﴿شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ فِیهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدࣰى لِّلنَّاسِ وَبَیِّنَـٰتࣲ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡیَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِیضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرࣲ فَعِدَّةࣱ مِّنۡ أَیَّامٍ أُخَرَۗ یُرِیدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡیُسۡرَ وَلَا یُرِیدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُوا۟ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا۟ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾ [البقرة ١٨٥]
قال الله تعالى:
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ [البقرة ١٨٥]
﴿شَهْرُ﴾ الشهر هو: مدة ما بين الهلالين، مدة بين الهلالين تسمى شهرًا، وسمي بذلك لاشتهاره؛ ولهذا اختلف العلماء هل الهلال ما هلّ في الأفق وإن لم ير، أو أن الهلال ما رئي واشتهر؟ والصواب الثاني، وأن مجرد طلوعه في الأفق لا يترتب عليه حكم شرعي حتى يرى ويتبين ويشهد.
وقوله:
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ هذا من العلم المضاف، شهر: مضاف، ورمضان: مضاف إليه، ورمضان: ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون، مأخوذ من: الرمْض، واختلف لماذا سمي برمضان فقيل: لأنه يرمض الذنوب، أي: يحرقها، وقيل: لأنه أول ما سميت الشهور بأسمائها صادف أنه في وقت الحر والرمضاء، فسمي شهر رمضان، وهذا أقرب؛ لأن الظاهر أن هذه التسمية كانت قبل الإسلام.
وقوله:
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ﴾ يجوز أن تقول: شهر رمضان، ويجوز أن تقول: رمضان، كما ستذكر في الفوائد إن شاء الله.
* طالب: وهل الشهور إلهامية أو اصطلاحية اصطلحها العلماء؟
* الشيخ: يعني أسماءها؟ أما تعيينها فمن الله، وأما الأسماء فهي اصطلاحية. وقوله:
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ خبر مبتدأ محذوف تقديره: هي، أي: الأيام المعدودات شهر رمضان، يعني: هي شهر رمضان.
وقوله:
﴿رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ ﴿الَّذِي﴾ صفة لـ
﴿شَهْرُ﴾ فمحلها الرفع، وقوله:
﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ أي أنزله الله تعالى فيه.
وقوله:
﴿فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ القرآن، هل المراد به الجنس فيشمل بعضه، أو المراد به العموم فيشمل كله؟
قال بعض أهل العلم: إن (أل) للعموم فيشمل كل القرآن، وهذا هو المشهور عند كثير من المفسرين، وعلى هذا القول يشكل الواقع؛ لأن الواقع أن القرآن نزل في رمضان وفي شوال وفي ذي القعدة وفي ذي الحجة، في جميع الشهور.
ولكن أجابوا عن ذلك بأنه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما
«أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في رمضان، وصار جبريل يأخذه من هذا البيت فينزل به على رسول الله ﷺ »(١)، لكن هذا الأثر ضعيف؛ ولهذا الصحيح أن (أل) هنا للجنس وليست للعموم، وأن معنى:
﴿أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ أي: ابتدئ إنزاله كقوله:
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ [الدخان ٣] و
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر ١].
وقوله:
﴿أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ (أنزل) معروف أن النزول يكون من؟
* طالب: فوق.
* الشيخ: من فوق، من أعلى؛ وذلك لأن القرآن كلام الله عز وجل، والله سبحانه تعالى فوق السماوات على عرشه. وقوله:
﴿الْقُرْآنُ﴾ القرآن مصدر مثل الغُفران والسُّكران، الغفران بالضم، والسكران بالضم، والقرآن بالضم، كلها مصادر، لكنه بمعنى اسم الفاعل أو بمعنى اسم المفعول، قيل: إنه بمعنى اسم المفعول، أي: المقروء، وقيل: بمعنى اسم الفاعل، أي: القارئ، يعني الجامع؛ لأنه من قرأ بمعنى جمع، ومنه: قرية؛ لأنها مجمع الناس، ولا يتنافى أن نقول: إنه من هذا ومن هذا، يعني بمعنى اسم فاعل واسم المفعول.
وقوله:
﴿أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ ﴿هُدًى﴾ من الهداية وهي الدلالة، فالقرآن دلالة للناس يستدلون به على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وقوله:
﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ عامة، كل الناس يهتدون به المؤمن والكافر يهتدون به الهداية العلمية، أما الهداية العملية فإنه
﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة ٢] كما في أول السورة:
﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾، فهو للمتقين هداية علمية وعملية، وهو للناس عمومًا هداية علمية.
وقوله:
﴿هُدًى﴾ كلمة
﴿هُدًى﴾ هذه هل هي مفعول من أجله أو حال من القرآن؟
* طالب: حال.
* الشيخ: إن كانت مفعولًا من أجله فالمعنى: أنزل لهداية الناس، وإذا كانت حالًا فالمعنى: أنزل هاديًا للناس، وهذا أقرب لقوله: ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ ﴿وَبَيِّنَاتٍ﴾، فهو هدى وبينات. وقوله:
﴿لِلنَّاس﴾ الناس تقدم لنا كثيرًا أن أصلها الأناس، ومنه قول الشاعر:
وَكُلُّ أُنَاسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بَيْنَهُمْ ∗∗∗ دُوَيْهِيَةٌ تَصْفَرُّ مِنْهَاالْأَنَــــــــــــــــامِلُ لكن لكثرة استعمالها حذفت الهمزة، الآن تصير: الناس، والمراد بهم البشر؛ لأن بعضهم يأنس ببعض ويستعين به.
وقوله:
﴿وَبَيِّنَاتٍ﴾ معطوفة على:
﴿هُدًى﴾،
﴿بَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ يعني: أنه ليس هداية دلال فقط، بل هداية مع البراهين؛ لأن البينات هي البراهين والأدلة؛ وذلك لأن طريق الهدى قد يكون يبين الطريق فقط، لكن ما يأتي بالحجج والبراهين الدالة على صدقه، فالقرآن جامع بين الهداية وبين البراهين الدالة على صدق ما جاء فيه من الأخبار وعلى عدل ما جاء فيه من الأحكام.
وقوله:
﴿مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ هذه صفة لـ
﴿بَيِّنَاتٍ﴾ يعني: أنها بينات منها النوع، من الهدى (...).
﴿وَالْفُرْقَانِ﴾ الفرقان مصدر أو اسم مصدر: فَرَّقَ، يُفَرِّقُ، تَفْرِيقًا، وفُرْقَانًا، فهو -أي القرآن- فرقان يفرق بين الحق والباطل، وبين الشر والخير، وبين حزب الله وحرب الله، وبين النافع والضار، فرقان في كل شيء؛ ولهذا الموفق لهداية القرآن يجد الفرق العظيم تأثير ما دل عليه القرآن، والإنسان الذي في قلبه زيغ -والعياذ بالله- تشتبه عليه الأمور ولا يستطيع أن يفرق بين الأمور المختلفة، قد تشتبه عليه الأمور وتلتبس، فلا يفرق بين مختلفها ولا يجمع بين ما توافق فيه موافقة.
وقوله:
﴿وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ من جملة الفرقان: أنه يفرق أيضًا بين الثواب والعقاب؛ ولهذا في الغالب أن الثواب يأتي مفصلًا، والعقاب يأتي مجملًا، ما نقول: دائمًا لكن في الغالب، إذا رأيت مثلًا:
﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ﴾ [الإنسان ١] قال فيها الله عز وجل:
﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا﴾ [الإنسان ٤]. (...)
وقد أنشد بعض الناس في هذا بيتًا، من يحفظه؟ (...) سهل جدًّا.
* طالب: هو قوله: اسْمِيَّــــــــــــــةٌ طَلـــــــــــــَبِيَّةٌوَبِجَامِدٍ ∗∗∗ وَبِمَا وَقَدْ وِبَلَنْ وَبِالتَّنْفِيسِ * الشيخ: صح؟
* طالب: صحيح، إي نعم.
* الشيخ: ..................... ∗∗∗ وَبِمَا وَقَدْ وِبَلَنْ وَبِالتَّنْفِيسِ اسمية طلبية، هذه اللي معنا طلبية: ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾، واللام لام الأمر ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾، وسكنت لوقوعها بعد الفاء، وهي تسكن إذا وقعت؟ لام الأمر تسكن إذا وقعت بعد؟
* طالب: الفاء، و(ثم)، و(أو).
* الشيخ: و(أو)؟
* الطالب: نعم.
* طالب: الواو.
* الشيخ: الواو، صح، نبغي شواهد على هذا؟
* طالب: (...) الواو و(ثم)، فليصل معك، فليستعفف، إنسان غني فليستعفف.
* الشيخ: و﴿فَلْيَصُمْهُ﴾.
* طالب: ﴿فَلْيَصُمْهُ﴾.
* الشيخ: فلام الأمر إذا وقعت بعد هذه الحروف الثلاثة تسكن، بخلاف لام التعليل فإنها مكسورة ولو وقعت بعدها؛ ولذلك يغلط كثير من القراء في قوله تعالى: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا﴾ [العنكبوت ٦٦] بعضهم يقول: (ولْيتمتعوا)، وهذا على جعل اللام التعليل ما يصلح، بل تقول: ﴿وَلِيَتَمَتَّعُوا﴾، إي نعم. قال:
﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ شهد بمعنى شاهَد، هذا قول، وشهد بمعنى حضَر، هذا قول آخر، فعلى القول الأول يرد إشكال في قوله:
﴿الشَّهْرَ﴾؛ لأن الشهر قلنا في تعريفه: مدة ما بين الهلالين، والمدة تشاهد ولَّا ما تشاهد؟
* طالب: ما تشاهد.
* الشيخ: ما تشاهد، المدة زمن ما تشاهد. وعلى الثاني:
﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾: فمن حضر الشهر فليصمه، يرد فيها إشكال ولا ما يرد؟
* طالب: ما يرد.
* الشيخ: ما يرد فيها إشكال، على القول الأول الذين قالوا: المراد بـ(شهد) من الشهادة، لا من الشهود الذي هو الحضور، قالوا: إن الشهر هنا على تقدير مضاف، أي: فمن شهد منكم هلال الشهر فليصمه، أو على رأيهم من باب التجوز بالشهر عن هلاله. ولكن القول الثاني أصح: أن المراد بـ(شهد) حضر، المراد به: حضر، ويرجح هذا أمران: أحدهما لفظي وهو: أنه على هذا الوجه لا يحتاج إلى تقدير ولا إلى تجوز، أو لا؟
ثانيًا: أنه في الوقت الحاضر في بعض الأماكن ما نشاهد الهلال، مثل المناطق القطبية ما فيها هلال يمضي عليهم شهرين ثلاثة أربعة خمسة ستة ما شاهدوا هلال، فعلى هذا: لو علق برؤية الهلال معنى ذلك ما يصومون، فإذا قلنا: (شهد) بمعنى حضر، يعني ما هم شهود رؤية الهلال، صار هذا عامًا، فيقال لهؤلاء: ما دام أن الشهر هو الزمن و(شهد) بمعنى حضر، فيقدر زمنه لهؤلاء، إما باعتبار خط الاستواء، أو باعتبار عرض مكة، أو باعتبار أقرب البلاد إليهم، على ثلاثة أقوال، والمسألة كلها اجتهادية، والأقرب أنه يعتبر أقرب البلاد إليهم، يعني من الناحية الجغرافية هذا هو الواقع.
قوله:
﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ أيضًا تؤيد القول الثاني: إن المراد (شهد) يعني حضر؛ لأن الهلال لا يصام والذي يصام الشهر.
وقوله:
﴿فَلْيَصُمْهُ﴾ هذه منزلة على ما سيأتي -إن شاء الله تعالى- بأنه يصوم نهاره وليس يصوم جميعه؛ إذ إن محل الصوم هو النهار فقط، لكن أول ما فرض الصوم كان الإنسان إذا نام أو صلى العشاء الآخر، فإنه ما يأكل ولا يشرب إلى أن تغرب الشمس من اليوم الثاني، ولكن الله يسر وخفف، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في تفسير الآية.
* طالب: شيخ، قول الرسول ﷺ: «إِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا»(٢) ما يؤيد القول الأول؟
* الشيخ: ما يؤيده؛ لأن الرسول بس بين الميقات فقط، بين الوقت، فيكون ابتداء الصوم من دخول الشهر. وقوله:
﴿فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ هذه الجملة سبقت، لكنه أعادها لما ذكر سبحانه وتعالى:
﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾، وكانت الآية هذه ناسخة لما قبلها، قد يظن الظان أنه نسِخ حتى فطر المريض وفطر المسافر، فأعادها سبحانه وتعالى تأكيدًا لبيان الرخصة، وأن الرخصة حتى بعد أن تعين الصيام، فإنها باقية، وهذا من بلاغة القرآن، وعليه فليس هذه الآية أو هذه الجملة من الآية ليست تكرارًا محضًا، بل تكرارًا لفائدة؛ لأنه لو قال:
﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ ولم يقل:
﴿وَمَنْ كَانَ﴾ لكان ناسخًا، لكان ناسخًا عامًا.
﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ تقدم الكلام عليها إعرابًا ومعنى.
قال الله تعالى:
﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ هذا تعليل لقوله:
﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾،
﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾.
واعلم أن قوله:
﴿يُرِيدُ﴾ مأخوذ من الإرادة، فعل مضارع من الإرادة، فالله تعالى يريد، وإرادة الله عز وجل تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية، وإرادة شرعية، فالإرادة الكونية: ما يتعلق بتقديره، والإرادة الشرعية: ما يتعلق بشرعه.
ما معناهما؟ معنى الإرادة الشرعية معناها: المحبة، ومعنى الإرادة الكونية: المشيئة، معناها المشيئة، فقوله تعالى:
﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [البقرة ٢٥٣] كقوله تعالى في الآية الأخرى:
﴿وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ ﴿وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم ٢٧].
وهنا
﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ﴾ هذه الإرادة الشرعية، المعنى: يحب بكم اليسر، يحب اليسر، وليست الإرادة الكونية؛ لأن الله سبحانه وتعالى لو أراد بنا اليسر كونًا ما تعسرت الأمور على أحد، ولا ما صدق قوله تعالى:
﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح ٥]؛ لأنه على تقدير أن تكون الإرادة هنا كونية ما يكون هناك عسر أبدًا، فتعين أن يكون المراد بالإرادة هنا أيش؟
* الطلبة: الشرعية.
* الشيخ: الإرادة الشرعية؛ ولهذا ما تجد -والحمد لله- في شريعة الله في هذه الشريعة ما تجد فيها عسرًا أبدًا، بل ولا أظن في جميع الشرائع عسرًا إلا بسبب من الأمم؛ لأن الله قال: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ [النساء ١٦٠] إلى آخره، وإلا فالأصل أن شرائع الله عز وجل مبنية على اليسر والسهولة، لكنه مع كونه عز وجل مريدًا لليسر والسهولة بالعباد هناك حكمة قد تقتضي في بعض الأحيان أيش؟ التشديد، نحن في شريعتنا -والحمد لله- الشريعة انتهت ما فيها زيادة ولا نقص، لكن قد يحرم الإنسان شيئًا من الطيبات بظلمه يحرم إياها تحريمًا كونيًّا، أو لا؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: كونيًّا بأن يكون فيه مرض لا ينفع معه أن يأكل هذا الطيب من الطيبات، كما لو احتمى الإنسان مثلًا عن أكل اللحم أو عن الحلوى أو ما أشبه ذلك. والحاصل: أن الإرادة تنقسم -إرادة الله تنقسم- إلى كم؟ إلى قسمين: شرعية، وكونية، فما تعلق بالشرع فهو شرعي، وما تعلق بالتقدير والخلق فهو؟
* طالب: كوني.
* الشيخ: كوني، ما الفرق بينهما من حيث الحكم؟ قلنا: الفرق بينهما أن الإرادة الشرعية بمعنى المحبة، والإرادة الكونية بمعنى المشيئة، هذه واحدة. ثانيًا: الإرادة الكونية لا بد فيها من وقوع المراد، والإرادة الشرعية قد يقع وقد لا يقع، فالله تعالى يريد مثلًا منا أن نطيعه من جميع العباد، قد تقع الطاعة وقد لا تقع، هذا الفرق الثاني.
الفرق الثالث: الإرادة الشرعية لا يكون المراد فيها إلا محبوبًا لله، والإرادة الكونية قد يكون محبوبًا وقد يكون غير محبوب له؛ لأنها تتعلق بالكون كالتقدير، والله عز وجل يقدر ما يحب وما لا يحب، كل شيء بتقدير الله، والآن نبغي نختبركم في أمثلة: ما تقولون في كفر أبي جهل هل هو مراد كونًا أو شرعًا، أو كونًا وشرعًا؟
* الطلبة: كونًا لا شرعًا.
* الشيخ: كونًا لا شرعًا صح، كونًا لأنه وقع، لا شرعًا لأنه غير محبوب إلى الله، كذا؟
* الطلبة: نعم.
* الشيخ: ما تقولون في إيمان أبي بكر؟
* الطلبة: كونًا وشرعًا.
* الشيخ: مراد كونًا وشرعًا، مراد كونًا لأنه وقع، وشرعًا لأن الله يحبه، يحب الإيمان. ما تقولون في كفر أبي بكر؟
* طالب: لم يرد كونًا ولا شرعًا.
* الشيخ: لم يرد كونًا ولا شرعًا، لم يرد كونًا لأنه لم يقع، ولا شرعًا لأن الله سبحانه وتعالى لا يحب الكفر. ما تقولون في إيمان أبي جهل؟
* طالب: مراد شرعًا لا كونًا.
* الشيخ: مراد شرعًا لا كونًا، مراد شرعًا لأن الله يحبه، لا كونًا لأن الله تعالى لم يقدره. قد تقولون: إذا كان الله يحب الشيء فلماذا لا يقع؟ ألست أنت إذا كنت تحب الشيء وأنت قادر عليه تفعله؟
* طالب: بلى.
* الشيخ: إذا كنت تحب الشيء وأنت قادر عليه تفعله، والله على كل شيء قدير، فلماذا لا يقع ما يحبه مع قدرته عليه؟ فالجواب على ذلك أن نقول: إن الله سبحانه وتعالى يفعل الأفعال لحكمة، فالله عز وجل قد يحب الشيء لذاته، وقد يحب الشيء لما يترتب عليه من الحِكم، فالكفر ليس مرادًا لله شرعًا، لكن مراد له كونًا؛ لأن في وقوع الكفر من الحكم والمصالح العظيمة ما لا توجد في عدمه، لو آمن كل الناس لفسدت الدنيا، ولو كفر كل الناس لفسدت الدنيا، ولكن من حكمة الله عز وجل أن خلقنا فمنكم كافر ومنكم مؤمن، وقد قال الله تعالى:
﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود ١١٨، ١١٩]، يعني: وللاختلاف الذي اقتضته حكمة الله عز وجل خلقتم،
﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾، ولولا هذا ما تمت كلمة الله
﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [هود ١١٩].
فصار هذا المكروه إلى الله شرعًا المراد له كونًا اقتضت الحكمة وجوده، فأحبه الله عز وجل لا لذاته، ولكن لما يترتب عليه من المصالح العظيمة التي يريدها سبحانه وتعالى شرعًا، فلا يغرنك قول من يقول: إنكم إذا وصفتم الله عز وجل بأنه مريد لما يكره، فقد وصفتموه بالعجز، فكيف يقع ما لا يريد؟ بأن نقول: يقع ذلك لما يترتب عليه من الحكم والمصالح.
الآن -ولله المثل الأعلى- لو مثلًا واحد عنده ابن يحبه حبًّا شديدًا أصيب هذا الابن بداء لا يبرئه إلا الكي هل الأب يكويه؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: يكويه، نعم، يكويه بل يسرع إلى كيه لماذا؟ هو يكره الكي لكنه لما يترتب عليه من المصالح، من الصحة، فالإنسان العاقل البصير يعرف أن حكمة الله عز وجل أعلى من حكمتنا، ولا تنسب إليها حِكَم الخلق له من الحكم والأسرار في تقدير ما يكرهه جل وعلا شيء عظيم، حتى إنه في الحديث القدسي قال الله عز وجل: «مَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ إِسَاءَتَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ»(٣) شوف الله أكبر، الله يكره جل وعلا أن يسيء عبده المؤمن فهو يكره الموت، ولكن الله يقول: «لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ»، فهذا كله يدلك على أن الله عز وجل يقدر ما يكرهه لحكم عظيمة بالغة.
* طالب: لماذا لا نضمن الإرادة الكونية المحبة لهذا الموت؟
* الشيخ: لا، لكن أصلها ليس محبوبًا إلى الله، نفس المراد غير محبوب، لكن ما يترتب عليه من مصالح هو المحبوب.
* الطالب: إذن يحبه لأن الإنسان يحب الشيء وما يترتب عليه؟
* الشيخ: لا، بارك الله فيك، المراد نفسه شر، معصية، ولا يمكن نقول: إن الله يحب المعصية أبدًا، لكن يحب ما يترتب عليها من الآثار الحميدة، لولا المعاصي ما قام الجهاد في سبيل الله ولا قام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولامتحن الإنسان أيضًا بنفسه، لو كان الناس كلهم اللي حولك يطيعون الله، ما تنفرد أنت بالمعصية، حتى لو كنت تريدها ما ذهبت تفعلها، لكن فيها من المصالح المترتبة عليها، هذا محبوب إلى الله، أما نفس المراد فليس محبوبًا، ولا يمكن أن نقول: إنه يحبه.
* الطالب: (...).
* الشيخ: إن عقولنا لا تحيط بكل الحِكم ولا بشيء من حدود الله ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء ٨٥]. فهذه الحِكم ربما هذا الشاب لو أنه بقي لحصل له انحراف، ما ندري فلعله يكون له انحراف لو بقي، فيضل هو ويضل الناس، والله سبحانه وتعالى حكيم، فكل شيء يفعله الله عز وجل فاعلم أنه لحكمة، لا تظن أنه ليس لحكمة، بل لو ظننت أنه على خلاف الحكمة، فاعلم أن ظنك هو الخاطئ؛ لأنه وأيش أنت الإنسان اللي تريد أن تحجر على الله عز وجل حتى تريد منه أن يفعل ما تراه أنت حكمة، هل هذا معقول؟ الإنسان الآن ما يبصر طرف المسجد بالآلة الحسية وهي العين، كيف عادي بيبصر الأمور المعنوية الحكم والأسرار التي يتضمنها خلق الله عز وجل وشرعه؛ ولهذا لو اجتمع الخلق كلهم على أن يقولوا: والله احنا بنجلس نحلل الشرع، الشرع اللي بين أيدينا الآن محصور الكتاب والسنة، نبغي نحلل ونبغي نجعل كل مسألة حكمة، يقدرون؟ ما يستطيعون؛ لأن فيه أشياء تحار فيها العقول في الحقيقة من المشروعات، ما يقدر الإنسان يعللها وهي مشروعات محصورة كيف عد الخلق اللي ما يحصر؟
القول الحق دائمًا يكون عدلًا بين تطرفين، إذا تأملت مسائل النزاع، لا في المسائل العلمية العقيدية ولا في المسائل العملية الفقهية، إذا تدبرت هذه المسائل وجدت دائمًا أن الحق وسط بين تطرفين، والعامة يقولون: خير الأمور الوسط، إي نعم.
* طالب: قوله في الحديث القدسي: «مَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ إِلَّا تَرَدُّدِي»، يعني هذا..
* الشيخ: هذا ظاهره -بارك الله فيك- أشكل على كثير من الناس، ولكنه عند التأمل لا إشكال فيه، التردد يكون له سببان: السبب الأول: الإشكال على الفاعل، أو جهل الفاعل بما يترتب على هذا الأمر فتجده يتردد فيه هل يفعله ولَّا ما يفعله، فهمت؟
الأمر الثاني: التردد يكون سببه العلم، لكن هناك مقتضٍ آخر وهو الرحمة، فيتردد الإنسان ولكنه أخيرًا يصمم، مثلما قلنا الآن: الكي يحزن الصبي ولَّا لا؟ وتجد الإنسان يتردد، لكن إذا علم ما فيه من المصلحة -يعني لا بد منه- أقدم.
فالتردد الذي ينزه الله عز وجل التردد الذي سببه الجهل: هل أُقدم أو ما أُقدم؟ أما التردد الذي سببه العلم لكن يكون هناك مقتضٍ آخر للتردد كالرحمة مثلًا، فهذا لا ينزه الله عنه؛ لأنه من كمال رحمته سبحانه وتعالى؛ ولهذا قال:
«عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ»(٤)، ما هو كل العباد، فكان بالمؤمنين رحيمًا، فالرحمة الخاصة بالمؤمنين أنه لا تقتضي أن يتردد جل وعلا لا تردد جهل، مثلما قلنا: العجب، الله يعجب ولَّا لا؟ يعجب، بالقرآن والسنة، قال الله تعالى في القرآن:
﴿بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ﴾ ، وفي السنة قال النبي عليه الصلاة والسلام:
«عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غَيْرِهِ»(٥) إلى آخره، فالعجب أنكره بعض الناس قال: إن العجب لا يليق بالله؛ لأن العجب سببه جهل الإنسان، فيأتيه الأمر على غرة فيعجب، فيقال: العجب الذي سببه هذا ينزه الله عنه، أما العجب الذي سببه خروج الشيء عما يجب أن يكون عليه، فهذا متعلق (...) لا بالمتعجب.
﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ الواو عاطفة، واللام نسألكم هل هي لام الأمر ولَّا لام التعليل؟
* طالب: لام التعليل.
* الشيخ: وأيش الدليل؟
* طالب: كسرت.
* الشيخ: كسرت، لو كانت لام الأمر لسكنت ولكنها مكسورة، فهي إذن لام التعليل. وعلى أي شيء يكون العطف ما دمنا قلنا:
﴿وَلِتُكْمِلُوا﴾ إن الواو حرف عطف فأين المعطوف عليه؟ قالوا: إن المعطوف عليه قوله:
﴿الْيُسْرَ﴾ يعني:
﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ ويريد لتكملوا العدة.
واعلم أن (أراد) إذا تعدت باللام، فإن اللام تكون زائدة من حيث المعنى؛ وذلك لأن الفعل (أراد) يتعدى بنفسه، فقوله:
﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ [النساء ٢٦] معناه: يريد الله أن يبين لكم، وهذه:
﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ يعني: وأن تكملوا العدة، يعني: ويريد الله منا شرعًا ولَّا قدرًا؟
* طالب: شرعًا.
* الشيخ: شرعًا، أن نكمل العدة، و﴿تُكْمِلُوا﴾ فيها قراءتان ﴿تُكْمِلُوا﴾ بالتخفيف، و﴿تُكمِّلوا﴾ بالتشديد وهما بمعنى واحد. قوله:
﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ العدة استنبط بعض الناس من قوله:
﴿الْعِدَّةَ﴾ ولم يقل: ولتكملوا عدة الشهر، استنبط منه: أن من كانوا في الأماكن التي ليس عندهم شهور -مثل الذين في الدوائر القطبية- قال: هنا ما قال: تكملوا عدة الشهر؛ لأنه لا شهر عندهم بل قال: تكملوا العدة يعني عدة الأيام، فيصومون هؤلاء في وقت رمضان عند غيرهم شهرًا ولَّا عدة شهر؟ عدة شهر؛ لأن شهر عندهم غير موجود، وقال: إن هذا من آيات القرآن أنه جاء التعبير صالحًا حتى لهذه الحال التي ما كانت معلومة عند الناس حين نزول القرآن.
وقوله:
﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ﴾ العدة أيضًا فيها فائدة، كلمة (العدة)، ما قال: تكملوا شهرًا؛ وذلك لأن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يومًا، وهذا كثير.
* طالب: شيخ بعض الناس يعني الناس في هذا الشهر تصوم ثلاثين يوم؟
* الشيخ: إي غلط، غلط إكمال الثلاثين خطأ. قال:
﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ﴾ الواو حرف عطف، و
﴿لِتُكَبِّرُوا﴾ معطوفة على
﴿تُكْمِلُوا﴾ بإعادة حرف الجر،
﴿وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ﴾ تكبروا الله، أي تقولوا: الله أكبر، والتكبير يتضمن الكِبَر في العظمة والكبرياء والأمور المعنوية، وكذلك يتضمن الكبر في الأمور الذاتية، فإن
«السماواتِ السبع والأرضين السبع في كفّ الرحمن كخَرْدَلةٍ في كفّ أحدِنا »(٦)، فالله سبحانه وتعالى أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء.
وقوله:
﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ (على) قيل: إنها للتعليل، إن (على) هنا للتعليل وليست للاستعلاء، أي: لتكبروه لهدايتكم.
وقوله:
﴿عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ إنما جاءت (على) دون اللام مع أنها تفيد التعليل إشارة إلى أن هذا التكبير يكون في الآخر؛ ليكون عاليًا على ما حصل من الهداية؛ لأن الشيء إذا كان في الآخر صار هو الأعلى ولَّا لا؟ كما لو ملأت إناء من الطعام مثلًا، وجعلت عليه شيئًا، يكون هو الآخر أو الأول؟ يكون هو الآخر، فلهذا قال:
﴿عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ يعني: يكون التكبير على ما هدانا، وهذا يدل على أنه يكون في آخر، أو عند تمام هذه الهداية.
فاستفدنا من (على) الآن أمرين: الأول أن معناها التعليل كاللام.
الثاني: أنه عبر بـ(على) لماذا؟ إشارة إلى أن التكبير يكون بعد انتهاء هذه الهداية؛ ولهذا متى يشرع التكبير في آخر رمضان؟ إذا غربت الشمس ليلة عيد الفطر، يعني: بعد انتهاء رمضان ودخول شوال، إذا غربت الشمس شرع التكبير.
وقوله:
﴿عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ (ما) هنا مصدرية ولَّا موصولة؟
* طالب: موصولة.
* طالب آخر: مصدرية.
* الشيخ: إذا كانت موصولة فتحتاج إلى؟
* طالب: صلة.
* الشيخ: لا، الصلة موجودة تحتاج إلى عائد، وإذا كانت مصدرية ما احتاجت إلى عائد، والعائد التي تحتاج إليه هنا محذوف، يعني: على ما هداكم به، أو عليه، أو له، يقدر شيئًا مناسبًا، ومعلوم أنه إذا أمكن عدم التقدير فهو أولى، وعلى هذا فالراجح أن تكون مصدرية، أي: على هدايتكم.
* طالب: وأيش تقدير اللفظة؟
* الشيخ: على ما هداكم له، على الذي هداكم له، وهو الصيام.
* طالب: نقول: (على) للتعليل؟
* الشيخ: إي نعم.
* طالب: ما ذكر أهل العلم.
* الشيخ: ابن مالك ذكر. وقوله:
﴿عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ هذه الهداية تشمل هداية العلم وهداية العمل، وهي التي يعبر عنها أحيانًا بهداية الإرشاد وهداية التوفيق، فالإنسان إذا صام رمضان وأكمله لا شك أن الله من عليه بهدايتين: هداية العلم، وهداية العمل، يعني: هداية الإرشاد وهداية التوفيق.
وقوله:
﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ هنا أتى بالتكبير دون الاستغفار مع أن كثيرًا من العبادات إذا انتهت تختم بأيش؟ بالاستغفار، كأنه -والله أعلم- أنه لما كمل هذه النعمة -الهداية والصيام- صار كأن الإنسان علا وارتفع، مثل ما شرع للإنسان
« إذا علا نشزًا أن يكبر، وإذا هبط واديًا أن يسبح »(٧)، فكأنك بإتمامك هذا الصيام الذي هو ركن من أركان الإسلام، وربما وفقت لليلة القدر في هذا الشهر كأنك علوت؛ فلهذا قال:
﴿عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾.
﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي: تقومون بشكر الله عز وجل، و(لعل) هنا للتعليل، تشكرون على أي شيء؟ على أمور ثلاثة بل أمور أربعة: إرادة الله بنا اليسر، عدم إرادته العسر، وأيش بعد؟ إكمال العدة، التكبير على ما هدانا، هذه الأمور كلها نِعم، كلها نِعم تحتاج منا أن نشكر الله عز وجل عليها؛ ولهذا قال:
﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
واعلم أنه يقال: الحمد والشكر، فهل هما مترادفان أم بينهما عموم وخصوص؟ نقول: بينهما عموم وخصوص، فالحمد أعم من حيث السبب، والشكر أعم من حيث المتعلق، فسبب الحمد كمال المحمود وإفضال المحمود، يعني: الحمد سببه كمال المحمود، فالله يحمد على ما له من الكمال، وإفضال المحمود يحمد الله أيضًا على ما له من الإفضال والإنعام، فهمتم؟ لكن متعلقه اللسان فقط، الحمد إنما يكون باللسان؛ فلهذا قلنا في تعريفه: وصف المحمود لما له من الكمال والإفضال، فمحله اللسان فقط، أما الشكر فسببه شيء واحد وهو؟ النعمة، سببه النعم؛ لأنك لا تشكر إنسانًا على كماله، وإنما تشكره على إنعامه عليك، فالشكر سببه أيش؟ النعمة، لكن متعلقه أعم؛ إذ إنه يكون بالقول والقلب والجوارح، يكون بالقلب واللسان والجوارح، وعلى هذا قول الشاعر:
أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلَاثَةً ∗∗∗ يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحَجَّبَا
أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلَاثَةً ∗∗∗ يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحَجَّبَاأكررها للمرة الثالثة: ؎أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلَاثَةً ∗∗∗ يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحَجَّبَاونطلب من حسين أن يقرأه علينا؟ (...)
بالقلب واللسان والجوارح، فمن اعترف بقلبه لله بالنعمة، فهذا أتى بركن من أركان الشكر، لكن بقي عليه ركنان، ومن اعترف بقلبه ولسانه لله تعالى بالنعمة، فقد أتى بركنين وبقي عليه واحد، ومن اعترف لله تعالى بالنعمة بقلبه ولسانه وجوارحه، فهذا أتى بأركان الشكر كلها.
شكر النعمة بالجوارح يكون بأداء ما شرع الله لها أو ما شرع الله فيها، فالمال مثلًا شكر الله عليه أن تؤدي زكاته وتقوم بما أوجب الله عليك من نفقات، وكذلك تقوم بما شرع الله لك من تجمل بثيابك، وما أشبه ذلك،
«وَإِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً يُحِبُّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ»(٨).
وإذا كان بالعلم فشكر الله عليه يكون بالعمل به ويكون بتعليمه وبذله للناس بكل طريق، وعلى هذا فقسْ.
فشكر النعمة أن تقوم بما شرع الله لك فيها، هذا الشكر الخاص، أما الشكر العام فأن تقوم بطاعة المنعم مطلقًا، هذا الشكر العام الذي يكون به الإنسان شاكرًا، وأظن أنه يجب أن نعرف الفرق بين الشكر الخاص والشكر العام: الخاص تقوم بشكر هذه النعمة المعينة، والعام أن تقوم بشكر النعم على سبيل العموم.
فمثلًا رجل آتاه الله مالًا وعلمًا فكان يبذل المال فيما يرضي الله عز وجل، لكنه شحيح بالعلم نقول: هذا شاكر من وجه، من وجه خاص، غير شاكر من وجه، ولا نعطيه اسم الشاكر مطلقًا، ولا نسلب عنه اسم الشكر مطلقًا، نقول: هذا شاكر من وجه، وغير شاكر من وجه، كذا؟ لأن الإنسان يكون فيه خير وشر، ويكون فيه إيمان وكفر، وفسوق وطاعة، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.
* طالب: يا شيخ، من فاته رمضان وقضاه يشرع له القضاء؟
* الشيخ: لا، ما يشرع، هذا لا يشرع، وبيجينا إن شاء الله في الفوائد.
* طالب: (...) إن أصابته مصيبة أو شيء من هذا القبيل هل له أن يشكر الله سبحانه وتعالى أو يحمده؟
* الشيخ: يحمد ويشكر.
* الطالب: فإن الشكر يكون في النعمة؟
* الشيخ: حتى هذه إذا ذكر الإنسان ما يؤتيه الله على هذه المصيبة من تكفير السيئات ورفعة الدرجات بالصبر عليها يكون هذه نعمة فيشكر الله.
(١) أخرجه الحاكم في المستدرك (٤٢٦٢)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
(٢) متفق عليه؛ البخاري (١٩٠٠)، ومسلم (١٠٨٠ / ٨) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه.
(٣) أخرجه البخاري (٦٥٠٢)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٤) سبق تخريجه.
(٥) أخرجه ابن ماجه (١٨١)، من حديث أبي رزين رضي الله عنه بلفظ: «ضَحِكَ رَبُّنَا..».
(٦) أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة (١٠٩٠)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا.
(٧) حديث متفق عليه؛ البخاري (٦٣٨٥)، ومسلم (١٣٤٤/ ٤٢٨)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بلفظ: يُكَبّر على كلِّ شَرَفٍ منَ الأرْضِ ثَلَاثَ تَكْبيرَاتٍ.
(٨) أخرجه أحمد في المسند (١٩٩٣٤)، من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه بنحوه.