الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿لَيْسَ عَلى الأعْمى حَرَجٌ ولا عَلى الأعْرَجِ حَرَجٌ ولا عَلى المَرِيضِ حَرَجٌ ولا عَلى أنْفُسِكم أنْ تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكم أو بُيُوتِ آبائِكم أو بُيُوتِ أُمَّهاتِكم أو بُيُوتِ إخْوانِكم أو بُيُوتِ أخَواتِكم أو بُيُوتِ أعْمامِكم أو بُيُوتِ عَمّاتِكم أو بُيُوتِ أخْوالِكم أو بُيُوتِ خالاتِكم أو ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أو صَدِيقِكم لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أو أشْتاتًا فَإذا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلى أنْفُسِكم تَحِيَّةً مِن عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهِ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكم تَعْقِلُونَ﴾ اخْتَلَفَ الناسُ في المَعْنى الَّذِي رَفَعَ اللهَ فِيهِ الحَرَجَ عَنِ الأصْنافِ الثَلاثَةِ، فَظاهِرُ الآيَةِ وأمْرُ الشَرِيعَةِ أنَّ الحَرَجَ مَرْفُوعٌ عنهم في كُلِّ ما يَضْطَرُّهم إلَيْهِ العُذْرُ، وتَقْتَضِي نِيَّتُهُمُ الإتْيانَ فِيهِ بِالأكْمَلِ، ويَقْتَضِي العُذْرُ أنْ يَقَعَ مِنهُمُ الأنْقَصُ، فالحَرَجُ مَرْفُوعٌ عنهم في هَذا. فَأمّا ما قالَ الناسُ في الحَرَجِ هُنا، فَقالَ ابْنُ زَيْدٍ: هو الحَرَجُ في الغَزْوِ، أيْ: لا حَرَجَ عَلَيْهِمْ في تَأخُّرِهِمْ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ الآيَةُ مَعْنًى مَقْطُوعٍ مِنَ الأوَّلِ وقالَتْ فِرْقَةٌ: الآيَةُ كُلُّها في مَعْنى المَطاعِمْ، قالَتْ: وكانَتِ العَرَبُ ومَن بِالمَدِينَةِ (p-٤١٠)قَبْلَ المَبْعَثِ تَتَجَنَّبُ الأكْلَ مَعَ أهْلِ الأعْذارِ، فَبَعْضُهم كانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ تَقْذُّرًا لِجَوَلانِ اليَدِ مِنَ الأعْمى، ولِانْبِساطِ الجَلْسَةِ مِنَ الأعْرَجِ، ولِرائِحَةِ المَرِيضِ وعِلّاتِهِ، وهي أخْلاقٌ جاهِلِيَّةٌ وكِبْرٌ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ مُؤَدِّبَةً، وبَعْضُهم كانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ تَحَرُّجًا مِن غَيْرِ أهْلِ الأعْذارِ إذْ هم مَقْصُورُونَ في الأكْلِ عن دَرَجَةِ الأصِحّاءِ، لِعَدَمِ الرُؤْيَةِ في الأعْمى، ولِلْعَجْزِ عَنِ المُزاحَمَةِ في الأعْرَجِ، ولِضَعْفِ المَرِيضِ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ في إباحَةِ الأكْلِ مَعَهُمْ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما في كِتابِ الزَهْراوِيِّ: إنْ أهَّلَ هَذِهِ الأعْذارِ تَحَرَّجُوا في الأكْلِ مَعَ الناسِ لِأجْلِ عُذْرِهِمْ فَنَزَلَتِ الآيَةُ مُبِيحَةً لَهم. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما أيْضًا: الآيَةُ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها إنَّما نَزَلَتْ بِسَبَبِ أنَّ الناسَ لَمّا نَزَلَتْ: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ﴾ [البقرة: ١٨٨] قالُوا: لا مالَ أعَزُّ مِنَ الطَعامِ، وتَحَرَّجُوا مِن أنْ يَأْكُلَ أحَدٌ مَعَ هَؤُلاءِ فَيَغْبِنَهم في الأكْلِ فَيَقَعَ في أكْلِ المالِ بِالباطِلِ، وكَذَلِكَ تَحَرَّجُوا عن أكْلِ طَعامِ القُراباتِ لِذَلِكَ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ مُبِيحَةً جَمِيعَ هَذِهِ المَطاعِمْ، ومُبَيِّنَةً أنَّ تِلْكَ إنَّما هي في التَعَدِّي والقِمارِ وكُلِّ ما يَأْكُلُهُ المَرْءُ مِن مالِ الغَيْرِ والغَيْرُ كارِهٌ، أو بِصِفَةٍ فاسِدَةٍ ونَحْوَهُ. وقالَ عَبِيدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَتَبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ: قَوْلُهُ في الأصْنافِ الثَلاثَةِ إنَّما نَزَلَ بِسَبَبِ أنَّ الناسَ كانُوا إذا نَهَضُوا إلى الغَزْوِ وخَلَّفُوا أهْلَ العُذْرِ في مَنازِلِهِمْ وأمْوالِهِمْ، فَكانَ أُهِلُ العُذْرِ يَتَجَنَّبُونَ أكْلَ مالِ الغائِبِ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ مُبِيحَةً لَهم أكَلَ الحاجَةِ مِن طَعامِ الغائِبِ إذا كانَ الغائِبُ قَدْ بَنى عَلى ذَلِكَ. وقِيلَ: كانَ الرَجُلُ إذا ساقَ أهْلَ العُذْرِ إلى بَيْتِهِ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ شَيْئًا ذَهَبَ بِهِمْ إلى بَيْتِ قَرابَتِهِ، فَتَحَرَّجَ أهْلُ الأعْذارِ مِن ذَلِكَ فَنَزَلَتِ الآيَةُ. وذَكْرَ اللهُ تَعالى بُيُوتَ القَراباتِ وسَقَطَ مِنها بُيُوتُ الأبْناءِ، فَقالَ المُفَسِّرُونَ: ذَلِكَ داخِلٌ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن بُيُوتِكُمْ﴾ ؛ لَأنَّ بَيْتَ ابْنِ الرَجُلِ بَيْتُهُ. وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ "إمَّهاتِكُمْ" بِكَسْرِ الهَمْزَةِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿أو ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ﴾ يَعْنِي ما حُزْتُمْ وصارَ في قَبْضَتِكُمْ، فَعَظَّمَهُ ما مَلَكَهُ الرَجُلُ في بَيْتِهِ وتَحْتَ غَلْقِهِ، وذَلِكَ هو تَأْوِيلُ الضِحاكِ ومُجاهِدٍ، وعِنْدَ (p-٤١١)جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ يَدْخُلُ في الآيَةِ الوُكَلاءُ والعَبِيدُ والأُجَراءُ بِالمَعْرُوفِ، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "مَلَكْتُمْ" بِفَتْحِ المِيمِ واللامِ، وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "مَلِّكْتُمْ" بِضَمِّ المِيمِ وكَسْرِ اللامِ وشَدِّها، وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "مَفاتِحَهُ"، وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "مَفاتِيحَهُ" بِياءٍ بَيْنَ التاءِ والحاءِ، الأُولى عَلى جَمْعِ مِفْتَحٍ، والثانِيَةُ عَلى جَمْعِ مِفْتاحٍ، وقَرَأ قَتادَةُ: "مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ". وقَرَنَ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ الصَدِيقَ بِالقَرابَةِ المَحْضَةِ الوَكِيدَةِ؛ لَأنَّ قُرْبَ المَوَدَّةِ لَصِيقٌ، قالَ مَعْمَرٌ: قُلْتُ لِقَتادَةَ: ألا أشْرَبُ مِن هَذا الجُبِّ؟ فَقالَ: أنْتَ لِي صَدِيقٌ فَما هَذا الِاسْتِئْذانُ؟ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما في كِتابِ النَقاشِ: الصَدِيقُ أوكَدُ مِنَ القَرابَةِ، ألّا تَرى في اسْتِغاثَةِ الجَهَنَّمِيِّينَ: ﴿فَما لَنا مِن شافِعِينَ﴾ [الشعراء: ١٠٠] ﴿وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ [الشعراء: ١٠١]. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أو أشْتاتًا﴾ رَدٌّ لِمَذْهَبِ جَماعَةٍ مِنَ العَرَبِ كانَتْ لا تَأْكُلُ أفْرادًا البَتَّةَ، قالَهُ الطَبَرِيُّ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِ الشُعَراءِ: ؎ إذا ما صَنَعَتِ الزادَ فالتَمِسِي لَهُ أكِيلًا فَإنِّي لَسْتُ آكِلَهُ وحْدِي وكانَ بَعْضُ العَرَبِ إذا كانَ لَهُ ضَيْفٌ لا يَأْكُلُ إلّا أنْ يَأْكُلَ مَعَ ضَيْفِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ مُبِينَةً سُنَّةَ الأكْلِ، ومُذْهِبَةً كُلَّ ما خالَفَها مِن سُنَّةِ العَرَبِ، ومُبِيحَةً مِن أكْلِ المُنْفَرِدِ ما كانَ (p-٤١٢)عِنْدَ العَرَبِ مُحَرَّمًا، نَحَتْ بِهِ نَحْوَ كَرَمِ الخُلُقِ فَأفْرَطَتْ في إلْزامِهِ، وإنَّ إحْضارَ الأكِيلِ لَحَسَنٌ ولَكِنْ بِألّا يَحْرُمُ الانْفِرادُ. وقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: هَذِهِ الآيَةُ مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ ﷺ: «إنَّ دِماءَكم وأمْوالَكم عَلَيْكم حَرامٌ»، وبُقُولَهُ تَعالى: ﴿لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكم حَتّى تَسْتَأْنِسُوا﴾ [النور: ٢٧] الآيَةُ، وبِقَوْلِهِ ﷺ مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ: «لا يَحْلِبَنَّ أحَدٌ ماشِيَةَ أحَدٍ إلّا بِإذْنِهِ» الحَدِيثُ. ثُمْ خَتَمَ اللهُ تَعالى الآيَةَ بِتَبْيِينِهِ سُنَّةَ السَلامِ في البُيُوتِ، واخْتَلَفَ الناسُ في أيِّ البُيُوتِ أرادَ، فَقالَ إبْراهِيمُ النَخْعِيُّ: أرادَ المَساجِدَ، والمَعْنى: سَلَّمُوا عَلى مَن فِيها مِن صِنْفِكُمْ، فَهَذا كَما قالَ: ﴿لَقَدْ جاءَكم رَسُولٌ مِن أنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٨]، فَإنْ لَمْ يَكُنْ في المَساجِدِ أحَدٌ فالسَلامُ أنْ يَقُولَ المَرْءُ: السَلامُ عَلى رَسُولِ اللهِ، وقِيلَ: يَقُولُ: السَلامُ عَلَيْكُمْ، يُرِيدُ المَلائِكَةَ، ثُمْ يَقُولُ: السَلامُ عَلَيْنا وعَلى عِبادِ اللهِ الصالِحِينَ، وقَوْلُهُ تَعالى: "تَحِيَّةً" مَصْدَرٌ، ووَصَفَها بِالبَرَكَةِ لَأنَّ فِيها الدُعاءَ واسْتِجْلابَ مَوَدَّةِ المُسْلِمْ عَلَيْهِ، والكافُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: "كَذَلِكَ" كافُ تَشْبِيهٍ، و"ذَلِكَ" إشارَةٌ إلى هَذِهِ السُنَنِ، أيْ: هَذا الَّذِي وصَفَ يَطَّرِدُ تَبْيِينَ الآياتِ لَعَلَّكم تَعْقِلُونَها وتَعْمَلُونَ لَها. وقالَ بَعْضُ الناسِ في هَذِهِ الآيَةِ: إنَّها مَنسُوخَةٌ بِآيَةِ الِاسْتِئْذانِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ الناسُ، وهي المُقَدَّمَةُ في السُورَةِ، فَإذا كانَ الإذْنُ مَحْجُورًا فالطَعامُ أحْرى، وكَذَلِكَ فَرَضَتْ فِرْقَةٌ نَسْخًا بَيْنَها وبَيْنَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ﴾ [البقرة: ١٨٨]. (p-٤١٣)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والنُسَخُ لا يُتَصَوَّرُ في شَيْءٍ مِن هَذِهِ الآياتِ، بَلْ هي كُلُّها مَحْكَمَةٌ، أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ﴾ [البقرة: ١٨٨] فَفي التَعَدِّي والخُدَعِ والغَرَرِ واللهْوِ والقِمارِ ونَحْوَهُ، وأمّا هَذِهِ الآيَةُ فَفي إباحَةِ طَعامِ هَذِهِ الأصْنافِ الَّتِي يَسُرُّها اسْتِباحَةُ طَعامِها عَلى هَذِهِ الصِفَةِ، وأمّا آيَةُ الإذْنِ فَعِلَّةُ إيجابِ الِاسْتِئْذانِ خَوْفُ الكَشْفِ، فَإذا اسْتَأْذَنَ الرَجُلُ خَوَّفَ الكَشَفَةِ ودَخَلَ المَنزِلَ بِالوَجْهِ المُباحِ صَحَّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أكْلُ الطَعامِ بِهَذِهِ الإباحَةِ، ولَيْسَ يَكُونُ في الآيَةِ نَسْخٌ، فَتَأمَّلْهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب