الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَيْسَ عَلى الأعْمى حَرَجٌ ولا عَلى الأعْرَجِ حَرَجٌ ولا عَلى المَرِيضِ حَرَجٌ ولا عَلى أنْفُسِكم أنْ تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكم أوْ بُيُوتِ آبائِكم أوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكم أوْ بُيُوتِ إخْوانِكم أوْ بُيُوتِ أخَواتِكم أوْ بُيُوتِ أعْمامِكم أوْ بُيُوتِ عَمّاتِكم أوْ بُيُوتِ أخْوالِكم أوْ بُيُوتِ خالاتِكم أوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أوْ صَدِيقِكم لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أوْ أشْتاتًا فَإذا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلى أنْفُسِكم تَحِيَّةً مِن عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ . اعْلَمْ أنَّ في الآيَةِ مَسائِلَ: المسألة الأُولى: اخْتَلَفُوا في المُرادِ مِن رَفْعِ الحَرَجِ عَنِ الأعْمى والأعْرَجِ والمَرِيضِ، فَقالَ ابْنُ زَيْدٍ: المُرادُ أنَّهُ لا حَرَجَ عَلَيْهِمْ ولا إثْمَ في تَرْكِ الجِهادِ، وقالَ الحَسَنُ نَزَلَتِ الآيَةُ في ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، وضَعَ اللَّهُ الجِهادَ عَنْهُ وكانَ أعْمى، وهَذا القَوْلُ ضَعِيفٌ لِأنَّهُ تَعالى عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿أنْ تَأْكُلُوا﴾ فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلى أنَّهُ إنَّما رُفِعَ الحَرَجُ في ذَلِكَ، وقالَ الأكْثَرُونَ المُرادُ مِنهُ أنَّ القَوْمَ كانُوا يَحْظَرُونَ الأكْلَ مَعَ هَؤُلاءِ الثَّلاثَةِ وفي هَذِهِ المَنازِلِ، فاللَّهُ تَعالى رَفَعَ ذَلِكَ الحَظْرَ وأزالَهُ، واخْتَلَفُوا في أنَّهم لِأيِّ سَبَبٍ اعْتَقَدُوا ذَلِكَ الحَظْرَ، أمّا في حَقِّ الأعْمى والأعْرَجِ والمَرِيضِ فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أحَدُها: أنَّهم كانُوا لا يَأْكُلُونَ مَعَ الأعْمى لِأنَّهُ لا يُبْصِرُ الطَّعامَ الجَيِّدَ فَلا يَأْخُذُهُ، ولا مَعَ الأعْرَجِ لِأنَّهُ لا يَتَمَكَّنُ مِنَ الجُلُوسِ، فَإلى أنْ يَأْكُلَ لُقْمَةً يَأْكُلُ غَيْرُهُ لُقْمَتَيْنِ، وكَذا المَرِيضُ لِأنَّهُ لا يَتَأتّى لَهُ أنْ يَأْكُلَ كَما يَأْكُلُ الصَّحِيحُ، قالَ الفَرّاءُ: فَعَلى هَذا التَّأْوِيلِ تَكُونُ ”عَلى“ بِمَعْنى ”فِي“ يَعْنِي لَيْسَ عَلَيْكم في مُواكَلَةٍ هَؤُلاءِ حَرَجٌ. وثانِيها: أنَّ العُمْيانَ والعُرْجانَ والمَرْضى تَرَكُوا مُواكَلَةَ الأصِحّاءِ، أمّا الأعْمى فَقالَ: إنِّي لا أرى شَيْئًا فَرُبَّما آخُذُ الأجْوَدَ وأتْرُكُ الأرْدَأ، وأمّا الأعْرَجُ والمَرِيضُ فَخافا أنْ يُفْسِدا الطَّعامَ عَلى الأصِحّاءِ لِأُمُورٍ تَعْتَرِي المَرْضى، ولِأجْلِ أنَّ الأصِحّاءَ يَتَكَرَّهُونَ مِنهم، ولِأجْلِ أنَّ المَرِيضَ رُبَّما حَمَلَهُ الشَّرَهُ عَلى أنْ يَتَعَلَّقَ نَظَرُهُ وقَلْبُهُ بِلُقْمَةِ الغَيْرِ، وذَلِكَ مِمّا يَكْرَهُهُ ذَلِكَ الغَيْرُ، فَلِهَذِهِ الأسْبابِ احْتَرَزُوا عَنْ مُواكَلَةِ الأصِحّاءِ، فاللَّهُ تَعالى أطْلَقَ لَهم في ذَلِكَ. وثالِثُها: رَوى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ وعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّ المُسْلِمِينَ كانُوا إذا غَزَوْا خَلَّفُوا زَمْناهم وكانُوا يُسَلِّمُونَ إلَيْهِمْ مَفاتِيحَ أبْوابِهِمْ ويَقُولُونَ لَهم قَدْ أحْلَلْنا لَكم أنْ تَأْكُلُوا مِمّا في بُيُوتِنا، فَكانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِن ذَلِكَ، قالُوا: لا نَدْخُلُها وهم غائِبُونَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ رُخْصَةً لَهم، وهَذا قَوْلُ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، فَعَلى هَذا مَعْنى الآيَةِ نَفْيُ الحَرَجِ عَنِ الزَّمْنى في أكْلِهِمْ مِن بَيْتِ مَن يَدْفَعُ إلَيْهِمُ المِفْتاحَ إذا خَرَجَ إلى الغَزْوِ. ورابِعُها: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُقاتِلِ بْنِ حَيّانَ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في الحارِثِ بْنِ عَمْرٍو وذَلِكَ أنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ غازِيًا، وخَلَّفَ ابْنَ مالِكِ بْنِ زَيْدٍ عَلى أهْلِهِ فَلَمّا رَجَعَ وجَدَهُ مَجْهُودًا، فَسَألَهُ عَنْ حالِهِ، فَقالَ: تَحَرَّجْتُ أنْ آكُلَ مِن طَعامِكَ بِغَيْرِ إذْنِكَ. وأمّا في حَقِّ سائِرِ النّاسِ فَذَكَرُوا وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: كانَ المُؤْمِنُونَ يَذْهَبُونَ بِالضُّعَفاءِ وذَوِي العاهاتِ إلى بُيُوتِ أزْواجِهِمْ وأوْلادِهِمْ وقَراباتِهِمْ وأصْدِقائِهِمْ فَيُطْعِمُونَهم مِنها، فَلَمّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ إلّا أنْ تَكُونَ تِجارَةً﴾ [النِّساءِ: ٢٩] أيْ بَيْعًا فَعِنْدَ ذَلِكَ امْتَنَعَ النّاسُ أنْ يَأْكُلَ بَعْضُهم مِن طَعامِ بَعْضٍ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. الثّانِي: قالَ قَتادَةُ: كانَتِ الأنْصارُ في أنْفُسِها قَزازَةٌ، وكانَتْ لا تَأْكُلُ مِن هَذِهِ البُيُوتِ إذا (p-٣٢)اسْتَغْنَوْا، قالَ السُّدِّيُّ: كانَ الرَّجُلُ يَدْخُلُ بَيْتَ أبِيهِ أوْ بَيْتَ أخِيهِ أوْ أُخْتِهِ فَتُتْحِفُهُ المَرْأةُ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّعامِ فَيَتَحَرَّجُ، لِأنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ رَبُّ البَيْتِ. فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الرُّخْصَةَ. المسألة الثّانِيَةُ: قالَ الزَّجّاجُ: الحَرَجُ في اللُّغَةِ الضِّيقُ، ومَعْناهُ في الدِّينِ الإثْمُ. المسألة الثّالِثَةُ: أنَّهُ سُبْحانَهُ أباحَ الأكْلَ لِلنّاسِ مِن هَذِهِ المَواضِعِ، وظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ إباحَةَ الأكْلِ لا تَتَوَقَّفُ عَلى الِاسْتِئْذانِ، واخْتَلَفَ العُلَماءُ فِيهِ فَنُقِلَ عَنْ قَتادَةَ أنَّ الأكْلَ مُباحٌ ولَكِنْ لا يَجْمُلُ، وجُمْهُورُ العُلَماءِ أنْكَرُوا ذَلِكَ ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلى وُجُوهٍ: الأوَّلُ: كانَ ذَلِكَ في صَدْرِ الإسْلامِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «لا يَحِلُّ مالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنهُ» ومِمّا يَدُلُّ عَلى هَذا النَّسْخِ قَوْلُهُ: ﴿لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلّا أنْ يُؤْذَنَ لَكم إلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إناهُ﴾ [الأحْزابِ: ٥٣] وكانَ في أزْواجِ النَّبِيِّ ﷺ مَن لَهُنَّ الآباءُ والإخْوَةُ والأخَواتُ، فَعَمَّ بِالنَّهْيِ عَنْ دُخُولِ بُيُوتِهِنَّ إلّا بَعْدَ الإذْنِ في الدُّخُولِ وفي الأكْلِ، فَإنْ قِيلَ إنَّما أذِنَ تَعالى في هَذا لِأنَّ المُسْلِمِينَ لَمْ يَكُونُوا يَمْنَعُونَ قَراباتِهِمْ هَؤُلاءِ مِن أنْ يَأْكُلُوا مِن بُيُوتِهِمْ حَضَرُوا أوْ غابُوا، فَجازَ أنْ يُرَخِّصَ في ذَلِكَ، قُلْنا: لَوْ كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ هَؤُلاءِ الأقارِبِ بِالذِّكْرِ مَعْنًى؛ لَأنَّ غَيْرَهم كَهم في ذَلِكَ. الثّانِي: قالَ أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ: المُرادُ مِن هَؤُلاءِ الأقارِبِ إذا لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى نَهى مِن قَبْلُ عَنْ مُخالَطَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَن حادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ [المُجادَلَةِ: ٢٢] ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ أباحَ في هَذِهِ الآيَةِ ما حَظَرَهُ هُناكَ، قالَ: ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ في هَذِهِ السُّورَةِ أمْرٌ بِالتَّسْلِيمِ عَلى أهْلِ البُيُوتِ فَقالَ: ﴿حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وتُسَلِّمُوا عَلى أهْلِها﴾ وفي بُيُوتِ هَؤُلاءِ المَذْكُورِينَ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ، بَلْ أمَرَ أنْ يُسَلِّمُوا عَلى أنْفُسِهِمْ، والحاصِلُ أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذِهِ الآيَةِ إثْباتُ الإباحَةِ في الجُمْلَةِ، لا إثْباتُ الإباحَةِ في جَمِيعِ الأوْقاتِ. الثّالِثُ: أنَّهُ لَمّا عَلِمَ بِالعادَةِ أنَّ هَؤُلاءِ القَوْمَ تَطِيبُ أنْفُسُهم بِأكْلِ مَن يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ والعادَةُ كالإذْنِ في ذَلِكَ، فَيَجُوزُ أنْ يُقالَ خَصَّهُمُ اللَّهُ بِالذِّكْرِ؛ لِأنَّ هَذِهِ العادَةَ في الأغْلَبِ تُوجَدُ فِيهِمْ، ولِذَلِكَ ضَمَّ إلَيْهِمُ الصَّدِيقَ، ولَمّا عَلِمْنا أنَّ هَذِهِ الإباحَةَ إنَّما حَصَلَتْ في هَذِهِ الصُّورَةِ لِأجْلِ حُصُولِ الرِّضا فِيها، فَلا حاجَةَ إلى القَوْلِ بِالنَّسْخِ. * * * المسألة الرّابِعَةُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى ذَكَرَ أحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا في هَذِهِ الآيَةِ: أوَّلُها: قَوْلُهُ: ﴿ولا عَلى أنْفُسِكم أنْ تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ﴾ وفِيهِ سُؤالٌ وهو أنْ يُقالَ أيُّ فائِدَةٍ في إباحَةِ أكْلِ الإنْسانِ طَعامَهُ في بَيْتِهِ ؟ وجَوابُهُ: المُرادُ في بُيُوتِ أزْواجِكم وعِيالِكم أضافَهُ إلَيْهِمْ، لِأنَّ بَيْتَ المَرْأةِ كَبَيْتِ الزَّوْجِ، وهَذا قَوْلُ الفَرّاءِ. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أرادَ بُيُوتَ أوْلادِهِمْ فَنَسَبَ بُيُوتَ الأوْلادِ إلى الآباءِ؛ لِأنَّ الوَلَدَ كَسْبُ والِدِهِ ومالُهُ كَمالِهِ، قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «إنَّ أطْيَبَ ما يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِن كَسْبِهِ، وإنَّ ولَدَهُ مِن كَسْبِهِ» والدَّلِيلُ عَلى هَذا أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عَدَّدَ الأقارِبَ ولَمْ يَذْكُرِ الأوْلادَ؛ لِأنَّهُ إذا كانَ سَبَبُ الرُّخْصَةِ هو القَرابَةُ كانَ الَّذِي هو أقْرَبُ مِنهم أوْلى. وثانِيها: بُيُوتُ الآباءِ. وثالِثُها: بُيُوتُ الأُمَّهاتِ. ورابِعُها: بُيُوتُ الإخْوانِ. وخامِسُها: بُيُوتُ الأخَواتِ. وسادِسُها: بُيُوتُ الأعْمامِ. وسابِعُها: بُيُوتُ العَمّاتِ. وثامِنُها: بُيُوتُ الأخْوالِ. وتاسِعُها: بُيُوتُ الخالاتِ. وعاشِرُها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ﴾ وقُرِئَ ”مِفْتاحَهُ“ وفِيهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: وكِيلُ الرَّجُلِ وقَيِّمُهُ في ضَيْعَتِهِ وماشِيَتِهِ، لا بَأْسَ عَلَيْهِ أنْ يَأْكُلَ مِن ثَمَرِ ضَيْعَتِهِ، ويَشْرَبَ مِن لَبَنِ ماشِيَتِهِ، ومِلْكُ المَفاتِحِ كَوْنُها في يَدِهِ وفي حِفْظِهِ. الثّانِي: قالَ الضَّحّاكُ: يُرِيدُ الزَّمْنى الَّذِينَ كانُوا يَحْرُسُونَ لِلْغُزاةِ. الثّالِثُ: المُرادُ بُيُوتُ المَمالِيكِ لِأنَّ (p-٣٣)مالَ العَبْدِ لِمَوْلاهُ، قالَ الفَضْلُ: المَفاتِحُ واحِدُها مَفْتَحٌ بِفَتْحِ المِيمِ، وواحِدُ المَفاتِيحِ مِفْتَحٌ بِالكَسْرِ. الحادِي عَشَرَ: قَوْلُهُ: ﴿أوْ صَدِيقِكُمْ﴾ والمَعْنى أوْ بُيُوتِ أصْدِقائِكم، والصَّدِيقُ يَكُونُ واحِدًا وجَمْعًا، وكَذَلِكَ الخَلِيطُ والقَطِينُ والعَدُّ، ويُحْكى عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ دَخَلَ دارَهُ وإذا حَلْقَةٌ مِن أصْدِقائِهِ وقَدْ أخْرَجُوا سِلالًا مِن تَحْتِ سَرِيرِهِ فِيها الخَبِيصُ وأطايِبُ الأطْعِمَةِ وهم مُكِبُّونَ عَلَيْها يَأْكُلُونَ، فَتَهَلَّلَتْ أسارِيرُ وجْهِهِ سُرُورًا وضَحِكَ وقالَ: هَكَذا وجَدْناهم يُرِيدُ كُبَراءَ الصَّحابَةِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: الصَّدِيقُ أكْثَرُ مِنَ الوالِدَيْنِ، لِأنَّ أهْلَ الجَنَّةِ لَمّا اسْتَغاثُوا لَمْ يَسْتَغِيثُوا بِالآباءِ والأُمَّهاتِ بَلْ بِالأصْدِقاءِ، فَقالُوا: ما لَنا مِن شافِعِينَ ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ، وحُكِيَ أنَّ أخًا لِلرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ في اللَّهِ دَخَلَ مَنزِلَهُ في حالِ غَيْبَتِهِ فانْبَسَطَ إلى جارِيَتِهِ حَتّى قَدَّمَتْ إلَيْهِ ما أكَلَ، فَلَمّا عادَ أخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ، فَلِسُرُورِهِ بِذَلِكَ قالَ إنْ صَدَقْتِ فَأنْتِ حُرَّةٌ. * * * المسألة الخامِسَةُ: احْتَجَّ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى أنَّ مَن سَرَقَ مِن ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ أنَّهُ لا يُقْطَعُ لِإباحَةِ اللَّهِ تَعالى بِهَذِهِ الآيَةِ الأكْلَ مِن بُيُوتِهِمْ ودُخُولِها بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، فَلا يَكُونُ مالُهُ مُحْرَزًا مِنهم، فَإنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُ أنْ لا يُقْطَعَ إذا سَرَقَ مِن مالِ صَدِيقِهِ، قُلْنا مَن أرادَ سَرِقَةَ مالِهِ لا يَكُونُ صَدِيقًا لَهُ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أوْ أشْتاتًا﴾ فَقالَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ: نَزَلَتِ الآيَةُ في بَنِي لَيْثِ بْنِ عَمْرٍو وهم حَيٌّ مِن كِنانَةَ، كانَ الرَّجُلُ مِنهم لا يَأْكُلُ وحْدَهُ يَمْكُثُ يَوْمَهُ فَإنْ لَمْ يَجِدْ مَن يُؤاكِلُهُ لَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا، ورُبَّما كانَتْ مَعَهُ الإبِلُ الحُفَّلُ فَلا يَشْرَبُ مِن ألْبانِها حَتّى يَجِدَ مَن يُشارِبُهُ، فَأعْلَمَ اللَّهُ تَعالى أنَّ الرَّجُلَ إذا أكَلَ وحْدَهُ لا حَرَجَ عَلَيْهِ، هَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، وقالَ عِكْرِمَةُ وأبُو صالِحٍ رَحِمَهُما اللَّهُ: كانَتِ الأنْصارُ إذا نَزَلَ بِواحِدٍ مِنهم ضَيْفٌ لَمْ يَأْكُلْ إلّا وضَيْفُهُ مَعَهُ، فَرَخَّصَ اللَّهُ لَهم أنْ يَأْكُلُوا كَيْفَ شاءُوا مُجْتَمِعِينَ ومُتَفَرِّقِينَ. وقالَ الكَلْبِيُّ: كانُوا إذا اجْتَمَعُوا لِيَأْكُلُوا طَعامًا عَزَلُوا لِلْأعْمى طَعامًا عَلى حِدَةٍ، وكَذَلِكَ لِلزَّمِنِ والمَرِيضِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهم أنَّ ذَلِكَ غَيْرُ واجِبٍ، وقالَ آخَرُونَ: كانُوا يَأْكُلُونَ فُرادى خَوْفًا مِن أنْ يَحْصُلَ عِنْدَ الجَمْعِيَّةِ ما يُنَفِّرُ أوْ يُؤْذِي، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعالى أنَّهُ غَيْرُ واجِبٍ وقَوْلُهُ: ﴿جَمِيعًا﴾ نُصِبَ عَلى الحالِ ﴿أوْ أشْتاتًا﴾ جَمْعُ شَتٍّ، وشَتّى جَمْعُ شَتِيتٍ، وشَتّانَ تَثْنِيَةُ شَتٍّ، قالَهُ المُفَضَّلُ، وقِيلَ: الشَّتُّ مَصْدَرٌ بِمَعْنى التَّفَرُّقِ، ثُمَّ يُوصَفُ بِهِ ويُجْمَعُ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإذا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ فالمَعْنى أنَّهُ تَعالى جَعَلَ أنْفُسَ المُسْلِمِينَ كالنَّفْسِ الواحِدَةِ عَلى مِثالِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [النِّساءِ: ٢٩] قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: فَإنْ لَمْ يَكُنْ أحَدٌ فَعَلى نَفْسِهِ لِيَقُلِ: السَّلامُ عَلَيْنا مِن قِبَلِ رَبِّنا، وإذا دَخَلَ المَسْجِدَ فَلْيَقُلِ: السَّلامُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ وعَلَيْنا مِن رَبِّنا. قالَ قَتادَةُ: وحُدِّثْنا أنَّ المَلائِكَةَ تَرُدُّ عَلَيْهِ. قالَ القَفّالُ: وإنْ كانَ في البَيْتِ أهْلُ الذِّمَّةِ فَلْيَقُلِ: السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الهُدى، وقَوْلُهُ ﴿تَحِيَّةً﴾ نُصِبَ عَلى المَصْدَرِ، كَأنَّهُ قالَ: فَحَيُّوا تَحِيَّةً مِن عِنْدِ اللَّهِ، أيْ مِمّا أمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: مَن قالَ السَّلامُ عَلَيْكم مَعْناهُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْكم، وقَوْلُهُ: ﴿مُبارَكَةً طَيِّبَةً﴾ قالَ الضَّحّاكُ: مَعْنى البَرَكَةِ فِيهِ تَضْعِيفُ الثَّوابِ. وقالَ الزَّجّاجُ: أعْلَمَ اللَّهُ سُبْحانَهُ أنَّ السَّلامَ مُبارَكٌ ثابِتٌ لِما فِيهِ مِنَ الأجْرِ والثَّوابِ، وأنَّهُ إذا أطاعَ اللَّهَ فِيهِ أكْثَرَ خَيْرَهُ وأجْزَلَ أجْرَهُ ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ﴾ أيْ يُفَصِّلُ اللَّهُ شَرائِعَهُ (p-٣٤)لَكم ﴿لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ لِتَفْهَمُوا عَنِ اللَّهِ أمْرَهُ ونَهْيَهُ، ورَوى حُمَيْدٌ عَنْ أنَسٍ قالَ: " «خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَشْرَ سِنِينَ فَما قالَ لِي في شَيْءٍ فَعَلْتُهُ لِمَ فَعَلْتَهُ ولا قالَ لِي في شَيْءٍ تَرَكْتُهُ لِمَ تَرَكْتَهُ، وكُنْتُ واقِفًا عَلى رَأْسِ النَّبِيِّ ﷺ أصُبُّ الماءَ عَلى يَدَيْهِ فَرَفَعَ رَأسَهُ إلَيَّ وقالَ: ألا أُعَلِّمُكَ ثَلاثَ خِصالٍ تَنْتَفِعُ بِهِنَّ ؟ قُلْتُ: بِأبِي وأُمِّي أنْتَ يا رَسُولَ اللَّهِ بَلى، فَقالَ: مَن لَقِيتَ مِن أُمَّتِي فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ يَطُلْ عُمْرُكَ، وإذا دَخَلْتَ بَيْتًا فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ يَكْثُرْ خَيْرُ بَيْتِكَ، وصَلِّ صَلاةَ الضُّحى فَإنَّها صَلاةُ الأوّابِينَ» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب