الباحث القرآني
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَيْسَ عَلى الأعْمى حَرَجٌ﴾ الآيَةَ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ في تَأْوِيلِهِ وسَبَبِ نُزُولِهِ، فَحَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الحَكَمِ قالَ: حَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اليَمانِ قالَ: حَدَّثَنا أبُو عُبَيْدٍ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صالِحٍ عَنْ مُعاوِيَةَ بْنِ صالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ عَلى الأعْمى حَرَجٌ ولا عَلى الأعْرَجِ حَرَجٌ ولا عَلى المَرِيضِ حَرَجٌ﴾ قالَ: ( لَمّا نَزَلَتْ: ﴿ولا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ﴾ [البقرة: ١٨٨] قالَ المُسْلِمُونَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ نَهانا أنْ نَأْكُلَ أمْوالَنا بَيْنَنا بِالباطِلِ (p-١٩٧)وإنَّ الطَّعامَ مِن أفْضَلِ أمْوالِنا ولا يَحِلُّ لِأحَدٍ أنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أحَدٍ؛ فَكَفَّ النّاسَ عَنْ ذَلِكَ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لَيْسَ عَلى الأعْمى حَرَجٌ﴾ الآيَةَ ) . فَهَذا أحَدُ التَّأْوِيلاتِ.
وحَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ ( بْنِ الحَكَمِ ) قالَ: حَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ ( بْنِ اليَمانِ ) قالَ: حَدَّثَنا أبُو عُبَيْدٍ قالَ: حَدَّثَنا حَجّاجٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجاهِدٍ في هَذِهِ الآيَةِ قالَ: ( كانَ رِجالٌ زَمْنى وعُمْيانٌ وعُرْجانٌ وأُولُو حاجَةٍ يَسْتَتْبِعُهم رِجالٌ إلى بُيُوتِهِمْ فَإنْ لَمْ يَجِدُوا لَهم طَعامًا ذَهَبُوا بِهِمْ إلى بُيُوتِ آبائِهِمْ ومَن مَعَهم، فَكَرِهَ المُسْتَتْبِعُونَ ذَلِكَ، فَنَزَلَتْ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ﴾ الآيَةَ، وأُحِلَّ لَهُمُ الطَّعامُ حَيْثُ وجَدُوهُ مِن ذَلِكَ ) .
فَهَذا تَأْوِيلٌ ثانِي. وحَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ ( بْنِ الحَكَمِ ) قالَ: حَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اليَمانِ قالَ: حَدَّثَنا أبُو عُبَيْدٍ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ ابْنِ المُبارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ قالَ: قُلْتَ لِلزُّهْرِيِّ: ما بالُ الأعْمى والأعْرَجِ والمَرِيضِ ذُكِرُوا هَهُنا ؟ فَقالَ: أخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ: ( أنَّ المُسْلِمِينَ كانُوا إذا غَزَوْا خَلَّفُوا زَمْناهم في بُيُوتِهِمْ وسَلَّمُوا إلَيْهِمُ المَفاتِيحَ وقالُوا: قَدْ أحْلَلْنا لَكم أنْ تَأْكُلُوا مِنها، فَكانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِن ذَلِكَ ويَقُولُونَ: لا نَدْخُلُها وهم غُيَّبٌ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ رُخْصَةً لَهم ) .
فَهَذا تَأْوِيلٌ ثالِثٌ.
ورُوِيَ فِيهِ تَأْوِيلٌ رابِعٌ، وهو ما رَوى سُفْيانُ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مِقْسَمٍ قالَ: ( كانُوا يَمْتَنِعُونَ أنْ يَأْكُلُوا مَعَ الأعْمى والمَرِيضِ والأعْرَجِ؛ لِأنَّهُ لا يَنالُ ما يَنالُ الصَّحِيحُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ) وقَدْ أنْكَرَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ هَذا التَّأْوِيلَ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَقُلْ: لَيْسَ عَلَيْكم حَرَجٌ في مُؤاكَلَةِ الأعْمى وإنَّما أزالَ الحَرَجَ عَنِ الأعْمى ومَن ذُكِرَ مَعَهُ في الأكْلِ، فَهَذا في الأعْمى إذا أكَلَ مِن مالِ غَيْرِهِ عَلى أحَدِ الوُجُوهِ المَذْكُورَةِ عَنِ السَّلَفِ، وإنْ كانَ تَأْوِيلُ مِقْسَمٍ مُحْتَمَلًا عَلى بُعْدٍ في الكَلامِ، وتَأْوِيلُ ابْنِ عَبّاسٍ ظاهِرٌ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ إلا أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] ولَمْ يَكُنْ هَذا تِجارَةً وامْتَنَعُوا مِنَ الأكْلِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ إباحَةَ ذَلِكَ.
وأمّا تَأْوِيلُ مُجاهِدٍ فَهو سائِغٌ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ قَدْ كانَتِ العادَةُ عِنْدَهم بَذْلَ الطَّعامِ لِأقْرِبائِهِمْ ومَن مَعَهم، فَكانَ جَرَيانُ العادَةِ بِهِ كالنُّطْقِ بِهِ، فَأباحَ اللَّهُ لِلْأعْمى ومَن ذُكِرَ مَعَهُ إذا اسْتَتْبَعُوا أنْ يَأْكُلُوا مِن بُيُوتِ مَنِ اتَّبَعُوهم وبُيُوتِ آبائِهِمْ.
والثّانِي: أنَّ ذَلِكَ فِيمَن كانَ بِهِ ضَرُورَةٌ إلى الطَّعامِ، وقَدْ كانَتِ الضِّيافَةُ واجِبَةً في ذَلِكَ الزَّمانِ لِأمْثالِهِمْ، فَكانَ ذَلِكَ القَدْرُ مُسْتَحَقًّا مِن مالِهِمْ لِهَؤُلاءِ؛ فَلِذَلِكَ أُبِيحَ لَهم أنْ يَأْكُلُوا مِنهُ مِقْدارَ الحاجَةِ بِغَيْرِ إذْنٍ. وقالَ قَتادَةُ: " إنْ أكَلْتَ مِن بَيْتِ صَدِيقِكَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلا بَأْسَ "، لِقَوْلِهِ: ﴿أوْ صَدِيقِكُمْ﴾ .
ورُوِيَ أنَّ أعْرابِيًّا دَخَلَ عَلى الحَسَنِ، فَرَأى سُفْرَةً مُعَلَّقَةً فَأخَذَها وجَعَلَ يَأْكُلُ مِنها، فَبَكى (p-١٩٨)الحَسَنُ، فَقِيلَ لَهُ: ما يُبْكِيكَ ؟ فَقالَ: ذَكَرْتُ بِما صَنَعَ هَذا إخْوانًا لِي مَضَوْا؛ يَعْنِي أنَّهم كانُوا يَنْبَسِطُونَ في مِثْلِ ذَلِكَ ولا يَسْتَأْذِنُونَ. وهَذا أيْضًا عَلى ما كانَتِ العادَةُ قَدْ جَرَتْ بِهِ مِنهم في مِثْلِهِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا عَلى أنْفُسِكم أنْ تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ﴾ يَعْنِي واللَّهُ أعْلَمُ: مِنَ البُيُوتِ الَّتِي هم سُكّانُها وهم عِيالُ غَيْرِهِمْ فِيها، مِثْلُ أهْلِ الرَّجُلِ ووَلَدِهِ وخادِمِهِ ومَن يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مَنزِلُهُ فَيَأْكُلُ مِن بَيْتِهِ؛ ونَسَبَها إلَيْهِمْ؛ لِأنَّهم سُكّانُها وإنْ كانُوا في عِيالِ غَيْرِهِمْ وهو صاحِبُ المَنزِلِ؛ لِأنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ الإباحَةَ لِلرَّجُلِ أنْ يَأْكُلَ مِن مالِ نَفْسِهِ؛ إذْ كانَ ظاهِرُ الخِطابِ وابْتِداؤُهُ في إباحَةِ الأكْلِ لِلْإنْسانِ مِن مالِ غَيْرِهِ؛ وقالَ اللَّهُ: ﴿أوْ بُيُوتِ آبائِكم أوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكم أوْ بُيُوتِ إخْوانِكم أوْ بُيُوتِ أخَواتِكُمْ﴾ فَأباحَ الأكْلَ مِن بُيُوتِ هَؤُلاءِ الأقْرِباءِ ذَوِي المَحارِمِ بِجَرَيانِ العادَةِ بِبَذْلِ الطَّعامِ لِأمْثالِهِمْ وفَقْدِ التَّمانُعِ في أمْثالِهِ، ولَمْ يَذْكُرِ الأكْلَ في بُيُوتِ الأوْلادِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ولا عَلى أنْفُسِكم أنْ تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ﴾ قَدْ أفادَهُ؛ لِأنَّ مالَ الرَّجُلِ مَنسُوبٌ إلى أبِيهِ، قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أنْتَ ومالُكَ لِأبِيكَ» وقالَ: «إنَّ أطْيَبَ ما أكَلَ الرَّجُلُ مِن كَسْبِهِ وإنَّ ولَدَهُ مِن كَسْبِهِ فَكُلُوا مِن كَسْبِ أوْلادِكم»، فاكْتَفى بِذِكْرِ بُيُوتِ أنْفُسِكم عَنْ ذِكْرِ بُيُوتِ الأوْلادِ؛ إذْ كانَتْ مَنسُوبَةً إلى الآباءِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أوْ صَدِيقِكُمْ﴾ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: ﴿أوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ﴾ قالَ: ( هو الرَّجُلُ يُؤاكِلُ الرَّجُلَ بِصَنْعَتِهِ، يُرَخِّصُ لَهُ أنْ يَأْكُلَ مِن ذَلِكَ الطَّعامِ والثَّمَرِ ويَشْرَبَ مِن ذَلِكَ اللَّبَنِ ) .
وعَنْ عِكْرِمَةَ في قَوْلِهِ: ﴿أوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ﴾ قالَ: ( إذا مَلَكَ المِفْتاحَ فَهو جائِزٌ ولا بَأْسَ أنْ يَطْعَمَ الشَّيْءَ اليَسِيرَ ) .
ورَوى سَعِيدٌ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ عَلى الأعْمى حَرَجٌ ولا عَلى الأعْرَجِ حَرَجٌ﴾ قالَ: كانَ الرَّجُلُ لا يُضَيِّفُ أحَدًا ولا يَأْكُلُ مِن بَيْتِ غَيْرِهِ تَأثُّمًا مِن ذَلِكَ، وكانَ أوَّلُ مَن رَخَّصَ اللَّهُ لَهُ في ذَلِكَ ثُمَّ رَخَّصَ لِلنّاسِ عامَّةً، فَقالَ: ﴿ولا عَلى أنْفُسِكم أنْ تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿أوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ﴾ مِمّا عِنْدَكَ يا ابْنَ آدَمَ، أوْ صَدِيقِكم، ولَوْ دَخَلْتَ عَلى صَدِيقٍ فَأكَلْتَ مِن طَعامِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ كانَ ذَلِكَ حَلالًا.
قالَ أبُو بَكْرٍ: وهَذا أيْضًا مَبْنِيٌّ عَلى ما جَرَتِ العادَةُ بِالإذْنِ فِيهِ فَيَكُونُ المُعْتادُ مِن ذَلِكَ كالمَنطُوقِ بِهِ، وهو مِثْلُ ما تَتَصَدَّقُ بِهِ المَرْأةُ مِن بَيْتِ زَوْجِها بِالكِسْرَةِ ونَحْوِها مِن غَيْرِ اسْتِئْذانِها إيّاهُ؛ لِأنَّهُ مُتَعارَفٌ أنَّهم لا يُمْنَعُونَ مِن مِثْلِهِ، كالعَبْدِ المَأْذُونِ والمُكاتَبِ يَدْعُوانِ إلى طَعامِهِما ويَتَصَدَّقانِ بِاليَسِيرِ مِمّا في أيْدِيهِما فَيَجُوزُ بِغَيْرِ إذْنِ المَوْلى.
وقَوْلُهُ: ﴿أوْ صَدِيقِكُمْ﴾ (p-١٩٩)رَوى الأعْمَشُ عَنْ نافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: ( لَقَدْ رَأيْتُنِي وما الرَّجُلُ المُسْلِمُ بِأحَقَّ بِدِينارِهِ ودِرْهَمِهِ مِن أخِيهِ المُسْلِمِ ) . ورَوى عَبْدُ اللَّهِ الرَّصافِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قالَ: " كانَ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لا يَرى أحَدَهم أنَّهُ أحَقُّ بِالدِّينارِ والدِّرْهَمِ مِن أخِيهِ " ورَوى إسْحاقُ بْنُ كَثِيرٍ قالَ: حَدَّثَنا الرَّصافِيُّ قالَ: " كُنّا عِنْدَ أبِي جَعْفَرٍ يَوْمًا فَقالَ: هَلْ يُدْخِلُ أحَدُكم يَدَهُ في كُمِّ أخِيهِ فَيَأْخُذُ مالَهُ ؟ قُلْنا: لا، قالَ: ما أنْتُمْ بِإخْوانٍ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ مَن سَرَقَ مِن ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ أنَّهُ لا يُقْطَعُ لِإباحَةِ اللَّهِ لَهم بِهَذِهِ الآيَةِ الأكْلَ مِن بُيُوتِهِمْ ودُخُولِها مِن غَيْرِ إذْنِهِمْ فَلا يَكُونُ مالُهُ مُحَرَّزًا مِنهم.
فَإنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أنْ لا يُقْطَعَ إذا سَرَقَ مِن صَدِيقِهِ؛ لِأنَّ فَفي الآيَةِ إباحَةَ الأكْلِ مِن طَعامِهِ قِيلَ لَهُ: مَن أرادَ سَرِقَةَ مالِهِ لا يَكُونُ صَدِيقًا لَهُ.
وقَدْ قِيلَ: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكم حَتّى تَسْتَأْنِسُوا﴾ [النور: ٢٧] وبِقَوْلِهِ ﷺ: «لا يَحِلُّ مالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلّا بِطِيبَةٍ مِن نَفْسِهِ» .
قالَ أبُو بَكْرٍ: لَيْسَ في ذَلِكَ ما يُوجِبُ نَسْخَهُ؛ لِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ فِيمَن ذُكِرَ فِيها، وقَوْلُهُ: ﴿لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ﴾ [النور: ٢٧] في سائِرِ النّاسِ غَيْرِهِمْ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ: «لا يَحِلُّ مالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلّا بِطِيبَةٍ مِن نَفْسِهِ» .
وقَوْلُهُ تَعالى ﴿لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أوْ أشْتاتًا﴾ رَوى سَعِيدٌ عَنْ قَتادَةَ قالَ: " كانَ هَذا الحَيُّ مِن كِنانَةَ بَنِي خُزَيْمَةَ يَرى أحَدُهم أنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أنْ يَأْكُلَ، وحْدَهُ في الجاهِلِيَّةِ حَتّى أنَّ الرَّجُلَ لَيَسُوقُ الذَّوْدَ الحُفَّلَ وهو جائِعٌ حَتّى يَجِدَ مَن يُؤاكِلُهُ ويُشارِبُهُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أوْ أشْتاتًا﴾ .
ورَوى الوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قالَ: حَدَّثَنا وحْشِيُّ بْنُ حَرْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وحْشِيٍّ أنَّ أصْحابَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قالُوا: إنّا نَأْكُلُ ولا نَشْبَعُ، قالَ: «فَلَعَلَّكم تَفْتَرِقُونَ ؟ قالُوا: نَعَمْ، قالَ: فاجْتَمِعُوا عَلى طَعامِكم واذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ يُبارِكْ لَكم فِيهِ» وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ﴿جَمِيعًا أوْ أشْتاتًا﴾ " المَعْنى: يَأْكُلُ مَعَ الفَقِيرِ في بَيْتِهِ " . وقالَ أبُو صالِحٍ: ( كانَ إذا نَزَلَ بِهِمْ ضَيْفٌ تَحَرَّجُوا أنْ يَأْكُلُوا إلّا مَعَهُ ) . وقِيلَ: ( إنَّ الرَّجُلَ كانَ يَخافُ إنْ أكَلَ مَعَ غَيْرِهِ أنْ يَزِيدَ أكْلُهُ عَلى أكْلِ صاحِبِهِ، فامْتَنَعُوا لِأجْلِ ذَلِكَ مِنَ الِاجْتِماعِ عَلى الطَّعامِ ) .
قالَ أبُو بَكْرٍ: هَذا تَأْوِيلٌ مُحْتَمَلٌ، وقَدْ دَلَّ عَلى هَذا المَعْنى قَوْلُهُ: ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ اليَتامى قُلْ إصْلاحٌ لَهم خَيْرٌ وإنْ تُخالِطُوهم فَإخْوانُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٠] فَأباحَ لَهم أنْ يَخْلِطُوا طَعامَ اليَتِيمِ بِطَعامِهِمْ فَيَأْكُلُوهُ جَمِيعًا، ونَحْوُهُ قَوْلُهُ: ﴿فابْعَثُوا أحَدَكم بِوَرِقِكم هَذِهِ إلى المَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أيُّها أزْكى طَعامًا فَلْيَأْتِكم بِرِزْقٍ مِنهُ﴾ [الكهف: ١٩] فَكانَ الوَرِقُ لَهم جَمِيعًا والطَّعامُ بَيْنَهم فاسْتَجازُوا أكْلَهُ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ (p-٢٠٠)مُرادُهُ أنْ يَأْكُلُوا جَمِيعًا طَعامًا بَيْنَهم وهي المُناهَدَةُ الَّتِي يَفْعَلُها النّاسُ في الأسْفارِ.
* * *
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإذا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلى أنْفُسِكم تَحِيَّةً﴾ رَوى مَعْمَرٌ عَنِ الحَسَنِ: " فَسَلِّمُوا عَلى أنْفُسِكم، يُسَلِّمُ بَعْضُكم عَلى بَعْضٍ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] " .
ورَوى مَعْمَرٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: ( هو المَسْجِدُ إذا دَخَلْتَهُ فَقُلِ السَّلامُ عَلَيْنا وعَلى عِبادِ اللَّهِ الصّالِحِينَ ) . وقالَ نافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: ( أنَّهُ كانَ إذا دَخَلَ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أحَدٌ قالَ: السَّلامُ عَلَيْنا وعَلى عِبادِ اللَّهِ الصّالِحِينَ، وإذا كانَ فِيهِ أحَدٌ قالَ: السَّلامُ عَلَيْكم، وإذا دَخَلَ المَسْجِدَ قالَ: بِسْمِ اللَّهِ السَّلامُ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ) . وقالَ الزُّهْرِيُّ: ﴿فَسَلِّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ ( إذا دَخَلْتَ بَيْتَكَ فَسَلِّمْ عَلى أهْلِكَ فَهم أحَقُّ مَن سَلَّمْتَ عَلَيْهِ، وإذا دَخَلْتَ بَيْتًا لا أحَدَ فِيهِ فَقُلِ السَّلامُ عَلَيْنا وعَلى عِبادِ اللَّهِ الصّالِحِينَ، فَإنَّهُ كانَ يُؤْمَرُ بِذَلِكَ حَدَّثَنا أنَّ المَلائِكَةَ تَرُدُّ عَلَيْهِ ) .
قالَ أبُو بَكْرٍ: لَمّا كانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِسائِرِ الوُجُوهِ الَّتِي تَأوَّلَهُ السَّلَفُ عَلَيْها وجَبَ أنْ يَكُونَ الجَمِيعُ مُرادًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿تَحِيَّةً مِن عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً﴾ يَعْنِي أنَّ السَّلامَ تَحِيَّةٌ مِنَ اللَّهِ؛ لِأنَّ اللَّهَ أمَرَ بِهِ، وهي مُبارَكَةٌ طَيِّبَةٌ؛ لِأنَّهُ دُعاءٌ بِالسَّلامَةِ فَيَبْقى أثَرُهُ ومَنفَعَتُهُ.
وفِيهِ الدَّلالَةُ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وإذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنها أوْ رُدُّوها﴾ [النساء: ٨٦] قَدْ أُرِيدَ بِهِ السَّلامُ.
{"ayah":"لَّیۡسَ عَلَى ٱلۡأَعۡمَىٰ حَرَجࣱ وَلَا عَلَى ٱلۡأَعۡرَجِ حَرَجࣱ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرِیضِ حَرَجࣱ وَلَا عَلَىٰۤ أَنفُسِكُمۡ أَن تَأۡكُلُوا۟ مِنۢ بُیُوتِكُمۡ أَوۡ بُیُوتِ ءَابَاۤىِٕكُمۡ أَوۡ بُیُوتِ أُمَّهَـٰتِكُمۡ أَوۡ بُیُوتِ إِخۡوَ ٰنِكُمۡ أَوۡ بُیُوتِ أَخَوَ ٰتِكُمۡ أَوۡ بُیُوتِ أَعۡمَـٰمِكُمۡ أَوۡ بُیُوتِ عَمَّـٰتِكُمۡ أَوۡ بُیُوتِ أَخۡوَ ٰلِكُمۡ أَوۡ بُیُوتِ خَـٰلَـٰتِكُمۡ أَوۡ مَا مَلَكۡتُم مَّفَاتِحَهُۥۤ أَوۡ صَدِیقِكُمۡۚ لَیۡسَ عَلَیۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَأۡكُلُوا۟ جَمِیعًا أَوۡ أَشۡتَاتࣰاۚ فَإِذَا دَخَلۡتُم بُیُوتࣰا فَسَلِّمُوا۟ عَلَىٰۤ أَنفُسِكُمۡ تَحِیَّةࣰ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِ مُبَـٰرَكَةࣰ طَیِّبَةࣰۚ كَذَ ٰلِكَ یُبَیِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق