الباحث القرآني
وقَوْلُهُ تَعالى ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ﴾ الآيَةُ
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدْ بَيَّنّا فِيما سَلَفَ قَوْلَ مَن قالَ: إنَّ الفَرْضَ الأوَّلَ كانَ صَوْمَ ثَلاثَةِ أيّامٍ مِن كُلِّ شَهْرٍ بِقَوْلِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾ [البقرة: ١٨٣] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] وأنَّهُ نُسِخَ بِقَوْلِهِ ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ﴾ وقَوْلُ مَن قالَ: إنَّ شَهْرَ رَمَضانَ بَيانٌ لِلْمُوجِبِ بِقَوْلِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٣] وقَوْلِهِ: ﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] فَيَصِيرُ تَقْدِيرُهُ " أيّامًا مَعْدُوداتٍ هي شَهْرُ رَمَضانَ " فَإنْ كانَ صَوْمُ الأيّامِ المَعْدُوداتِ مَنسُوخًا بِقَوْلِهِ ﴿شَهْرُ رَمَضانَ﴾ إلى قَوْلِهِ: (p-٢٢٧)﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ فَقَدِ انْتَظَمَ قَوْلُهُ ﴿شَهْرُ رَمَضانَ﴾ نَسْخَ حُكْمَيْنِ مِنَ الآيَةِ الأُولى:
أحَدُهُما: الأيّامُ المَعْدُوداتِ الَّتِي هي غَيْرُ شَهْرِ رَمَضانَ.
والآخَرُ: التَّخْيِيرُ بَيْنَ الصِّيامِ والإطْعامِ في قَوْلِهِ: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] عَلى نَحْوِ ما قَدَّمْنا ذِكْرَهُ عَنِ السَّلَفِ، وإنْ كانَ قَوْلُهُ ﴿شَهْرُ رَمَضانَ﴾ بَيانًا لِقَوْلِهِ: ﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] فَقَدْ كانَ لا مَحالَةَ بَعْدَ نُزُولِ فَرْضِ رَمَضانَ التَّخْيِيرُ ثابِتًا بَيْنَ الصَّوْمِ والفِدْيَةِ في أوَّلِ أحْوالِ إيجابِهِ، فَكانَ هَذا الحُكْمُ مُسْتَقِرًّا ثابِتًا، ثُمَّ ورَدَ عَلَيْهِ النَّسْخُ بِقَوْلِهِ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ إذْ غَيْرُ جائِزٍ وُرُودُ النَّسْخِ قَبْلَ وقْتِ الفِعْلِ والتَّمَكُّنِ مِنهُ.
والصَّحِيحُ هو القَوْلُ الثّانِي، لِاسْتِفاضَةِ الرِّوايَةِ عَنْ السَّلَفِ بِأنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الصَّوْمِ والفِدْيَةِ كانَ في شَهْرِ رَمَضانَ، وأنَّهُ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾
فَإنْ قِيلَ: في فَحْوى الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] غَيْرُ شَهْرِ رَمَضانَ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَرِدْ إلّا مَقْرُونًا بِذِكْرِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وبَيْنَ الفِدْيَةِ، ولَوْ كانَ قَوْلُهُ: ﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] فَرْضًا مُجْمَلًا مَوْقُوفَ الحُكْمِ عَلى البَيانِ لَما كانَ لِذِكْرِ التَّخْيِيرِ قَبْلَ ثُبُوتِ الفَرْضِ مَعْنى.
قِيلَ لَهُ: لا يَمْتَنِعُ وُرُودُ فَرْضٍ مُجْمَلًا مُضَمَّنًا بِحُكْمٍ مَفْهُومِ المَعْنى مَوْقُوفٍ عَلى البَيانِ، فَمَتى ورَدَ البَيانُ بِما أُرِيدَ مِنهُ كانَ الحُكْمُ المُضَمَّنُ بِهِ ثابِتًا مَعَهُ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: " أيّامًا مَعْدُوداتٍ " حُكْمُها إذا بُيِّنَ وقْتُها ومِقْدارُها أنْ يَكُونَ المُخاطَبُونَ بِهِ مُخَيَّرِينَ بَيْنَ الصَّوْمِ والفِدْيَةِ كَما قالَ تَعالى: ﴿خُذْ مِن أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ﴾ [التوبة: ١٠٣] فاسْمُ الأمْوالِ عُمُومٌ يَصِحُّ اعْتِبارُهُ فِيما عَلِقَ بِهِ مِنَ الحُكْمِ، والصَّدَقَةُ مُجْمَلَةٌ مُفْتَقِرَةٌ إلى البَيانِ؛ فَإذا ورَدَ بَيانُ الصَّدَقَةِ كانَ اعْتِبارُ عُمُومِ اسْمِ الأمْوالِ سائِغًا فِيها، ولِذَلِكَ نَظائِرُ كَثِيرَةٌ.
ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ﴾ [البقرة: ١٨٤] مُتَأخِّرًا في التَّنْزِيلِ، وإنْ كانَ مُقَدَّمًا في التِّلاوَةِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُ الآياتِ وتَرْتِيبُ مَعانِيها: ﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] هي شَهْرُ رَمَضانَ ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ وعَلى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] فَيَكُونُ هَذا حُكْمًا ثابِتًا مُسْتَقِرًّا مُدَّةً مِنَ الزَّمانِ، ثُمَّ نَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ فَنُسِخَ بِهِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الفِدْيَةِ والصَّوْمِ عَلى نَحْوِ ما ذَكَرْنا في قَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة: ٦٧] مُؤَخَّرًا في اللَّفْظِ، وكانَ ذَلِكَ يَعْتَوِرُهُ مَعْنَيانِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ.
وإنْ كانَ مُؤَخَّرًا في التِّلاوَةِ فَهو مُقَدَّمٌ في التَّنْزِيلِ، والثّانِي: أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ بِالواوِ، وهي لا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ، فَكَأنَّ الكُلَّ مَذْكُورٌ مَعًا فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] إلى قَوْلِهِ ﴿شَهْرُ رَمَضانَ﴾ (p-٢٢٨)يَحْتَمِلُ ما احْتَمَلَتْهُ قِصَةُ البَقَرَةِ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ فَفِيهِ عِدَّةُ أحْكامٍ؛ مِنها: إيجابُ الصِّيامِ عَلى مَن شَهِدَ الشَّهْرَ دُونَ مَن لَمْ يَشْهَدْ، فَلَوْ كانَ اقْتَصَرَ عَلى قَوْلِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ [البقرة: ١٨٣] إلى قَوْلِهِ: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ﴾ لاقْتَضى ذَلِكَ لُزُومَ الصَّوْمِ سائِرَ النّاسِ المُكَلَّفِينَ، فَلَمّا عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ بَيَّنَ أنَّ لُزُومَ صَوْمِ الشَّهْرِ مَقْصُورٌ عَلى بَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ، وهو مَن شَهِدَ الشَّهْرَ دُونَ مَن لَمْ يَشْهَدْهُ.
* * *
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ﴾ يَعْتَوِرُهُ مَعانٍ، مِنها: مَن كانَ شاهِدًا يَعْنِي مُقِيمًا غَيْرَ مُسافِرٍ، كَما يُقالُ لِلشّاهِدِ، والغائِبِ المُقِيمِ والمُسافِرِ، فَكانَ لُزُومُ الصَّوْمِ مَخْصُوصًا بِهِ المُقِيمُونَ دُونَ المُسافِرِينَ.
ثُمَّ لَوِ اقْتَصَرَ عَلى هَذا لَكانَ المَفْهُومُ مِنهُ الِاقْتِصارَ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِمْ دُونَ المُسافِرِينَ؛ إذْ لَمْ يُذْكَرُوا، فَلا شَيْءَ عَلَيْهِمْ مِن صَوْمٍ ولا قَضاءٍ، فَلَمّا قالَ تَعالى: ﴿ومَن كانَ مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ بَيَّنَ حُكْمَ المَرِيضِ والمُسافِرِ في إيجابِ القَضاءِ عَلَيْهِمْ إذا أفْطَرُوا، هَذا إذا كانَ التَّأْوِيلُ في قَوْلِهِ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ﴾ الإقامَةَ في الحَضَرِ.
ويَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى شاهِدِ الشَّهْرِ أيْ عَلِمَهُ، ويَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ﴾ فَمَن شَهِدَهُ بِالتَّكْلِيفِ؛ لِأنَّ المَجْنُونَ، ومَن لَيْسَ مِن أهْلِ التَّكْلِيفِ في حُكْمِ مَن لَيْسَ بِمَوْجُودٍ في انْتِفاءِ لُزُومِ الفَرْضِ عَنْهُ، فَأطْلَقَ اسْمَ شُهُودِ الشَّهْرِ عَلَيْهِمْ، وأرادَ بِهِ التَّكْلِيفَ، كَما قالَ تَعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ﴾ [البقرة: ١٨] لَمّا كانُوا في عَدَمِ الِانْتِفاعِ بِما سَمِعُوا بِمَنزِلَةِ الأصَمِّ الَّذِي لا يَسْمَعُ سَمّاهم بُكْمًا عُمْيًا، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرى لِمَن كانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق: ٣٧] يَعْنِي عَقْلًا؛ لِأنَّ مَن لَمْ يَنْتَفِعْ بِعَقْلِهِ فَكَأنَّهُ لا قَلْبَ لَهُ؛ إذْ كانَ العَقْلُ بِالقَلْبِ؛ فَكَذَلِكَ جائِزٌ أنْ يَكُونَ جَعَلَ شُهُودَ الشَّهْرِ عِبارَةً عَنْ كَوْنِهِ مِن أهْلِ التَّكْلِيفِ؛ إذْ كانَ مَن لَيْسَ مِن أهْلِ التَّكْلِيفِ بِمَنزِلَةِ مَن لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِيهِ في بابِ سُقُوطِ حُكْمِهِ عَنْهُ.
ومِنَ الأحْكامِ المُسْتَفادَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ غَيْرَ ما قَدَّمْنا ذِكْرَهُ تَعْيِينُ فَرْضِ رَمَضانَ، فَإنَّ المُرادَ بِشُهُودِ الشَّهْرِ كَوْنُهُ فِيهِ مِن أهْلِ التَّكْلِيفِ، وأنَّ المَجْنُونَ ومَن لَيْسَ مِن أهْلِ التَّكْلِيفِ غَيْرُ لازِمٍ لَهُ صَوْمُ الشَّهْرِ. واللَّهُ أعْلَمُ بِالصَّوابِ.
* * *
بابُ ذِكْرِ اخْتِلافِ الفُقَهاءِ فِيمَن جُنَّ رَمَضانَ كُلَّهُ أوْ بَعْضَهُ: قالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ والثَّوْرِيُّ: " إذا كانَ مَجْنُونًا في رَمَضانَ كُلِّهِ فَلا قَضاءَ عَلَيْهِ، وإنْ أفاقَ في شَيْءٍ مِنهُ قَضاهُ كُلَّهُ " . وقالَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ فِيمَن بَلَغَ، وهو مَجْنُونٌ مُطِيقٌ (p-٢٢٩)فَمَكَثَ سِنِينَ ثُمَّ أفاقَ: " فَإنَّهُ يَقْضِي صِيامَ تِلْكَ السِّنِينَ ولا يَقْضِي الصَّلاةَ " . وقالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الحَسَنِ في المَعْتُوهِ يُفِيقُ وقَدْ تَرَكَ الصَّلاةَ والصَّوْمَ " فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضاءُ ذَلِكَ " وقالَ في المَجْنُونِ الَّذِي يُجَنُّ ثُمَّ يُفِيقُ أوِ الَّذِي يُصِيبُهُ المَرَّةَ ثُمَّ يُفِيقُ: " أرى عَلى هَذا أنْ يَقْضِيَ " .
وقالَ الشّافِعِيُّ في البُوَيْطِيِّ: " ومَن جُنَّ في رَمَضانَ فَلا قَضاءَ عَلَيْهِ، وإنْ صَحَّ في يَوْمٍ مِن رَمَضانَ قَبْلَ أنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ كَذَلِكَ لا قَضاءَ عَلَيْهِ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ يَمْنَعُ وُجُوبَ القَضاءِ عَلى المَجْنُونِ الَّذِي لَمْ يُفِقْ في شَيْءٍ مِنَ الشَّهْرِ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ شاهِدَ الشَّهْرِ، وشُهُودُهُ الشَّهْرَ كَوْنُهُ مُكَلَّفًا فِيهِ، ولَيْسَ المَجْنُونُ مِن أهْلِ التَّكْلِيفِ لِقَوْلِهِ ﷺ: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثٍ: عَنِ النّائِمِ حَتّى يَسْتَيْقِظَ، وعَنِ الصَّغِيرِ حَتّى يَحْتَلِمَ، وعَنِ المَجْنُونِ حَتّى يُفِيقَ» .
فَإنْ قِيلَ: إذا احْتَمَلَ قَوْلُهُ ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ شُهُودَهُ بِالإقامَةِ وتَرْكِ السَّفَرِ دُونَ ما ذَكَرْتَهُ مِن شُهُودِهِ بِالتَّكْلِيفِ، فَما الَّذِي أوْجَبَ حَمْلَهُ عَلى ما ادَّعَيْتَ دُونَ ما ذَكَرْنا مِن حالِ الإقامَةِ ؟ قِيلَ لَهُ: لَمّا كانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلْمَعْنَيَيْنِ وهُما غَيْرُ مُتَنافِيَيْنِ بَلْ جائِزٌ إرادَتُهُما مَعًا، وكَوْنُهُما شَرْطًا في لُزُومِ الصَّوْمِ، وجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِما؛ وهو كَذَلِكَ عِنْدَنا؛ لِأنَّهُ لا يَكُونُ مُكَلَّفًا بِالصَّوْمِ غَيْرَ مُرَخَّصٍ لَهُ في تَرْكِهِ إلّا أنْ يَكُونَ مُقِيمًا مِن أهْلِ التَّكْلِيفِ.
ولا خِلافَ أنَّ كَوْنَهُ مِن أهْلِ التَّكْلِيفِ شَرْطٌ في صِحَّةِ الخِطابِ بِهِ، وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ، ولَمْ يَكُنِ المَجْنُونُ مِن أهْلِ التَّكْلِيفِ في الشَّهْرِ لَمْ يَتَوَجَّهْ إلَيْهِ الخِطابُ بِالصَّوْمِ، ولَمْ يَلْزَمْهُ القَضاءُ؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ ظاهِرُ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ: عَنِ النّائِمِ حَتّى يَسْتَيْقِظَ، وعَنِ المَجْنُونِ حَتّى يُفِيقَ، وعَنِ الصَّبِيِّ حَتّى يَحْتَلِمَ» ورَفْعُ القَلَمِ هو إسْقاطُ التَّكْلِيفِ عَنْهُ ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا أنَّ الجُنُونَ مَعْنًى يَسْتَحِقُّ بِهِ الوِلايَةَ عَلَيْهِ إذا دامَ بِهِ، فَكانَ بِمَنزِلَةِ الصَّغِيرِ إذا دامَ بِهِ الشَّهْرَ كُلَّهُ في سُقُوطِ فَرْضِ الصَّوْمِ.
ويُفارِقُ الإغْماءُ هَذا المَعْنى بِعَيْنِهِ؛ لِأنَّهُ لا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الوِلايَةَ بِالإغْماءِ إنْ طالَ، وفارَقَ المُغْمى عَلَيْهِ المَجْنُونَ والصَّغِيرَ وأشْبَهَ الإغْماءُ النَّوْمَ في بابِ نَفْيِ وِلايَةِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ مِن أجْلِهِ.
فَإنْ قِيلَ: لا يَصِحُّ خِطابُ المُغْمى عَلَيْهِ كَما لا يَصِحُّ خِطابُ المَجْنُونِ والتَّكْلِيفُ زائِلٌ عَنْهُما جَمِيعًا، فَوَجَبَ أنْ لا يَلْزَمَهُ القَضاءُ بِالإغْماءِ. قِيلَ لَهُ: الإغْماءُ وإنْ مَنَعَ الخِطابَ بِالصَّوْمِ في حالِ وُجُودِهِ فَإنَّ لَهُ أصْلًا آخَرَ في إيجابِ القَضاءِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿ومَن كانَ مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ وإطْلاقُ اسْمِ المَرِيضِ عَلى المُغْمى عَلَيْهِ جائِزٌ سائِغٌ.
فَوَجَبَ اعْتِبارُ عُمُومِهِ في إيجابِ القَضاءِ عَلَيْهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ مُخاطَبًا بِهِ حالَ الإغْماءِ؛ وأمّا المَجْنُونُ فَلا يَتَناوَلُهُ اسْمُ المَرِيضِ (p-٢٣٠)عَلى الإطْلاقِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِيمَن أوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ القَضاءَ.
وأمّا مَن أفاقَ مِن جُنُونِهِ في شَيْءٍ مِنَ الشَّهْرِ، فَإنَّما ألْزَمُوهُ القَضاءَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ وهَذا قَدْ شَهِدَ الشَّهْرَ؛ إذْ كانَ مِن أهْلِ التَّكْلِيفِ في جُزْءٍ مِنهُ؛ إذْ لا يَخْلُو قَوْلُهُ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ﴾ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِ شُهُودَ جَمِيعِ الشَّهْرِ أوْ شُهُودَ جُزْءٍ مِنهُ؛ وغَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ شَرْطُ لُزُومِ الصَّوْمِ شُهُودَ الشَّهْرِ جَمِيعَهُ مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: تَناقُضُ اللَّفْظِ بِهِ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ لا يَكُونُ شاهِدًا لِجَمِيعِ الشَّهْرِ إلّا بَعْدَ مُضِيِّهِ كُلِّهِ، ويَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ مُضِيُّهُ شَرْطًا لِلُزُومِ صَوْمِهِ كُلِّهِ؛ لِأنَّ الماضِيَ مِنَ الوَقْتِ يَسْتَحِيلُ فِعْلُ الصَّوْمِ فِيهِ، فَعَلِمْنا أنَّهُ لَمْ يُرِدْ شُهُودَ الشَّهْرِ جَمِيعِهِ.
والوَجْهُ الآخَرُ: أنَّهُ لا خِلافَ أنَّ مَن طَرَأ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضانَ، وهو مِن أهْلِ التَّكْلِيفِ أنَّ عَلَيْهِ الصَّوْمَ في أوَّلِ يَوْمٍ مِنهُ لِشُهُودِهِ جُزْءًا مِنَ الشَّهْرِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ شَرْطَ تَكْلِيفِ صَوْمِ الشَّهْرِ كَوْنُهُ مِن أهْلِ التَّكْلِيفِ في شَيْءٍ مِنهُ.
فَإنْ قِيلَ: فَواجِبٌ إذا كانَ ذَلِكَ عَلى ما وصَفْتُ مِن أنَّ المُرادَ إدْراكُ جُزْءٍ مِنَ الشَّهْرِ أنْ لا يَلْزَمَهُ إلّا صَوْمُ الجُزْءِ الَّذِي أدْرَكَهُ دُونَ غَيْرِهِ؛ إذْ قَدْ ثَبَتَ أنَّ المُرادَ شُهُودُ بَعْضِ الشَّهْرِ شَرْطًا لِلُزُومِ الصَّوْمِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: " فَمَن شَهِدَ بَعْضَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ ذَلِكَ البَعْضَ " . قِيلَ لَهُ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلى ما ظَنَنْتَ، مِن قِبَلِ أنَّهُ لَوْلا قِيامُ الدَّلالَةِ عَلى أنَّ شَرْطَ لُزُومِ الصَّوْمِ شُهُودُ بَعْضِ الشَّهْرِ لَكانَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ اللَّفْظِ اسْتِغْراقَ الشَّهْرِ كُلِّهِ في شَرْطِ اللُّزُومِ.
فَلَمّا قامَتِ الدَّلالَةُ عَلى أنَّ المُرادَ البَعْضُ دُونَ الجَمِيعِ في شَرْطِ اللُّزُومِ حَمَلْناهُ عَلَيْهِ، وبَقِيَ حُكْمُ اللَّفْظِ في إيجابِ الجَمِيعِ؛ إذْ كانَ الشَّهْرُ اسْمًا لِجَمِيعِهِ، فَكانَ تَقْدِيرُهُ: " فَمَن شَهِدَ مِنكم شَيْئًا مِنَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْ جَمِيعَهُ " .
فَإنْ قِيلَ: فَإذا أفاقَ، وقَدْ بَقِيَتْ أيّامٌ مِنَ الشَّهْرِ، يَلْزَمُكَ أنْ لا تُوجِبَ عَلَيْهِ قَضاءَ ما مَضى لِاسْتِحالَةِ تَكْلِيفِهِ صَوْمَ الماضِي مِنَ الأيّامِ، ويَنْبَغِي أنْ يَكُونَ الوُجُوبُ مُنْصَرِفًا إلى ما بَقِيَ مِنَ الشَّهْرِ قِيلَ لَهُ: إنَّما يَلْزَمُهُ قَضاءُ الأيّامِ الماضِيَةِ لا صَوْمُها بِعَيْنِها، وجائِزٌ لُزُومُ القَضاءِ مَعَ امْتِناعِ خِطابِهِ بِالصَّوْمِ فِيما أُمِرَ بِهِ مِنَ القَضاءِ، ألا تَرى أنَّ النّاسِيَ والمُغْمى عَلَيْهِ والنّائِمَ كُلُّ واحِدٍ مِن هَؤُلاءِ يَسْتَحِيلُ خِطابُهُ بِفِعْلِ الصَّوْمِ في هَذِهِ الأحْوالِ، ولَمْ تَكُنِ اسْتِحالَةُ تَكْلِيفِهِمْ فِيها مانِعَةً مِن لُزُومِ القَضاءِ ؟ وكَذَلِكَ ناسِي الصَّلاةِ والنّائِمُ عَنْها، فَإنَّ الخِطابَ بِفِعْلِ الصَّوْمِ يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ عَلى مَعْنَيَيْنِ:
أحَدُهُما: فِعْلُهُ في وقْتِ التَّكْلِيفِ، والآخَرُ: قَضاؤُهُ في وقْتٍ غَيْرِهِ، وإنْ لَمْ يَتَوَجَّهْ إلَيْهِ الخِطابُ بِفِعْلِهِ في حالِ الإغْماءِ والنِّسْيانِ واللَّهُ أعْلَمُ.
(p-٢٣١)
* * *
بابٌ الغُلامُ يَبْلُغُ والكافِرُ يُسْلِمُ بِبَعْضِ رَمَضانَ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ وقَدْ بَيَّنّا أنَّ المُرادَ شُهُودُ بَعْضِهِ. واخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في الصَّبِيِّ يَبْلُغُ في بَعْضِ رَمَضانَ أوِ الكافِرِ يُسْلِمُ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ ومالِكُ بْنُ أنَسٍ في المُوَطَّأِ وعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الحَسَنِ واللَّيْثُ والشّافِعِيُّ: " يَصُومانِ ما بَقِيَ، ولَيْسَ عَلَيْهِما قَضاءُ ما مَضى ولا قَضاءُ اليَوْمِ الَّذِي كانَ فِيهِ البُلُوغُ أوِ الإسْلامُ " .
وقالَ ابْنُ وهْبٍ عَنْ مالِكٍ: " أحَبُّ إلَيَّ أنْ يَقْضِيَهُ " . وقالَ الأوْزاعِيُّ في الغُلامِ إذا احْتَلَمَ في النِّصْفِ مِن رَمَضانَ: " إنَّهُ يَقْضِي ما مَضى مِنهُ، فَإنَّهُ كانَ يُطِيقُ الصَّوْمَ " وقالَ في الكافِرِ إذا أسْلَمَ: " لا قَضاءَ عَلَيْهِ فِيما مَضى " . وقالَ أصْحابُنا: " يُسْتَحَبُّ لَهُما الإمْساكُ عَمّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصّائِمُ في اليَوْمِ الَّذِي كانَ فِيهِ الِاحْتِلامُ أوِ الإسْلامُ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ وقَدْ بَيَّنّا مَعْناهُ، وأنَّ كَوْنَهُ مِن أهْلِ التَّكْلِيفِ شَرْطٌ في لُزُومِهِ، والصَّبِيُّ لَمْ يَكُنْ مِن أهْلِ التَّكْلِيفِ قَبْلَ البُلُوغِ، فَغَيْرُ جائِزٍ إلْزامُهُ حُكْمَهُ. وأيْضًا الصِّغَرُ يُنافِي صِحَّةَ الصَّوْمِ؛ لِأنَّ الصَّغِيرَ لا يَصِحُّ صَوْمُهُ وإنَّما يُؤْمَرُ بِهِ عَلى وجْهِ التَّعَلُّمِ، ولِيَعْتادَهُ ويُمَرَّنَ عَلَيْهِ، ألا تَرى أنَّهُ مَتى بَلَغَ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضاءُ الصَّلاةِ المَتْرُوكَةِ ولا قَضاءُ الصِّيامِ المَتْرُوكِ في حالِ الصِّغَرِ ؟
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ إلْزامُهُ القَضاءَ فِيما تَرَكَهُ في حالِ الصِّغَرِ، ولَوْ جازَ إلْزامُهُ قَضاءَ ما مَضى مِنَ الشَّهْرِ لَجازَ إلْزامُهُ قَضاءَ الصَّوْمِ لِلْعامِ الماضِي إذا كانَ يُطِيقُهُ، فَلَمّا اتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلى سُقُوطِ القَضاءِ لِلسَّنَةِ الماضِيَةِ مَعَ إطاقَتِهِ لِلصَّوْمِ، وجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَهُ في الشَّهْرِ الَّذِي أدْرَكَ في بَعْضِهِ.
وأمّا الكافِرُ فَهو في حُكْمِ الصَّبِيِّ مِن هَذا الوَجْهِ لِاسْتِحالَةِ تَكْلِيفِهِ لِلصَّوْمِ إلّا عَلى شَرْطِ تَقْدِيمِ الإيمانِ ومُنافاةِ الكُفْرِ لِصِحَّةِ الصَّوْمِ، فَأشْبَهَ الصَّبِيَّ؛ ولَيْسا كالمَجْنُونِ الَّذِي يُفِيقُ في بَعْضِ الشَّهْرِ في إلْزامِهِ القَضاءَ لِما مَضى مِنَ الشَّهْرِ؛ لِأنَّ الجُنُونَ لا يُنافِي صِحَّةَ الصَّوْمِ، بِدَلالَةِ أنَّ مَن جُنَّ في صِيامِهِ لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ؛ وفي هَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ الجُنُونَ لا يُنافِي صِحَّةَ صَوْمِهِ، وأنَّ الكُفْرَ يُنافِيها فَأشْبَهَ الصَّغِيرَ مِن هَذا الوَجْهِ، وإنِ اخْتَلَفا في بابِ اسْتِحْقاقِ الكافِرِ العِقابَ عَلى تَرْكِهِ، والصَّغِيرُ لا يَسْتَحِقُّهُ.
ويَدُلُّ عَلى سُقُوطِ القَضاءِ لِما مَضى عَمَّنْ أسْلَمَ في بَعْضِ رَمَضانَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهم ما قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: ٣٨] وقَوْلُهُ ﷺ: «الإسْلامُ يَجُبُّ ما قَبْلَهُ والإسْلامُ يَهْدِمُ ما قَبْلَهُ» .
وإنَّما قالَ أصْحابُنا: يُمْسِكُ المُسْلِمُ في بَعْضِ رَمَضانَ والصَّبِيُّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِما عَنِ الأكْلِ والشُّرْبِ، مِن قِبَلِ أنَّهُ قَدْ طَرَأ عَلَيْهِما، وهُما مُفْطِرانِ (p-٢٣٢)حالَ لَوْ كانَتْ مَوْجُودَةً في أوَّلِ النَّهارِ كانا مَأْمُورَيْنِ بِالصِّيامِ، فَواجِبٌ أنْ يَكُونا مَأْمُورَيْنِ بِالإمْساكِ في مِثْلِهِ إذا كانا مُفْطِرِينَ؛ والأصْلُ فِيهِ ما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ بَعَثَ إلى أهْلِ العَوالِي يَوْمَ عاشُوراءَ فَقالَ: «مَن أكَلَ فَلْيُمْسِكْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، ومَن لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ» ورُوِيَ أنَّهُ أمَرَ الآكِلِينَ بِالقَضاءِ وأمَرَهم بِالإمْساكِ مَعَ كَوْنِهِمْ مُفْطِرِينَ؛ لِأنَّهم لَوْ لَمْ يَكُونُوا قَدْ أكَلُوا لَأُمِرُوا بِالصِّيامِ، فاعْتَبَرْنا بِذَلِكَ كُلَّ حالٍ تَطْرَأُ عَلَيْهِ في بَعْضِ النَّهارِ، وهو مُفْطِرٌ بِما لَوْ كانَتْ مَوْجُودَةً في أوَّلِهِ كَيْفَ يَكُونُ حُكْمُهُ؛ فَإنْ كانَ مِمّا يَلْزَمُهُ بِها الصَّوْمُ أُمِرَ بِالإمْساكِ، وإنْ كانَ مِمّا لا يَلْزَمُهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ؛ ومِن أجْلِ ذَلِكَ قالُوا في الحائِضِ إذا طَهُرَتْ في بَعْضِ النَّهارِ، والمُسافِرِ إذا قَدِمَ، وقَدْ أفْطَرَ في سَفَرِهِ، إنَّهُما مَأْمُورانِ بِالإمْساكِ؛ إذْ لَوْ كانَتْ حالَ الطُّهْرِ والإقامَةِ مَوْجُودَةً في أوَّلِ النَّهارِ كانا مَأْمُورَيْنِ بِالصِّيامِ، وقالُوا: لَوْ حاضَتْ في بَعْضِ النَّهارِ لَمْ تُؤْمَرْ بِالإمْساكِ إذِ الحَيْضُ لَوْ كانَ مَوْجُودًا في أوَّلِ النَّهارِ لَمْ تُؤْمَرْ بِالصِّيامِ.
فَإنْ قِيلَ: فَهَلّا أبَحْتَ لِمَن كانَ مُقِيمًا في أوَّلِ النَّهارِ ثُمَّ سافَرَ أنْ يُفْطِرَ؛ لِأنَّ حالَ السَّفَرِ لَوْ كانَتْ مَوْجُودَةً في أوَّلِ النَّهارِ ثُمَّ سافَرَ كانَ مُبِيحًا لِلْإفْطارِ، قِيلَ لَهُ: لَمْ نَجْعَلَ ما قَدَّمْنا عِلَّةً لِلْإفْطارِ ولا لِلصَّوْمِ، وإنَّما جَعَلْناهُ عِلَّةً لِإمْساكِ المُفْطِرِ، فَأمّا إباحَةُ الإفْطارِ وحَظْرِهِ فَلَهُ شَرْطٌ آخَرُ غَيْرُ ما ذَكَرْنا.
وقَدْ حَوى قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ أحْكامًا أُخَرَ غَيْرَ ما ذَكَرْنا؛ مِنها: دَلالَتُهُ عَلى أنَّ مَنِ اسْتَبانَ لَهُ بَعْدَما أصْبَحَ أنَّهُ مِن رَمَضانَ فَعَلَيْهِ أنْ يَبْتَدِئَ صَوْمَهُ؛ لِأنَّ الآيَةَ لَمْ تُفَرِّقَ بَيْنَ مَن عَلِمَهُ مِنَ اللَّيْلِ أوْ في بَعْضِ النَّهارِ، وهي عامَّةٌ في الحالَيْنِ جَمِيعًا، فاقْتَضى ذَلِكَ جَوازُ تَرْكِ نِيَّةِ صَوْمِ رَمَضانَ مِنَ اللَّيْلِ؛ وكَذَلِكَ المُغْمى عَلَيْهِ والمَجْنُونُ إذا أفاقا في بَعْضِ النَّهارِ ولَمْ يَتَقَدَّمَ لَهُما نِيَّةُ الصَّوْمِ مِنَ اللَّيْلِ فَواجِبٌ عَلَيْهِما أنْ يَبْتَدِئا الصِّيامَ في ذَلِكَ الوَقْتِ؛ لِأنَّهُما قَدْ شَهِدا الشَّهْرَ، وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ شُهُودَ الشَّهْرِ شَرْطًا لِلُزُومِ الصَّوْمِ.
وفِي الآيَةِ حُكْمٌ آخَرُ: تَدُلُّ أيْضًا عَلى أنَّ مَن نَوى بِصِيامِهِ في شَهْرِ رَمَضانَ تَطَوُّعًا أوْ عَنْ فَرْضٍ آخَرَ أنَّهُ مُجْزِئٌ عَنْ رَمَضانَ لِأنَّ الأمْرَ بِفِعْلِ الصَّوْمِ فِيهِ ورَدَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِوَصْفٍ ولا مَخْصُوصٍ بِشَرْطِ نِيَّةِ الفَرْضِ، فَعَلى أيِّ وجْهٍ صامَ فَقَدْ قَضى عُهْدَةَ الآيَةِ ولَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وفِيها حُكْمٌ آخَرُ: تَدُلُّ أيْضًا عَلى لُزُومِ صَوْمِ أوَّلِ يَوْمٍ مِن رَمَضانَ لِمَن رَأى الهِلالَ وحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ لَهُ الإفْطارُ مَعَ كَوْنِ اليَوْمِ مَحْكُومًا عِنْدَ سائِرِ النّاسِ أنَّهُ مِن شَعْبانَ.
وقَدْ رَوى رَوْحُ بْنُ عُبادَةَ عَنْ هِشامٍ، وأشْعَثُ عَنْ الحَسَنِ فِيمَن رَأى الهِلالَ (p-٢٣٣)وحْدَهُ: أنَّهُ لا يَصُومُ إلّا مَعَ الإمامِ ورَوى ابْنُ المُبارَكِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطاءِ بْنِ أبِي رَباحٍ في رَجُلٍ رَأى هِلالَ شَهْرِ رَمَضانَ قَبْلَ النّاسِ بِلَيْلَةٍ: لا يَصُومُ قَبْلَ النّاسِ ولا يُفْطِرُ قَبْلَهم، أخْشى أنْ يَكُونَ شُبِّهَ لَهُ. فَأمّا الحَسَنُ فَإنَّهُ أطْلَقَ الجَوابَ في أنَّهُ لا يَصُومُ، وهَذا يَدُلَّ عَلى أنَّهُ، وإنْ تَيَقَّنَ الرُّؤْيَةَ مِن غَيْرِ شَكٍّ ولا شُبْهَةٍ أنَّهُ لا يَصُومُ، وأمّا عَطاءٌ، فَإنَّهُ يُشْبِهُ أنْ يَكُونَ أباحَ لَهُ الإفْطارَ إذا جَوَّزَ عَلى نَفْسِهِ الشُّبْهَةَ في الرُّؤْيَةِ، وأنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَأى حَقِيقَةً، وإنَّما تَخَيَّلَ لَهُ ما ظَنَّهُ هِلالًا.
وظاهِرُ الآيَةِ يُوجِبُ الصَّوْمَ عَلى مَن رَآهُ؛ إذْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَن رَآهُ وحْدَهُ ومَن رَآهُ مَعَ النّاسِ.
وفِيها حُكْمٌ آخَرُ: ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ إنَّهُ إذا لَمْ يَكُنْ عالِمًا بِدُخُولِ الشَّهْرِ لَمْ يُجْزِهِ صَوْمُهُ، ويَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ قالَ: فَإنَّما ألْزَمَ الفَرْضَ عَلى مَن عَلِمَ بِهِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿فَمَن شَهِدَ﴾ بِمَعْنى شاهَدَ وعَلِمَ، فَمَن لَمْ يَعْلَمْ فَهو غَيْرُ مُؤَدٍّ لِفَرْضِهِ، وذَلِكَ كَنَحْوِ مَن يَصُومُ رَمَضانَ عَلى شَكٍّ ثُمَّ يَصِيرُ إلى اليَقِينِ ولا اشْتِباهَ، كالأسِيرِ في دارِ الحَرْبِ إذا صامَ شَهْرًا فَإذا هو شَهْرُ رَمَضانَ، فَقالُوا: لا يُجْزِئُ مَن كانَ هَذا وصْفَهُ؛ ويُحْكى هَذا القَوْلُ عَنْ جَماعَةٍ مِن السَّلَفِ. وعَنْ مالِكٍ والشّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلانِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ يُجْزِئُ، والآخَرُ: أنَّهُ لا يُجْزِئُ.
وقالَ الأوْزاعِيُّ في الأسِيرِ إذا أصابَ عَيْنَ رَمَضانَ: " أجْزَأهُ " وكَذَلِكَ إذا أصابَ شَهْرًا بَعْدَهُ. وأصْحابُنا يُجِيزُونَ صَوْمَهُ بَعْدَ أنْ يُصادِفَ عَيْنَ الشَّهْرِ أوْ بَعْدَهُ، ولا نَعْلَمُ خِلافًا بَيْنَ الفُقَهاءِ أنَّهُ إذا تَحَرّى شَهْرًا وغَلَبَ عَلى ظَنِّهِ أنَّهُ رَمَضانُ ثُمَّ صارَ إلى اليَقِينِ ولا اشْتِباهَ أنَّهُ رَمَضانُ أنَّهُ يُجْزِيهِ، وكَذَلِكَ إذا تَحَرّى وقْتَ صَلاةٍ في يَوْمِ غَيْمٍ وصَلّى عَلى غالِبِ الظَّنِّ ثُمَّ تَيَقَّنَ أنَّهُ الوَقْتُ يُجْزِيهِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ وإنِ احْتَمَلَ العِلْمُ بِهِ فَغَيْرُ مانِعٍ مِن جَوازِهِ، وإنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ، مِن قِبَلِ أنَّ ذَلِكَ إنَّما هو شَرْطٌ في لُزُومِهِ ومَنعِ تَأْخِيرِهِ، وأمّا نَفْيُ الجَوازِ فَلا دَلالَةَ فِيهِ عَلَيْهِ، ولَوْ كانَ الأمْرُ عَلى ما قالَ مِن مَنعِ جَوازِهِ لَوَجَبَ أنْ لا يَجِبَ عَلى مَنِ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الشُّهُورُ، وهو في دارِ الحَرْبِ ولَمْ يَعْلَمْ بِرَمَضانَ القَضاءُ؛ لِأنَّهُ لَمْ يُشاهِدِ الشَّهْرَ، ولَمْ يَعْلَمْ بِهِ، فَلَمّا اتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلى لُزُومِ القَضاءِ عَلى مَن لَمْ يَعْلَمْ بِشَهْرِ رَمَضانَ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ لَيْسَ شَرْطُ جَوازِ صَوْمِهِ العِلْمَ بِهِ كَما لَمْ يَكُنْ شَرْطُ وُجُوبِ قَضائِهِ العِلْمَ بِهِ، ولَمّا كانَ مَن وصَفْنا مِن فَقْدِ عِلْمِهِ بِالشَّهْرِ شاهِدًا لَهُ في بابِ لُزُومِهِ قَضاءَهُ إذا لَمْ يَصُمْ، وجَبَ أنْ يَكُونَ شاهِدًا لَهُ في بابِ جَوازِ صَوْمِهِ مَتى صادَفَ عَيْنَهُ وأيْضًا إذا احْتَمَلَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ﴾ أنْ يَعْنِي بِهِ كَوْنَهُ مِن أهْلِ التَّكْلِيفِ في الشَّهْرِ عَلى ما تَقَدَّمَ (p-٢٣٤)بَيانُهُ، فَواجِبٌ أنْ يُجْزِيَهُ عَلى أيِّ حالٍ شَهِدَ الشَّهْرُ، وهَذا شاهِدٌ لِلشَّهْرِ مِن حَيْثُ كانَ مِن أهْلِ التَّكْلِيفِ، فاقْتَضى ظاهِرُ الآيَةِ جَوازَهُ وإنْ لَمْ يَكُنْ عالِمًا بِدُخُولِهِ.
واحْتَجَّ أيْضًا مَن أبى جَوازَهُ عِنْدَ فَقْدِ العِلْمِ بِقَوْلِهِ ﷺ «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإنْ غُمَّ عَلَيْكم فَأكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبانَ ثَلاثِينَ» قالُوا: فَإذا كانَ مَأْمُورًا بِفِعْلِ الصَّوْمِ لِرُؤْيَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ، فَإنَّهُ مَتى لَمْ يَرَهُ أنْ يَحْكُمَ بِهِ أنَّهُ مِن شَعْبانَ فَغَيْرُ جائِزٍ لَهُ صَوْمُهُ مَعَ الحُكْمِ بِهِ مِن شَعْبانَ؛ إذْ كانَ صَوْمُ شَعْبانَ غَيْرُ مُجْزِئٍ عَنْ رَمَضانَ.
وهَذا أيْضًا غَيْرُ مانِعٍ جَوازَهُ كَما لا يَمْنَعُ وُجُوبَ القَضاءِ إذا عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أنَّهُ مِن رَمَضانَ؛ وإنَّما كانَ مَحْكُومًا بِأنَّهُ مِن شَعْبانَ عَلى شَرْطِ فَقْدِ العِلْمِ، فَإذا عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أنَّهُ مِن رَمَضانَ فَمَتى عَلِمَ أنَّهُ مِن رَمَضانَ فَهو مَحْكُومٌ لَهُ بِهِ مِنَ الشَّهْرِ ويَنْتَقِضُ ما كُنّا حَكَمْنا بِهِ بَدِيًّا مِن أنَّهُ مِن شَعْبانَ فَكانَ حُكْمُنا بِذَلِكَ مُنْتَظَرًا مُراعًى، وكَذَلِكَ يَكُونُ صَوْمُ يَوْمِهِ ذَلِكَ مُراعًى؛ فَإنِ اسْتَبانَ أنَّهُ مِن رَمَضانَ أجْزَأهُ وإنْ لَمْ يَسْتَبِنْ لَهُ فَهو تَطَوُّعٌ.
فَإنْ قِيلَ: وُجُوبُ قَضائِهِ إذا أفْطَرَ فِيهِ غَيْرُ دالٍّ عَلى جَوازِهِ إذا صامَهُ؛ لِأنَّ الحائِضَ يَلْزَمُها القَضاءُ ولَمْ يَدُلَّ وُجُوبُ القَضاءِ عَلى الجَوازِ قِيلَ لَهُ: إذا كانَ المانِعُ مِن جَوازِ صَوْمِهِ فَقْدَ العِلْمِ بِهِ، فَواجِبٌ أنْ يَكُونَ هَذا المَعْنى بِعَيْنِهِ مانِعًا مِن لُزُومِ قَضائِهِ إذا أفْطَرَ فِيهِ كالمَجْنُونِ والصَّبِيِّ؛ لِأنَّكَ زَعَمْتَ أنَّ المانِعَ مِن جَوازِهِ كَوْنُهُ غَيْرَ شاهِدٍ لِلشَّهْرِ وغَيْرَ عالِمٍ بِهِ، ومَن لَمْ يَشْهَدِ الشَّهْرَ فَلا قَضاءَ عَلَيْهِ إنْ كانَ حُكْمُ الوُجُوبِ مَقْصُورًا عَلى مَن شَهِدَهُ دُونَ مَن لَمْ يَشْهَدْهُ، ولا يَخْتَلِفُ عَلى هَذا الحَدِّ حُكْمُ الجَوازِ إذا صامَ وحُكْمُ القَضاءِ إذا أفْطَرَ.
وأمّا الحائِضُ فَلا يَتَعَلَّقَ عَلَيْها حُكْمُ تَكْلِيفِ الصَّوْمِ مِن جِهَةِ شُهُودِها لِلشَّهْرِ وعِلْمِها بِهِ؛ لِأنَّها مَعَ عِلْمِها بِهِ لا يُجْزِيها صَوْمُهُ، ولَمْ يَتَعَلَّقْ مَعَ ذَلِكَ وُجُوبُ القَضاءِ بِإفْطارِها؛ إذْ لَيْسَ لَها فِعْلٌ في الإفْطارِ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ سُقُوطُ القَضاءِ عَنْها مِن حَيْثُ لَمْ يُجْزِها صَوْمُها.
وفِيها وجْهٌ آخَرُ مِنَ الحُكْمِ: وهو أنَّ مِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ: إذا طَرَأ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضانَ، وهو مُقِيمٌ ثُمَّ سافَرَ فَغَيْرُ جائِزٍ لَهُ الإفْطارُ؛ ويُرْوى ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ وعَنْ عُبَيْدَةَ وأبِي مِجْلَزٍ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ وسَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ وإبْراهِيمُ والشَّعْبِيُّ: " إنْ شاءَ أفْطَرَ إذا سافَرَ " وهو قَوْلُ فُقَهاءِ الأمْصارِ.
واحْتَجَّ الفَرِيقُ الأوَّلُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ وهَذا قَدْ شَهِدَ الشَّهْرَ فَعَلَيْهِ إكْمالُ صَوْمِهِ بِمُقْتَضى ظاهِرِ اللَّفْظِ، وهَذا مَعْناهُ عِنْدَ الآخَرِينَ إلْزامُ فَرْضِ الصَّوْمِ في حالِ كَوْنِهِ مُقِيمًا؛ لِأنَّهُ قَدْ بَيَّنَ حُكْمَ المُسافِرِ عَقِيبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (p-٢٣٥)﴿ومَن كانَ مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَن كانَ مُقِيمًا في أوَّلِ الشَّهْرِ ثُمَّ سافَرَ وبَيْنَ مَن كانَ مُسافِرًا في ابْتِدائِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ مَقْصُورُ الحُكْمِ عَلى حالِ الإقامَةِ دُونَ حالِ السَّفَرِ بَعْدَها. وأيْضًا لَوْ كانَ المَعْنى فِيهِ ما ذَكَرُوا لَوَجَبَ أنْ يَجُوزَ لِمَن كانَ مُسافِرًا في أوَّلِ الشَّهْرِ ثُمَّ أقامَ أنْ يُفْطِرَ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَن كانَ مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ وقَدْ كانَ هَذا مُسافِرًا.
وكَذَلِكَ مَن كانَ مَرِيضًا في أوَّلِهِ ثُمَّ بَرِئَ وجَبَ أنْ يَجُوزَ لَهُ الإفْطارُ بِقَضِيَّةٍ ظاهِرَةٍ؛ إذْ قَدْ حَصَلَ لَهُ اسْمُ المُسافِرِ والمَرِيضِ؛ فَلَمّا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: ﴿ومَن كانَ مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ مانِعًا مِن لُزُومِ صَوْمِهِ إذا أقامَ أوْ بَرِئَ في بَعْضِ الشَّهْرِ، وكانَ هَذا الحُكْمُ مَقْصُورًا عَلى حالِ بَقاءِ السَّفَرِ والمَرَضِ، كَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ﴾ مَقْصُورٌ عَلى حالِ بَقاءِ الإقامَةِ، وقَدْ نَقَلَ أهْلُ السِّيَرِ وغَيْرُهم إنْشاءَ النَّبِيِّ ﷺ السَّفَرَ في رَمَضانَ في عامِ الفَتْحِ، وصَوْمَهُ في ذَلِكَ السَّفَرِ، وإفْطارَهُ بَعْدَ صَوْمِهِ، وأمْرَهُ النّاسَ بِالإفْطارِ، مَعَ آثارٍ مُسْتَفِيضَةٍ وهي مَشْهُورَةٌ غَيْرُ مُحْتاجَةٍ إلى ذِكْرِ الأسانِيدِ؛ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ مُرادَ اللَّهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ مَقْصُورٌ عَلى حالِ بَقاءِ الإقامَةِ في إلْزامِ الصَّوْمِ وتَرْكِ الإفْطارِ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾ قالَ أبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَدْ تَكَلَّمْنا في مَعْنى قَوْلِهِ جَلَّ وعَلا: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ﴾ وما تَضَمَّنَهُ مِنَ الأحْكامِ وحَواهُ مِنَ المَعانِي بِما حَضَرَ، ونَتَكَلَّمُ الآنَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وعَوْنِهِ في مَعْنى قَوْلِهِ ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾ وما حَواهُ مِنَ الأحْكامِ وانْتَظَمَهُ مِنَ المَعانِي، فَنَقُولُ:
إنَّ الصَّوْمَ عَلى ضَرْبَيْنِ: صَوْمٌ لُغَوِيٌّ وصَوْمٌ شَرْعِيٌّ؛ فَأمّا الصَّوْمُ اللُّغَوِيُّ فَأصْلُهُ الإمْساكُ، ولا يَخْتَصُّ بِالإمْساكِ عَنِ الأكْلِ والشُّرْبِ دُونَ غَيْرِهِما، بَلْ كُلُّ إمْساكٍ فَهو مُسَمًّى في اللُّغَةِ صَوْمًا، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾ [مريم: ٢٦] والمُرادُ الإمْساكُ عَنِ الكَلامِ، يَدُلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِيبَهُ: ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إنْسِيًّا﴾ [مريم: ٢٦] وقالَ الشّاعِرُ:
؎وخَيْلٌ صِيامٌ يَلُكْنَ اللُّجُمَ
وقالَ النّابِغَةُ:
؎خَيْلٌ صِيامٌ وخَيْلٌ غَيْرُ صائِمَةٍ ∗∗∗ تَحْتَ العَجاجِ وخَيْلٌ تَعْلُكُ اللُّجُما
وتَقُولُ العَرَبُ: " صامَ النَّهارُ، وصامَتِ الشَّمْسُ عِنْدَ قِيامِ الظُّهْرَةِ "؛ لِأنَّها كالمُمْسِكَةِ عَنِ الحَرَكَةِ. وقالَ امْرُؤُ القَيْسِ: (p-٢٣٦)
؎فَدَعْها وسَلِّ الهَمَّ عَنْكَ بِجَسْرَةٍ ∗∗∗ ذَمُولٍ إذا صامَ النَّهارُ وهَجَّرا
فَهَذا مَعْنى اللَّفْظِ في اللُّغَةِ. وهو في الشَّرْعِ يَتَناوَلُ ضَرْبًا مِنَ الإمْساكِ عَلى شَرائِطَ مَعْلُومَةٍ لَمْ يَكُنِ الِاسْمُ يَتَناوَلُهُ في اللُّغَةِ؛ ومَعْلُومٌ أنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ هو الإمْساكُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ لِاسْتِحالَةِ كَوْنِ ذَلِكَ مِنَ الإنْسانِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ خُلُوَّ الإنْسانِ مِنَ المُتَضادّاتِ حَتّى لا يَكُونُ ساكِنًا ولا مُتَحَرِّكًا ولا آكِلًا ولا تارِكًا ولا قائِمًا ولا قاعِدًا ولا مُضْطَجِعًا، وهَذا مُحالٌ لا يَجُوزُ وُرُودُ العِبادَةِ بِهِ؛ فَعَلِمْنا أنَّ الصَّوْمَ الشَّرْعِيَّ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِضَرْبٍ مِنَ الإمْساكِ دُونَ جَمِيعِ ضُرُوبِهِ.
فالضَّرْبُ الَّذِي حَصَلَ عَلَيْهِ اتِّفاقُ المُسْلِمِينَ هو الإمْساكُ عَنِ الأكْلِ والشُّرْبِ والجِماعِ، وشَرَطَ فِيهِ عامَّةُ فُقَهاءِ الأمْصارِ مَعَ ذَلِكَ الإمْساكَ عَنِ الحُقْنَةِ والسَّعُوطِ والِاسْتِقاءِ عَمْدًا إذا مَلَأ الفَمَ، ومِنَ النّاسِ مَن لا يُوجِبُ في الحُقْنَةِ والسَّعُوطِ قَضاءً، وهو قَوْلٌ شاذٌّ والجُمْهُورُ عَلى خِلافِهِ، وكَذَلِكَ الِاسْتِقاءُ.
ورُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: " الفِطْرُ مِمّا دَخَلَ، ولَيْسَ مِمّا خَرَجَ " وهو قَوْلُ طاوُسٍ وعِكْرِمَةَ؛ وفُقَهاءُ الأمْصارِ عَلى خِلافِهِ؛ لِأنَّهم يُوجِبُونَ عَلى مَنِ اسْتَقاءَ عَمْدًا القَضاءَ. واخْتَلَفُوا فِيما وصَلَ إلى الجَوْفِ مِن جِراحَةِ جائِفَةٍ أوْ آمَّةٍ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ: والشّافِعِيُّ: " عَلَيْهِ القَضاءُ " وقالَ أبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ: " لا قَضاءَ عَلَيْهِ " وهو قَوْلُ الحَسَنِ بْنِ صالِحٍ.
وقَدِ اخْتُلِفَ في تَرْكِ الحِجامَةِ هَلْ هو مِنَ الصَّوْمِ ؟ فَقالَ عامَّةُ الفُقَهاءِ: " الحِجامَةُ لا تُفْطِرُهُ " وقالَ الأوْزاعِيُّ: " تُفْطِرُهُ " . واخْتُلِفَ أيْضًا في بَلْعِ الحَصاةِ، فَقالَ أصْحابُنا ومالِكٌ والشّافِعِيُّ: " تُفْطِرُهُ " وقالَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: " لا تُفْطِرُهُ " .
واخْتَلَفُوا في الصّائِمِ يَكُونُ بَيْنَ أسْنانِهِ شَيْءٌ فَيَأْكُلُهُ مُتَعَمِّدًا، فَقالَ أصْحابُنا ومالِكٌ والشّافِعِيُّ: " لا قَضاءَ عَلَيْهِ " ورَوى الحَسَنُ بْنُ زِيادٍ عَنْ زُفَرَ أنَّهُ قالَ: " إذا كانَ بَيْنَ أسْنانِهِ شَيْءٌ مِن لَحْمٍ أوْ سَوِيقٍ أوْ خُبْزٍ فَجاءَ عَلى لِسانِهِ مِنهُ شَيْءٌ فابْتَلَعَهُ وهو ذاكِرٌ فَعَلَيْهِ القَضاءُ والكَفّارَةُ " قالَ: وقالَ أبُو يُوسُفَ: " عَلَيْهِ القَضاءُ ولا كَفّارَةَ عَلَيْهِ " وقالَ الثَّوْرِيُّ: " أسْتَحِبُّ لَهُ أنْ يَقْضِيَ " .
وقالَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: " إذا دَخَلَ الذُّبابُ جَوْفَهُ فَعَلَيْهِ القَضاءُ " .
وقالَ أصْحابُنا ومالِكٌ: " لا قَضاءَ عَلَيْهِ ولا خِلافَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ أنَّ الحَيْضَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّوْمِ؛ واخْتَلَفُوا في الجُنُبِ، فَقالَ عامَّةُ فُقَهاءِ الأمْصارِ: " لا قَضاءَ عَلَيْهِ وصَوْمُهُ تامٌّ مَعَ الجَنابَةِ " وقالَ الحَسَنُ بْنُ حَيٍّ مُسْتَحَبٌّ لَهُ أنْ يَقْضِيَ ذَلِكَ اليَوْمَ " وكانَ يَقُولُ: " يَصُومَ تَطَوُّعًا، وإنْ أصْبَحَ جُنُبًا " وقالَ في الحائِضِ: " إذا طَهُرَتْ مِنَ اللَّيْلِ، ولَمْ تَغْتَسِلْ حَتّى أصْبَحَتْ فَعَلَيْها قَضاءُ ذَلِكَ اليَوْمِ " .
فَهَذِهِ أُمُورٌ مِنها مُتَّفَقٌ (p-٢٣٧)عَلَيْهِ في أنَّ الإمْساكَ عَنْهُ صَوْمٌ، ومِنها مُخْتَلَفٌ فِيهِ عَلى ما بَيَّنّا. فالمُتَّفَقُ عَلَيْهِ هو الإمْساكُ عَنِ الجِماعِ والأكْلِ والشُّرْبِ في المَأْكُولِ والمَشْرُوبِ، والأصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُحِلَّ لَكم لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسائِكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٧] إلى قَوْلِهِ ﴿فالآنَ باشِرُوهُنَّ وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكم وكُلُوا واشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: ١٨٧] فَأباحَ الجِماعَ والأكْلَ والشُّرْبَ في لَيالِي الصَّوْمِ مِن أوَّلِها إلى طُلُوعِ الفَجْرِ، ثُمَّ أمَرَ بِإتْمامِ الصِّيامِ إلى اللَّيْلِ.
وفِي فَحْوى هَذا الكَلامِ ومَضْمُونِهِ حَظْرُ ما أباحَهُ بِاللَّيْلِ مِمّا قُدِّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الجِماعِ والأكْلِ والشُّرْبِ، فَثَبَتَ بِحُكْمِ الآيَةِ أنَّ الإمْساكَ عَنْ هَذِهِ الأشْياءِ الثَّلاثَةِ هو مِنَ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ، ولا دَلالَةَ فِيهِ عَلى أنَّ الإمْساكَ عَنْ غَيْرِها لَيْسَ مِنَ الصَّوْمِ، بَلْ هو مَوْقُوفٌ عَلى دَلالَتِهِ. وقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ واتِّفاقِ عُلَماءِ الأُمَّةِ أنَّ الإمْساكَ عَنْ غَيْرِ هَذِهِ الأشْياءِ مِنَ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ عَلى ما سَنُبَيِّنُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى ومِمّا هو مِن شَرائِطِ لُزُومِ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ - وإنْ لَمْ يَكُنْ هو إمْساكًا ولا صَوْمًا - الإسْلامُ والبُلُوغُ؛ إذْ لا خِلافَ أنَّ الصَّغِيرَ غَيْرُ مُخاطَبٍ بِالصَّوْمِ في أحْكامِ الدُّنْيا، فَإنَّ الكافِرَ، وإنْ كانَ مُخاطَبًا بِهِ مُعاقَبًا عَلى تَرْكِهِ فَهو في حُكْمِ مَن لَمْ يُخاطَبْ بِهِ في أحْكامِ الدُّنْيا، فَإنَّهُ لا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضاءُ المَتْرُوكِ مِنهُ في حالِ الكُفْرِ.
وطُهْرُ المَرْأةِ عَنِ الحَيْضِ مِن شَرائِطِ تَكْلِيفِ صَوْمِ الشَّهْرِ، وكَذَلِكَ العَقْلُ والإقامَةُ والصِّحَّةُ، وإنْ وجَبَ القَضاءُ في الثّانِي. والعَقْلُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ عَلى ما بَيَّنّا مِن أقاوِيلِ أهْلِ العِلْمِ في المَجْنُونِ في رَمَضانَ والنِّيَّةُ مِن شَرائِطِ صِحَّةِ سائِرِ ضُرُوبِ الصَّوْمِ، وهو عَلى ثَلاثَةِ أنْحاءٍ: صَوْمٌ مُسْتَحَقُّ العَيْنِ، وهو صَوْمُ رَمَضانَ ونَذْرُ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ. وصَوْمُ التَّطَوُّعِ، وصَوْمٌ في الذِّمَّةِ.
فالصَّوْمُ المُسْتَحَقُّ العَيْنِ وصَوْمُ التَّطَوُّعِ يَجُوزُ فِيهِما تَرْكُ النِّيَّةِ مِنَ اللَّيْلِ إذا نَواهُ قَبْلَ الزَّوالِ، وما كانَ في الذِّمَّةِ فَغَيْرُ جائِزٍ إلّا بِتَقْدِمَةِ النِّيَّةِ مِنَ اللَّيْلِ، وقالَ زُفَرُ: " يَجُوزُ صَوْمُ رَمَضانَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ " . وقالَ مالِكٌ: " يَكْفِي لِلشَّهْرِ كُلِّهِ نِيَّةٌ واحِدَةٌ " .
وإنَّما قُلْنا إنَّ بَلْعَ الحَصاةِ ونَحْوِها يُوجِبُ الإفْطارَ وإنْ لَمْ يَكُنْ مَأْكُولًا في العادَةِ، وأنَّهُ لَيْسَ بِغِذاءٍ ولا دَواءٍ، مِن قِبَلِ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: ١٨٧] قَدِ انْطَوى تَحْتَهُ الأكْلُ، فَهو عُمُومٌ في جَمِيعِ ما أُكِلَ، ولا خِلافَ أنَّهُ لا يَجُوزُ لَهُ بَلْعُ الحَصاةِ مَعَ اخْتِلافِهِمْ في إيجابِ الإفْطارِ واتِّفاقِهِمْ عَلى أنَّ النَّهْيَ عَنْ بَلْعِ الحَصاةِ صَدَرَ عَنِ الآيَةِ فَيُوجِبُ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ مُرادًا بِها، فاقْتَضى إطْلاقُ الأمْرِ بِالصِّيامِ عَنِ الأكْلِ والشُّرْبِ دُخُولَ الحَصاةِ فِيهِ كَسائِرِ المَأْكُولاتِ. فَمِن حَيْثُ دَلَّتِ الآيَةُ عَلى وُجُوبِ القَضاءِ (p-٢٣٨)فِي سائِرِ المَأْكُولاتِ فَهي دالَّةٌ أيْضًا عَلى وُجُوبِهِ في أكْلِ الحَصاةِ.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «مَن أكَلَ أوْ شَرِبَ ناسِيًا فَلا قَضاءَ عَلَيْهِ» . وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ حُكْمَ سائِرِ ما يَأْكُلُهُ لا يَخْتَلِفُ في وُجُوبِ القَضاءِ إذا أكَلَهُ عَمْدًا.
وأمّا السَّعُوطُ والدَّواءُ الواصِلُ بِالجائِفَةِ أوِ الآمَّةِ فالأصْلُ فِيهِ حَدِيثُ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «بالِغْ في الِاسْتِنْشاقِ إلّا أنْ تَكُونَ صائِمًا» فَأمَرَهُ بِالمُبالَغَةِ في الِاسْتِنْشاقِ ونَهاهُ عَنْها لِأجْلِ الصَّوْمِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ ما وصَلَ بِالِاسْتِنْشاقِ إلى الحَلْقِ أوْ إلى الدِّماغِ أنَّهُ يُفْطِرُ، لَوْلا ذَلِكَ لَما كانَ لِنَهْيِهِ عَنْها لِأجْلِ الصَّوْمِ مَعْنًى مَعَ أمْرِهِ بِها في غَيْرِ الصَّوْمِ. وصارَ ذَلِكَ أصْلًا عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ في إيجابِ القَضاءِ في كُلِّ ما وصَلَ إلى الجَوْفِ واسْتَقَرَّ فِيهِ مِمّا يُسْتَطاعُ الِامْتِناعُ مِنهُ، سَواءٌ كانَ وُصُولُهُ مِن مَجْرى الطَّعامِ والشَّرابِ أوْ مِن مَخارِقِ البَدَنِ الَّتِي هي خِلْقَةٌ في بِنْيَةِ الإنْسانِ، أوْ مِن غَيْرِها؛ لِأنَّ المَعْنى في الجَمِيعِ وُصُولُهُ إلى الجَوْفِ واسْتِقْرارُهُ فِيهِ مَعَ إمْكانِ الِامْتِناعِ مِنهُ في العادَةِ، ولا يَلْزَمُ عَلى ذَلِكَ الذُّبابُ والدُّخانُ والغُبارُ يَدْخُلُ حَلْقَهُ؛ لِأنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ لا يُسْتَطاعُ الِامْتِناعُ مِنهُ في العادَةِ، ولا يُمْكِنُ التَّحَفُّظُ مِنهُ بِإطْباقِ الفَمِ.
فَإنْ قِيلَ: فَإنَّ أبا حَنِيفَةَ لا يُوجِبُ بِالإفْطارِ في الإحْلِيلِ القَضاءَ.
قِيلَ لَهُ: إنَّما لَمْ يُوجِبْهُ؛ لِأنَّهُ كانَ عِنْدَهُ أنَّهُ لا يَصِلُ إلى المَثانَةِ؛ وقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ مَنصُوصًا، وهَذا يَدُلَّ عَلى أنَّ عِنْدَهُ إنْ وصَلَ إلى المَثانَةِ أفْطَرَ. وأمّا أبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ فَإنَّهُما اعْتَبَرا وُصُولَهُ إلى الجَوْفِ مِن مَخارِقِ البَدَنِ الَّتِي هي خِلْقَةٌ في بِنِيَّةِ الإنْسانِ.
وأمّا وجْهُ إيجابِ القَضاءِ عَلى مِنَ اسْتَقاءَ عَمْدًا دُونَ مَن ذَرَعَهُ القَيْءُ، فَإنَّ القِياسَ أنْ لا يُفْطِرَهُ الِاسْتِقاءُ عَمْدًا، لِأنَّ الفِطْرَ في الأصْلِ هو مِنَ الأكْلِ، وما جَرى مَجْراهُ مِنَ الجِماعِ كَما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ " إنَّهُ لا يُفْطِرُهُ الِاسْتِقاءُ عَمْدًا؛ لِأنَّ الإفْطارَ مِمّا يَدْخُلُ، ولَيْسَ مِمّا يَخْرُجُ " والوُضُوءُ مِمّا يَخْرُجُ، ولَيْسَ مِمّا يَدْخُلُ، وكَسائِرِ الأشْياءِ الخارِجَةِ مِنَ البَدَنِ لا يُوجِبُ الإفْطارَ بِالِاتِّفاقِ، فَكانَ خُرُوجُ القَيْءِ بِمَثابَتِها وإنْ كانَ مِن فِعْلِهِ، إلّا أنَّهم تَرَكُوا القِياسَ لِلْأثَرِ الثّابِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في ذَلِكَ ولا حَظَّ لِلنَّظَرِ مَعَ الأثَرِ والأثَرُ الثّابِتُ هو حَدِيثُ عِيسى بْنِ يُونُسَ، عَنْ هِشامِ بْنِ حَسّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: «مَن ذَرَعَهُ القَيْءُ لَمْ يُفْطِرْ ولا قَضاءَ عَلَيْهِ، ومَنِ اسْتَقاءَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ القَضاءُ» .
فَإنْ قِيلَ: خَبَرُ هِشامِ بْنِ حَسّانَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ في ذَلِكَ غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وإنَّما الصَّحِيحُ مِن هَذا الطَّرِيقِ في الأكْلِ ناسِيًا، قِيلَ لَهُ: قَدْ رَوى عِيسى بْنُ يُونُسَ الخَبَرَيْنِ مَعًا عَنْ هِشامِ بْنِ حَسّانَ، وعِيسى بْنُ يُونُسَ هو (p-٢٣٩)الثِّقَةُ المَأْمُونُ المُتَّفَقُ عَلى ثَبْتِهِ وصِدْقِهِ. قَدْ حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: رَوى أيْضًا حَفْصُ بْنُ غَيّاثٍ عَنْ هِشامٍ مِثْلَهُ.
ورَوى الأوْزاعِيُّ عَنْ يَعِيشَ بْنِ الوَلِيدِ أنَّ مَعْدانَ بْنَ أبِي طَلْحَةَ حَدَّثَهُ: أنَّ أبا الدَّرْداءِ حَدَّثَهُ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قاءَ فَأفْطَرَ قالَ: فَلَقِيتُ ثَوْبانَ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ، فَقالَ: صَدَقَ، وأنا صَبَبْتُ لَهُ وضُوءَهُ» .
ورَوى وهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبِي قالَ: سَمِعْتُ يَحْيى بْنَ أيُّوبَ يُحَدِّثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أبِي حَبِيبٍ، عَنْ أبِي مَرْزُوقٍ، عَنْ حُبَيْشٍ، عَنْ فَضالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قالَ: «كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَشَرِبَ ماءً، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ ألَمْ تَكُ صائِمًا ؟ فَقالَ: بَلى ولَكِنِّي قِئْتُ» . وإنَّما تَرَكُوا القِياسَ في الِاسْتِقاءِ لِهَذِهِ الآثارِ.
فَإنْ قِيلَ: قَدْ رُوِيَ أنَّ القَيْءَ لا يُفْطِرُ؛ وهو ما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قالَ: حَدَّثَنا سُفْيانُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ، عَنْ رَجُلٍ مِن أصْحابِهِ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الصَّحابَةِ، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «لا يُفْطِرُ مَن قاءَ ولا مَنِ احْتَلَمَ ولا مَنِ احْتَجَمَ» .
قِيلَ لَهُ: ورَوى هَذا الحَدِيثَ مُحَمَّدُ بْنُ أبانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ عَنْ أبِي عُبَيْدِ اللَّهِ الصُّنابِحِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَن أصْبَحَ صائِمًا فَذَرَعَهُ القَيْءُ فَلَمْ يُفْطِرْ، ومَنِ احْتَلَمَ فَلَمْ يُفْطِرْ، ومَنِ احْتَجَمَ فَلَمْ يُفْطِرْ» .
فَبَيَّنَ هَذا الحَدِيثُ القَيْءَ الَّذِي لا يُوجِبُ الإفْطارَ، ولَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ عَلى هَذا البَيانِ لَكانَ الواجِبُ حَمْلَهُ عَلى مَعْناهُ، وأنْ لا يَسْقُطَ أحَدُ الحَدِيثَيْنِ بِالآخَرِ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ مَتى رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ خَبَرانِ مُتَضادّانِ، وأمْكَنَ اسْتِعْمالُهُما عَلى غَيْرِ وجْهِ التَّضادِّ اسْتَعْمَلْناهُما جَمِيعًا، ولَمْ يُلْغَ أحَدُهُما. وإنَّما قالُوا: إنَّهُ إذا اسْتَقاءَ أقَلَّ مِن مِلْءِ فِيهِ لَمْ يُفْطِرْهُ، مِن قِبَلِ أنَّهُ لا يَتَناوَلُهُ اسْمُ القَيْءِ؛ ألا تَرى أنَّ مَن ظَهَرَ عَلى لِسانِهِ شَيْءٌ بِالجُشاءِ لا يُقالُ إنَّهُ قَدْ تَقَيَّأ ؟ وإنَّما يَتَناوَلُهُ هَذا الِاسْمُ عِنْدَ كَثْرَتِهِ وخُرُوجِهِ؛ وقَدْ كانَ أبُو الحَسَنِ الكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى يَقُولُ في تَقْدِيرِ مِلْءِ الفَمِ: " هو الَّذِي لا يُمْكِنُهُ إمْساكُهُ في الفَمِ لِكَثْرَتِهِ فَيُسَمّى حِينَئِذٍ قَيْئًا " .
وأمّا الحِجامَةُ فَإنَّما قالُوا: إنَّها لا تُفْطِرُ الصّائِمَ؛ لِأنَّ الأصْلَ أنَّ الخارِجَ مِنَ البَدَنِ لا يُوجِبُ الإفْطارَ، كالبَوْلِ والغائِطِ والعَرَقِ واللَّبَنِ؛ ولِذَلِكَ لَوْ جُرِحَ إنْسانٌ أوِ افْتُصِدَ لَمْ يُفْطِرْهُ، فَكانَتِ الحِجامَةُ قِياسَ ذَلِكَ؛ ولِأنَّهُ لَمّا ثَبَتَ أنَّ الإمْساكَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ مِنَ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ، لَمْ يَجُزْ لَنا أنْ نُلْحِقَ بِهِ إلّا ما ورَدَ بِهِ التَّوْقِيفُ أوِ اتَّفَقَتِ الأُمَّةُ عَلَيْهِ.
وقَدْ ورَدَ بِإباحَةِ الحِجامَةِ لِلصّائِمِ آثارٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَمِن ذَلِكَ: ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا عُبَيْدُ بْنُ شَرِيكٍ البَزّازُ قالَ: حَدَّثَنا أبُو الجُماهِرِ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ عَنْ أبِيهِ، عَنْ عَطاءِ بْنِ يَسارٍ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، أنَّ رَسُولَ (p-٢٤٠)اللَّهِ ﷺ قالَ: «ثَلاثٌ لا يُفْطِرْنَ الصّائِمَ: القَيْءُ والِاحْتِلامُ والحِجامَةُ» .
وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قالَ: حَدَّثَنا شُعْبَةُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أبِي زِيادٍ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ احْتَجَمَ صائِمًا مُحْرِمًا» .
وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا حُسَيْنُ بْنُ إسْحاقَ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْمٍ قالَ: حَدَّثَنا عِيسى بْنُ يُونُسَ عَنْ أيُّوبَ بْنِ مُحَمَّدٍ اليَمانِيِّ، عَنْ المُثَنّى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ قالَ: «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَبِيحَةَ ثَمانِي عَشْرَةَ مِن رَمَضانَ بِرَجُلٍ، وهو يَحْتَجِمُ فَقالَ ﷺ: أفْطَرَ الحاجِمُ والمَحْجُومُ ثُمَّ أتاهُ رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَسَألَهُ عَنِ الحِجامَةِ في شَهْرِ رَمَضانَ فَقالَ: إذا تَبَيَّغَ بِأحَدِكُمُ الدَّمُ فَلْيَحْتَجِمْ». وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ حَبِيبٍ أبُو حِصْنٍ الكُوفِيُّ قالَ: حَدَّثَنا إبْراهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَيْمُونٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو مالِكٍ عَنْ الحَجّاجِ، عَنِ الحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وهو صائِمٌ فَغُشِيَ عَلَيْهِ فَلِذَلِكَ كَرِهَهُ» وحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ أبِي بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا القَعْنَبِيُّ قالَ: حَدَّثَنا سُلَيْمانُ يَعْنِي ابْنَ المُغِيرَةِ عَنْ ثابِتٍ قالَ: قالَ أنَسٌ: " ما كُنّا نَدَعُ الحِجامَةَ لِلصّائِمِ إلّا كَراهِيَةَ الجَهْدِ " .
فَإنْ قالَ قائِلٌ: قَدْ رَوى مَكْحُولٌ عَنْ ثَوْبانَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «أفْطَرَ الحاجِمُ والمَحْجُومُ» .
ورَوى أبُو قِلابَةَ عَنْ أبِي الأشْعَثِ عَنْ شَدّادِ بْنِ أوْسٍ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «أتى عَلى رَجُلٍ بِالبَقِيعِ وهو يَحْتَجِمُ وهو آخِذٌ بِيَدِي لِثَمانِي عَشْرَةَ خَلَتْ مِن رَمَضانَ فَقالَ: أفْطَرَ الحاجِمُ والمَحْجُومُ» . قِيلَ لَهُ: قَدِ اخْتُلِفَ في صِحَّةَ هَذا الخَبَرِ، وهو غَيْرُ صَحِيحٍ عَلى مَذْهَبِ أهْلِ النَّقْلِ؛ لِأنَّ بَعْضَهم رَواهُ عَنْ أبِي قِلابَةَ عَنْ أبِي أسْماءَ عَنْ ثَوْبانَ، وبَعْضُهم رَواهُ عَنْ أبِي قِلابَةَ عَنْ شَدّادِ بْنِ أوْسٍ؛ ومِثْلُ هَذا الِاضْطِرابِ في السَّنَدِ يُوهِنُهُ.
فَأمّا حَدِيثُ مَكْحُولٍ فَإنَّ أصْلَهُ عَنْ شَيْخِ مِنَ الحَيِّ مَجْهُولٍ عَنْ ثَوْبانَ؛ وعَلى أنَّهُ لَيْسَ في قَوْلِهِ «أفْطَرَ الحاجِمُ والمَحْجُومُ» إذا أشارَ بِهِ إلى عَيْنٍ دَلالَةً عَلى وُقُوعِ الإفْطارِ بِالحِجامَةِ؛ لِأنَّ ذِكْرَ الحِجامَةِ في مِثْلِهِ تَعْرِيفٌ لَهُما، كَقَوْلِكَ: أفْطَرَ القائِمُ والقاعِدُ، وأفْطَرَ زَيْدٌ؛ إذا أشَرْتَ بِهِ إلى عَيْنٍ؛ فَلا دَلالَةَ فِيهِ عَلى أنَّ القِيامَ يُفْطِرُ، وعَلى أنَّ كَوْنَهُ زَيْدًا يُفْطِرُهُ.
كَذَلِكَ قَوْلُهُ: «أفْطَرَ الحاجِمُ والمَحْجُومُ» لَمّا أشارَ بِهِ إلى رَجُلَيْنِ بِأعْيُنِهِما فَلا دَلالَةَ فِيهِ عَلى وُقُوعِ الفِطْرِ بِالحِجامَةِ، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ شاهَدَهُما عَلى حالٍ تُوجِبُ الإفْطارَ مِن أكْلٍ أوْ غَيْرِهِ فَأخْبَرَهُ بِالإفْطارِ مِن غَيْرِ ذِكْرِ عِلَّتِهِ، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ شاهَدَهُما عَلى غَيْبَةٍ مِنهُما لِلنّاسِ فَقالَ: إنَّهُما أفْطَرا، كَما رَوى يَزِيدُ بْنُ أبانَ عَنْ أنَسٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «الغِيبَةُ تُفْطِرُ (p-٢٤١)الصّائِمَ» ولَيْسَ المَعْنى فِيهِ عِنْدَ الفُقَهاءِ الخُرُوجُ مِنهُ، وإنَّما المُرادُ مِنهُ إبْطالُ ثَوابِهِ، فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ ذِكْرُ إفْطارِ الحاجِمِ والمَحْجُومِ لِهَذا المَعْنى، وعَلى أنَّ الأخْبارَ الَّتِي رَوَيْنا فِيها ذِكْرَ تارِيخِ الرُّخْصَةِ بَعْدَ النَّهْيِ.
وجائِزٌ أيْضًا أنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنِ الحِجامَةِ كانَ لِما يُخافُ مِنَ الضَّعْفِ، كَما نَهى عَنِ الصَّوْمِ في السَّفَرِ حِينَ رَأى رَجُلًا قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ. وأمّا وجْهُ قَوْلِهِمْ فِيمَن بَلَعَ شَيْئًا بَيْنَ أسْنانِهِ لَمْ يُفْطِرْهُ، فَهو أنَّ ذَلِكَ بِمَنزِلَةِ أجْزاءِ الماءِ الباقِيَةِ في فَمِهِ بَعْدَ غَسْلِ فَمِهِ لِلْمَضْمَضَةِ، ومَعْلُومٌ وُصُولُها إلى جَوْفِهِ، ولا حُكْمَ لَها كَذَلِكَ والأجْزاءُ الباقِيَةُ في فَمِهِ هي بِمَنزِلَةِ ما وصَفْنا، ألا تَرى أنَّ مَن أكَلَ بِاللَّيْلِ سَوِيقًا أنَّهُ لا يَخْلُو إذا أصْبَحَ مِن بَقاءِ شَيْءٍ مِن أجْزائِهِ بَيْنَ أسْنانِهِ، ولَمْ يَأْمُرْهُ أحَدٌ بِتَقَصِّي إخْراجِها بِالأخِلَّةِ والمَضْمَضَةِ ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ تِلْكَ الأجْزاءَ لا حُكْمَ لَها.
وأمّا الذُّبابُ الواصِلُ إلى جَوْفِهِ مِن غَيْرِ إرادَتِهِ، فَإنَّما لَمْ يُفْطِرْهُ مِن قِبَلِ أنَّ ذَلِكَ في العادَةِ غَيْرُ مُتَحَفَّظٍ مِنهُ، ألا تَرى أنَّهُ لا يُؤْمَرُ بِإطْباقِ الفَمِ وتَرْكِ الكَلامِ خَوْفًا مِن وُصُولِهِ إلى جَوْفِهِ ؟ فَأشْبَهَ الغُبارَ والدُّخانَ يَدْخُلُ إلى حَلْقِهِ فَلا يُفْطِرُهُ.
