الباحث القرآني

﴿لَيْسَ عَلى الأعْمى حَرَجٌ ولا عَلى الأعْرَجِ حَرَجٌ ولا عَلى المَرِيضِ حَرَجٌ﴾ في كِتابِ الزَّهْراوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّ هَؤُلاءِ الطَّوائِفَ كانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِن مُؤاكَلَةِ الأصِحّاءِ حِذارًا مِنِ اسْتِقْذارِهِمْ إيّاهم وخَوْفًا مِن تَأذِّيهِمْ بِأفْعالِهِمْ وأوْضاعِهِمْ فَنَزَلَتْ. وقِيلَ: كانُوا يَدْخُلُونَ عَلى الرَّجُلِ لِطَلَبِ الطَّعامِ فَإذا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ ما يُطْعِمُهم ذَهَبَ بِهِمْ إلى بُيُوتِ آبائِهِمْ وأُمَّهاتِهِمْ أوْ إلى بَعْضِ مَن سَمّاهُمُ اللَّهُ تَعالى في الآيَةِ الكَرِيمَةِ فَكانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِن ذَلِكَ ويَقُولُونَ: ذَهَبَ بِنا إلى بَيْتِ غَيْرِهِ ولَعَلَّ أهْلَهُ كارِهُونَ لِذَلِكَ. وكَذا كانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الأكْلِ مِن أمْوالِ الَّذِينَ كانُوا إذا خَرَجُوا إلى الغَزْوِ وخَلَّفُوا هَؤُلاءِ الضُّعَفاءَ في بُيُوتِهِمْ ودَفَعُوا إلَيْهِمْ مَفاتِيحَها وأذِنُوا لَهم أنْ يَأْكُلُوا مِمّا فِيها مَخافَةَ أنْ لا يَكُونُ إذْنُهم عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنهم. وكانَ غَيْرُ هَؤُلاءِ أيْضًا يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الأكْلِ في بُيُوتِ غَيْرِهِمْ، فَعَنْ عِكْرِمَةَ كانْتِ الأنْصارُ في أنْفُسِها قَزازَةً فَكانَتْ لا تَأْكُلُ مِنَ البُيُوتِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى، وقالَ السَّدِّيُّ: كانَ الرَّجُلُ يَدْخُلُ بَيْتَ أبِيهِ أوْ بَيْتَ أخِيهِ أوْ أُخْتِهِ فَتُتْحِفُهُ المَرْأةُ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّعامِ فَيَتَحَرَّجُ لِأجْلِ أنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ رَبُّ البَيْتِ، والحَرَجُ لُغَةً كَما قالَ الزَّجّاجِ الضَّيِّقِ مِنَ الحَرَجَةِ وهو الشَّجَرُ المُلْتَفُّ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ لِضِيقِ المَسالِكِ فِيهِ، وقالَ الرّاغِبُ: هو في الأصْلِ مُجْتَمِعُ الشَّيْءِ ثُمَّ أطْلَقَ عَلى الضِّيقِ وعَلى الإثْمِ، والمَعْنى عَلى الرِّوايَةِ الأُولى لَيْسَ عَلى هَؤُلاءِ حَرَجٌ في أكْلِهِمْ مَعَ الأصِحّاءِ، ويُقَدَّرُ عَلى سائِرِ الرِّواياتِ ما يُناسِبُ ذَلِكَ مِمّا لا يَخْفى، ( وعَلى ) عَلى مَعْناها في جَمِيعِ (p-218)ذَلِكَ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ لَمّا نَزَلَ ﴿ولا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ﴾ [البَقَرَةُ: 188] تَحَرَّجَ المُسْلِمُونَ عَنْ مُؤاكَلَةِ الأعْمى لِأنَّهُ لا يُبْصِرُ مَوْضِعَ الطَّعامِ الطَّيِّبِ والأعْرَجُ لِأنَّهُ لا يَسْتَطِيعُ المُزاحِمَةَ عَلى الطَّعامِ والمَرِيضُ لِأنَّهُ لا يَسْتَطِيعُ اسْتِيفاءَ الطَّعامِ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ، وقِيلَ: كانَتِ العَرَبُ ومَن بِالمَدِينَةِ قَبْلَ البَعْثِ تَجْتَنِبُ الأكْلَ مَعَ أهْلِ هَذِهِ الأغْدارِ لِمَكانِ جَوَلانِ يَدِ الأعْمى وانْبِساطِ جَلْسَةِ الأعْرَجِ وعَدَمِ خُلُوِّ المَرِيضِ مِن رائِحَةٍ تُؤْذِي أوْ جُرْحٍ يَنِضُّ أوْ أنْفٍ يَذِنُّ فَنَزَلَتْ. ومَن ذَهَبَ إلى هَذا جَعَلَ ( عَلى ) بِمَعْنى في أيْ لَيْسَ في مُؤاكَلَةِ الأعْمى حَرَجٌ وهَكَذا وإلّا لَكانَ حَقُّ التَّرْكِيبِ لَيْسَ عَلَيْكم أنْ تَأْكُلُوا مَعَ الأعْمى حَرَجٌ وكَذا يُقالُ فِيما بَعْدُ وفِيهِ بُعْدٌ لا يَخْفى، وقِيلَ: لا حاجَةَ إلى أنْ يُقَدَّرَ مَحْذُوفٌ بَعْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَرَجٌ﴾ حَسْبَما أُشِيرَ إلَيْهِ إذِ المَعْنى لَيْسَ عَلى الطَّوائِفِ المَعْدُودَةِ ﴿ولا عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ حَرَجٌ ﴿أنْ تَأْكُلُوا﴾ أنْتُمْ وهَمَ مَعَكم ﴿مِن بُيُوتِكُمْ﴾ إلَخْ، وإلى كَوْنِ المَعْنى كَذَلِكَ ذَهَبَ مَوْلانا شَيْخُ الإسْلامِ ثُمَّ قالَ: وتَعْمِيمُ الخِطابِ لِلطَّوائِفِ المَذْكُورَةِ أيْضًا يَأْباهُ ما قَبْلَهُ وما بَعْدَهُ فَإنَّ الخِطابَ فِيهِما لِغَيْرِ أُولَئِكَ الطَّوائِفِ حَتْمًا ولَعَلَّ ما تَقَدَّمَ أوْلى، وأمّا تَعْمِيمُ الخِطابِ فَلا أقُولُ بِهِ أصْلًا، وعَنِ ابْنِ زَيْدٍ والحَسَنِ وذَهَبَ إلَيْهِ الجِبائِيُّ وقالَ أبُو حَيّانَ: هو القَوْلُ الظّاهِرُ أنَّ الحَرَجَ المَنفِيَّ عَنْ أهْلِ العُذْرِ هو الحَرَجُ في القُعُودِ عَنِ الجِهادِ وغَيْرِهِ مِمّا رَخَّصَ لَهم فِيهِ والحَرَجُ المَنفِيُّ عَمَّنْ بَعْدَهُمُ الحَرَجُ في الأكْلِ مِنَ البُيُوتِ المَذْكُورَةِ، قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: والكَلامُ عَلَيْهِ صَحِيحٌ لِالتِقاءِ الطّائِفَتَيْنِ في أنَّ كُلًّا مَنفِيٌّ عَنْهُ الحَرَجُ، ومِثالُهُ أنْ يُسْتَفْتى مُسافِرٌ عَنِ الإفْطارِ في رَمَضانَ وحاجٌّ مُفْرَدٌ عَنْ تَقْدِيمِ الحَلْقِ عَلى النَّحْرِ فَتَقُولُ: لَيْسَ عَلى المُسافِرِ حَرَجٌ أنْ يَفْطُرَ ولا عَلَيْكَ يا حاجَّ أنْ تُقَدِّمَ الحَلْقَ عَلى النَّحْرِ وهو تَحْقِيقٌ لِأمْرِ العَطْفِ وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا كانَ فِيهِ غَرابَةٌ لِبُعْدِ الجامِعِ بادِئَ النَّظَرِ أزالَهُ بِأنَّ الغَرَضَ لَمّا كانَ بَيانُ الحُكْمِ كَفاءَ الحَوادِثِ والحادِثَتانِ وإنْ تَبايَنَتا كُلُّ التَّبايُنِ إذا تَقارَنَتا في الوُقُوعِ والِاحْتِياجِ إلى البَيانِ قُرْبَ الجامِعِ بَيْنَهُما ولا كَذَلِكَ إذا كانَ الكَلامُ في غَيْرِ مَعْرِضِ الإفْتاءِ والبَيانِ، ولَيْسَ هَذا القَوْلُ مِنهُ بِناءً عَلى أنَّ الِاكْتِفاءَ في تَصَوُّرِ ما كافٍ في الجامِعِيَّةِ كَما ظَنَّ، وبِهَذا يَظْهَرُ الجَوابُ عَمّا اعْتَرَضَ بِهِ عَلى هَذِهِ الرِّوايَةِ مِن أنَّ الكَلامَ عَلَيْها لا يُلائِمُ ما قَبْلَهُ ولا ما بَعْدَهُ لِأنَّ مُلاءَمَتَهُ لِما بَعْدَهُ قَدْ عَرَفَتْ وجْهَها، وأمّا مُلاءَمَتُهُ لِما قَبْلَهُ فَغَيْرُ لازِمَةٍ إذْ لَمْ يَعْطِفْ عَلَيْهِ، ورُبَّما يُقالُ في وجْهِ ذِكْرِ نَفْيِ الحَرَجِ عَنْ أهْلِ العُذْرِ بِتَرْكِ الجِهادِ وما يُشْبِهُهُ مِمّا رُخِّصَ لَهم فِيهِ أثْناءَ بَيانِ الِاسْتِئْذانِ ونَحْوِهِ: إنَّ نَفْيَ الحَرَجِ عَنْهم بِذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ عَدَمَ وُجُوبِ الِاسْتِئْذانِ مِنهُ ﷺ لِتَرْكِ ذَلِكَ فَلَهُمُ القُعُودُ عَنِ الجِهادِ ونَحْوُهُ مِن غَيْرِ اسْتِئْذانٍ ولا إذَنْ كَما أنَّ لِلْمالِيكِ والصِّبْيانِ الدُّخُولَ في البُيُوتِ في غَيْرِ العَوْراتِ الثَّلاثِ مِن غَيْرِ اسْتِئْذانٍ ولا إذَنْ مِن أهْلِ البَيْتِ، ومِثْلُ هَذا يَكْفِي وجْهًا في تَوْسِيطِ جُمْلَةٍ أثْناءِ جُمَلٍ ظاهِرَةِ التَّناسُبِ، ويَرُدُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ عَسى أنْ يَدْفَعَ بِالتَّأمُّلِ، وإنَّما لَمْ يَذْكُرِ الحَرَجَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ بِأنْ يُقالَ: ولا عَلى أنْفُسِكم حَرَجٌ اكْتِفاءً بِذِكْرِهِ فِيما مَرَّ والأواخِرُ مَحَلُّ الحَذْفِ، ولَمْ يَكْتَفِ بِحَرَجٍ واحِدٍ بِأنْ يُقالَ: لَيْسَ عَلى الأعْمى والأعْرَجِ والمَرِيضِ وأنْفُسِكم حَرَجٌ أنْ تَأْكُلُوا دَفْعًا لِتَوَهُّمِ خِلافِ المُرادِ، وقِيلَ حَذْفُ الحَرَجِ آخِرًا لِلْإشارَةِ إلى مُغايَرَتِهِ لِلْمَذْكُورِ ولا تَقْدَحُ في دَلالَتِهِ عَلَيْهِ لا سِيَّما إذا قُلْنا: إنَّ الدّالَّ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِيهِ وهو كَما تَرى، ومَعْنى ﴿عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ كَما في الكَشّافِ عَلَيْكم وعَلى مَن في مِثْلِ حالِكم مِنَ المُؤْمِنِينَ، وفِيهِ كَما في الكَشْفِ إشارَةٌ إلى فائِدَةِ إقْحامِ النَّفْسِ وأنَّ الحاصِلَ (p-219)لَيْسَ عَلى الضُّعَفاءِ المُطَعَّمِينَ ولا عَلى الذّاهِبِينَ إلى بُيُوتِ القُراباتِ ومَن في مِثْلِ حالِهِمْ وهُمُ الأصْدِقاءُ حُرَجٌ. وقِيلَ: إنَّ فائِدَةَ إقْحامِها الإشارَةُ إلى أنَّ الأكْلَ المَذْكُورَ مَعَ أنَّهُ لا حَرَجَ فِيهِ لا يُخِلُّ بِقَدْرِ مِن لَهُ شَأْنٌ وهو وجْهٌ حَسَنٌ دَقِيقٌ لا يُلْزِمُهُ اسْتِعْمالَ اللَّفْظِ في حَقِيقَتِهِ ومَجازِهِ ظاهِرًا، وكانَ مَنشَؤُهُ كَثْرَةُ إقْحامِ النَّفْسِ في ذَوِي الشَّأْنِ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكم عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ [الأنْعامُ: 54] ولَمْ يَقُلْ سُبْحانَهُ: كَتَبَ رَبُّكم عَلَيْهِ الرَّحْمَةَ، وقَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ فِي الحَدِيثِ القُدْسِيِّ: ««يا عِبادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلى نَفْسِي»» دُونَ أنْ يَقُولَ جَلَّ وعَلا: إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَيَّ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يَعْرِفُهُ المُتَتَبِّعُ المُنْصِفُ، وما قِيلَ مِن أنَّ فائِدَةَ الإقْحامِ الإشارَةُ إلى أنَّ التَّجَنُّبَ عَنِ الأكْلِ المَذْكُورِ لا يَخْلُو عَنْ رِعايَةِ حَظِّ النَّفْسِ مَعَ خَفائِهِ لا يُلائِمُ إلّا بَعْضَ الرِّواياتِ السّابِقَةِ في سَبَبِ النُّزُولِ، ونَحْوُ ما قِيلَ مِن أنَّها أُقْحِمَتْ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ نَفْيَ الحَرَجِ عَنِ المُخاطِبِينَ في الأكْلِ مِنَ البُيُوتِ المَذْكُورَةِ لِذَواتِهِمْ بِخِلافِ نَفْيِ الحَرَجِ عَنْ أهْلِ الأعْذارِ في الأكْلِ مِنها فَإنَّهُ لِكَوْنِهِمْ مَعَ المُخاطِبِينَ وذَهابِهِمْ بِهِمْ إلَيْها، والتَّعَرُّضُ لِنَفْيِ الحَرَجِ عَنْهم في أكْلِهِمْ مِن بُيُوتِهِمْ مَعَ ظُهُورِ انْتِفاءِ ذَلِكَ لِإظْهارِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُ وبَيْنَ قُرَنائِهِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويُكَلِّمُ النّاسَ في المَهْدِ وكَهْلا﴾ [آلُ عِمْرانَ: 46] لَكِنَّ ذَلِكَ فِيما نَحْنُ فِيهِ مِن أوَّلِ الأمْرِ، ولَمْ يَتَعَرَّضْ لِبُيُوتِ أوْلادِهِمْ لِظُهُورِ أنَّها كَبُيُوتِهِمْ، وذَكَرَ جَمْعٌ أنَّها داخِلَةٌ في بُيُوتِ المُخاطَبِينَ، فَقَدْ رَوى أبُو داوُدَ وابْنُ ماجَّةٍ ««أنْتَ ومالُكَ لِأبِيكَ»» فِي حَدِيثٍ رَواهُ الشَّيْخانِ وغَيْرُهُما ««إنَّ أطْيَبَ ما يَأْكُلُ المَرْءُ مِن كَسْبِهِ وإنَّ ولَدَهُ مِن كَسْبِهِ»» وقالَ بَعْضُهُمُ: المُرادُ بِبُيُوتِ المُخاطَبِينَ بُيُوتُ أوْلادِهِمْ وأضافَها إلَيْهِمْ لِمَزِيدِ اخْتِصاصِها بِهِمْ كَما يَشْهَدُ بِهِ الشَّرْعُ والعُرْفُ، وقِيلَ: المَعْنى أنْ تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكم مِن مالِ أوْلادِكم وأزْواجِكُمُ الَّذِينَ هم في بُيُوتِكم ومِن جُمْلَةِ عِيالِكم وهو كَما تَرى ﴿أوْ بُيُوتِ آبائِكم أوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ﴾ وقَرَأ حَمْزَةُ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ والمِيمِ، والكِسائِيُّ وطَلْحَةُ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ وفَتْحِ المِيمِ ﴿أوْ بُيُوتِ إخْوانِكم أوْ بُيُوتِ أخَواتِكم أوْ بُيُوتِ أعْمامِكم أوْ بُيُوتِ عَمّاتِكم أوْ بُيُوتِ أخْوالِكم أوْ بُيُوتِ خالاتِكم أوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ﴾ أيْ أوْ مِمّا تَحْتَ أيْدِيكم وتَصَرُّفِكم مِن بُسْتانٍ أوْ ماشِيَةٍ وكالَّةٍ أوْ حِفْظًا وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلامُ ابْنِ عَبّاسٍ. فَقَدْ رَوى عَنْهُ غَيْرُ واحِدٍ أنَّهُ قالَ: ذاكَ وكِيلُ الرَّجُلِ وقِيَمُهُ في ضَيْعَتِهِ وماشِيَتُهُ فَلا بَأْسَ عَلَيْهِ أنْ يَأْكُلَ مِن ثَمَرِ حائِطِهِ ويَشْرَبَ مِن لَبَنِ ماشِيَتِهِ ولا يَحْمِلَ ولا يَدَّخِرَ. وقالَ السَّدِّيُّ: هو الرَّجُلُ يُوَلِّي طَعامَ غَيْرِهِ ويَقُومُ عَلَيْهِ فَلا بَأْسَ أنْ يَأْكُلَ مِنهُ. وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هو الزَّمَنُ يُسَلِّمُ إلَيْهِ مِفْتاحَ البَيْتِ ويُؤْذِنُ لَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ، وقِيلَ: ولِيُّ اليَتِيمِ الَّذِي لَهُ التَّصَرُّفُ بِمالِهِ فَإنَّهُ يُباحُ لَهُ الأكْلُ مِنهُ بِالمَعْرُوفِ. ومِلْكُ المِفْتاحِ عَلى جَمِيعِ ذَلِكَ كِنايَةٌ عَنْ كَوْنِ الشَّيْءِ تَحْتَ يَدِ الشَّخْصِ وتَصَرُّفِهِ. والعَطْفُ عَلى ما أشَرْنا إلَيْهِ عَلى ما بَعْدَ ﴿مِن﴾ وعَنْ قَتادَةَ أنَّ المُرادَ بِما مَلَّكْتُمْ مَفاتِحَهُ العَبِيدُ فالعَطْفُ عَلى ما بَعْدِ ﴿بُيُوتِ﴾ والتَّقْدِيرُ أوْ بُيُوتُ الَّذِينَ مَلَكْتُمْ مُفاتِحَهم. وكانَ مِلْكُ المِفْتاحِ لِما شاعَ كِنايَةً لَمْ يَنْظُرْ فِيهِ إلى أنَّ المُتَصَرِّفَ مِمّا يَتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالمِفْتاحِ أوَّلًا ومِثْلُهُ كَثِيرٌ، أوْ هو تَرْشِيحٌ لِجَرْيِ العَبِيدِ مَجْرى الجَمادِ مِنَ الأمْوالِ المُشْعِرِ بِهِ اسْتِعْمالُ ما فِيهِمْ، ولا يَخْفى عَلَيْكَ بَعْدَ هَذا القَوْلِ وأنَّهُ يَنْدَرِجُ بُيُوتُ العَبِيدِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿بُيُوتِكُمْ﴾ لِأنَّ العَبْدَ لا مِلْكَ لَهُ، وإرادَةُ المَعْتُوقِينَ مِنهم بِقَرِينَةٍ ﴿مَلَكْتُمْ﴾ بِلَفْظِ الماضِي مِمّا لا يَنْبَغِي أنْ يُلْتَفَتَ إلَيْهِ. وقَرَأ ابْنُ جُبَيْرٍ «مُلِّكَتِمُ» بِضَمِّ المِيمِ وكَسْرِ اللّامِ مُشَدَّدَةً «ومَفاتِيحُهُ» بِياءٍ بَعْدَ (p-220)التّاءِ جَمْعُ مِفْتاحٍ. وقَرَأ قَتادَةُ وهارُونُ عَنْ أبِي عَمْرٍو «مِفْتاحَهُ» بِالإفْرادِ وهو آلَةُ الفَتْحِ وكَذا المُفَتَّحُ كَما في القامُوسِ، وقالَ الرّاغِبُ: المُفَتَّحُ والمِفْتاحُ ما يُفْتَحُ بِهِ وجَمْعُهُ مَفاتِيحُ ومَفاتِحُ وفي بَعْضِ الكُتُبِ أنَّ جَمْعَ مُفَتَّحٍ مَفاتِحُ وجَمْعُ مِفْتاحٍ مَفاتِيحُ ﴿أوْ صَدِيقِكُمْ﴾ أيْ أوْ بُيُوتِ صَدِيقِكم وهو مَن يُصَدِّقُ في مَوَدَّتِكَ وتُصَدِّقُ في مَوَدَّتِهِ يَقَعُ عَلى الواحِدِ والجَمْعِ، والمُرادُ بِهِ هُنا الجَمْعُ، وقِيلَ: المُفْرَدُ، وسِرُّ التَّعْبِيرِ بِهِ دُونَ أصْدِقائِكُمُ الإشارَةُ إلى قِلَّةِ الأصْدِقاءِ حَتّى قِيلَ: ؎صادُ الصَّدِيقُ وكافُ الكِيمْياءِ مَعًا لا يُوجِدانِ فَدَعْ عَنْ نَفْسِكَ الطَّمَعا ونُقِلَ عَنْ هِشامِ بْنِ عَبْدِ المَلِكَ أنَّهُ قالَ: نِلْتُ ما نِلْتُ حَتّى الخِلافَةِ وأعْوَزَنِي صَدِيقٌ لا أحْتَشِمُ مِنهُ، وقِيلَ: إنَّهُ إشارَةٌ إلى أنَّ شَأْنَ الصَّداقَةِ رَفْعُ الِاثْنَيْنِيَّةِ ورَفْعُ الحَرَجِ في الأكْلِ مِن بَيْتِ الصَّدِيقِ لِأنَّهُ أرْضى بِالتَّبَسُّطِ وأُسِرُّ بِهِ مِن كَثِيرٍ مِن ذَوِي القَرابَةِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما الصَّدِيقُ أكْبَرُ مِنَ الوالِدَيْنِ إنِ الجَهَنَّمِيَّيْنِ لَمّا اسْتَغاثُوا لَمْ يَسْتَغِيثُوا بِالآباءِ والأُمَّهاتِ فَقالُوا: ﴿فَما لَنا مِن شافِعِينَ﴾ ﴿ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ [الشُّعَراءُ: 100، 101] . وعَنْ جَعْفَرٍ الصّادِقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ مِن عِظَمِ حُرْمَةِ الصَّدِيقِ أنْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعالى مِنَ الأُنْسِ والثِّقَةِ والِانْبِساطِ ورَفْعِ الحِشْمَةِ بِمَنزِلَةِ النَّفْسِ والأبِ والأخِ، وقِيلَ لِأفْلاطُونَ: مَن أحَبُّ إلَيْكَ أخُوكَ أمْ صَدِيقُكَ؟ فَقالَ: لا أُحِبُّ أخِي إلّا إذا كانَ صَدِيقِي، وقَدْ كانَ السَّلَفُ يَنْبَسِطُونَ بِأكْلِ أصْدِقائِهِمْ مِن بُيُوتِهِمْ ولَوْ كانُوا غَيْبًا. يُحْكى عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ دَخَلَ دارَهُ وإذا حَلْقَةٌ مِن أصْدِقائِهِ وقَدِ اسْتَلُّوا سِلالًا مِن تَحْتِ سَرِيرِهِ فِيها الخَبِيصُ وأطايِبُ الأطْعِمَةِ وهم مُكَبُّونَ عَلَيْها يَأْكُلُونَ فَتَهَلَّلَتْ أسارِيرُ وجْهِهِ سُرُورًا وضَحِكَ وقالَ: هَكَذا وجَدْناهم هَكَذا وجَدْناهم يُرِيدُ كُبَراءَ الصَّحابَةِ ومَن لَقِيَهم مِنَ البَدْرِيِّينَ، وكانَ الرَّجُلُ مِنهم يَدْخُلُ دارَ صَدِيقِهِ وهو غائِبٌ فَيَسْألُ جارِيَتَهُ كِيسَهُ فَيَأْخُذُ ما شاءَ فَإذا حَضَرَ مَوْلاها فَأخْبَرْتُهُ أعْتَقَها سُرُورًا بِذَلِكَ، وهَذا شَيْءٌ قَدْ كانَ. «إذا النّاسُ ناسٌ والزَّمانُ زَمانٌ» وأمّا اليَوْمَ فَقَدْ طُوِيَ فِيما أعْلَمُ بِساطَهُ واضْمَحَلَّ والأمْرُ لِلَّهِ تَعالى فُسْطاطَهُ وعَفَتْ آثارُهُ وأفَلَتْ أقْمارُهُ وصارَ الصَّدِيقُ اسْمًا لِلْعَدُوِّ الَّذِي يُخْفِي عَداوَتَهُ ويَنْتَظِرُ لَكَ حَرْبَ الزَّمانِ وغارَتَهُ فَآهٌ ثُمَّ آهٌ ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ. ؎ومِن نَكَدِ الدُّنْيا عَلى الحَرِّ أنْ يَرى ∗∗∗ عَدُوًّا لَهُ ما مِن صَداقَتِهِ بُدٌّ ثُمَّ إنَّ نَفْيَ الحَرَجِ في الأكْلِ المَذْكُورِ مَشْرُوطٌ بِما إذا عَلِمَ الآكِلَ رِضا صاحِبِ المالِ بِإذْنٍ صَرِيحٍ أوْ قَرِينَةٍ، ولا يَرِدْ أنَّهُ إذا وجَدَ الرِّضا جازَ الأكْلُ مِن مالِ الأجْنَبِيِّ والعَدُوِّ أيْضًا فَلا يَكُونُ لِلتَّخْصِيصِ وجْهٌ لِأنَّ تَخْصِيصَ هَؤُلاءِ لِاعْتِيادِ التَّبَسُّطِ بَيْنَهم فَلا مَفْهُومَ لَهُ، وقالَ أبُو مُسْلِمٍ: هَذا في الأرَقابِ الكَفَرَةِ أباحَ سُبْحانَهُ في هَذِهِ الآيَةِ ما حَظَرَهُ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَن حادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ [المُجادَلَةُ: 22] ولَيْسَ بِشَيْءٍ، وقِيلَ: كانَ ذَلِكَ في صَدْرِ الإسْلامِ ثُمَّ نَسَخَ بِقَوْلِهِ ﷺ: ««لا يَحُلُّ مالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنهُ»» وقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما: ««لا يَحْلِبْنَ أحَدٌ ماشِيَةَ أحَدٍ إلّا بِإذْنِهِ»»، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكم حَتّى تَسْتَأْنِسُوا﴾ [النُّورُ: 27] الآيَةُ، وقَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلا أنْ يُؤْذَنَ لَكم إلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إناهُ﴾ [الأحْزابُ: 53] فَإنَّهم إذا مَنَعُوا مِن مَنزِلِهِ ﷺ إلّا بِالشَّرْطِ المَذْكُورِ وهو عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أكْرَمُ النّاسِ وأقَلُّهم حِجابًا فَغَيْرُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَعْلَمُ بِالطَّرِيقِ الأُولى. (p-221)وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ لا حاجَةَ إلى القَوْلِ بِالنُّسَخِ بِناءً عَلى ما قُلْنا أوَّلًا، واحْتَجَّ بِالآيَةِ بَعْضُ أئِمَّةِ الحَنَفِيَّةِ عَلى أنَّهُ لا قَطْعَ بِسَرِقَةِ مالِ المَحارِمِ مُطْلَقًا لا فَرْقَ في ذَلِكَ بَيْنَ الوالِدَيْنِ والمَوْلُودِينَ وبَيْنَ غَيْرِهِمْ لِأنَّها دَلَّتْ عَلى إباحَةِ دُخُولِ دارِهِمْ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَلا يَكُونُ مالُهم مُحْرِزًا ومُجَرَّدَ احْتِمالِ إرادَةِ الظّاهِرِ وعَدَمُ النَّسْخِ كافٍ في الشُّبْهَةِ المُدْرِئَةِ لِلْحَدِّ، وبَحْثٌ فِيهِ بِأنَّ دَرْءَ الحُدُودِ بِالشُّبَهاتِ لَيْسَ عَلى إطْلاقِهِ عِنْدَهم كَما يَعْلَمُ مِن أُصُولِهِمْ، وأوْرَدَ عَلَيْهِ أيْضًا أنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أنْ لا تُقْطَعَ يَدُ مَن سَرَقَ مِنَ الصَّدِيقِ، وأُجِيبَ عَنْ هَذا بِأنَّ الصَّدِيقَ مَتى قَصَدَ سَرِقَةَ مالِ صَدِيقِهِ انْقَلَبَ عَدُوًّا، وتَعَقَّبَ بِأنَّ الشَّرْعَ ناظِرٌ إلى الظّاهِرِ لا إلى السَّرائِرِ، وقُرِئَ «صَدِيقُكُمْ» بِكَسْرِ الصّادِ اتِّباعًا لِحَرَكَةِ الدّالِّ حَكى ذَلِكَ حَمِيدٌ الخَزّازُ ﴿لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا﴾ أيْ مُجْتَمِعِينَ وهو نَصْبٌ عَلى الحالِ مِن فاعِلِ ﴿تَأْكُلُوا﴾ وهو في الأصْلِ بِمَعْنى كُلٌّ ولا يُفِيدُ الِاجْتِماعَ خِلافًا لِلْفِراءِ، ودَلَّ عَلَيْهِ هُنا لِمُقابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أوْ أشْتاتًا﴾ فَإنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ داخِلَ في حُكْمِهِ وهو جَمْعُ شَتٍّ عَلى أنَّهُ صِفَةٌ كالحَقِّ يُقالُ: أمْرٌ شَتٌّ أيْ مُتَفَرِّقٍ أوْ عَلى أنَّهُ في الأصْلِ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ مُبالَغَةً. والآيَةُ عَلى ما ذَهَبَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ كَلامٌ مُسْتَأْنِفٌ مَسُوقٌ لِبَيانِ حُكْمٍ آخَرَ مِن جِنْسِ ما بَيْنَ قَبْلِهِ، وقَدْ نَزَلَتْ عَلى ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والضَّحّاكِ وقَتادَةَ في بَنِي لَيْثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كِنانَةَ تَحَرَّجُوا أنْ يَأْكُلُوا طَعامَهم مُنْفَرِدِينَ وكانَ الرَّجُلُ مِنهم لا يَأْكُلُ ويَمْكُثُ يَوْمَهُ حَتّى يَجِدَ ضَيْفًا يَأْكُلُ مَعَهُ فَإنْ لَمْ يَجِدْ مَن يُؤاكِلُهُ لَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا ورُبَّما قَعَدَ الرَّجُلُ مِنهم والطَّعامُ بَيْنَ يَدَيْهِ لا يَتَناوَلُهُ مِنَ الصَّباحِ إلى الرَّواحِ ورُبَّما كانَتْ مَعَهُ الإبِلُ الحَفْلُ فَلا يَشْرَبُ مِن ألْبانِها حَتّى يَجِدَ مَن يُشارِبُهُ فَإذا أمْسى ولَمْ يَجِدْ أحَدًا أكَلَ، قِيلَ: وهَذا التَّحَرُّجُ سُنَّةٌ مَوْرُوثَةٌ مِنَ الخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وقَدْ قالَ حاتِمٌ: ؎إذا ما صَنَعْتِ الزّادَ فالتَمِسِي لَهُ ∗∗∗ أكِّيلًا فَإنِّي لَسْتُ آكِلُهُ وحْدِي وفِي الحَدِيثِ ««شَرُّ النّاسِ مَن أكَلَ وحْدَهُ وضَرَبَ عَبَدَهُ ومَنَعَ رَفْدَهُ»» وهَذا الذَّمُّ لِاعْتِيادِهِ بُخْلًا بِالقُرى ونَفْيُ الجَناحِ عَنْ وُقُوعِهِ أحْيانًا بَيانًا لِأنَّهُ لا إثْمَ فِيهِ ولا يَذُمُّ بِهِ شَرْعًا كَما ذَمَّتْ بِهِ الجاهِلِيَّةُ فَلا حاجَةَ إلى القَوْلِ بِأنَّ الوَعِيدَ في الحَدِيثِ لِمَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ الخِصالُ الثَّلاثُ دُونَ الِانْفِرادِ بِالأكْلِ وحْدَهُ فَإنَّهُ يَقْتَضِي أنْ كُلًّا مِنها عَلى الِانْفِرادِ غَيْرِ مَنهِيٍّ عَنْهُ ولَيْسَ كَذَلِكَ، والقَوْلُ بِأنَّهم أهْلُ لِسانٍ لا يَخْفى عَلَيْهِمْ مِثْلَهُ ولَكِنْ لِمَجِيءِ الواوِ بِمَعْنى أوْ تَرَكُوا كُلَّ واحِدٍ مِنها احْتِياطًا لا وجْهَ لَهُ لِأنَّ هَؤُلاءِ المُتَحَرِّجِينَ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِالحَدِيثِ، وكَوْنُ الواوِ بِمَعْنى أُوتُوهم لا عِبْرَةَ بِهِ، ولا شَكَّ أنَّ اجْتِماعَ الأيْدِي عَلى الطَّعامِ سُنَّةٌ فَتَرْكُهُ بِغَيْرِ داعٍ مَذَمَّةٌ انْتَهى. وعَنْ عِكْرِمَةَ وأبِي صالِحٍ أنَّها نَزَلَتْ في قَوْمٍ مِنَ الأنْصارِ كانُوا إذا نَزَلَ بِهِمْ ضَيْفٌ لا يَأْكُلُونَ إلّا مَعَهُ فَرَخَّصَ لَهم أنْ يَأْكُلُوا كَيْفَ شاؤُوا، قِيلَ: كانَ الغَنِيُّ يَدْخُلُ عَلى الفَقِيرِ مِن ذَوِي قَرابَتِهِ وصَداقَتِهِ فَيَدْعُوهُ إلى طَعامِهِ فَيَقُولُ: إنِّي لِأتَحَرَّجَ أنْ آكُلَ مَعَكَ وأنا غَنِيٌّ وأنْتَ فَقِيرٌ ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقالَ الكَلْبِيُّ: كانُوا إذا اجْتَمَعُوا لِيَأْكُلُوا طَعامًا عَزَلُوا لِلْأعْمى ونَحْوَهُ طَعامًا عَلى حِدَةٍ فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعالى أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِواجِبٍ. وقِيلَ: كانُوا يَأْكُلُونَ فُرادًى خَوْفًا أنْ يَزِيدَ أحَدُهم عَلى الآخَرِ في الأكْلِ أوْ أنْ يَحْصُلَ مِنَ الِاجْتِماعِ ما يَنْفِرُ أوْ يُؤْذِي فَنَزَلَتْ لِنَفْيِ وُجُوبِ ذَلِكَ، وأيًّا كانَ فالعِبْرَةُ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لا لِخُصُوصِ السَّبَبِ، وقِيلَ: الآيَةُ مِن تَتِمَّةِ ما قَبْلِها عَلى مَعْنى أنَّها وقَعَتْ جَوابًا لِسُؤالٍ نَشَأ مِنهُ كَأنَّ سائِلًا يَقُولُ: هَلْ نُفِيَ الحَرَجُ في الأكْلِ مِن بُيُوتِ (p-222)مِن ذِكْرِ خاصٍّ فِيما إذا كانَ الأكْلُ مَعَ أهْلِ تِلْكَ البُيُوتِ أمْ لا؟ فَأُجِيبُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا﴾ أيْ مُجْتَمِعِينَ مَعَ أهْلِ تِلْكَ البُيُوتِ في الأكْلِ أوْ أشْتاتًا أيْ مُتَفَرِّقِينَ بِأنْ يَأْكُلَ كُلٌّ مِنكم وحْدَهُ لَيْسَ مَعَهُ صاحِبُ البَيْتِ وما ألْطَفَ نَفْيَ الحَرَجِ فِيما اتَّسَعَتْ دائِرَتُهُ ونَفْيَ الجَناحِ فِيما ورَدَ فِيهِ بَيْنَ أمْرَيْنِ والنِّكاتُ لا يَجِبُ اطِّرادُها كَذا قِيلَ فَتَدَبَّرْ. ﴿فَإذا دَخَلْتُمْ﴾ شُرُوعٌ في بَيانِ الأدَبِ الَّذِي يَنْبَغِي رِعايَتُهُ عِنْدَ مُباشَرَةِ ما رَخَّصَ فِيهِ بَعْدَ بَيانِ الرُّخْصَةِ فِيهِ ﴿بُيُوتًا﴾ أيْ مِنَ البُيُوتِ المَذْكُورَةِ كَما يُؤْذِنُ بِهِ الفاءُ. ﴿فَسَلِّمُوا عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ أيْ عَلى أهْلِها كَما أخْرَجَ ذَلِكَ ابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وقَرِيبٌ مِنهُ ما أخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزّاقِ وجَماعَةٌ عَنِ الحَسَنِ أنَّ المَعْنى فَلْيُسَلِّمْ بَعْضُكم عَلى بَعْضٍ نَظِيرَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [البَقَرَةُ: 54] والتَّعْبِيرُ عَنْ أهْلِ تِلْكَ البُيُوتِ بِالأنْفُسِ لِتَنْزِيلِهِمْ مُنْزِلَتِها لِشِدَّةِ الِاتِّصالِ، وفي الِانْتِصافِ في التَّعْبِيرِ عَنْهم بِذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلى السِّرِّ الَّذِي اقْتَضى إباحَةَ الأكْلِ مِن تِلْكَ البُيُوتِ المَعْدُودَةِ وأنَّ ذَلِكَ إنَّما كانَ لِأنَّها بِالنِّسْبَةِ إلى الدّاخِلِ كَبَيْتِ نَفْسِهِ لِلْقَرابَةِ ونَحْوِها، وقِيلَ: المُرادُ السَّلامُ عَلى أهْلِها عَلى أبْلَغِ وجْهٍ لِأنَّ المُسْلِمَ إذا رَدَّتْ تَحِيَّتَهُ عَلَيْهِ فَكَأنَّهُ سَلَّمَ عَلى نَفْسِهِ كَما أنَّ القاتِلَ لِاسْتِحْقاقِهِ القَتْلِ بِفِعْلِهِ كَأنَّهُ قاتِلٌ نَفْسَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ جَرِيرٍ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وغَيْرُهم عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ في الآيَةِ: هو المَسْجِدُ إذا دَخَلْتُهُ فَقُلِ السَّلامُ عَلَيْنا وعَلى عِبادِ اللَّهِ تَعالى الصّالِحِينَ. فَحَمَلَ البُيُوتَ فِيها عَلى المَساجِدِ والسَّلامُ عَلى الأنْفُسِ عَلى ظاهِرِهِ، وقِيلَ: المُرادُ بُيُوتُ المُخاطَبِينَ وأهْلِهِمْ، وذُكِرَ أنَّ الرَّجُلَ إذا دَخَلَ عَلى أهْلِهِ سَنَّ لَهُ أنْ يَقُولَ: السَّلامُ عَلَيْكم تَحِيَّةً مِن عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً فَإنْ لَمْ يَجِدْ أحَدًا فَلْيَقُلِ السَّلامُ عَلَيْنا مِن رَبِّنا ورُوِيَ هَذا عَنْ عَطاءَ، وقِيلَ السَّلامُ عَلى الأنْفُسِ عَلى ظاهِرِهِ والمُرادُ بِبُيُوتٍ بُيُوتُ الكُفّارِ وذُكِرَ أنَّ داخِلَها وكَذا داخِلَ البُيُوتِ الخالِيَةِ يَقُولُ ما سَمِعْتُ آنِفًا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وقِيلَ يَقُولُ عَلى الكُفّارِ يَقُولُ: السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الهُدى، ولا يُخْفى المُناسِبِ لِلْمَقامِ، والسَّلامُ بِمَعْنى السَّلامِ مِنَ الآفاتِ وقِيلَ: اسْمٌ مِن أسْمائِهِ عَزَّ وجَلَّ وقَدْ مَرَّ الكَلامُ في ذَلِكَ عَلى أتَمِّ وجْهٍ فَتَذَكَّرْ. ﴿تَحِيَّةً مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ أيْ ثابِتَةٍ بِأمْرِهِ تَعالى مَشْرُوعَةٍ مِن لَدُنْهُ عَزَّ وجَلَّ فالجارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لِتَحِيَّةٍ، وجَوَّزَ أنْ يَتَعَلَّقَ بِتَحِيَّةٍ فَإنَّها طَلَبُ الحَياةِ وهي مِن عِنْدِهِ عَزَّ وجَلَّ، وأصْلُ مَعْناها أنْ تَقُولَ حَيّاكَ اللَّهُ تَعالى أيْ أعْطاكَ سُبْحانَهُ الحَياةَ ثُمَّ عَمَّمَ لِكُلِّ دُعاءٍ، وانْتِصابُها عَلى المَصْدَرِيَّةِ لِيُسَلِّمُوا عَلى طَرِيقٍ قَعَدَتْ جُلُوسًا فَكَأنَّهُ قِيلَ فَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا أوْ فَحَيُّوا تَحِيَّةً ﴿مُبارَكَةً﴾ بُورِكَ فِيها بِالأجْرِ كَما رُوِيَ عَنْ مُقاتِلٍ، قالَ الضَّحّاكُ: في السَّلامِ عَشْرُ حَسَناتٍ ومَعَ الرَّحْمَةِ عِشْرُونَ ومَعَ البَرَكاتِ ثَلاثُونَ ﴿طَيِّبَةً﴾ تَطِيبُ بِها نَفْسُ المُسْتَمِعِ، والظّاهِرُ أنَّهُ يَزِيدُ المُسْلِمَ ما ذَكَرَ في سَلامِهِ، وعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ زِيادَتُهُ كَما مَرَّ آنِفًا، وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ قالَ: ما أخَذْتُ التَّشَهُّدَ إلّا مِن كِتابِ اللَّهِ تَعالى سَمِعْتُ اللَّهَ تَعالى يَقُولُ: ﴿فَإذا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلى أنْفُسِكم تَحِيَّةً مِن عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً﴾ فالتَّشَهُّدُ في الصَّلاةِ التَّحِيّاتُ المُبارَكاتُ الطَّيِّباتُ لِلَّهِ. ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ﴾ تَكْرِيرٌ لِمَزِيدِ التَّأْكِيدِ، وفي ذَلِكَ تَفْخِيمٌ فَخِيمٌ لِلْأحْكامِ المُخْتَتِمَةِ بِهِ ﴿لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ ما في تَضاعِيفِها مِنَ الشَّرائِعِ والأحْكامِ وتَعْمَلُونَ بِمُوجِبِها وتَحُوزُونَ بِذَلِكَ سَعادَةَ الدّارَيْنِ، (p-223)وفِي تَعْلِيلِ هَذا التَّبْيِينِ بِهَذِهِ الغايَةِ القُصْوى بَعْدَ تَذْيِيلِ الأوَّلِينَ بِما يُوجِبُها مِنَ الجَزالَةِ ما لا يَخْفى، وذَكَرَ بَعْضُ الأجِلَّةِ أنَّهُ سُبْحانَهُ بَدَأ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ﴾ [النُّورُ: 1] وخَتَمَها بِقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ﴾ ثُمَّ جَعَلَ تَبارَكَ وتَعالى خِتامَ الخَتْمِ قَوْلَهُ سُبْحانَهُ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب