الباحث القرآني

﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى﴾ روى الزهري، عن سعيد بن المسيب وعبيد الله بن عبد الله في هذه الآية أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلّفوا زَمْناهم، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون: قد أحللناكم أن تأكلوا مما في بيوتنا. فكانوا يتحرجون من ذلك وقالوا [[في (أ): (قالوا).]]: لا ندخلها وهم غُيَّب. فنزلت هذه الآية رخصة لهم [[رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 64، وأبو عيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 244، وأبو داود في "المراسيل" ص (184)، والطبري في "تفسيره" 18/ 169 من طريق الزهري، عن عبيد الله عبد الله، به. ورواه بنحوه أبو داود في "المراسيل" ص 185، وعبد بن حميد كما في "الدر المنثور" للسيوطي 6/ 224، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 275 من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله وابن المسيب. ورواه بنحوه أبو جعفر النَّحَّاس في "الناسخ والمنسوخ" ص 600 - 601 من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب. ورواه بنحوه الواحدي في "أسباب النزول" ص 274 من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب. وهذه الرواية مرسلة، لكن يشهد لها رواية عائشة الصحيحة الآتية، -وقد اعتمد هذا القول الإمام الطبري في "تفسيره" 18/ 170 فقال- بعد ذكره لروايات في نزول هذه الآية-: وأشبه الأقوال التي ذكرنا في تأويل قوله: "ليس على الأعمى حرج" إلى قوله: "أو صديقكم" القول الذي ذكرنا عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله، .. وقال أبو جعفر النَّحاس في "الناسخ والمنسوخ " ص 602 - بعد روايته لأثر ابن المسيب وعائشة الآتي-: وهذا القول من أجلّ ما روي في الآية، لما فيه عن الصحابة والتابعين من التوقيف أن الآية نزلت في شيء بعينه ..]]. وهذا قول عائشة رضي الله عنها روي أنها قالت في هذه الآية: كان المسلمون يرغبون مع رسول الله -ﷺ- في المغازي، ويدفعون مفاتيحهم إلى الضمناء [[في (ع): (الضَّمنى)، وفي (ظ): (الزَّمنى)، وعند ابن أبي حاتم: ضمناهم.]] ويقولون: قد أحللناكم أن تأكلوا مما في منازلنا. فكانوا يتوقَّون أن يأكلوا من منازلهم حتى نزلت هذه الآية [[رواه البزار في "مسنده" كما في "كشف الأستار عن زوائد البزار" للهيثمي 3/ 61 - 62، وابن أبي حاتم 7/ 70 أ، وأبو جعفر النحاس في "الناسخ والمنسوخ" ص 601. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 224 ونسبه أيضًا لابن النجار وابن مردويه. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 7/ 84: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح. وهذه الرواية هي أصح ما ورد في سبب نزول الآية، والله أعلم.]]. فعلى هذا معنى الآية: نفي الحرج عن الزَّمنى في أكلهم من بيوت [[في (ظ)، (ع): (بيت).]] أقاربهم، أو بيت من يدفع إليهم المفتاح إذا خرج للغزو. وروى الكلبي، عن أبي صالح، [عن ابن عباس] [[ساقط من (ظ)، (ع).]] - في هذه الآية: أن الأنصار كانوا قومًا يتنزَّهون في أشياء؛ كانوا لا يأكلون مع الأعمى يقولون: الأعمى لا يبصر طيَّب الطعام ونحن نُبصره [[في (ظ)، (ع): (نُبصر).]] فنسبقه إليه [[إليه): ساقطة من (ظ)، (ع).]]؛ فيعزلونه على حده. وكانوا لا يأكلون مع المريض يقولون: لا يقدر أن يأكل مثل ما أكلنا [[في (ظ): (مثل أكلنا).]] يمنعه من ذلك المرض، وكانوا يعزلونه على حدة؛ وكانوا لا يأكلون مع الأعرج يقولون: لا يستمكن من المجلس فإلى أن يأكل هو لقمة قد أكلنا لقمتين، فيعزلونه على حدة. فنزل في ذلك ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ﴾ يقولون: ليس على من أكل [[في (ظ): (ليس على كل من أكل).]] مع الأعمى حرج [[لم أجد هذه الرواية. وهي رواية باطلة سندًا. == ووقع في "تنوير المقباس" الذي هو من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: لما أنزل قوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [النساء: 29] بالظلم وخافوا من ذلك، فرخص لهم المؤاكلة من بعضهم بعض. وروى الطبري 18/ 168، وابن أبي حاتم 7/ 68 ب نحو هذه الرواية عن الضحَّاك. وروى ابن أبي حاتم 7/ 68 أ، ب، 69 أعن سعيد بن جبير وسليمان بن موسى نحو هذه الرواية.]]. وهذا معنى قول مقسم -في هذه الآية-: كانوا لا يأكلون مع الأعمى والأعرج والمريض؛ لأنهم كانوا لا ينالون من الطعام كما ينالون. فنزلت هذه الآية [[رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 8/ 130، والطبري 18/ 130، وابن أبي حاتم 7/ 68 ب عن مقسم. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 223 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر.]]. ونحو هذا ذكر مقاتل بن سليمان في سبب النزول [["تفسير مقاتل" 2/ 41 أ، ب.]]. واختار الفراء هذا القول وقال: معنى الآية: ليس عليكم في مؤاكلتهم [[في (ع): (مؤاكلتكم).]] حرج [[في (ظ): (تحرّج).]] و (في) تصلح مكان (على) هاهنا [["معاني القرآن" للفراء 2/ 261.]]. وعلى هذا قوله ﴿عَلَى الْأَعْمَى﴾ [[(على): ساقطة من (أ).]] معناه: في الأعمى. أي في مؤاكلة الأعمى فـ (على) بمعنى: في، والمضاف محذوف. وقال آخرون: كان [[المثبت من (ع)، وفي باقي النسخ: (كانوا).]] هؤلاء يتنزَّهون عن مؤاكلة الأصحاء؛ لأن الناس يتقذَّرون منهم، فكان الأعمى لا يؤاكل الناس؛ لأنَّه لا يُبصر الطعام فيخاف أن يستأثر، وكان الأعرج يتوقَّى ذلك لأنَّه يحتاج لزمانته أن ينفسخ في مجلسه ويأخذ أكثر من موضعه، وكان المريض يخاف أن يفسد على الناس طعامهم بأمور قد تعتري مع المريض من رائحة بتغير أو جرح يبض [[يَبِضّ: يقطر منه الدم. انظر: "لسان العرب" 7/ 117 (بضض).]] أو أنف يذن [[يَذَنّ: يسيل منه المخاط أو الماء. انظر: "لسان العرب" 13/ 173 (ذنن).]] أو بول يسلس [[يسلس: أي لا يستمسك. "القاموس المحيط" 2/ 222.]] وأشباه ذلك فأنزل الله [عز وجل] [[زيادة من (ظ)، (ع).]] هذه الآية. يقول: ليس على هؤلاء حرج في مؤاكلة الناس. وهذا معنى قول [[(قول): ساقط من (ظ).]] سعيد بن جبير، والضحاك [[ذكر هذا المعنى الثعلبي 3/ 90 أعن سعيد بن جبير والضحاك. وعن الضحاك رواه الطبري 18/ 168، وابن أبي حاتم 7/ 68 ب.]]، والسدي، قالوا: كان ناس من الأنصار لا يأكلون مع هؤلاء يتقذَّرون منهم. وقال ابن عباس -في رواية عطاء-: يريد ليس على هؤلاء حرج في التخلف عن الغزو مع رسول الله -ﷺ-. وهذا قول الحسن وابن زيد [[ذكره الثعلبي 3/ 90 أعن الحسن وابن زيد. ورواه الطبري 18/ 169 عن ابن زيد.]]. وعلى هذا تم الكلام عند قوله ﴿وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ﴾، وقوله ﴿وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ كلام منقطع عما قبله [[من قوله: تم الكلام .. إلى هنا. هذا كلام الثعلبي 3/ 90 أ.]]. قال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [النساء: 29] ترك الناس مؤاكلة الصغير والكبير وقالوا: لا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد فأنزل الله تعالى ﴿وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ﴾ [[ذكره بهذا اللفظ عن ابن عباس: الثعلبي 3/ 90 أ. ورواه بنحوه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 243، والطبري 18/ 168، وابن أبي حاتم 7/ 71 أمن طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. ورواه بمعناه من وجه آخر البيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 275.]]. أي: ليس عليكم حرج في أنفسكم أن تأكلوا من أموال عيالكم وأزواجكم. فمعنى ﴿مِنْ بُيُوتِكُمْ﴾ من بيوت أزواجكم وعيالكم، أضاف إليه؛ لأن بيت [[في (ع): (بنت، كبنت).]] المرأة كبيت [[انظر: "معاني القرآن" للفراء 2/ 261.]] الزوج. ذكر هذا المعنى الفرَّاء [[ساقط من (ظ)، (ع).]] وابن قتيبة. قال [ابن قتيبة: وقال] [[في (أ): (يأكلوا).]] بعضهم: أراد أن تأكلوا من بيوت [أولادكم فنسب بيوت] [[ساقط من (أ).]] الأولاد إلى بيوت الآباء؛ لأن الأولاد كسبهم وأموالهم كأموالهم، يدلك على أن المراد بالآية [[في (ظ)، (ع): (كما).]] ما ذكرنا: أنَّ الناس لا يتوقون أن يأكلوا من بيوتهم حتى ينفى الحرج عنهم، وأيضًا فإنه عدَّد القرابات وهم أبعد نسبًا من الولد ولم يذكر الولد، وقد قال المفسرون في قوله: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 2] أراد ما أغنى عنه ماله وولده، فجعل ولده كسبا [["مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 333 - 334. وقد ذكر هذا القول عن المفسرين في معنى "وما كسب" ابن الجوزي 6/ 260.]]. وذكر مجاهد في سبب نزول الآية غير ما ذكر هؤلاء وقال: كانت رجال زمنى: عميًا عرجًا أولي [[في (أ): (وإلى).]] حاجة يستتبعهم [[في (ظ): (ويستتبعهم).]] رجال إلى بيوتهم، فإن لم يجدوا طعامًا ذهبوا إلى بيوت آبائهم ومن عدَّدهم معهم، فكره ذلك [[ذلك: ساقطة من (أ).]] المستتبعون، فأنزل الله في ذلك ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ [[في جميع النسخ: (لا جناح عليهم)، وهو خطأ. ووقع عند أبي عبيد في "الناسخ والمنسوخ" وابن أبي حاتم والبيهقي: لا جناح عليكم. وهو خطأ. والتصويب من رواية الطبري.]] وأحل لهم الطعام حيث وجدوه [[رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 243 - 244، والطبري 18/ 169، وابن أبي حاتم 7/ 69 ب، والبيهقي في "السنن الكبرى" 7/ 275. وهو مرسل. ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 64 بنحوه. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 224 مثل رواية عبد الرزاق، ونسبه أيضًا لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.]]. وعلى هذا معنى الآية: لا جناح على هؤلاء الزمنى ولا على من استتبعهم أن يأكلوا من بيوت أزواجهم وعيالهم أو بيوت آبائهم وأقاربهم الذين ذكروا. وقال السدي: كان الرجل يدخل بيت أبيه أو بيت أخيه [أو بيت أخته] [[ساقط من (ظ)، (ع).]]، فتتحفه المرأة بشيء من الطعام، فلا [[في (ع): (ولا).]] يأكل لأنه ليس ثمَّ رب البيت، فأنزل الله الرخصة [[رواه ابن أبي حاتم 7/ 69 ب. وذكره عنه ابن كثير 3/ 305.]]. قال ابن قتيبة: وهذا من رخصته للقرابات [[في (أ): (رخصة القرابات).]] وذوي الأواصر [[في (ظ): (لأواخر). والأواصر: جمع آصرة، وهي الرحم. "لسان العرب" 4/ 22 (أصر).]]، كرخصته في الغرباء والأباعد لمن دخل حائطًا وهو جائع أن يصيب من ثمره، أو مرَّ في سفر بغنم وهو عطشان أن يشرب من رِسْلها [[رِسْلها: لبنها. "القاموس المحيط" 3/ 384.]]، وكما أوجب للمسافر على من مرَّ به الضيافة، توسعة منه ولطفًا بعباده، ورغبة بهم عن دناءة الأخلاق وضيق النَّظر [["مشكل القرآن" لابن قتيبة ص 334.]]. وقوله: ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾ قال عطاء، عن ابن عباس: يريد مماليككم [[ذكر الثعلبي 3/ 9 أ، والبغوي 6/ 64 هذا القول عن الضحَّاك.]]، وذلك أن السيد يملك منزل عبده. وقال الفراء: يعني: أو بيوت ﴿مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾ [[في (ظ): (يعني: أو بيوت مماليككم التي ملتم مفاتحهم، يعني: بيوت عبدكم وأموالكم).]] يعني: بيوت عبيدكم وأموالهم. قال: ويجوز أن تكون المفاتح [[في (أ): (أن يكون معنى المفاتح).]] -هاهنا -: الخزائن، ويجوز أن تكون التي يفتح بها [[هذا معنى ما قاله الفراء في "معاني القرآن" 2/ 261 لا نصّه.]]. وذكرنا المفاتح بمعنى الخزائن في [[في (ع): (عند).]] قوله ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ﴾ [الأنعام: 59]. وهذا معنى قول مقاتل بن سليمان [[انظر: "تفسير مقاتل" 2/ 41 ب.]]، والضحاك [[رواه عنه الطبري 18/ 170، وابن أبي حاتم 7/ 70 أ، ب.]]. وقال آخرون: معنى قوله ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾ أي ما خزنتموه لغيركم. يريد الزَّمنى الذين كانوا يخزنون للغزاة [[ذكر الرازي 24/ 37 هذا القول ونسبه للضحَّاك.]]. وقال ابن عباس: عني بذلك وكيل الرجل وقيِّمه [[في (ع): (وخليفته).]] في ضيعته [[الضَّيعة: هو مال الرجل من النَّخل والكرم والأرض. وقيّمه في ضيعته: هو الذي يقوم بأمرها وما تحتاج إليه. انظر: "لسان العرب" 8/ 230 (ضيع)، 12/ 503 (قوم).]] وماشيته، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته [[ذكره بهذا اللفظ الثعلبي 3/ 90 أ. ورواه بنحوه الطبري 18/ 170، وابن أبي حاتم 7/ 71 أ. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 224 ونسبه أيضًا لابن المنذر والبيهقي.]]. قال عكرمة: إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير [[رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 65. وذكره عنه الجصَّاص في "أحكام القرآن" 3/ 335، والبغوي 6/ 64 - 65.]]. وقال السدي: الرجل يوليه الرجل طعامه يقوم عليه فلا بأس أن يأكل منه [[رواه ابن أبي حاتم 7/ 70 ب. وذكره عنه ابن كثير 3/ 305.]]. وقال مقاتل بن حيان: ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾ [يعني: ما ملكتم [[(ما ملكتم): ساقطة من (ع).]] خزائنه [[لم أجده عن مقاتل بن حيان. وقد رواه ابن أبي حاتم 7/ 70 أعن سعيد بن جبير.]]. وقال قتادة: ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ﴾] [[ساقط من (أ).]] مما تحتبس يا ابن آدم [[رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 64، والطبري 18/ 170، وابن أبي حاتم 7/ 70 ب.]]. ونحو هذا يروى عن مجاهد [[ذكر هذه الرواية عن مجاهد: الثعلبي 3/ 90 ب. ورواها الطبري 18/ 170.]]. والمعنى: أو بيوت أنفسكم مما اختزنتم وملكتم. وهذا أبعد الوجوه؛ لأن الناس لا يتوقّون أن يأكلوا من بيوتهم. وقوله: ﴿أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾ قال المقاتلان: انطلق رجل غازيًا يدعى الحارث بن عمرو [[في (أ): (عمر).]] واستخلف مالك بن زيد [[في (أ): (يزيد).]] في أهله وخزائنه [[في (ظ)، (ع): (وخزانته).]]، فلما رجع [[في (أ): (خرج).]] الحارث من غزاته [[في (أ): (غرايه).]] رأى مالكًا مجهودًا قد أصابه الضرّ، فقال: ما أصابك؟ قال مالك [[(مالك): ساقطة من (ع).]]: لم يكن عندي سعة. فقال الحارث: أما تركتك في أهلي ومالي؟ قال: بلى، ولكن لم يكن يحلّ [[(يحل): ساقطة من (أ).]] لي مالك، ولم أكن لآكل ما لا يحلّ لي. فأنزل الله ﴿أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾ يعني الحارث بن عمرو حين خلَّف مالكًا في أهله [[رواه ابن أبي حاتم 7/ 70 ب، 71 أعن مقاتل بن حيَّان. وهو في "تفسير مقاتل بن سليمان" 2/ 41 ب.]]. والمعنى: ليس عليكم جناح أن تأكلوا من منازل هؤلاء إذا دخلتموها وإن لم يحضروا ولم يعلموا [[في (أ): (وإن لم تحضروا ولم تعلموا).]] من غير أن تتزودوا أو تحملوا [[في (ع): (من غير أن يتزودوا أو يحملوا).]]. وكان الحسن وقتادة [[ذكرها عنها بهذا اللفظ الثعلبي 3/ 90 ب. وعن قتادة بمعناه رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 64، والطبري 18/ 171، وابن أبي حاتم 7/ 70 ب.]] يريان دخول [[في (ظ)، (ع): (دخل).]] الرجل بيت صديقه والتحرم من طعامه [[في (ظ)، (ع): (بطعامه).]] من غير استئذان بهذه الآية. قال معمر: ودخلت على قتادة فقلت له [[(له): ساقطة من (أ).]]: أشرب من هذا الحُبّ [[الحُب: الجرَّة: الضخمة، أو الذي يوضع فيه الماء. "لسان العرب" 1/ 295 (حبب).]]؟ -حب فيه ماء- فقال: أنت لنا صديق، ثم قرأ ﴿أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾ [[رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 65، والطبري 18/ 171، وابن حبان في "روضة العقلاء" ص 87 عن معمر، به.]]. وقال ابن عباس- في رواية عطاء: أو صديقكم إذا دعاكم [[ذكر الماوردي 4/ 124 هذا القول بمعناه، ولم ينسبه لأحد.]]. وقوله تعالى ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾ قال أكثر المفسرين: نزلت في بني ليث بن بكر [[بطن من كنانة بن خزيمة، من العدنانية، وهو بنو ليث بن بكر بن عبد مناة من كنانة بن خزيمة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. كانوا يقيمون حول مكة. "جمهرة أنساب العرب" لابن حزم ص 180، "معجم قبائل العرب" لكحالة 3/ 1019 - 1020.]] -وهم حيّ من كنانة- كان الرجل لا يأكل وحده، يمكث يومه فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئًا، وربما كانت معه الإبل الحُفَّل [[الحُفَّل: كرُكَّع-: جمع حافلة، وهي التي امتلأ ضرعها لبنًا. انظر: "لسان العرب" 11/ 157 (حف)، "القاموس المحيط" 3/ 358.]] فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه، فأعلم الله أن الرجل منهم إن أكل وحده فلا إثم عليه [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 54. وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 149، "البيان في غريب القرآن" للأنباري 2/ 200، "الدر المصون" 8/ 444.]]. ونصب ﴿جَمِيعًا﴾ على الحال. ومعنى ﴿أَشْتَاتًا﴾: متفرقين، جمع شت، والشت المصدر بمعنى: التفرق، يقال: شت القوم، إذا تفرقوا. ثم يوصف به ويجمع [[انظر: "تهذيب اللغة" للأزهري 11/ 269 (شت)، "الصحاح" للجوهري 1/ 254 (شتت)، "لسان العرب" 2/ 48 - 49 (شتت).]]. وهذا معنى قول قتادة، ومقاتل، والضحاك، وابن جريج، ورواية الوالبي عن ابن عباس [[ذكره الثعلبي 3/ 90 عن هؤلاء عدا مقاتل. == وقول مقاتل في "تفسيره" 2/ 41 ب. وعن قتادة: رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 65، والطبري 18/ 172، وابن أبي حاتم 7/ 74 ب. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 225 ونسبه أيضًا لعبد ابن حميد. وقول الضحَّاك وابن جريج رواه عنهما الطبري 18/ 172. ورواية الوالبي عن ابن عباس رواها الطبري 18/ 172، وابن أبي حاتم 7/ 71 أ.]]. وقال الكلبي: كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعامًا عزلوا للأعمى [[في (أ): (الأعمى).]] على حدى، وللأعرج على حدة. فنزلت هذه الآية [رخصة لهم [[(لهم): ساقطة من (ع).]]] [[ساقط من (ظ).]] [[رواه عنه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 65.]]. وذهب قوم إلى [[(إلى): ساقطة من (ظ)، (ع).]] أنَّ هذا عام أباح الله تعالى للناس الأكل إن شاءوا مجتمعين وإن شاءوا متفرقين. وهذا قول مقاتل بن حيان [[روى ابن أبي حاتم 7/ 71 ب هذا المعنى عن سعيد بن جبير، ثم قال: وروى عنه مقاتل بن حيان نحو ذلك.]]، ومعنى قول ابن عباس في رواية عطاء [[انظر: "الثعلبي" 3/ 90 ب، والبغوي 6/ 65.]]. وقال عكرمة وأبو صالح: نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاءوا مجتمعين أو متفرقين [[ذكره الثعلبي 3/ 90 ب عنهما. == ورواه عنهما الطبري 18/ 174. وذكره عنهما السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 225 ونسبه أيضًا لابن المنذر. قال الطبري 18/ 172 - بعد ذكره للروايات في سبب نزول الآية-: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله وضع الحرج عن المسلمين أن يأكلوا جميعًا معًا إذا شاءوا أو أشتاتًا متفرقين إذا أرادوا وجائز أن يكون نزل بسبب من كان يتخوف من الأغنياء الأكل مع الفقير، وجائز أن يكون بسبب القوم الذين ذكر أنَّهم كانوا لا يطعمون وحدانا، وبسبب غير ذلك، ولا خبر بشيء من ذلك يقطع العذر، ولا دلالة في ظاهر التنزيل على حقيقة شيء منه، والصواب التسليم لما دل عليه ظاهر التنزيل، والتوقف فيما لم يكن على صحته دليل.]]. وقوله: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ ثلاثة أقوال: أحدها: أن هذا في دخول الرجل بيت نفسه والسلام على أهله ومن في بيته. وهذا قول جابر بن عبد الله، والزهري، وقتادة، وعطاء، والأعمش، ومعنى قول ابن عباس في رواية عطاء [[قال الثعلبي في "الكشف والبيان" 7/ 91 أ: (وهو قول جابر بن عبد الله، وطاووس والزهري، وقتادة، والضحاك، وعمرو بن دينار، ورواية عطاء الخراساني عن ابن عباس.]]. وروى أبو الزبير، عن جابر قال: إذا دخلت على أهلك فسلّم عليهم ﴿تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ [[رواه البخاري في "الأدب المفرد" ص 319، والطبري 18/ 173، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 7/ 72 أ. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 226 وزاد نسبته لابن مردويه.]]. وروى عنه مرفوعًا أن رسول الله -ﷺ- قال: "إذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أهلها" [[رواه الحاكم في "مستدركه" 2/ 402 من حديث جابر مرفوعًا، وقال: غريب الإسناد والمتن.]]. وقال الزهري وقتادة -في قوله ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ - قالا: بيتك إذا دخلت فقل: السلام عليكم [[رواه عنهما عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 65، والطبري 18/ 173، وابن أبي حاتم 7/ 71 ب.]]. وقال عطاء: إذا دخلت على أهلك فسلّم [[رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 8/ 455، والطبري 18/ 173.]]. وقال الأعمش: يقول: فسلموا على أهليكم إذا دخلتم بيوتكم [[لم أجده. وقد روى الطبري 18/ 174 من طريق الأعمش، عن إبراهيم قال: إذا دخلت المسجد .. وإذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد .. وإذا دخلت بيتك فقل: السلام عليكم.]]. وقال ابن عباس -في رواية عطاء-: هذا [[(هذا): ساقطة من (أ).]] أدب من الله -عز وجل- أمر أولياءه بالسلام على أهلهم. وعلى هذا قال: ﴿عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ وهو يريد أهليكم، لأن أهل الرجل في نفسه. القول الثاني: أن معنى الآية: ليسلم بعضكم على بعض إذا دخلتم بيوتًا. وهو قول الحسن، وزيد بن أسلم وابنه، والسدي، والكلبي، والمقاتلين [[قول ابن زيد ذكره عنه الثعلبي 3/ 90 ب. ورواه عنه الطبري 18/ 174، وابن أبي حاتم 7/ 72 ب. وقول الكلبي رواه عنه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 66. وقول مقاتل بن حيان رواه عنه ابن أبي حاتم 7/ 72 أ، ب. وسيأتي تخريج أقوال الباقين.]]، كل هؤلاء قالوا: معنى الآية إذا دخلتم بيوتًا فسلموا على أهلها وعلى من فيها من المسلمين، وليسلم بعضكم على بعض عند دخول البيت والمنازل. وعلى هذا معنى قوله ﴿عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ أي على أهل ملتكم. قاله السدي [[ذكره عنه الماوردي 4/ 126.]]. وقال مقاتل: على أهل دينكم [["تفسير مقاتل" 2/ 41 ب.]]. وقال زيد بن أسلم: يقول [[يقول: ساقطة من (ع).]] على المسلمين [[رواه ابن أبي حاتم 7/ 72 أ.]]. وقال الحسن: هذا كقوله ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: 29] [[ذكره عنه الثعلبي 3/ 90 ب. ورواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 66، والطبري 18/ 174، وابن أبي حاتم 7/ 72 ب، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 228 وزاد نسبته لابن المنذر.]]. القول الثالث: أنَّ هذا في دخول البيوت الخالية. روى منصور [[هو منصور بن المعتمر.]] عن إبراهيم [[هو إبراهيم النَّخعي.]] -في هذه الآية- قال: إذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين [[رواه الطبري 28/ 174 - 175 من رواية منصور عن إبراهيم.]]. وقال مجاهد -في هذه الآية-: إذا دخلت بيتًا ليس فيه أحد فقل: السلام علينا من ربنا، السلام علينا [[في (ع): (عليكم).]] وعلى عباد الله الصالحين [[رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 66، وسعيد بن منصور في "تفسيره" ل 58 أ ==، ب، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 8/ 461، وابن أبي حاتم 7/ 72 أوذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 228 ونسبه أيضًا لعبد بن حميد وابن المنذر.]]. وهذا قول ابن عمر [[رواه عنه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 8/ 460، والبخاري في "الأدب المفرد" ص 310، والطبري في "تفسيره" 18/ 175.]]، والحكم [[(والحكم): في حاشية (ع)، وهو: الحكم بن عتيبة، وقوله لم أجده.]]، وماهان [[هو: ماهان الحنفي. وروى عنه هذا القول عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 65، وابن أبي شيبة في "مصنفه" 8/ 461، والطبري 18/ 174.]]. وروى عمرو بن دينار، عن ابن عباس في هذه الآية قولًا رابعًا في قوله ﴿فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ قال: هو المسجد إذا دخلتم فسلموا على من فيه، وقيل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين [[رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 66، والطبري 8/ 174، وابن أبي حاتم 7/ 72 أ، والحاكم في "مستدركه" 2/ 401، والثعلبي في "الكشف والبيان" 3/ 91 أكلهم من طريق عمرو بن دينار، عن ابن عباس، به. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" 6/ 227 ونسبه أيضًا لابن المنذر والبيهقي. وصحح ابن العربي 3/ 1408 أن المراد البيوت كلها، لعموم القول، ولا دليل على التخصيص.]]. فالبيوت في هذا القول المساجد. قوله ﴿تَحِيَّةً﴾ ذكرنا معناها عند قوله ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ﴾ [النساء: 86]. قال أبو إسحاق: هو نصبٌ على المصدر لأن قوله (فسلموا) بمعنى [[في (ظ): (يعني).]] فتحيَّوا [[في (أ): (فحيوا).]] ويحيي بعضكم تحية [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 55. وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس 3/ 149، "مشكل إعراب القرآن" لمكي 2/ 517، "الإملاء" للعكبري 2/ 160.]]. وقوله ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ قال ابن عباس: أي هذه تحية حياكم الله بها [[لم أجده بهذا اللفظ، وقد روى ابن أبي حاتم 7/ 72 ب من طريق الوالبي، عن ابن عباس في قوله (تحيّة من عند الله): قال وهو السلام: لأنَّه اسم الله، وهو تحية أهل الجنَّة.]]. وقال الفراء [[(الفراء): ساقط من (ع).]]: أي من أمر الله أمركم بها تفعلونه [[في (أ): (تفعلوه).]] طاعة له [["معاني القرآن" للفراء 2/ 262.]]. وقوله ﴿مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ قال ابن عباس: يريد حسنة جميلة [[ذكره عنه البغوي 6/ 66.]]. وقال الزجاج: أعلم الله أن السلام مبارك طيب لما فيه من الأجر والثواب [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 55 إلى قوله: طيب. أما قوله: لما فيه من الأجر والثواب. فهذا كلام الطبري في "تفسيره" 18/ 172.]]. قوله ﴿كَذَلِكَ﴾ أي كبيانه في هذه الآية. ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ﴾ يفصل الله لكم معالم دينكم كما بيّن في أمر الطعام والتسليم [[في (ظ): (والسلام).]] [[الطبري 18/ 175 مع اختلاف يسير.]]. ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ لكي تفقهوا [[في (أ): (تفقهون).]] عن الله أمره ونهيه وأدبه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب