كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوى العاهات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم وإلى بيوت قراباتهم وأصدقائهم فيطعمونهم منها، فخالج قلوب المطعمين والمطعمين ريبة في ذلك، وخافوا أن يلحقهم فيه حرج، وكرهوا أن يكون أكلا بغير حق، لقوله تعالى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ فقيل لهم: ليس على الضعفاء ولا على أنفسكم، يعنى: عليكم وعلى من في مثل حالكم من المؤمنين حرج في ذلك. وعن عكرمة: كانت الأنصار في أنفسها قزازة [[قوله «في أنفسها قزازة» في الصحاح «القزازة» التنطس والتباعد عن الدنس. وفيه «التنطس» المبالغة في التطهر. (ع)]] . فكانت لا تأكل من هذه البيوت إذا استغنوا. وقيل: كان هؤلاء يتوقون مجالسة الناس ومؤاكلتهم لما عسى يؤدى إلى الكراهة من قبلهم، ولأنّ الأعمى ربما سبقت يده إلى ما سبقت عين أكيله إليه وهو لا يشعر، والأعرج يتفسح في مجلسه ويأخذ أكثر من موضعه فيضيق على جليسه، والمريض لا يخلو من رائحة تؤذى أو جرح يبض أو أنف يذن [[قوله «أو جرح يبض أو أنف يذن» يبض أى يسيل قليلا قليلا. ويذن: أى يسيل مخاطه. أفاده الصحاح. (ع)]] ونحو ذلك. وقيل: كانوا يخرجون إلى الغزو ويخلفون الضعفاء في بيوتهم، ويدفعون إليهم المفاتيح، ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم فكانوا يتحرّجون. حكى عن الحرث بن عمرو أنه خرج غازيا وخلف مالك بن زيد في بيته وماله، فلما رجع رآه مجهودا فقال: ما أصابك؟ قال: لم يكن عندي شيء، ولم يحل لي أن آكل «من مالك، فقيل: ليس على هؤلاء الضعفاء حرج فيما تحرجوا عنه، ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت، وهذا كلام صحيح، وكذلك إذا فسر بأن هؤلاء ليس عليهم حرج في القعود عن الغزو، ولا عليكم أن تأكلوا من البيوت المذكورة، لالتقاء الطائفتين في أن كل واحدة منهما منفي عنها الحرج. ومثال هذا أن يستفتيك مسافر عن الإفطار في رمضان. وحاج مفرد عن تقديم الحلق على النحر، فقلت: ليس على المسافر حرج أن يفطر، ولا عليك يا حاج أن تقدّم الحلق على النحر، فإن قلت: هلا ذكر الأولاد، قلت: دخل ذكرهم تحت قوله مِنْ بُيُوتِكُمْ لأنّ ولد الرجل بعضه، وحكمه حكم نفسه. وفي الحديث «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه، وإن ولده من كسبه [[أخرجه أصحاب السنن وعبد الرزاق وابن أبى شيبة وابن حبان والحاكم وأحمد وإسحاق والبزار وأبو يعلى كلهم من حديث عائشة بهذا. قال ابن القطان: يرويه عمارة بن عمير فقال إبراهيم عنه. عن عمته عن عائشة. وقال الحاكم: عن عمارة عن أمه عن عائشة وذكره الدارقطني في العلل والاختلاف فيه وأطال. وفي الباب عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده قال «أتى أعرابى النبي ﷺ فقال يا رسول الله إن أبى يريد أن يحتاج مالى. قال: أنت ومالك لوالدك إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أموال أولادكم من كسبكم فكلوا هنيئا، رواه ابو داود وابن ماجة من طريق الحجاج بن أرطاة عن عمرو وحجاج مدلس وفيه ضعف.]] » ومعنى مِنْ بُيُوتِكُمْ من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم ولأنّ الولد أقرب ممن عدّد من القرابات، فإذا كان سبب الرخصة هو القرابة: كان الذي هو أقرب منهم أولى. فإن قلت: ما معنى أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ؟ قلت: أموال الرجل إذا كان له عليها قيم ووكيل يحفظها له: أن يأكل من ثمر بستانه ويشرب من لبن ماشيته. وملك المفاتح:
كونها في يده وحفظه. وقيل: بيوت المماليك، لأن مال العبد لمولاه. وقرئ: مفتاحه:
فإن قلت: فما معنى أَوْ صَدِيقِكُمْ؟ قلت: معناه: أو بيوت أصدقائكم. والصديق يكون واحدا وجمعا [[قال محمود: «الصديق يكون واحدا وجمعا والمراد هنا الجمع» قال أحمد: وقد قال الزمخشري: إن سر إفراده في قوله تعالى فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ دون الشافعين التنبيه على قلة الأصدقاء، ولا كذلك الشافعون، فان الإنسان قد يحمى له ويشفع في حقه من لا يعرفه فضلا عن أن يكون صديقا، ويحتمل في الآيتين- والله أعلم- أن يكون المراد به الجمع فلا كلام، ويحتمل أن يراد الافراد، فيكون سره ذلك، والله أعلم.]] ، وكذلك الخليط والقطين والعدوّ. يحكى عن الحسن أنه دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون، فتهللت أسارير وجهه سرورا وضحك وقال: هكذا وجدناهم، هكذا وجدناهم.
يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين رضى الله عنهم. وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كيسه فيأخذ منه ما شاء، فإذا حضر مولاها فأخبرته أعتقها سرورا بذلك. وعن جعفر بن محمد الصادق رضى الله عنهما: من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من الأنس والثفة والانبساط وطرح الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ والابن. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: الصديق أكبر من الوالدين، إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمّهات. فقالوا: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم. وقالوا: إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك، قام ذلك مقام الإذن الصريح، وربما سمج الاستئذان وثقل، كمن قدّم إليه طعام فاستأذن صاحبه في الأكل منه جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً أى مجتمعين أو متفرّقين. نزلت في بنى ليث بن عمرو من كنانة كانوا يتحرجون أن يأكل لرجل وحده فربما قعد منتظرا نهاره إلى الليل، فان لم يجد من يواكله أكل ضرورة. وقيل في قوم من الأنصار: إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا مع ضيفهم وقيل: تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الناس في الأكل وزيادة بعضهم على بعض فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً من هذه البيوت لتأكلوا فبدئوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم دينا وقرابة [[قال محمود: «معناه: فسلموا على الجنس الذي هو منكم دينا وقرابة» قال أحمد: وفي التعبير عنهم بالأنفس تنبيه على السر الذي اقتضى إباحة الأكل من هذه البيوت المعدودة، وأن ذلك إنما كان لأنها بالنسبة إلى الداخل كبيت نفسه لاتحاد القرابة، فليطب نفسا بالبساط فيها، والله أعلم.]] تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أى ثابتة بأمره، مشروعة من لدنه.
أو لأنّ التسليم والتحية طلب سلامة وحياة للمسلم عليه والمحيا من عند الله. ووصفها بالبركة والطيب: لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله زيادة الخير وطيب الرزق. وعن أنس رضى الله عنه قال: خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين- وروى: تسع سنين- فما قال لي لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا قال لي لشيء كسرته لم كسرته؟ وكنت واقفا على رأسه أصب الماء على يديه فرفع رأسه فقال: ألا أعلمك ثلاث خصال ننتفع بها؟ قلت: بلى بأبى وأمى يا رسول الله. قال: متى لقيت من أمّتى أحدا فسلم عليه يطل عمرك، وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوّابين [[أخرجه أبو القاسم حمزة بن يوسف الجرجاني في تاريخ جرجان. والبيهقي في الشعب في الحادي والستين.
والثعلبي من طريق اليسع بن زيد بن سهل عن ابن عتبة عن حميد وعن أنس بتمامه واليسع آخر من زعم أنه سمع من ابن عتبة. مات بعد الثمانين والمائتين وهو واهى الحديث وأصل الحديث دون القصة التي فيه، في الصحيح من حديث أنس رضى الله عنه. وباقيه مروى عن أنس من أوجه. منها ما رواه البزار من طريق عويد بن عمران الجونى عن أبيه قال: «أوصانى النبي ﷺ بخمس خصال قال: أسغ الوضوء يزد في عمرك: وسلم على من لقيت من أمتى تكثر حسناتك. وإذا دخلت بيتك فسلم على أهلك يكثر خير بيتك وصل صلاة الضحى.
فإنها صلاة الأوابين، وارحم الصغير ووقر الكبير، تكن من رفاقى» وعويد. قال ابن حبان: يروى عن أبيه ما ليس من حديثه. ورواه أبو يعلى من رواية عمرو بن أبى خليفة عن ضرار بن عمرو عن أنس وإسناده ضعيف جدا وكذا رواه الطبراني في الصغير من رواية عمرو بن دينار عن أنس والراوي عنه ساقط ورواه العقيلي من رواية الفضل بن العباس عن ثابت عن أنس والفضل مجهول. قال العقيلي: لم يتابعه عليه إلا من هو دونه أو قبله ورواه ابن عدى من طريق أزور بن غالب عن سليمان التيمي عن أنس. قال ابن طاهر: أزور منكر الحديث. وله طريق أخرى عن أنس أشد ضعفا من هذه.]] » . وقالوا:
إن لم يكن في البيت أحد فليقل: السلام علينا من ربنا، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. السلام على أهل البيت ورحمة الله. وعن ابن عباس: إذا دخلت المسجد فقل:
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين تحية من عند الله، وانتصب تحية بسلموا، لأنها في معنى تسليما، كقولك: قعدت جلوسا.
{"ayah":"لَّیۡسَ عَلَى ٱلۡأَعۡمَىٰ حَرَجࣱ وَلَا عَلَى ٱلۡأَعۡرَجِ حَرَجࣱ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرِیضِ حَرَجࣱ وَلَا عَلَىٰۤ أَنفُسِكُمۡ أَن تَأۡكُلُوا۟ مِنۢ بُیُوتِكُمۡ أَوۡ بُیُوتِ ءَابَاۤىِٕكُمۡ أَوۡ بُیُوتِ أُمَّهَـٰتِكُمۡ أَوۡ بُیُوتِ إِخۡوَ ٰنِكُمۡ أَوۡ بُیُوتِ أَخَوَ ٰتِكُمۡ أَوۡ بُیُوتِ أَعۡمَـٰمِكُمۡ أَوۡ بُیُوتِ عَمَّـٰتِكُمۡ أَوۡ بُیُوتِ أَخۡوَ ٰلِكُمۡ أَوۡ بُیُوتِ خَـٰلَـٰتِكُمۡ أَوۡ مَا مَلَكۡتُم مَّفَاتِحَهُۥۤ أَوۡ صَدِیقِكُمۡۚ لَیۡسَ عَلَیۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَأۡكُلُوا۟ جَمِیعًا أَوۡ أَشۡتَاتࣰاۚ فَإِذَا دَخَلۡتُم بُیُوتࣰا فَسَلِّمُوا۟ عَلَىٰۤ أَنفُسِكُمۡ تَحِیَّةࣰ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُبَـٰرَكَةࣰ طَیِّبَةࣰۚ كَذَ ٰلِكَ یُبَیِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ"}