ولَيْسَ هو بِمَنزِلَةِ مَن أُوجِرَ ماءً وهو صائِمٌ مُكْرَهًا فَيُفْطِرُ، مِن قِبَلِ أنَّهُ لَيْسَ لِلْعادَةِ في هَذا تَأْثِيرٌ؛ وإنَّما بَيَّنّا حُكْمَ وُصُولِ الذُّبابِ إلى جَوْفِهِ مَعْلُومًا عَلى العادَةِ في فَتْحِ الفَمِ بِالكَلامِ، وما كانَ مَبْنِيًّا عَلى العادَةِ مِمّا يَشُقُّ الِامْتِناعُ عَنْهُ فَقَدْ خَفَّفَ اللَّهُ عَنِ العِبادِ فِيهِ، قالَ اللَّهُ: ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨]
وأمّا الجَنابَةُ فَإنَّها غَيْرُ مانِعَةٍ مِن صِحَّةِ الصَّوْمِ، لِقَوْلِهِ: ﴿فالآنَ باشِرُوهُنَّ وابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكم وكُلُوا واشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: ١٨٧] فَأطْلَقَ الجِماعَ مِن أوَّلِ اللَّيْلِ إلى آخِرِهِ، ومَعْلُومٌ أنَّ مَن جامَعَ في آخِرِ اللَّيْلِ فَصادَفَ فَراغُهُ مِنَ الجِماعِ طُلُوعَ الفَجْرِ أنَّهُ يُصْبِحُ جُنُبًا، وقَدْ حَكَمَ اللَّهُ بِصِحَّةِ صِيامِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: ١٨٧]
ورَوَتْ عائِشَةُ وأُمُّ سَلَمَةَ: أنَّ «رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِن غَيْرِ احْتِلامٍ ثُمَّ يَصُومُ يَوْمَهُ ذَلِكَ» .
ورَوى أبُو سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «ثَلاثٌ لا يُفْطِرْنَ الصّائِمَ: القَيْءُ، والحِجامَةُ، والِاحْتِلامُ» وهو يُوجِبُ الجَنابَةَ، وحَكَمَ النَّبِيُّ ﷺ مَعَ ذَلِكَ بِصِحَّةِ صَوْمِهِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ الجَنابَةَ لا تُنافِي صِحَّةَ الصَّوْمِ.
وقَدْ رَوى أبُو هُرَيْرَةَ خَبَرًا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «مَن أصْبَحَ جُنُبًا فَلا يَصُومَنَّ يَوْمَهُ ذَلِكَ» إلّا أنَّهُ لَمّا أُخْبِرَ بِرِوايَةِ عائِشَةَ وأُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: لا عِلْمَ لِي بِهَذا أخْبَرَنِي بِهِ الفَضْلُ بْنُ العَبّاسِ، وهَذا مِمّا يُوهِنُ خَبَرَهُ؛ لِأنَّهُ قالَ بَدِيًّا: ما أنا قُلْتُ ورَبِّ الكَعْبَةِ " مَن أصْبَحَ جُنُبًا فَقَدْ أفْطَرَ " مُحَمَّدٌ قالَ (p-٢٤٢)ذَلِكَ ورَبِّ الكَعْبَةِ وأفْتى السّائِلَ عَنْ ذَلِكَ بِالإفْطارِ، فَلَمّا أُخْبِرَ بِرِوايَةِ عائِشَةَ وأُمِّ سَلَمَةَ تَبَرَّأ مِن عُهْدَتِهِ وقالَ: لا عِلْمَ لِي بِهَذا إنَّما أخْبَرَنِي بِهِ الفَضْلُ.
وقَدْ رُوِيَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ الرُّجُوعُ عَنْ فُتْياهُ بِذَلِكَ؛ حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بْنُ الفَضْلِ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ شَبابَةَ قالَ: حَدَّثَنا عَمْرُو بْنُ الهَيْثَمِ قالَ: حَدَّثَنا هِشامٌ عَنْ قَتادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ: أنَّ أبا هُرَيْرَةَ رَجَعَ عَنِ الَّذِي كانَ يُفْتِي مَن أصْبَحَ جُنُبًا فَلا يَصُومُ. وعَلى أنَّهُ لَوْ ثَبَتَ خَبَرُ أبِي هُرَيْرَةَ احْتَمَلَ أنْ لا يَكُونَ مُعارِضًا لِرِوايَةِ عائِشَةَ وأُمِّ سَلَمَةَ، بِأنْ يُرِيدَ: " مَن أصْبَحَ عَلى مُوجِبِ الجَنابَةِ بِأنْ يُصْبِحَ مُخالِطًا لِامْرَأتِهِ " ومَتى أمْكَنَنا تَصْحِيحُ الخَبَرَيْنِ واسْتِعْمالِهِما مَعًا اسْتَعْمَلْناهُما عَلى ما أمْكَنَ مِن غَيْرِ تَعارُضٍ.
فَإنْ قِيلَ جائِزٌ أنْ يَكُونَ رِوايَةُ عائِشَةَ وأُمِّ سَلَمَةَ مُسْتَعْمَلَةً فِيما ورَدَتْ بِأنْ يَكُونَ النَّبِيُّ ﷺ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ دُونَ أُمَّتِهِ؛ لِأنَّهُما أضافَتا ذَلِكَ إلى فِعْلِهِ؛ وخَبَرُ أبِي هُرَيْرَةَ مُسْتَعْمَلٌ في سائِرِ النّاسِ.
قِيلَ لَهُ: قَدْ عَقَلَ أبُو هُرَيْرَةَ مِن رِوايَتِهِ مُساواةَ النَّبِيِّ ﷺ لِغَيْرِهِ في هَذا الحُكْمِ؛ لِأنَّهُ قالَ حِينَ سَمِعَ رِوايَةَ عائِشَةَ وأُمِّ سَلَمَةَ: " لا عِلْمَ لِي بِهَذا وإنَّما أخْبَرَنِي بِهِ الفَضْلُ بْنُ العَبّاسِ ولَمْ يَقُلْ إنَّ رِوايَةَ هاتَيْنِ المَرْأتَيْنِ غَيْرُ مُعارِضَةٍ لِرِوايَتِي؛ إذْ كانَتْ رِوايَتُهُما مَقْصُورَةً عَلى حالِ النَّبِيِّ ﷺ ورِوايَتِي إنَّما هي في غَيْرِهِ مِنَ النّاسِ؛ فَهَذا يُبْطِلُ تَأْوِيلَكَ.
وأيْضًا فَإنَّهُ ﷺ مُساوٍ لِلْأُمَّةِ في سائِرِ الأحْكامِ إلّا ما خَصَّهُ اللَّهُ تَعالى بِهِ وأفْرَدَهُ مِنَ الجُمْلَةِ بِتَوْقِيفٍ لِلْأُمَّةِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واتَّبِعُوهُ﴾ [الأعراف: ١٥٨] وقَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ كانَ لَكم في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: ٢١]
فَهَذِهِ الأُمُورُ الَّتِي ذَكَرْنا مِمّا تُعُبِّدْنا فِيهِ بِالإمْساكِ عَنْهُ في نَهارِ رَمَضانَ، هي مِنَ الصَّوْمِ المُرادِ بِهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: ١٨٧] وقَوْلُهُ تَعالى ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ فَهي إذًا مِنَ الصَّوْمِ اللُّغَوِيِّ والشَّرْعِيِّ جَمِيعًا.
وأمّا ما لَيْسَ بِإمْساكٍ مِمّا وصَفْنا، فَإنَّما هو مِن شَرائِطِهِ، ولا يَكُونُ الإمْساكُ عَلى الوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنا صَوْمًا شَرْعِيًّا إلّا بِوُجُودِ هَذِهِ الشَّرائِطِ، وذَلِكَ الإسْلامُ والبُلُوغُ والنِّيَّةُ وأنْ تَكُونَ المَرْأةُ غَيْرَ حائِضٍ، فَمَتى عُدِمَ شَيْءٌ مِن هَذِهِ الشَّرائِطِ خَرَجَ عَنْ أنْ يَكُونَ صَوْمًا شَرْعِيّا.
وأمّا الإقامَةُ والصِّحَّةُ فَهُما شَرْطُ صِحَّةِ لُزُومِهِ، ووُجُودُ المَرَضِ والسَّفَرِ لا يُنافِي صِحَّةَ الصَّوْمِ وإنَّما يُنافِي لُزُومَ الصَّوْمِ عَلى جِهَةِ الوُجُوبِ، ولَوْ صاما لَصَحَّ صَوْمُهُما. وإنَّما قُلْنا: البُلُوغُ شَرْطٌ في صِحَّةِ لُزُومِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ: عَنِ النّائِمِ حَتّى يَسْتَيْقِظَ، وعَنِ المَجْنُونِ حَتّى يُفِيقَ، وعَنِ الصَّبِيِّ حَتّى يَحْتَلِمَ» ولا خِلافَ أنَّهُ لا يَلْزَمُهُ سائِرُ العِباداتِ، فَكَذَلِكَ الصَّوْمُ.
وقَدْ يُؤْمَرُ بِهِ المُراهِقُ عَلى (p-٢٤٣)وجْهِ التَّعْلِيمِ لِيَعْتادَهُ ولِيُمَرَّنَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُوا أنْفُسَكم وأهْلِيكم نارًا﴾ [التحريم: ٦] قِيلَ في التَّفْسِيرِ: أدِّبُوهم وعَلِّمُوهم؛ وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «مُرُوهم بِالصَّلاةِ لِسَبْعٍ، واضْرِبُوهم عَلَيْها لِعَشْرٍ» ولَيْسَ ذَلِكَ عَلى وجْهِ التَّكْلِيفِ، وإنَّما هو عَلى وجْهِ التَّعْلِيمِ والتَّأْدِيبِ.
وأمّا الإسْلامُ فَإنَّما كانَ شَرْطًا في صِحَّةِ فِعْلِهِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥] فَلا يَصِحُّ لَهُ قُرْبَةٌ إلّا عَلى شَرْطِ كَوْنِهِ مُؤْمِنًا
وأمّا العَقْلُ، فَإنْ فُقِدَتْ مَعَهُ النِّيَّةُ والإرادَةُ فَإنَّما يُنْفى عَنْهُ صِحَّةُ الصَّوْمِ لِعَدَمِ النِّيَّةِ، فَإنْ وُجِدَتْ مِنهُ النِّيَّةُ مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ عَزَبَ عَقْلُهُ لَمْ يَنْفِ ذَلِكَ صِحَّةَ صَوْمِهِ.
وإنَّما قُلْنا إنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ في صِحَّةِ الصَّوْمِ مِن قِبَلِ أنَّهُ لا يَكُونُ صَوْمًا شَرْعِيًّا إلّا بِأنْ يَكُونَ فاعِلُهُ مُتَقَرِّبًا بِهِ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ ولا تَصِحُّ القُرْبَةُ إلّا بِالنِّيَّةِ والقَصْدِ لَها، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها ولا دِماؤُها ولَكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنكُمْ﴾ [الحج: ٣٧] فَأخْبَرَ عَزَّ وجَلَّ أنَّ شَرْطَ التَّقْوى تَحَرِّي مُوافَقَةِ أمْرِهِ.
ولَمّا كانَ شَرْطُ كَوْنِهِ مُتَّقِيًا فِعْلَ الصَّوْمِ مِنَ المَفْرُوضِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ ذَلِكَ إلّا بِالنِّيَّةِ؛ لِأنَّ التَّقْوى لا تَحْصُلُ لَهُ إلّا بِتَحَرِّي مُوافَقَةِ أمْرِ اللَّهِ والقَصْدِ إلَيْهِ؛ وقالَ تَعالى: ﴿وما أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: ٥] ولا يَكُونُ إخْلاصُ الدِّينِ لَهُ إلّا بِقَصْدِهِ بِهِ إلَيْهِ راغِبًا عَنْ أنْ يُرِيدَ بِهِ غَيْرَهُ. فَهَذِهِ أُصُولٌ في تَعَلُّقِ صِحَّةِ الفُرُوضِ بِالنِّيّاتِ.
ولا خِلافَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ في أنَّ مِن شَرْطِ الصَّلاةِ والزَّكاةَ والحَجِّ والكَفّاراتِ إيجادَ النِّيَّةِ لَها؛ لِأنَّها فُرُوضٌ مَقْصُودَةٌ لِأعْيانِها، فَكانَ حُكْمُ الصَّوْمِ حُكْمَها لِهَذِهِ العِلَّةِ بِعَيْنِها.
فَإنْ قِيلَ: جَمِيعُ ما اسْتَدْلَلْتَ بِهِ عَلى كَوْنِ النِّيَّةِ شَرْطًا في الصَّوْمِ وفي سائِرِ الفُرُوضِ يُلْزِمُكَ شَرْطَ النِّيَّةِ في الطَّهارَةِ؛ إذْ كانَتْ فَرْضًا مِنَ الفُرُوضِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلى ما ظَنَنْتَ؛ لِأنَّ الطَّهارَةَ لَيْسَتْ فَرْضًا مَقْصُودًا لِعَيْنِها، وإنَّما المَقْصُودُ غَيْرُها وهي شَرْطٌ فِيهِ، فَقِيلَ لَنا: لا تُصَلُّوا إلّا بِطَهارَةٍ، كَما قِيلَ: لا تُصَلُّوا إلّا بِطَهارَةٍ مِن نَجاسَةٍ، ولا تُصَلُّوا إلّا بِسَتْرِ العَوْرَةِ؛ فَلَيْسَتْ هَذِهِ الأشْياءُ مَفْرُوضَةً لِأنْفُسِها، فَلَمْ يَلْزَمْ إيجادُ النِّيَّةِ لَها، ألا تَرى أنَّ النِّيَّةَ نَفْسَها لَمّا كانَتْ شَرْطًا لِغَيْرِهِمْ، ولَمْ تَكُنْ مَفْرُوضَةً لِنَفْسِها صَحَّتْ بِغَيْرِ نِيَّةٍ تُوجَدُ لَها ؟ فانْفَصَلَ بِما ذَكَرْنا حُكْمُ الفُرُوضِ المَقْصُودَةِ لِأعْيانِها وحُكْمُ ما جُعِلَ مِنها شَرْطًا لِغَيْرِهِ ولَيْسَ هو بِمَفْرُوضٍ لِنَفْسِهِ، فَلَمّا كانَتِ الطَّهارَةُ بِالماءِ شَرْطًا لِغَيْرِها، ولَيْسَتْ أيْضًا بِبَدَلٍ عَنْ سِواها لَمْ يَلْزَمْ فِيها النِّيَّةُ؛ ولا يَلْزَمُ عَلى هَذا إيجابُنا النِّيَّةَ في التَّيَمُّمِ؛ لِأنَّهُ بَدَلٌ عَنْ غَيْرِهِ فَلا يَكُونُ طَهُورًا إلّا بِانْضِمامِ النِّيَّةِ إلَيْهِ؛ إذْ لَيْسَ هو طَهُورًا في نَفْسِهِ بَلْ هو بَدَلٌ عَنْ غَيْرِهِ.
ولَمْ يَخْتَلِفِ الأُمَّةُ في أنَّ كُلَّ صَوْمٍ واجِبٍ في الذِّمَّةِ فَشَرْطُ صِحَّتِهِ (p-١٤٤)إيجادُ النِّيَّةِ لَهُ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ صَوْمِ رَمَضانَ في كَوْنِ النِّيَّةِ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ. وشَبَّهَ زُفَرُ صَوْمَ رَمَضانَ بِالطَّهارَةِ في إسْقاطِ النِّيَّةِ لَهُما، مِن قِبَلِ أنَّ الطَّهارَةَ مَفْرُوضَةٌ في أعْضاءٍ بِعَيْنِها فَكانَ الصَّوْمُ مُشْبِهًا لَها في كَوْنِهِ مَفْرُوضًا في وقْتٍ مُسْتَحَقِّ العَيْنِ لَهُ.
وهَذا عِنْدَ سائِرِ الفُقَهاءِ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ العِلَّةَ الَّتِي ذَكَرَها لِلطَّهارَةِ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ في الصَّوْمِ؛ إذْ جَعَلَ عِلَّةَ الطَّهارَةِ أنَّها مَفْرُوضَةٌ في مَوْضِعٍ بِعَيْنِهِ، وهَذا المَعْنى غَيْرُ مَوْجُودٍ في الصَّوْمِ؛ لِأنَّهُ غَيْرُ مَوْضُوعٍ في مَوْضِعٍ بِعَيْنِهِ، وإنَّما هو مَوْضُوعٌ في وقْتٍ مُعَيَّنٍ لا في مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ.
وعَلى أنَّ هَذِهِ العِلَّةَ مُنْتَقَضَةٌ بِالطَّوافِ؛ لِأنَّهُ مَفْرُوضٌ في مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ، ولَوْ عَدا رَجْلٌ خَلْفَ غَرِيمٍ لَهُ يَوْمَ النَّحْرِ حَوالَيِ البَيْتِ لَمْ يَكُنْ طائِفًا طَوافَ الزِّيارَةِ، وكَذَلِكَ لَوْ كانَ يَسْقِي النّاسَ هُناكَ وبَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةَ لَمْ يُجْزِهِ مِنَ الواجِبِ.
فَإذا كانَتْ هَذِهِ العِلَّةُ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلْحُكْمِ في مَعْلُولِها مِنَ الطَّوافِ والسَّعْيِ فَبِأنْ لا يُوجِبَ حُكْمَها فِيما لَيْسَتْ فِيهِ مَوْجُودَةً أوْلى. وعَلى أنَّ الطَّهارَةَ مُخالِفَةٌ لِلصَّوْمِ، لِما بَيَّنّا مِن أنَّها غَيْرُ مَفْرُوضَةٍ لِنَفْسِها، وإنَّما هي شَرْطٌ لِغَيْرِها لا عَلى وجْهِ البَدَلِ، فَلَمْ تَجِبْ أنْ تَكُونَ النِّيَّةُ شَرْطًا فِيها، كَأنَّهُ قِيلَ: لا تُصَلِّ إلّا، وأنْتَ طاهِرٌ مِنَ الحَدَثِ، ومِنَ النَّجاسَةِ، ولا تُصَلِّ إلّا مَسْتُورَ العَوْرَةِ. ولَيْسَ شَرْطُ غَسْلِ النَّجاسَةِ وسَتْرِ العَوْرَةِ النِّيَّةَ، كَذَلِكَ الطَّهارَةُ بِالماءِ؛ وأمّا الصَّوْمُ فَإنَّهُ مَفْرُوضٌ مَقْصُودٌ لِعَيْنِهِ كَسائِرِ الفُرُوضِ الَّتِي ذَكَرْنا، فَوَجْبَ أنْ يَكُونَ شَرْطُ صِحَّتِهِ إيجادَ النِّيَّةِ لَهُ.
ومَعْنًى آخَرُ؛ وهو أنّا قَدْ عَلِمْنا أنَّ الصَّوْمَ عَلى الصَّوْمِ عَلى ضَرْبَيْنِ: مِنهُ الصَّوْمُ اللُّغَوِيُّ، ومِنهُ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ. وأنَّ أحَدَهُما إنَّما يَنْفَصِلُ مِنَ الآخَرِ بِالنِّيَّةِ مَعَ ما قَدَّمْنا مِن شَرائِطِهِ، ومَتى لَمْ تُوجَدْ لَهُ النِّيَّةُ كانَ صَوْمًا لُغَوِيًّا لا حَظَّ فِيهِ لِلشَّرَعِ، فَلِذَلِكَ وجَبَ اعْتِبارُ النِّيَّةِ في صَوْمِ رَمَضانَ، ألا تَرى أنَّ مَن أمْسَكَ في يَوْمٍ مِن غَيْرِ رَمَضانَ عَمّا يُمْسِكُ عَنْهُ الصّائِمُ، ولَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةُ الصَّوْمِ أنَّ صَوْمَهُ ذَلِكَ لا يَكُونُ صَوْمَ شَرْعٍ ؟ وصَوْمُ التَّطَوُّعِ مُشْبِهٌ لِصَوْمِ رَمَضانَ في جَوازِ تَرْكِ النِّيَّةِ لَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمّا لَمْ يَكُنْ صائِمًا مُتَطَوِّعًا بِالإمْساكِ دُونَ النِّيَّةِ وجَبَ أنْ يَكُونَ صَوْمُ رَمَضانَ كَذَلِكَ.
ويَلْزَمُ زُفَرَ أنْ يَجْعَلَ المُغْمى عَلَيْهِ أيّامًا في رَمَضانَ إذا لَمْ يَأْكُلْ ولَمْ يَشْرَبْ صائِمًا لِوُجُودِ الإمْساكِ، وهَذا إنِ التَزَمَهُ قائِلٌ كانَ قائِلًا قَوْلًا مُسْتَشْنَعًا.
وإنَّما قُلْنا إنَّهُ يَحْتاجُ إلى إيجادِ النِّيَّةِ كُلَّ يَوْمٍ إمّا مِنَ اللَّيْلِ أوْ قَبْلَ الزَّوالِ، مِن قِبَلِ أنّا قَدْ بَيَّنّا أنَّ صَوْمَ رَمَضانَ لا يَصِحُّ إلّا بِنِيَّةٍ، ومِن حَيْثُ افْتَقَرَ إلى نِيَّةٍ في أوَّلِ الشَّهْرِ وجَبَ أنْ يَكُونَ اليَوْمُ الثّانِي مِثْلَهُ؛ لِأنَّهُ يَخْرُجُ بِاللَّيْلِ مِنَ الصَّوْمِ، ومَتى خَرَجَ مِنهُ (p-٢٤٥)احْتاجَ في دُخُولِهِ فِيهِ إلى نِيَّةٍ. وقالَ مالِكٌ: " ما لَمْ يَكُنْ وُجُوبُهُ مُعَيَّنًا مِنَ الصِّيامِ لَمْ يَصِحَّ إلّا بِنِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ، وما كانَ وُجُوبُهُ في وقْتٍ بِعَيْنِهِ كانْ يَعْلَمُهُ ذَلِكَ الوَقْتَ صائِمًا، واسْتَغْنى عَنْ نِيَّةِ الصِّيامِ بِذَلِكَ؛ فَإذا قالَ: " لِلَّهِ عَلَيَّ أنْ أصُومَ شَهْرًا مُتَتابِعًا؛ فَصامَ أوَّلَ يَوْمٍ أنَّهُ يُجْزِيهِ باقِيَ الأيّامِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ "؛ وهو قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ.
وقالَ الثَّوْرِيُّ في صَوْمِ التَّطَوُّعِ: " إذا نَواهُ في آخِرِ النَّهارِ أجْزَأهُ " .
قالَ: وقالَ إبْراهِيمُ النَّخْعِيُّ: " لَهُ أجْرُ ما يَسْتَقْبِلُ " وهو مَذْهَبُ الحَسَنِ بْنِ صالِحٍ. وقالَ الثَّوْرِيُّ: " يُحْتاجُ في صَوْمِ رَمَضانَ أنْ يَنْوِيَهُ مِنَ اللَّيْلِ " . وقالَ الأوْزاعِيُّ: " يَجْزِيهِ نِيَّةُ صَوْمِ رَمَضانَ بَعْدَ نِصْفِ النَّهارِ " . وقالَ الشّافِعِيُّ: " لا يُجْزِي كُلُّ صَوْمٍ واجِبٍ رَمَضانَ وغَيْرَهُ إلّا بِنِيَّةٍ مِنَ اللَّيْلِ، ويُجْزِي صَوْمَ التَّطَوُّعِ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوالِ " .
فَأمّا الدَّلالَةُ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ مَنِ اكْتَفى بِنِيَّةٍ واحِدَةٍ لِلشَّهْرِ كُلِّهِ، فَهو ما قَدَّمْنا مِنِ افْتِقارِ صَوْمِ اليَوْمِ الثّانِي إلى الدُّخُولِ فِيهِ، والدُّخُولُ في الصَّوْمِ لا يَصِحُّ إلّا بِنِيَّةٍ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ شَرْطُ اليَوْمِ الثّانِي إيجادَ النِّيَّةِ كاليَوْمِ الأوَّلِ.
فَإنْ قِيلَ: يَكْتَفِي بِالنِّيَّةِ الأُولى، وهي نِيَّةٌ لِجَمِيعِ الشَّهْرِ كَما يَجْتَزِئُ في الصَّلاةِ بِنِيَّةٍ واحِدَةٍ في أوَّلِها ولا يَحْتاجُ إلى تَجْدِيدِ النِّيَّةِ لِكُلِّ رَكْعَةٍ، والمَعْنى الجامِعُ بَيْنَهُما أنَّ الصَّلاةَ الواحِدَةَ لا تَتَخَلَّلُ رَكَعاتِها صَلاةٌ أُخْرى غَيْرَها كَما لا يَتَخَلَّلُ صِيامَ شَهْرِ رَمَضانَ صِيامٌ مِن غَيْرِهِ. قِيلَ لَهُ: لَوْ جازَ أنْ يَكْتَفِيَ بِنِيَّةٍ واحِدَةٍ لِلشَّهْرِ لَجازَ أنْ يَكْتَفِيَ بِها لِعُمْرِهِ كُلِّهِ، فَلَمّا بَطَلَ هَذا واحْتاجَ إلى نِيَّةٍ لِأوَّلِ يَوْمٍ لَمْ يَجُزْ أنْ تَكُونَ تِلْكَ النِّيَّةُ لِسائِرِ أيّامِ الشَّهْرِ كَما لا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ لِسائِرِ عُمُرِهِ.
وأمّا تَشْبِيهُهُ بِالصَّلاةِ فَلا مَعْنى لَهُ؛ لِأنَّ الصَّلاةَ إنَّما اكْتُفِيَ فِيها بِنِيَّةٍ واحِدَةٍ؛ لِأنَّ الجَمِيعَ مَفْعُولٌ بِتَحْرِيمَةٍ واحِدَةٍ.
ألا تَرى أنَّهُ لا يَصِحُّ بَعْضُها دُونَ بَعْضٍ فَكانَتِ الرَّكَعاتُ كُلُّها مَبْنِيَّةً عَلى تِلْكَ التَّحْرِيمَةِ ؟ ألا تَرى أنَّهُ مَتى تَرَكَ رَكْعَةً حَتّى خَرَجَ مِنها بَطَلَتْ صَلاتُهُ كُلُّها، وأنَّهُ لَوْ تَرَكَ صَوْمَ يَوْمٍ مِن رَمَضانَ بِأنْ أفْطَرَ فِيهِ لَمْ يَبْطُلْ عَلَيْهِ صَوْمُ سائِرِ الشَّهْرِ ؟ ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّهُ لا يَخْرُجُ مِنَ الصَّلاةِ بِفِعْلِ الرَّكْعَةِ الأُولى فَلَمْ يَحْتَجْ إلى نِيَّةٍ أُخْرى، إذِ النِّيَّةُ إنَّما يَحْتاجُ إلَيْها لِلدُّخُولِ فِيها، فَأمّا الصَّوْمُ، فَإنَّهُ إذا دَخَلَ اللَّيْلُ خَرَجَ مِنَ الصَّوْمِ؛ ولِذَلِكَ قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إذا أقْبَلَ اللَّيْلُ مِن هاهُنا وغابَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أفْطَرَ الصّائِمُ» فاحْتاجَ بَعْدَ الخُرُوجِ مِن صَوْمِ اليَوْمِ الأوَّلِ إلى الدُّخُولِ في اليَوْمِ الثّانِي، فَلَمْ يَصِحَّ لَهُ ذَلِكَ إلّا بِالنِّيَّةِ المُتَجَدِّدَةِ.
وإنَّما أجازَ أصْحابُنا تَرْكَ النِّيَّةِ مِنَ اللَّيْلِ في كُلِّ صَوْمٍ مُسْتَحَقِّ العَيْنِ إذا نَواهُ قَبْلَ الزَّوالِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ وهَذا قَدْ شَهِدَ الشَّهْرَ، فَواجِبٌ أنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِصَوْمِهِ (p-٢٤٦)وواجِبٌ أنْ يَجْزِيَهُ إذا فَعَلَ، ما أُمِرَ بِهِ. ومِن جِهَةِ السُّنَّةِ، وهو ما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ بَعَثَ إلى أهْلِ العَوالِي يَوْمَ عاشُوراءَ فَقالَ: «مَن أكَلَ فَلْيُمْسِكْ، ومَن لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ» .
وقَدْ رُوِيَ أنَّهُ أمَرَ الآكِلِينَ بِالقَضاءِ؛ حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُسْلِمٍ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ مِنهالٍ قالَ: حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ رَبِيعٍ قالَ: حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ قَتادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَمِّهِ قالَ: «أتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَوْمَ عاشُوراءَ فَقالَ: أصُمْتُمْ يَوْمَكم هَذا ؟ قالُوا: لا قالَ: فَأتِمُّوا يَوْمَكم هَذا واقْضُوا» فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى مَعْنَيَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ صَوْمَ يَوْمِ عاشُوراءَ كانَ فَرْضًا؛ ولِذَلِكَ أمَرَ بِالقَضاءِ مَن أكَلَ، والثّانِي: أنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الآكِلِينَ ومَن لَمْ يَأْكُلْ فَأمَرَ الآكِلِينَ بِالإمْساكِ والقَضاءِ والَّذِينَ لَمْ يَأْكُلُوا بِالصَّوْمِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ مِنَ الصَّوْمِ ما كانَ مَفْرُوضًا في وقْتٍ بِعَيْنِهِ فَجائِزٌ تَرْكُ النِّيَّةِ مِنَ اللَّيْلِ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ شَرْطُ صِحَّتِهِ إيجادَ النِّيَّةِ لَهُ مِنَ اللَّيْلِ لَما أمَرَهم بِالصِّيامِ ولَكانُوا حِينَئِذٍ بِمَنزِلَةِ الآكِلِينَ في بابِ امْتِناعِ صِحَّةِ صَوْمِهِمْ ووُجُوبِ القَضاءِ عَلَيْهِمْ، فَثَبَتَ بِما وصَفْنا أنَّهُ لَيْسَ شَرْطُ صِحَّةِ الصَّوْمِ المُسْتَحَقِّ العَيْنِ وُجُودَ النِّيَّةِ لَهُ مِنَ اللَّيْلِ وأنَّهُ جائِزٌ لَهُ أنْ يَبْتَدِئَ النِّيَّةَ لَهُ في بَعْضِ النَّهارِ.
فَإنْ قِيلَ: إنَّما جازَ تَرْكُ النِّيَّةِ لَهُ مِنَ اللَّيْلِ؛ لِأنَّ الفَرْضَ لَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ الوَقْتِ، وإنَّما هو فَرْضٌ مُبْتَدَأٌ لَزِمَهم في بَعْضِ النَّهارِ؛ فَلِذَلِكَ أجْزى لَهُ مَعَ تَرْكِ النِّيَّةِ مِنَ اللَّيْلِ، وأمّا بَعْدَ ثُبُوتِ فَرْضِ الصَّوْمِ فَغَيْرُ جائِزٍ إلّا أنْ يُوجَدَ لَهُ نِيَّةٌ مِنَ اللَّيْلِ.
قِيلَ لَهُ: لَوْ كانَ إيجادُ النِّيَّةِ مِنَ اللَّيْلِ مِن شَرائِطِ صِحَّتِهِ لَوَجَبَ أنْ يَكُونَ عَدَمُها مانِعًا صِحَّتَهُ، كَما أنَّهُ لَمّا كانَ تَرْكُ الأكْلِ مِن شَرائِطِ صِحَّةِ الصَّوْمِ كانَ وُجُودُهُ مانِعًا مِنهُ، وأنْ لا يَخْتَلِفَ في ذَلِكَ حُكْمُ الفَرْضِ المُبْتَدَأِ في بَعْضِ النَّهارَ وحُكْمُ ما تَقَدَّمَ فَرْضُهُ؛ فَلَمّا أمَرَ النَّبِيُّ ﷺ الآكِلِينَ بِالإمْساكِ وأمَرَهم مَعَ ذَلِكَ بِالقَضاءِ؛ لِأنَّ تَرْكَ الأكْلِ مِن شَرْطِ صِحَّتِهِ، ولَمْ يَأْمُرْ تارِكِي النِّيَّةِ مِنَ اللَّيْلِ بِالقَضاءِ، وحَكَمَ لَهم بِصِحَّةِ صَوْمِهِمْ إذا ابْتَدَءُوهُ في بَعْضِ النَّهارِ، ثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ إيجادَ النِّيَّةِ مِنَ اللَّيْلِ لَيْسَ بِشَرْطٍ في الصَّوْمِ المُسْتَحَقِّ العَيْنِ، وصارَ ذَلِكَ أصْلًا في نَظائِرِهِ مِمّا يُوجِبُهُ الإنْسانُ عَلى نَفْسِهِ مِنَ الصَّوْمِ في وقْتٍ بِعَيْنِهِ أنَّهُ يَصِحُّ بِنِيَّةٍ يُحْدِثُها بِالنَّهارِ قَبْلَ الزَّوالِ.
فَإنْ قِيلَ: فَرْضُ صَوْمِ عاشُوراءَ مَنسُوخٌ بِرَمَضانَ، فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِالمَنسُوخِ عَلى صَوْمٍ ثابِتِ الحُكْمِ مَفْرُوضٍ ؟ قِيلَ لَهُ: إنَّهُ نُسِخَ فَرْضُهُ فَلَمْ يُنْسَخْ دَلالَتُهُ فِيما دَلَّتْ عَلَيْهِ مِن نَظائِرِهِ، ألا تَرى أنَّ فَرْضَ التَّوَجُّهِ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ قَدْ نُسِخَ ولَمْ يُنْسَخْ بِذَلِكَ سائِرُ أحْكامِ الصَّلاةِ ؟ وكَذَلِكَ قَدْ نُسِخَ فَرْضُ صَلاةِ اللَّيْلِ، ولَمْ يُنْسَخْ سائِرُ أحْكامِ (p-٢٤٧)الصَّلاةِ ؟ ولَمْ يَمْنَعْ نَسْخَها مِنَ الِاسْتِدْلالِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ﴾ [المزمل: ٢٠] في إثْباتِ التَّخْيِيرِ في إيجابِ القِراءَةِ بِما شاءَ مِنهُ، وإنْ كانَ ذَلِكَ نَزَلَ في شَأْنِ صَلاةِ اللَّيْلِ، وإنَّما قالُوا: إنَّهُ يُجْزِي أنْ يَنْوِيَهُ قَبْلَ الزَّوالِ، ولا يَجُوزُ بَعْدَهُ، لِما رُوِيَ في بَعْضِ الأخْبارِ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَ إلى أهْلِ العَوالِي فَقالَ: مَن تَغَدّى مِنكم فَلْيُمْسِكْ ومَن لَمْ يَتَغَدَّ فَلْيَصُمْ» والغَداءُ عَلى ما قَبْلَ الزَّوالِ.
ثُمَّ لا يَخْلُو ذِكْرُ الغَداءِ مِن وجْهَيْنِ إمّا أنْ يَكُونَ قالَ ذَلِكَ بِالغَداةِ قَبْلَ الزَّوالِ، أوْ بَيَّنَ لَهم أنَّ جَوازَ النِّيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِوُجُودِها قَبْلَ الزَّوالِ في وقْتٍ يُسَمّى غَداةً، وإلّا كانَ اقْتَصَرَ عَلى ذِكْرِ الأكْلِ دُونَ ذِكْرِ الغَداةِ لَوْ كانَ حُكْمُ ما قَبْلَ الزَّوالِ وبَعْدَهُ سَواءً، فَلَمّا أوْجَبَ أنْ يَكْسُوَ هَذا اللَّفْظُ فائِدَتَهُ لِئَلّا يَخْلُوَ كَلامُ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ فائِدَةٍ، وجَبَ أنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُ نِيَّتِهِ قَبْلَ الزَّوالِ وبَعْدَهُ.
وإنَّما أجازُوا تَرْكَ النِّيَّةِ مِنَ اللَّيْلِ في صَوْمِ التَّطَوُّعِ بِما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بْنُ الفَضْلِ بْنِ مُوسى قالَ: حَدَّثَنا مُسْلِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ البَلْخِيُّ قالَ: حَدَّثَنا عُمَرُ بْنُ هارُونَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عَطاءٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يُصْبِحُ ولَمْ يَجْمَعْ لِلصَّوْمِ فَيَبْدُو لَهُ فَيَصُومُ» .
قالَتْ عائِشَةُ: «كانَ النَّبِيُّ ﷺ يَأْتِينا فَيَقُولُ: هَلْ عِنْدَكم مِن طَعامٍ ؟ فَإنْ كانَ وإلّا قالَ: فَإنِّي إذًا صائِمٌ» .
فَإنْ قِيلَ: إذا لَمْ يَعْزِمِ النِّيَّةَ مِنَ اللَّيْلِ حَتّى أصْبَحَ فَقَدْ وُجِدَ غَيْرَ صائِمٍ في بَعْضِ النَّهارِ، فَكانَ بِمَنزِلَةِ الآكِلِ، فَلا يَصِحُّ لَهُ صَوْمُ يَوْمِهِ.
قِيلَ لَهُ: قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ابْتِداءَ صَوْمِ التَّطَوُّعِ في بَعْضِ النَّهارِ، واتَّفَقَ الفُقَهاءُ عَلَيْهِ، ولَمْ يَجْعَلُوا ما مَضى مِنَ النَّهارِ عارِيًا مِن نِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ مانِعًا مِن صِحَّةِ صَوْمِهِ، ولَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمَنزِلَةِ الأكْلِ في أوَّلِ النَّهارِ في مَنعِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ؛ فَكَذَلِكَ عَدَمُ نِيَّةِ الصَّوْمِ في المُسْتَحَقِّ العَيْنِ مِنَ الصِّيامِ لا يَمْنَعُ ابْتِداءَ صَوْمِهِ، ولا يَكُونُ عَدَمُ النِّيَّةِ في أوَّلِهِ بِمَنزِلَةِ وُجُودِ الأكْلِ فِيهِ كَما لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حُكْمُهُ في التَّطَوُّعِ، وأيْضًا فَلَوْ نَوى الصَّوْمَ مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ عَزَبَتْ نِيَّتُهُ لَمْ يَكُنْ عُزُوبُ نِيَّتِهِ مانِعًا مِن صِحَّةِ صَوْمِهِ، ولَمْ يَكُنْ شَرْطُ بَقائِهِ اسْتِصْحابَ النِّيَّةِ لَهُ؛ فَلِذَلِكَ جازَ تَرْكُ النِّيَّةِ في أوَّلِ النَّهارِ لِبَعْضٍ مِنَ الصَّوْمِ عَلى حَسَبِ قِيامِ الدَّلالَةِ عَلَيْهِ، ولا يَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ صَوْمِهِ.
ولَوْ تَرَكَ الأكْلَ في أوَّلِ النَّهارِ ثُمَّ أكَلَ في آخِرِهِ كانَ ذَلِكَ مُبْطِلًا لِصَوْمِهِ، ولَمْ يَكُنْ وُجُودُ الأكْلِ بِمَنزِلَةِ عُزُوبِ النِّيَّةِ؛ فاسْتَوى حُكْمُ الأكْلِ في الِابْتِداءِ والبَقاءِ واخْتُلِفَ ذَلِكَ في حُكْمِ النِّيَّةِ؛ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفا. ولَمْ يَمْتَنِعْ أنْ يَكُونَ غَيْرَ ناوٍ لِلصَّوْمِ في أوَّلِهِ ثُمَّ يَنْوِيَهُ في بَعْضِ النَّهارِ، فَيَكُونَ ما مَضى مِنَ اليَوْمِ مَحْكُومًا لَهُ بِحُكْمِ الصَّوْمِ كَما يُحْكَمُ (p-٢٤٨)لَهُ بِحُكْمِ الصَّوْمِ مَعَ عُزُوبِ النِّيَّةِ.
فَإنْ قِيلَ: لَمّا لَمْ يَصِحَّ لَهُ الدُّخُولُ في الصَّلاةِ إلّا بِنِيَّةٍ مُقارِنَةٍ لَها، كانَ كَذَلِكَ حُكْمُ الصَّوْمِ. قِيلَ لَهُ: هَذا غَلَطٌ؛ لِأنَّهُ لا خِلافَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ في جَوازِ صَوْمِ مَن نَواهُ مِنَ اللَّيْلِ ثُمَّ نامَ فَأصْبَحَ نائِمًا، وأنَّ صَوْمَهُ تامٌّ صَحِيحٌ مِن غَيْرِ مُقارَنَةِ نِيَّةِ الصَّوْمِ بِحالِ الدُّخُولِ، ولَوْ نَوى الصَّلاةَ ثُمَّ اشْتَغَلَ عَنْها ثُمَّ تَحَرَّمَ بِالصَّلاةِ لَمْ تَصِحَّ إلّا بِنِيَّةٍ يُحْدِثُها عِنْدَ إرادَتِهِ الدُّخُولَ؛ فَلَمّا لَمْ يَكُنْ شَرْطُ الدُّخُولِ في الصَّوْمِ مُقارَنَةَ النِّيَّةِ لَهُ عِنْدَ الجَمِيعِ وكانَ شَرْطُ الدُّخُولِ في الصَّلاةِ مُقارَنَةَ النِّيَّةِ، لَمْ يَجُزْ أنْ يُحْكَمَ لَهُ بِحُكْمِ الصَّلاةِ إلّا بَعْدَ وُجُودِ نِيَّةِ الدُّخُولِ في ابْتِدائِها، ولَمْ يَجُزِ اعْتِبارُ الصَّوْمِ بِالصَّلاةِ في حُكْمِ النِّيَّةِ.
وأيْضًا قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّهُ كانَ يَبْتَدِئُ صَوْمَ التَّطَوُّعِ في بَعْضِ النَّهارِ» واتَّفَقَ الفُقَهاءُ عَلى تَلَقِّي هَذا الخَبَرِ بِالقَبُولِ واسْتِعْمالِهِمْ لَهُ، واتَّفَقُوا أيْضًا أنَّهُ لا يَصِحُّ لَهُ الدُّخُولُ في صَلاةِ التَّطَوُّعِ إلّا بِنِيَّةٍ تُقارِنُها، فَعَلِمْنا أنَّ نِيَّةَ الصَّوْمِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِنِيَّةِ الصَّلاةِ مِنَ الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُ، وأمّا ما كانَ مِنَ الصَّوْمِ الواجِبِ في الذِّمَّةِ غَيْرَ مَفْرُوضٍ في وقْتٍ مُعَيَّنٍ، فَإنَّهُ لا يَجُوزُ تَرْكُ النِّيَّةِ فِيهِ مِنَ اللَّيْلِ، والأصْلُ فِيهِ حَدِيثُ حَفْصَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «لا صِيامَ لِمَن لَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ» وكانَ عُمُومُ ذَلِكَ يَقْتَضِي إيجادَ النِّيَّةِ مِنَ اللَّيْلِ لِسائِرِ ضُرُوبِ الصَّوْمِ، إلّا أنَّهُ لَمّا قامَتِ الدَّلالَةُ في الصَّوْمِ المُسْتَحَقِّ العَيْنِ وصَوْمِ التَّطَوُّعِ سَلَّمْناهَ لِلدَّلالَةِ لَهُ وخَصَّصْناهُ مِنَ الجُمْلَةِ وبَقِيَ حُكْمُ اللَّفْظِ فِيما عَداهُ، ولا يَخْتَلِفُ عَلى ذَلِكَ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ وقَضاءُ رَمَضانَ؛ لِأنَّ صَوْمَ الشَّهْرَيْنِ المُتَتابِعَيْنِ غَيْرُ مُسْتَحَقِّ العَيْنِ، وأيُّ وقْتٍ ابْتَدَأ فِيهِ فَهو وقْتُ فَرْضِهِ، فَكانَ كَسائِرِ الصَّوْمِ الواجِبِ في الذِّمَّةِ.
والأحْكامُ المُسْتَفادَةُ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ إلْزامُ صَوْمِ الشَّهْرِ مَن كانَ مِنهم شاهِدًا لَهُ، وشُهُودُ الشَّهْرِ يَنْقَسِمُ إلى أنْحاءٍ ثَلاثَةٍ: العِلْمُ بِهِ، مِن قَوْلِهِمْ: شاهَدْتُ كَذا وكَذا؛ والإقامَةُ في الحَضَرِ، مِن قَوْلِكَ: مُقِيمٌ ومُسافِرٌ وشاهِدٌ وغائِبٌ؛ وأنْ يَكُونَ مِن أهْلِ التَّكْلِيفِ عَلى ما بَيَّنّا.
ثُمَّ أفادَ مِن نَسْخِ فَرْضِ أيّامٍ مَعْدُوداتٍ، عَلى قَوْلِ مَن قالَ: إنَّ صَوْمَ الأيّامِ المَعْدُوداتِ كانَ فَرْضًا غَيْرَ رَمَضانَ ثُمَّ نُسِخَ بِهِ، ونُسِخَ بِهِ أيْضًا التَّخْيِيرُ بَيْنَ الفِدْيَةِ والصَّوْمِ لِلصَّحِيحِ المُقِيمِ، وأفادَ أنَّ مَن رَأى الهِلالَ وحْدَهُ فَعَلَيْهِ صَوْمُهُ. وحُكْمٌ آخَرُ: وهو أنَّ مَن عَلِمَ بِالشَّهْرِ بَعْدَما أصْبَحَ، أوْ كانَ مَرِيضًا فَبَرَأ ولَمْ يَأْكُلْ ولَمْ يَشْرَبْ، أوْ مُسافِرًا قَدِمَ؛ فَعَلَيْهِمْ صَوْمُهُ؛ إذْ هم شاهِدُونَ لِلشَّهْرِ. وأفادَ أنَّ فَرْضَ الصِّيامِ مَخْصُوصٌ بِمَن شَهِدَ الشَّهْرَ دُونَ غَيْرِهِ، وأنَّ مَن لَيْسَ مِن أهْلِ التَّكْلِيفِ أوْ لَيْسَ بِمُقِيمٍ (p-٢٤٩)أوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَغَيْرُ لازِمٍ لَهُ.
وأفادَ تَعْيِينَ الشَّهْرِ لِهَذا الفَرْضِ حَتّى لا يَجُوزَ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ ولا تَأْخِيرُهُ عَنْهُ لِمَن شَهِدَهُ. وأفادَ أنَّ مُرادَهُ بَعْضُ الشَّهْرِ لا جَمِيعُهُ في شَرْطِ لُزُومِ الصَّوْمِ، وأنَّ الكافِرَ إذا أسْلَمَ في بَعْضِهِ والصَّبِيَّ إذا بَلَغَ فَعَلَيْهِما صَوْمُ بَقِيَّةِ الشَّهْرِ. وأفادَ أنَّ مَن نَوى بِصِيامِهِ تَطَوُّعًا أجْزَأهُ، لِوُرُودِ الأمْرِ مُطْلَقًا بِفِعْلِ الصَّوْمِ غَيْرَ مَخْصُوصٍ بِصِفَةٍ ولا مُقَيَّدٍ بِشَرْطٍ، فاقْتَصَرَ جَوازُهُ عَلى أيِّ وجْهٍ صامَهُ. ويَحْتَجُّ بِهِ مَن يَقُولُ: إنَّهُ إذا صامَ وهو غَيْرُ عالِمٍ بِالشَّهْرِ لَمْ يُجْزِهِ؛ ويَحْتَجُّ بِهِ أيْضًا مَن يَقُولُ: إذا طَرَأ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضانَ، وهو مُقِيمٌ ثُمَّ سافَرَ لَمْ يُفْطِرْ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾
فَهَذا الَّذِي حَضَرَنا مِن ذِكْرِ فَوائِدِ قَوْلِهِ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ﴾ ولا نَدْفَعُ أنْ يَكُونَ فِيهِ عِدَّةُ فَوائِدَ غَيْرِها لَمْ يُحِطْ عِلْمُنا بِها، وعَسى أنْ نَقِفَ عَلَيْها في وقْتٍ غَيْرِهِ أوْ يَسَتَنْبِطَها غَيْرُنا.
وأمّا ما تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾ فَهو ما قَدَّمْنا ذِكْرَهُ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي أُمِرْنا بِالإمْساكِ عَنْها في حالِ الصَّوْمِ، مِنها مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ومِنها مُخْتَلَفٌ، وما قَدَّمْناهُ مِن ذِكْرِ شَرائِطِهِ وإنْ لَمْ يَكُنْ صَوْمًا في نَفْسِهِ. وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ حُكْمِ المَرِيضِ والمُسافِرِ بِعَوْنِ اللَّهِ وكَرَمِهِ.
[[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
{"ayah":"شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ فِیهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدࣰى لِّلنَّاسِ وَبَیِّنَـٰتࣲ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡیَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِیضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرࣲ فَعِدَّةࣱ مِّنۡ أَیَّامٍ أُخَرَۗ یُرِیدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡیُسۡرَ وَلَا یُرِیدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُوا۟ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا۟ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق