهِمْ وقُلْ لَهُمُ: احْذَرُوا أنْ تَصْعَدُوا إلى الجَبَلِ ولا تَقْرَبُوا إلى حافّاتِهِ، ومَن دَنا مِنَ الجَبَلِ فَلْيُقْتَلْ ولا تُصِيبُهُ أيْدِي النّاسِ بَلْ يُرْجَمُ رَجْمًا ويُقْذَفُ بِهِ إلى أسْفَلَ بِهِ بَهِيمَةً كانَ أوْ إنْسانًا، فَإذا صَمَتَتْ أصْواتُ القُرُونِ فَأنْتُمْ في حِلٍّ مِنَ الصُّعُودِ إلى الجَبَلِ، فَهَبَطَ مُوسى مِنَ الجَبَلِ إلى الشَّعْبِ فَطَهَّرَ الشَّعْبُ وبَيَّضُوا ثِيابَهم، وقالَ مُوسى لِلشَّعْبِ: كُونُوا مُسْتَعِدِّينَ في اليَوْمِ الثّالِثِ، لا تَقْتَرِبَنَّ إلى امْرَأةٍ، فَلَمّا كانَ في اليَوْمِ الثّالِثِ باكَرُوا غَلَسًا، فَإذا هم بِأصْواتِ قُرُونٍ وبُرُوقٍ وإذا هم أيْضًا بِسَحابَةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَلَّتْ عَلى الجَبَلِ، فاشْتَدَّ صَوْتُ القَرْنِ جِدًّا واشْتَدَّ فَزَعُ مَن كانَ في العَسْكَرِ، وأخْرَجَ مُوسى الشَّعْبَ إلى لِقاءِ الرَّبِّ مِنَ العَسْكَرِ فَقامُوا في حافّاتِ الجَبَلِ وكانَ جَبَلُ سَيْناءَ يَخْرُجُ مِنهُ القَتارَ والدُّخانَ، لِأنَّ الرَّبَّ هَبَطَ عَلَيْهِ بِالنّارِ وارْتَفَعَ غُبارُهُ كَغُبارِ الأتُونِ وتَزَلْزَلَ الجَبَلُ زَلْزَلَةً شَدِيدَةً واشْتَدَّ صَوْتُ القَرْنِ، ودَعا الرَّبُّ (p-٤٣٧)مُوسى إلى رَأْسِ الجَبَلِ، فَصَعِدَ مُوسى وقالَ لَهُ الرَّبُّ: انْزِلْ فَأنْشِدْ بَنِي إسْرائِيلَ وأنْذِرْهم أنْ لا يَتَزَحْزَحُوا عِنْدَ النَّظَرِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ فَيَهْلِكَ مِنهم كَثِيرٌ، وكانَ جَمِيعُ الشَّعْبِ يَسْمَعُونَ الأصْواتِ ويَرَوْنَ المَصابِيحَ ويَسْمَعُونَ أصْواتِ القُرُونِ ويَرَوْنَ الدُّخانَ يَخْرُجُ مِنَ الجَبَلِ.
فَرَأى ذَلِكَ الشَّعْبُ فَفَزِعُوا ووَقَفُوا مِن بَعِيدٍ وقالُوا لِمُوسى: كَلِّمْنا أنْتَ حَتّى نَسْمَعَ ولا يُكَلِّمْنا اللَّهُ لِكَيْلا نَمُوتَ، فَقالَ مُوسى: لا خَوْفٌ عَلَيْكم، لِأنَّ اللَّهَ إنَّما كَلَّمَكم لِيَمْتَحِنَكم ويُجَرِّبَكم لِكَيْ تَخافُوهُ وتَرْهَبُوهُ ولا تُخْطِئُوا ولا تَأْثَمُوا، فَوَقَفَ الشَّعْبُ مِن بَعِيدٍ ودَنا مُوسى مِنَ الضَّبابِ الَّتِي اعْتَلَنَ اللَّهُ فِيها، وقالَ الرَّبُّ لِمُوسى: هَكَذا قُلْ لِآلِ إسْرائِيلَ: قَدْ رَأيْتُمْ وعَلِمْتُمْ أنِّي كَلَّمْتُكم مِنَ السَّماءِ، لا تَتَّخِذُوا مَعِيَ آلِهَةً مِن ذَهَبٍ ولا تَعْمَلُوا لَكم آلِهَةً مِن فِضَّةٍ، ثُمَّ قالَ: ها أنا ذا مُرْسِلٌ إلَيْكَ المَلَكَ بَيْنَ يَدَيْكَ لِيَحْفَظَكَ في سَفَرِكَ ويُورِدَكَ البَلَدَ الَّذِي أتْقَنْتُ - وفي نُسْخَةٍ: الَّذِي هَيَّأْتُهُ - فاحْذَرْهُ واسْمَعْ مِنهُ، لِأنَّ اسْمِي حالٌّ عَلَيْهِ، فَإنْ أنْتَ قَبِلْتَ قَوْلَهُ وأطَعْتَ أمْرَهُ وعَمِلْتَ بِكُلِّ ما يَأْمُرُكَ بِهِ أُبْغِضْ مُبْغِضِيكَ ويَسِيرُ مَلَكِي أمامَكَ فَيُدْخِلُكَ عَلى الأمُورانِيِّينَ - وذَكَرَ بَعْدَهم خَمْسَ فِرَقٍ - فَأقْتُلُهم وأُبِيدُهم وأُرْسِلُ الرُّعْبَ والخَوْفَ والجَزَعَ بَيْنَ يَدَيْكَ وأُبِيدُ جَمِيعَ الشُّعُوبِ الَّذِينَ تَسِيرُ إلَيْهِمْ ولا أُبِيدُهم في سَنَةٍ واحِدَةٍ لِكَيْ لا تَخْرَبَ الأرْضُ بَلْ رُوَيْدًا رُوَيْدًا حَتّى تَعْتَزَّ - وفي نُسْخَةٍ: تَكْثُرَ - فَتَصِيرَ ذا بَطْشٍ فَتَرِثَ الأرْضَ واجْعَلْ (p-٤٣٨)تُخُومَكَ مِن بَحْرِ سُوفَ إلى فِلَسْطِينَ ومِنَ البَرِّيَّةِ حَتّى النَّهْرِ - وفَسَّرَهُ في مَوْضِعٍ آخَرَ بِالفُراتِ - وقالَ الرَّبُّ لِمُوسى: اصْعَدْ إلى الجَبَلِ أنْتَ وهارُونُ وناذابُ وآبِيهُوا وسَبْعُونَ رَجُلًا مِن أشْياخِ بَنِي إسْرائِيلَ ويَسْجُدُونَ مِن بَعِيدٍ، ويَقْتَرِبُ مُوسى وحْدَهُ إلى الرَّبِّ وهم لا يَقْتَرِبُونَ ولا يَصْعَدُ الشَّعْبُ مَعَهُ. فَجاءَ مُوسى وقَصَّ عَلى الشَّعْبِ جَمِيعَ عُهُودِ الرَّبِّ وجَمِيعَ أحْكامِهِ، فَنادى الشَّعْبُ كُلُّهم بِصَوْتٍ عالٍ وقالُوا: نَحْنُ نَفْعَلُ ما أمَرَنا الرَّبُّ، وكَتَبَ مُوسى جَمِيعَ كَلامِ الرَّبِّ، وغَدًا باكِرًا فَبَنى مَذْبَحًا في حافَّةِ الجَبَلِ ونَصَبَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ نَصْبَةً لِأسْباطِ بَنِي إسْرائِيلَ - ثُمَّ ذَكَرَ ذَبائِحَ وقَرابِينَ وغَيْرَ ذَلِكَ ثُمَّ قالَ: ثُمَّ أخَذَ سِفْرَ العَهْدِ فَتَلاهُ عَلى الشَّعْبِ، فَقالُوا: نَحْنُ سامِعُونَ فاعِلُونَ ما أمَرَنا بِهِ الرَّبُّ، فَتَناوَلَ مُوسى ذَلِكَ الدَّمَ - يَعْنِي دَمَ القُرْبانِ - فَرَشَّهُ عَلى الشَّعْبِ وقالَ: هَذا دَمُ العَهْدِ الَّذِي عاهَدَكم في جَمِيعِ هَذِهِ الأقاوِيلِ، وصَعِدَ مُوسى ومَن ذُكِرَ مَعَهُ ثُمَّ تَرَكَهم في مَكانٍ مِنَ الجَبَلِ ثُمَّ قالَ لَهُمُ امْكُثُوا هَهُنا، فَصَعِدَ مُوسى إلى الجَبَلِ وتَغَشّاهُ السَّحابُ وحَلَّ مَجْدُ اللَّهِ عَلى جَبَلِ سَيْناءَ وسَتَرَهُ السَّحابُ سِتَّةَ أيّامٍ، ودَعا الرَّبُّ مُوسى في اليَوْمِ السّابِعِ مِن جَوْفِ السَّحابِ ونَظَرَ إلى مَجْدِ الرَّبِّ مِثْلَ نارٍ تَتَوَقَّدُ في رَأْسِ الجَبَلِ أمامَ جَمِيعِ (p-٤٣٩)بَنِي إسْرائِيلَ، فَدَخَلَ مُوسى في جَوْفِ السَّحابِ وصَعِدَ إلى الجَبَلِ فَمَكَثَ مُوسى في الجَبَلِ أرْبَعِينَ يَوْمًا نَهارًا وأرْبَعِينَ لَيْلَةً، وكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسى وقالَ لَهُ: قُلْ لِبَنِي إسْرائِيلَ: فَلْيَخُصُّوا لِي تَزْكِيَةَ أمْوالِهِمْ، وخُذْ ذَلِكَ مِن كُلِّ رَجُلٍ بَلَغَ أشُدَّهُ - ثُمَّ ذَكَرَ الأمْوالَ الَّتِي تُزَكّى إلى أنْ قالَ: ويَتَّخِذُونَ لِي مَظْهَرًا حَتّى أحِلَّ بَيْنَهم كُلَّ شَيْءٍ أُرِيكَهُ شِبْهَ القُبَّةِ وجَمِيعِ مَتاعِها كَذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ - ثُمَّ قالَ: واعْمَلْ عَلى المِثالِ الَّذِي أُرِيكَهُ في الجَبَلِ ولِيَتَّخِذُوا تابُوتًا مِن خَشَبِ الشَّمْشادِ طُولُهُ ذِراعانِ ونِصْفٌ وسُمْكُهُ ذِراعٌ ونِصْفٌ، وصَفِّحْهُ بِصَفائِحِ الذَّهَبِ الإبْرِيزِ مِن داخِلِهِ ومِن خارِجِهِ، واتَّخِذْ لَهُ طَوْقًا مِن ذَهَبٍ يُحِيطُ بِهِ، وضَعْ لَهُ أرْبَعَ حَلَقاتٍ مِن ذَهَبٍ وسَمِّرْها في أرْبَعِ زَوايا التّابُوتِ حَلْقَتَيْنِ في شَقٍّ واحِدٍ وحَلْقَتَيْنِ في الجانِبِ الآخَرِ، واتَّخِذْ أصْطارًا مِن خَشَبِ الشَّمْشادِ وصَفِّحْها بِالذَّهَبِ، وصَيِّرِ الأصْطارَ في الحِلَقِ في جانِبَيِ التّابُوتِ لِيَحِلَّ بِها، ولْيَكُنِ الأصْطارُ في حِلَقِ التّابُوتِ ولا يَنْزِعْ مِنها، وتَضَعُ الشَّهادَةَ الَّتِي أُعْطِيكَ في التّابُوتِ، وسُمِّيَ هَذا تابُوتُ الشَّهادَةِ، واتَّخِذْ كَرُوبَيْنِ أيْ شَخْصَيْنِ مِن ذَهَبٍ اتَّخِذْهُما مُفْرِعَيْنِ مَصْبُوبَيْنِ فَيَكُونا عَلى جانِبَيِ التَّطْهِيرِ (p-٤٤٠)وتَكُونُ أجْنِحَةُ الكَرُوبَيْنِ مَبْسُوطَةً تُظِلُّ مِن فَوْقٍ فَتَظَلُّ بِأكْنافِها عَلى التَّطْهِيرِ، ولْيَكُنْ وجْهُ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما إزاءَ صاحِبِهِ ولْيَكُنْ وجْها الكَرُوبَيْنِ مِن فَوْقِ التَّطْهِيرِ؛ وقالَ: واتَّخِذْ دارًا لِلْقُبَّةِ مِن مَهَبِّ الجَنُوبِ واسْتَمَرَّ يَصِفُ لَهُ عَمَلَ هَذِهِ القُبَّةِ وأعْمِدَتَها وسُتُورَها وآلاتِها وخَدَمَها وما يُقَرِّبُ فِيها ومَحَلَّ ضَرْبِها مِنَ العَسْكَرِ وعَلى أيِّ كَيْفِيَّةٍ في نَحْوِ خَمْسَ عَشْرَةَ ورَقَةً وسَمّاها قُبَّةَ الزَّمانِ، ثُمَّ أمَرَهُ تَعالى في آخِرِ هَذا السِّفْرِ الثّانِي بِأشْياءَ مِمّا يَتَّصِلُ بِأمْتِعَتِها وسُرادِقاتِها وغَيْرِ ذَلِكَ في أزْيَدَ مِن عَشْرِ ورَقاتٍ كَما سَيَأْتِي؛ وقالَ في تَضاعِيفِ ذَلِكَ: وتَصِيرُ الشَّهادَةُ الَّتِي أُعْطِيكَ في التّابُوتِ وأُواعِدُكَ إلى هُنالِكَ وأُكَلِّمُكَ فَوْقَ التَّطْهِيرِ مِن بَيْنِ الكَرُوبَيْنِ اللَّذَيْنِ فَوْقَ تابُوتِ الشَّهادَةِ بِجَمِيعِ ما آمُرُكَ في بَنِي إسْرائِيلَ وقالَ: ويَتَّخِذُوا هَذا القُرْبانَ دائِمًا في كُلِّ حِينٍ في أحْقابِكم عَلى بابِ قُبَّةِ الزَّمانِ قُدّامَ الرَّبِّ.
وأُواعِدُكم إلى هُناكَ لِأُكَلِّمَكم وأُواعِدُ بَنِي إسْرائِيلَ إلى هُناكَ فَأتَقَدَّسُ بِكَرامَتِي وأحِلُّ بَيْنَ بَنِي إسْرائِيلَ فَيَعْلَمُونَ أنِّي أنا الرَّبُّ إلَهُهُمُ الَّذِي أخْرَجَهم مِن أرْضِ مِصْرَ، ثُمَّ قالَ: فَلْيُؤَدِّ المَرْءُ مِنهُمُ الزَّكاةَ عَنْ نَفْسِهِ إذا عَدَدْتُهم لِكَيْلا يَنْزِلَ بِهِمُ الوَباءُ، ثُمَّ ذَكَرَ لَهُ تَفاصِيلَ ما يُؤَدّى وأنَّ الزَّكاةَ عَلى الغَنِيِّ والمِسْكِينِ، وكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسى وقالَ لَهُ: اعْلَمْ أنِّي قَدِ انْتَخَبْتُ بَصَلْيالَ بْنَ أُورِي بْنَ حُورٍ مِن سِبْطِ يَهُودا وأسْبَغْتُ عَلَيْهِ رُوحَ اللَّهِ ومَلَأْتُهُ مِنَ الحِكْمَةِ والعِلْمِ في كُلِّ عِلْمٍ لِيَعْلَمَ الصِّناعاتِ في (p-٤٤١)عَمَلِ آنِيَةِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ والنُّحاسِ وفي رَنْدَجَةِ الحِجارَةِ ونَظْمِها وكَمالِها وفي تِجارَةِ الخَشَبِ لِيَعْمَلَ كُلَّ عَمَلٍ وقَدْ ضَمَمْتُ إلَيْهِ آلِيهَبَ بْنَ أخْسَمَخَ مِن سِبْطِ دانَ وأحْلَلْتُ الحِكْمَةَ والفَهْمَ في قُلُوبِ ذَوِي الحِكْمَةِ والعَقْلِ لِيَعْمَلُوا جَمِيعَ ما أمَرْتُكَ بِهِ مِن عَمَلِ قُبَّةِ الأمَدِ وتابُوتِ الشَّهادَةِ والتَّطْهِيرِ الَّذِي فَوْقَها وجَمِيعِ مَتاعِ قُبَّةِ المائِدَةِ وجَمِيعِ مَتاعِها والمَنارَةِ وجَمِيعِ آنِيَتِها ومَذْبَحِ البَخُورِ ومَذْبَحِ القَرابِينِ وجَمِيعِ آنِيَتِهِما والسَّطْلِ وأسْفَلِهِ ولِباسِ النَّضائِدِ ولِباسِ القُدْسِ لِهارُونَ الكاهِنِ يَعْنِي الإمامَ وكُسْوَةِ بَنِيهِ لِيَكْهَنُوا ودُهْنِ المَسْحِ وبَخُورِ الطِّيبِ لِلْقُدْسِ فَلْيَعْمَلُوا جَمِيعَ ما أمَرْتُكَ بِهِ - إلى أنْ قالَ ودُفِعَ إلى مُوسى لَمّا فَرَغَ مِن كَلامِهِ لَهُ في طُورِ سَيْناءَ لَوْحَيِ الشَّهادَةِ لَوْحَيْ حِجارَةٍ مَكْتُوبٍ عَلَيْهِما بِيَدِ اللَّهِ، فَرَأى الشَّعْبُ أنَّ مُوسى قَدْ أبْطَأ عَنِ النُّزُولِ مِنَ الجَبَلِ فاجْتَمَعَ الشَّعْبُ يَعْنِي وقالُوا: نَتَّخِذُ لَنا آلِهَةً تَسِيرُ أمامَنا، لِأنَّ الرَّجُلَ مُوسى الَّذِي أخْرَجَنا مِن أرْضِ مِصْرَ لا عِلْمَ لَنا ما صارَ مِن أمْرِهِ - فَذَكَرَ اتِّخاذَهُمُ العِجْلَ وأنَّهم ذَبَحُوا لَهُ الذَّبائِحَ وجَلَسُوا يَأْكُلُونَ ويَشْرَبُونَ وقامُوا يَلْعَبُونَ ويَتَسافَهُونَ وأنَّ هارُونَ عَلَيْهِ السَّلامُ ذُعِرَ مِن ذَلِكَ وفَزِعَ. (p-٤٤٢)وإنَّما لَمْ أسُقْ نَصَّ التَّوْراةِ عَنْ هَذا بِلَفْظِهِ لِأنَّ في أوَّلِ عِبارَتِهِ ما رَأيْتُهُ غَضًّا بِالنِّسْبَةِ إلى مَقامِ هارُونَ عَلَيْهِ السَّلامُ وحاشاهُ مِمّا يُوهِمُ نَقْصًا فَجَوَّزْتُ أنْ يَكُونَ مِمّا بَدَّلُوهُ ثُمَّ تَأمَّلْتُ ما رَواهُ النَّسائِيُّ وأبُو يَعْلى وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما في حَدِيثِ الفُتُونِ فَوَجَدْتُهُ لَيْسَ بَعِيدًا مِن تَأْوِيلِهِ وقَدْ ذَكَرْتُ مَحَلَّ الحاجَةِ مِنهُ في سُورَةِ ”طَهَ“ واللَّهُ المُوَفِّقُ؛ ثُمَّ قالَ فَقالَ الرَّبُّ لِمُوسى: اهْبِطْ مِن هَهُنا لِأنَّ شَعْبَكَ الَّذِينَ أخْرَجْتَهم مِن أرْضِ مِصْرَ أفْسَدُوا سِيرَتَهم وصَدُّوا وشِيكًا عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي أمَرْتُهم أنْ يَسْلُكُوهُ فاتَّخَذُوا لَهم عِجْلًا مُفْتَرَغًا وسَجَدُوا لَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وذَبَحُوا لَهُ الذَّبائِحَ وقالُوا: هَذا إلَهُكَ يا إسْرائِيلُ الَّذِي أخْرَجَكَ مِن أرْضِ مِصْرَ، وقالَ الرَّبُّ لِمُوسى: إنِّي قَدْ رَأيْتُ هَذا الشَّعْبَ قاسِيَةً قُلُوبِهِمْ فَدَعْنِي الآنَ فَيَشْتَدُّ غَضَبِي عَلَيْهِمْ فَأقْتُلُهم وأُبِيدُهم وأُصَيِّرُكَ إلى شَعْبٍ عَظِيمٍ، فَصَلّى مُوسى بَيْنَ يَدَيِ الإلَهِ وقالَ: كَلّا يا رَبُّ ! لا يَشْتَدُّ غَضَبُكَ عَلى شَعْبِكَ الَّذِينَ أخْرَجْتَهم مِن مِصْرَ بِقُوَّتِكَ المَنِيعَةِ وبِذِراعِكَ العَلِيَّةِ الرَّفِيعَةِ ولا يَقُولُ أهْلُ مِصْرَ: إنَّكَ إنَّما أخْرَجْتَهم لِهَلاكِهِمْ لِتَقْتُلَهم بَيْنَ الجِبالِ وتَسْتَأْصِلَ شَأْفَتَهم وتُبِيدَ خَضْراءَهم عَنْ جَدِيدِ الأرْضِ يا رَبُّ لِيَسْكُنْ غَضَبُكَ ورِجْزُكَ واغْفِرْ ذَنْبَ شَعْبِكَ اذْكُرْ إبْراهِيمَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ عَبِيدَكَ والأيْمانَ الَّتِي أقْسَمْتَ بِها لَهم وقُلْتَ: إنِّي مُكْثِرٌ نَسْلَكم (p-٤٤٣)مَثَلَ نُجُومِ السَّماءِ، وجَمِيعُ الأرْضِ الَّتِي وعَدْتَ بِها نَسْلَهم أنْ تُعْطِيَهُمُوها فَيَرِثُوها إلى الأبَدِ؛ فَعَفا الرَّبُّ عَنْ شَعْبِهِ ولَمْ يُنْزِلْ بِهِمُ الشَّرَّ، فَنَزَلَ مُوسى وهَبَطَ مِنَ الجَبَلِ ولَوْحا الشَّهادَةِ في يَدِهِ لَوْحانِ كُتِبَ عَلَيْهِما في الوَجْهَيْنِ جَمِيعًا واللَّوْحانِ مِن عَمَلِ اللَّهِ جَلَّ ثَناؤُهُ وخَطُّ اللَّهِ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِما، فَلَمّا دَنا مِنَ العَسْكَرِ نَظَرَ العِجْلَ والصُّنُوجَ فاشْتَدَّ غَضَبُ مُوسى فَرَمى بِاللَّوْحَيْنِ مِن يَدِهِ فَكَسَرَهُما في سَفْحِ الجَبَلِ، ثُمَّ أخَذَ العِجْلَ الَّذِي اتَّخَذُوهُ فَأحْرَقَهُ بِالنّارِ وسَحَلَهُ بِالمِبْرَدِ حَتّى صَيَّرَهُ مِثْلَ التُّرابِ ونَثَرَ سِحالَتَهُ عَلى وجْهِ الماءِ، فَوَقَفَ مُوسى عَلى البابِ قُبَّةِ الزَّمانِ وقالَ: مَن كانَ مِن حِزْبِ اللَّهِ فَلْيَقُلْ إلَيَّ، فانْحازَ إلَيْهِ بَنُو لاوى بِأجْمَعِهِمْ فَقالَ لَهم مُوسى: هَكَذا يَقُولُ الرَّبُّ إلَهُ إسْرائِيلَ لِيَتَقَلَّدِ المَرْءُ مِنكم سَيْفَهُ وجُوزُوا مِن بابٍ إلى بابٍ وجَوِّلُوا العَسْكَرَ ولِيَقْتُلِ المَرْءُ مِنكم أخاهُ وصاحِبَهُ وقَرابَتَهُ، فَصَنَعَ بَنُو لاوى كَما أمَرَهم مُوسى، فَقُتِلَ مِنَ الشَّعْبِ في ذَلِكَ اليَوْمِ نَحْوٌ مِن ثَلاثَةِ آلافِ رَجُلٍ فَقالَ لَهم مُوسى: كُفُّوا أيْدِيَكم يَوْمَكم هَذا مِنَ الحَمِيَّةِ لِلرَّبِّ لِتَحِلَّ عَلَيْكُمُ البَرَكَةُ يَوْمَنا هَذا، فَلَمّا كانَ الغَدُ مِن ذَلِكَ اليَوْمِ قالَ مُوسى لِلشَّعْبِ: أنْتُمْ خُطِّئْتُمْ وارْتَكَبْتُمْ هَذِهِ الخَطِيئَةَ العَظِيمَةَ ! فَأمّا الآنَ فَإنِّي أصْعَدُ إلى الرَّبِّ لَعَلَّهُ أنْ يَغْفِرَ لَكم ذُنُوبَكم وإثْمَكم، فَرَجَعَ (p-٤٤٤)مُوسى إلى الرَّبِّ وقالَ: أطْلُبُ إلَيْكَ بِالتَّضَرُّعِ اللَّهُمَّ رَبِّي حَقًّا لَقَدْ أخْطَأ هَذا الشَّعْبُ وارْتَكَبَ إثْمًا عَظِيمًا واتَّخَذُوا آلِهَةً مَن ذَهَبٍ، فالآنَ إنْ أنْتَ غَفَرْتَ خَطاياهم وإلّا فامْحُنِي مَن سِفْرِكَ الَّذِي كَتَبْتَ، فَقالَ الرَّبُّ: أنا أمْحُو مِن سِفْرِي مَن أخْطَأ وأذْنَبَ، فَأمّا الآنَ فانْطَلِقْ بِهَذا الشَّعْبِ إلى المَوْضِعِ الَّذِي أقُولُ لَكَ وهَذا مَلاكِي يَنْطَلِقُ أمامَكَ إلى الأرْضِ الَّتِي تَغُلُّ السَّمْنَ والعَسَلَ، لِأنِّي لا أصْعَدُ مَعَكم؛ لِأنَّهم شَعْبٌ قاسِيَةٌ رِقابُهم ولَعَلَّ غَضَبِي أنْ يَشْتَدَّ عَلَيْهِمْ فَأقْتُلَهم في الطَّرِيقِ، فَسَمِعَ الشَّعْبُ هَذا القَوْلَ الفَظِيعَ فَحَزِنُوا، فَلَمْ يَتَسَلَّحِ المَرْءُ مِنهم بِسِلاحِهِ، فَأخَذَ مُوسى خَيْمَتَهُ فَنَصَبَها خارِجًا مِنَ العَسْكَرِ وأبْعَدَها مِنَ المَحَلَّةِ وسَمّاها قُبَّةَ الزَّمانِ، وكانَ مَن سَألَ الرَّبَّ أمْرًا يَخْرُجُ إلى قُبَّةِ الزَّمانِ، وكانَ إذا خَرَجَ مُوسى إلى قُبَّةِ الزَّمانِ كانَ جَمِيعُ الشَّعْبِ يَقِفُونَ ويَسْتَعِدُّ كُلُّ امْرِئٍ مِنهم عَلى بابِ خَيْمَتِهِ يَنْظُرُونَ إلى مُوسى مِن خَلْفِهِ حَتّى يَدْخُلَ إلى القُبَّةِ، وإذا دَخَلَ مُوسى إلى القُبَّةِ كانَ يُنْزِلُ عَمُودُ السَّحابِ فَيَقِفُ عَلى بابِ القُبَّةِ ويُكَلِّمُ مُوسى، وكانَ جَمِيعُ الشَّعْبِ يَنْظُرُونَ إلى عَمُودِ السَّحابِ واقِفًا عَلى بابِ القُبَّةِ وكانَ يَقِفُ جَمِيعُ الشَّعْبِ ويُصَلِّي كُلُّ امْرِئٍ مِنهم عَلى بابِ خَيْمَتِهِ، وكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسى مُواجَهَةً كَما يُكَلِّمُ المَرْءُ أخاهُ وصاحِبَهُ، وكانَ يَرْجِعُ إلى العَسْكَرِ وكانَ خادِمُهُ يَشُوعُ بْنُ نُونٍ الغُلامُ لَمْ يَكُنْ (p-٤٤٥)يُفارِقُ القُبَّةَ، وقالَ مُوسى لِلرَّبِّ: أنْتَ يا رَبُّ أمَرْتَنِي أنْ أصْعَدَ بِهَذا الشَّعْبِ ولَمْ تُطْلِعْنِي عَلى مَن تُرْسِلُ مَعِي وقُلْتَ: إنِّي قَدْ أطْلَعْتُكَ عَلى جَمِيعِ خَلائِقِي ومَجْدِي وظَفِرْتَ أيْضًا مِنِّي بِرَحْمَةٍ ورَأْفَةٍ، فالآنَ إنْ كُنْتُ قَدْ ظَفِرْتُ مِنكَ بِرَحْمَةٍ ورَأْفَةٍ فَأرِنِي طَرِيقَكَ حَتّى أعْرِفَكَ، فَقالَ الرَّبُّ لِمُوسى: سِرْ أمامِي فَأُواعِدُكَ وأُرِيحُكَ، فَقالَ لَهُ: إنْ أنْتَ لَمْ تَصْعَدْ بَيْنَنا فَلا تُصْعِدْنا مِن هَهُنا، فَبِماذا يَعْرِفُ أنِّي قَدْ ظَفِرْتُ مِنكَ بِرَحْمَةٍ ورَأْفَةٍ أنا وشَعْبُكَ إلّا إذا سِرْتَ بَيْنَنا فَنَكُونُ أنا وشَعْبُكَ مُنْفَصِلِينَ مَعْرُوفِينَ مِن جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلى وجْهِ الأرْضِ، فَقالَ الرَّبُّ لِمُوسى: إنِّي فاعِلٌ ما سَألْتَ، لِأنَّكَ ظَفِرْتَ مِنِّي بِرَحْمَةٍ ورَأْفَةٍ، وأُصَيِّرُ اسْمَكَ مَعْرُوفًا شَهِيرًا إلى الأبَدِ، فَقالَ لَهُ: أرِنِي مَجْدَكَ، فَقالَ: أنا أُجِيزُ جَمِيعَ مَجْدِي وكَرامَتِي بَيْنَ يَدَيْكَ ويُذْكَرُ اسْمُ الرَّبِّ أمامَكَ وأتَحَنَّنُ عَلى مَن أرَدْتُ التَّحَنُّنَ عَلَيْهِ وأرْحَمُ مَن أرَدْتُ أرْحَمُ، وقالَ: إنَّكَ لا تَقْدِرُ عَلى النَّظَرِ إلى وجْهِي، لِأنَّهُ لا يَرانِي بَشَرِيٌّ فَيَحْيا، وقالَ الرَّبُّ لِمُوسى: انْقُرْ لَوْحَيْ حِجارَةٍ مِثْلَ اللَّوْحَيْنِ الأوَّلَيْنِ اللَّذَيْنِ كَسَرْتَهُما وكُنْ مُسْتَعِدًّا بِالغَداةِ واصْعَدْ باكِرًا إلى الجَبَلِ جَبَلِ سَيْناءَ وقِفْ هُنالِكَ عَلى رَأْسِ الجَبَلِ، ولا يَصْعَدَنَّ أحَدٌ مَعَكَ، ولا يَرى أحَدٌ في جَمِيعِ الجَبَلِ، ولا تَرْتَعِي الغَنَمَ والبَقَرَ قُبالَةَ ذَلِكَ الجَبَلِ، فَنَقَرَ مُوسى لَوْحَيْنِ آخَرَيْنِ مِن حِجارَةٍ مِثْلَ الأوَّلَيْنِ وغَدا باكِرًا فَصَعِدَ إلى طُورِ سَيْناءَ كَما أمَرَهُ الرَّبُّ وأخَذَ اللَّوْحَيْنِ في يَدِهِ فَنَزَلَ (p-٤٤٦)اسْتِعْلانُ الرَّبِّ أمامَهُ، فَقالَ مُوسى: يا رَبُّ ! اللَّهُمَّ رَبِّي الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ الطَّوِيلُ الأناةِ والمَهْلِ الكَبِيرُ نِعْمَتُهُ وقِسْطُهُ حافِظُ النِّعْمَةِ والعَدْلِ إلى ألْفِ حِقْبٍ وتَغْفِرُ الذُّنُوبَ والإثْمَ والخَطايا، فاسْتَعْجَلَ مُوسى فَخَرَّ عَلى وجْهِهِ عَلى الأرْضِ ساجِدًا وقالَ: إنْ ظَفِرْتُ يا رَبُّ مِنكَ بِرَحْمَةٍ ورَأْفَةٍ فَلْيَسْلُكِ الرَّبُّ الآنَ بَيْنَنا.
لِأنَّ هَذا الشَّعْبَ هو شَعْبٌ قاسِيَةٌ رِقابُهم، واغْفِرْ ذُنُوبَنا وخَطايانا وخُبْثَ نِيّاتِنا؛ فَقالَ لَهُ: ها أنا ذا أعْهَدُ عَهْدًا أمامَ جَمِيعِ الشَّعْبِ وأُظْهِرُ عَجائِبَ لَمْ أُظْهِرْ مِثْلَها في الأرْضِ كُلِّها وفي جَمِيعِ الشُّعُوبِ فَيَرى ذَلِكَ جَمِيعُ هَذا الشَّعْبِ الَّذِي أنْتَ فِيهِ فِعْلَ الرَّبِّ الَّذِي أمَرَكَ بِهِ أنَّهُ مَخُوفٌ مَرْهُوبٌ، احْتَفِظْ بِما آمُرُكَ بِهِ في هَذا اليَوْمِ، ها أنا ذا أُقْبِلُ وأُبِيدُ مَن بَيْنَ يَدَيْكَ مِنَ الكَنْعانِيِّينَ - وسَمّى مَن تَقَدَّمَ، وكَرَّرَ النَّهْيَ عَنِ السُّجُودِ لِغَيْرِهِ سُبْحانَهُ، وأوْصى بِأشْياءَ مِنها الفَطِيرُ فَقالَ: واحْتَفِظْ بِعِيدِ الفَطِيرِ سَبْعَةَ أيّامٍ كَما أمَرْتُكَ في أوانِ شَهْرِ الفِقاجِ - وفي نُسْخَةٍ: الفَرِيكِ - لِأنَّكَ إنَّما خَرَجْتَ مِن مِصْرَ في شَهْرِ الفِقاجِ، ثُمَّ قالَ: فَمَكَثَ هُناكَ عِنْدَ الرَّبِّ أرْبَعِينَ يَوْمًا ولَيالِيَها لَمْ يَأْكُلْ طَعامًا ولَمْ يَشْرَبْ شَرابًا، وكَتَبَ اللَّهُ عَلى لَوْحَيِ الحِجارَةِ كَلامَ العَهْدِ وهو العَشْرُ الآياتِ، فَلَمّا هَبَطَ مُوسى مِن جَبَلِ سَيْناءَ كانَ لَوْحا الشَّهادَةِ في يَدِهِ ولَمْ يَعْلَمْ مُوسى أنَّ بَشَرَةَ وجْهِهِ قَدْ جُلِّلَتْ بِالبَهاءِ إذْ كَلَّمَهُ اللَّهُ فَنَظَرَ هارُونُ وجَمِيعُ بَنِي إسْرائِيلَ إلى وجْهِ مُوسى فَفَزِعُوا أنْ يَقْتَرِبُوا (p-٤٤٧)إلَيْهِ، فَدَعاهم فَأتاهُ هارُونُ وجَمِيعُ عُظَماءِ الجَماعَةِ وكَلَّمَهم مُوسى، فَلَمّا فَرَغَ مِن كَلامِهِ لَهم بَسَطَ عَلى وجْهِهِ جِلْبابًا وكانَ إذا دَخَلَ إلى الرَّبِّ لِيُكَلِّمَهُ يُسْفِرُ عَنْ وجْهِهِ حَتّى يَخْرُجَ، وكانَ يَخْرُجُ فَيَأْمُرُ بَنِي إسْرائِيلَ بِما يُؤْمَرُ بِهِ، وقالَ لَهم: إنَّ الرَّبَّ أمَرَ أنْ تَعْمَلَ عَمَلَكَ سِتَّةَ أيّامٍ واليَوْمُ السّابِعُ يَكُونُ مَخْصُوصًا مُقَدَّسًا، السَّبْتُ يَوْمُ راحَةِ قُدْسِ الرَّبِّ، ومَن عَمِلَ فِيهِ عَمَلًا فَلْيُقْتَلْ، ولا تُشْعِلُوا النّارَ في جَمِيعِ مَساكِنِكم يَوْمَ السَّبْتِ، ثُمَّ أمَرَهم تَعالى بِالزَّكاةِ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ والنُّحاسِ والقَزِّ والجُلُودِ وغَيْرِ ذَلِكَ وبِأشْياءَ يَزِيدُونَها في قُبَّةِ الزَّمانِ في أكْثَرَ مِن عَشْرِ ورَقاتٍ، وقالَ في آخِرِ ذَلِكَ: وقالَ الرَّبُّ لِمُوسى: انْصِبْ قُبَّةَ الزَّمانِ في أوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ الأوَّلِ؛ وصَيِّرْ تابُوتَ الشَّهادَةِ هُنالِكَ، وأسْبِلِ الجَلالَ عَلى التّابُوتِ - إلى أنْ قالَ: وادْنُ بِهارُونَ وبَنِيهِ إلى بابِ قُبَّةِ الأمَدِ واغْسِلْهم بِالماءِ، وألْبِسْ هارُونَ لِباسَ القُدْسِ وامْسَحْهُ فَلْيُكَهِّنْ لِي، وأدْنِ بَنِيهِ وألْبِسْهُمُ السَّراوِيلَ وامْسَحْهم كَما مَسَحْتَ هارُونَ أخاكَ فَلْيُكَهِّنُوا لِي، ولِيَكُنْ لَهم مَسْحُهم لِلْكَهَنُوتِ إلى الأبَدِ لِأحْقابِهِمْ، فَصَنَعَ مُوسى كَما أمَرَهُ اللَّهُ، فَلَمّا كانَ أوَّلُ يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ الأوَّلِ مِنَ السَّنَةِ الثّانِيَةِ نَصَبَ القُبَّةَ يَوْمَ الأحَدِ وضَرَبَ أوْتادَها ورَكَّبَ ألْواحَها (p-٤٤٨)وزَرْفَنَ عَوابِرَها ورَكَزَ أعْمِدَتَها وسَتَرَ السَّتْرَ عَلى القُبَّةِ وجَلَّلَها مِن فَوْقِها كَما أمَرَ الرَّبُّ، وتَناوَلَ الشَّهادَةَ فَوَضَعَها في التّابُوتِ، وصَيَّرَ الدُّهُوقَ في التّابُوتِ، ووَضَعَ التَّطْهِيرَ عَلى التّابُوتِ مِن فَوْقُ، وأدْخَلَ التّابُوتَ إلى القُبَّةِ، وأخَذَ حِجابَ وجْهِ البابِ فَجَلَّلَ تابُوتَ الشَّهادَةِ كَما أمَرَ الرَّبُّ، ونَصَبَ المَنارَةَ عِنْدَ حافّاتِ القُبَّةِ مِمّا يَلِي مَهَبَّ الشَّمالِ خارِجًا مِنَ الحِجابِ، ونَضَّدَ عَلَيْها صُفُوفَ الخُبْزِ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ كَما أمَرَ الرَّبُّ مُوسى، ونَصَبَ المَنارَةَ إزاءَ المائِدَةِ في حافّاتِ القُبَّةِ مِمّا يَلِي مَهَبَّ الجَنُوبِ، ودَلَّوْا مَصابِيحَها قُدّامَ الرَّبِّ كَما أمَرَ الرَّبُّ مُوسى، ونَصَبَ مَذْبَحَ الذَّهَبِ في قُبَّةِ الزَّمانِ خارِجًا مِنَ الحِجابِ، وبَخَّرَ عَلَيْهِ بَخُورَ الطِّيبِ كَما أمَرَ الرَّبُّ، وأسْبَلَ السِّتْرَ عَلى بابِ القُبَّةِ، ونَصَبَ مَذْبَحَ القَرابِينَ عَلى البابِ، وقَرَّبَ عَلَيْهِ القَرابِينَ كَما أمَرَ الرَّبُّ، ووَضَعَ السَّطْلَ بَيْنَ قُبَّةِ الزَّمانِ والمَذْبَحِ وسَكَبَ عَلَيْهِ ماءَ الغَسْلِ، وكانَ هارُونُ وبَنُوهُ يَغْسِلُونَ أيْدِيَهم وأقْدامَهم إذا أرادُوا الدُّخُولَ إلى قُبَّةِ الزَّمانِ، وكانُوا إذا دَنَوْا مِنَ المَذْبَحِ يَغْسِلُونَ أيْضًا كَما أمَرَ الرَّبُّ مُوسى، ونَصَبَ دارًا تُحِيطُ بِالقُبَّةِ والمَذْبَحِ، وأسْبَلَ السِّتْرَ عَلى بابِ الدّارِ، وكَمَّلَ مُوسى عَمَلَها؛ وتَغَشَّتِ السَّحابَةُ قُبَّةَ الزَّمانِ وامْتَلَأتِ القُبَّةُ مَجْدَ الرَّبِّ وكَرامَتَهُ، ولَمْ يَقْدِرْ مُوسى عَلى الدُّخُولِ إلى قُبَّةِ الزَّمانِ، لِأنَّ السَّحابَ حَلَّتْ عَلَيْها. (p-٤٤٩)وامْتَلَأتِ القُبَّةُ مَجْدَ الرَّبِّ وكَرامَتَهُ. فَكانَ إذا ارْتَفَعَ السَّحابُ عَنِ القُبَّةِ كانَ بَنُو إسْرائِيلَ يَظْعَنُونَ في جَمِيعِ مَظاعِنِهِمْ، وإنْ لَمْ تَرْتَفِعِ الغَمامَةُ لَمْ يَظْعَنُوا إلى اليَوْمِ الَّذِي تَرْتَفِعُ فِيهِ، لِأنَّ سَحابَ الرَّبِّ كانَ يَغْشى القُبَّةَ بِالنَّهارِ وكانَتِ النّارُ تُضِيءُ عَلَيْها بِاللَّيْلِ وتُزْهِرُ وتُنِيرُ أمامَ جَمِيعِ بَنِي إسْرائِيلَ في جَمِيعِ مَظاعِنِهِمْ. وقالَ في أوَّلِ السِّفْرِ الرّابِعِ: أمَرَ اللَّهُ بِإحْصاءِ بَنِي إسْرائِيلَ فَكانُوا مِن أبْناءِ عِشْرِينَ سَنَةً إلى ما فَوْقَها، مَن خَرَجَ مِنهم لِلْحَرْبِ في الأجْنادِ سِتُّمِائَةِ ألْفٍ وثَلاثَةُ آلافٍ وخَمْسُمِائَةٍ وخَمْسِينَ دُونَ سِبْطِ لاوى، فَإنَّهم لِحِفْظِ قُبَّةِ الزَّمانِ وخِدْمَتِها، وتَكُونُ مَنازِلُهم حَوْلَها مُحْدِقَةً بِها، وهم مِنِ ابْنِ شَهْرٍ إلى ما فَوْقَهُ اثْنانِ وعِشْرُونَ ألْفًا، ثُمَّ قالَ: وكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسى وقالَ لَهُ: إذا أتى عَلى الرَّجُلِ مِنَ الَّوِيِّينَ خَمْسَةٌ وعِشْرُونَ سَنَةً يَتَقَوّى عَلى أنْ يَعْمَلَ العَمَلَ في قُبَّةِ الزَّمانِ، فَإذا أتَتْ عَلَيْهِ خَمْسُونَ سَنَةً يَخْرُجُ مِنَ العَمَلِ ولا يَعْمَلْ عَمَلًا في قُبَّةِ الآمِدِ، وكانَ يَنْزِلُ بَنُو إسْرائِيلَ حَوْلَ بَنِي لاوى بِإنْزالِ اللَّهِ تَعالى لَهم، كُلٌّ لَهُ مَحَلٌّ مِنَ القُبَّةِ عَلى الِاسْتِدارَةِ، وكانَ يَنْزِلُ مِن مَشارِقِها مُوسى وهارُونُ وبَنُوهُ لِيَحْفَظُوا حِفاظَ القُدْسِ والقَرابِينَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ ومَن دَنا مِن قُبَّةِ الزَّمانِ وأعْمالِها مِنَ الغُرَباءِ يُؤْمَرُ بِقَتْلِهِ، فَقَدْ عُلِمَ مِن هَذا ومِمّا قَبْلَهُ مِن أنْ كُلًّا يُصَلِّي عَلى بابِ خَيْمَتِهِ أنَّ قِبْلَتَهم وهم في التِّيهِ قُبَّةُ الزَّمانِ، وفي اليَوْمِ الَّذِي نُصِبَ فِيهِ الخِباءُ أيْ في قُبَّةِ الزَّمانِ تَغَشَّتْ سَحابَةٌ مِن عِنْدِ الرَّبِّ قُبَّةَ الزَّمانِ وحِجابَ بابِ الشَّهادَةِ وكانُوا يَرَوْنَ (p-٤٥٠)فِي الخِباءِ عِنْدَ المَساءِ نارًا تَتَوَقَّدُ إلى الصَّباحِ، كَذَلِكَ كانَ يَكُونُ في الخِباءِ دائِمًا وكانَتْ تَغْشاهُ سَحابَةٌ بِالنَّهارِ وتُرى فِيهِ نارٌ بِاللَّيْلِ، فَإذا ارْتَفَعَتِ السَّحابَةُ عَنِ القُبَّةِ ارْتَحَلَ بَنُو إسْرائِيلَ مِن مَواضِعِهِمْ وحَيْثُ ما نَزَلَتِ السَّحابَةُ هُناكَ كانَ يَنْزِلُ بَنُو إسْرائِيلَ، وإنَّما كانَ ارْتِحالُ بَنِي إسْرائِيلَ عَنْ قَوْلِ الرَّبِّ وبِأمْرِهِ، فَرُبَّما مَكَثَتِ السَّحابَةُ عَلى القُبَّةِ مِنَ المَساءِ حَتّى الصَّباحِ وتَرْتَفِعُ بَعْدَ الصُّبْحِ فَيَرْتَحِلُونَ، ورُبَّما مَكَثَتِ اللَّيْلَ والنَّهارَ ورُبَّما مَكَثَتْ أيّامًا وأشْهُرًا ورُبَّما مَكَثَتْ سَنَةً، وكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسى وقالَ لَهُ: اتَّخِذْ قَرْنَيْنِ مِن فِضَّةٍ يَكُونانِ عِنْدَ حُضُورِ الجَماعَةِ وارْتِحالِ العَسْكَرِ يَهْتِفُ بِهِما الكَهَنَةُ، فَتَحْشِدُ إلَيْكَ جَماعَةُ بَنِي إسْرائِيلَ أجْمَعُونَ إلى بابِ قُبَّةِ الزَّمانِ، وإنْ نُفِخَ في واحِدٍ اجْتَمَعَ إلَيْكَ القُوّادُ ورُؤَساءُ الأُلُوفِ، ولَمّا كانَ في السَّنَةِ الثّانِيَةِ في عَشْرٍ خَلَوْنَ مِنَ الشَّهْرِ الثّانِي ارْتَفَعَتِ السَّحابَةُ عَنْ قُبَّةِ الشَّهادَةِ، وارْتَحَلَ بَنُو إسْرائِيلَ مِن بَرِّيَّةِ سَيْناءَ.
ونَزَلَتِ السَّحابَةُ في قَفْرِ فارّانَ، ثُمَّ قالَ: وارْتَحَلُوا مِن عِنْدِ جَبَلِ الرَّبِّ مَسِيرَةَ ثَلاثَةِ أيّامٍ، فَأمّا تابُوتُ عَهْدِ الرَّبِّ فَظَعَنَ قَبْلَهم مَسِيرَةَ يَوْمٍ لِيُهَيِّءَ مَنزِلًا، وكانَتْ تُظِلُّهم سَحابَةٌ مِن قِبَلِ الرَّبِّ إذا ارْتَحَلُوا لِئَلّا تُؤْذِيهِمْ حَرارَةُ الشَّمْسِ، فَلَمّا ارْتَحَلَ (p-٤٥١)حامِلُو التّابُوتِ قالَ مُوسى: انْهَضْ إلَيْنا يا رَبُّ لِيَنْكَسِرْ شانِئُكَ ويَبِيدَ أعْداؤُكَ مِن بَيْنِ يَدَيْكَ، وإذا نَزَلَ حَمَلَةُ التّابُوتِ قالَ: أقْبَلَ يا رَبُّ إلَيَّ أُلُوفُ بَنِي إسْرائِيلَ، فَتَذَمَّرَ الشَّعْبُ وساءَ الرَّبَّ ذَلِكَ وغَضِبَ وسَمِعَ تَوَشْوُشَهم فاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِمْ واشْتَعَلَتْ فِيهِمْ نارٌ مِن قِبَلِ الرَّبِّ، فَأحْرَقَتِ الَّذِي في أطْرافِ العَسْكَرِ وحَوْلَهُ، وضَجَّ الشَّعْبُ عَلى مُوسى فَصَلّى مُوسى أمامَ الرَّبِّ وخَمَدَتِ النّارُ، ودَعا اسْمَ ذَلِكَ المَوْضِعِ الِاحْتِراقَ، لِأنَّ نارَ الرَّبِّ اشْتَعَلَتْ فِيهِمْ وأحْرَقَتْهم هُناكَ، واشْتَهى الخَلْطُ الَّذِينَ كانُوا فِيهِمْ مِنَ الشُّعُوبِ شَهْوَةً وأقْبَلُوا عَلى بَنِي إسْرائِيلَ وقالُوا: لَيْتَ أنّا وجَدْنا مَن يُطْعِمُنا لَحْمًا ! ذَكَّرَنا السَّمَكَ الَّذِي كُنّا نَأْكُلُهُ بِمِصْرَ وأكَلْنا القِثّاءَ والبِطِّيخَ والكُرّاثَ والبَصَلَ والثُّومَ والآنَ أنْفُسُنا قَرْمَةٌ - أيْ يابِسَةٌ - لا تَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ نَأْكُلُهُ ما خَلا هَذا المَنَّ الَّذِي قُدّامَ أعْيُنِنا، وسَمِعَ مُوسى الشَّعْبَ يَبْكُونَ في قَبائِلِهِمْ، كُلُّ إنْسانٍ عَلى بابِ خَيْمَتِهِ، واشْتَدَّ غَضَبُ الرَّبِّ، وشَقَّ ذَلِكَ عَلى مُوسى أيْضًا، ثُمَّ قالَ مِن أيْنَ أقْدِرُ أُعْطِي هَذِهِ الأُمَّةَ كُلَّها لَحْمًا ؟ إنَّها تَبْكِي عَلَيَّ وتَقُولُ: أعْطِنا (p-٤٥٢)لَحْمًا، لَسْتُ أقْدِرُ أحْتَمِلُ هَذِهِ الأُمَّةَ كُلَّها وحْدِي، لِأنَّها أقْوى مِنِّي، إنْ كانَ فِعْلُكَ هَذا بِي فاقْتُلْنِي قَتْلًا إنْ وافَيْتُ مِنكَ رَحْمَةً ولا أُعايِنُ شَرًّا ولا أرى سُوءً.
فَقالَ الرَّبُّ لِمُوسى: اجْمَعْ سَبْعِينَ شَيْخًا مِن أشْياخِ بَنِي إسْرائِيلَ الَّذِينَ تَعْلَمُ أنَّهم رُؤَساءُ الشَّعْبِ وكُتّابُهُ وانْطَلِقْ بِهِمْ إلى قُبَّةِ الزَّمانِ فَإنِّي أنْزِلُ إلَيْكَ وأُكَلِّمُكَ هُناكَ وأنْقُصُ مِن عَطِيَّةِ الرُّوحِ الَّتِي عَلَيْكَ وأُصَيِّرُهُ عَلَيْهِمْ لِيَحْمِلُوا أثْقُلَ هَذا الشَّعْبِ ولا يَتْرُكُوكَ وحْدَكَ، ثُمَّ قالَ مُوسى لِلشَّعْبِ: تَهَيَّؤُوا غَدًا لِتَأْكُلُوا لَحْمًا، لِأنَّكم بَكَيْتُمْ أمامَ الرَّبِّ وقُلْتُمْ: لَيْتَ مَن يُطْعِمُنا لَحْمًا ! وإنَّ المَوْتَ بِأرْضِ مِصْرَ خَيْرٌ لَنا، فَسَيُعْطِيكُمُ الرَّبُّ لَحْمًا ولَيْسَ إنَّما تَأْكُلُونَ مِنهُ يَوْمًا أوْ يَوْمَيْنِ بَلْ تَأْكُلُونَ مِنهُ شَهْرًا حَتّى يَخْرُجَ مِن أُنُوفِكم وتُصِيبَكم مِنهُ تُخَمَةٌ، وجَمَعَ سَبْعِينَ شَيْخًا مِن مَشايِخِ الشَّعْبِ وأقامَهم حَوْلَ الخِباءِ، ونَزَلَ الرَّبُّ سُبْحانَهُ وكَلَّمَهُ وأخَذَ مِنَ الرُّوحِ الَّذِي عَلَيْهِ وصَيَّرَهُ عَلى السَّبْعِينَ، ودَخَلَ مُوسى العَسْكَرَ هو وأشْياخُ بَنِي إسْرائِيلَ، وهَبَّتْ رِيحٌ مِن قِبَلِ الرَّبِّ وأصْعَدَتِ السَّلْوى مِنَ البُحُورِ وألْقَتْهُ عَلى العَسْكَرِ ومَسِيرَةَ يَوْمٍ يَمْنَةً ويَسْرَةً حَوْلَ (p-٤٥٣)العَسْكَرِ وكانَ مُرْتَفِعًا مِنَ الأرْضِ نَحْوَ ذِراعَيْنِ، وجَمَعُوا ونَشَرُوا حَوْلَ العَسْكَرِ لِيَكُونَ لَهم قَدِيدًا، فَبَيْنا اللَّحْمُ بَيْنَ أسْنانِهِمْ قَبْلَ أنْ يَنْقَلِعَ اشْتَدَّ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَيْهِمْ وضَرَبَ الشَّعْبَ ضَرْبَةً عَظِيمَةً جِدًّا ودَعا اسْمَ ذَلِكَ المَوْضِعِ قُبُورَ الشَّهْوَةِ، وارْتَحَلَ الشَّعْبُ مِن قُبُورِ الشَّهْوَةِ فَأتَوْا حَصْرُوثَ ونَزَلُوها، وذَكَرَ أنَّهم مَكَثُوا هُنالِكَ سَبْعَةَ أيّامٍ ثُمَّ قالَ: ثُمَّ ارْتَحَلَ الشَّعْبُ مِن حَصْرُوثَ ونَزَلُوا مَفازَةَ فارّانَ وكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسى وقالَ لَهُ: أرْسِلْ قَوْمًا يَحْسِبُونَ الأرْضَ الَّتِي أُعْطِي بَنِي إسْرائِيلَ - فَذَكَرَ إرْسالَ النُّقَباءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ كَما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى في سُورَةِ المائِدَةِ ثُمَّ قالَ: ورَجَعُوا إلى مُوسى بَعْدَ أرْبَعِينَ يَوْمًا، فَأتَوْا مُوسى وهارُونَ وجَماعَةَ بَنِي إسْرائِيلَ إلى بَرِّيَّةِ فارانَ إلى رَقِيمٍ - انْتَهى شَرْحُ ما أُشِيرَ إلَيْهِ في هَذِهِ السُّورَةِ مِن قِصَصِ بَنِي إسْرائِيلَ مِنَ التَّوْراةِ.
{"ayah":"وَإِذۡ قُلۡتُمۡ یَـٰمُوسَىٰ لَن نَّصۡبِرَ عَلَىٰ طَعَامࣲ وَ ٰحِدࣲ فَٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ یُخۡرِجۡ لَنَا مِمَّا تُنۢبِتُ ٱلۡأَرۡضُ مِنۢ بَقۡلِهَا وَقِثَّاۤىِٕهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَاۖ قَالَ أَتَسۡتَبۡدِلُونَ ٱلَّذِی هُوَ أَدۡنَىٰ بِٱلَّذِی هُوَ خَیۡرٌۚ ٱهۡبِطُوا۟ مِصۡرࣰا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلۡتُمۡۗ وَضُرِبَتۡ عَلَیۡهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلۡمَسۡكَنَةُ وَبَاۤءُو بِغَضَبࣲ مِّنَ ٱللَّهِۗ ذَ ٰلِكَ بِأَنَّهُمۡ كَانُوا۟ یَكۡفُرُونَ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ وَیَقۡتُلُونَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ بِغَیۡرِ ٱلۡحَقِّۗ ذَ ٰلِكَ بِمَا عَصَوا۟ وَّكَانُوا۟ یَعۡتَدُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











