الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وبَيِّناتٍ مِنَ الهُدى والفُرْقانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ومَن كانَ مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ ولِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: ١٨٥].
الشَّهْرُ: مِن ارتفاعِ الشَّيْءِ وظهورِه، يقالُ: «شهَرَ الرَّجُلُ سَيْفَهُ: انتَضاهُ ورفَعَهُ على الناسِ».
أصلُ تسميةِ رمضانَ:
ورمضانُ هو الشَّهْرُ القَمَريُّ التاسعُ، واختُلِفَ في سببِ تسميتِه برمضانَ، على أقوالٍ:
فقيل: لأنّ وقتَ فرضِه كان وقتَ حرٍّ شديدٍ.
قال ابنُ دُرَيْدٍ: «لمّا نقَلُوا أسماءَ الشهورِ عن اللغةِ القديمةِ، أسْمَوْها بالأزمنةِ التي وقعَتْ فيها، فوافقَ رمَضانُ أيّامَ رمَضِ الحرِّ وشِدَّتِه، فسُمِّيَ به»[[«جمهرة اللغة» لابن دريد (٢/٧٥١).]]، ثم كَثُرَ استعمالُها في الأَهِلَّةِ، وإن لم تُوافِقْ ذلك الزمانَ.
ويُقالُ: إنّ أولَ مَن سمّاها بهذه الأسماءِ كِلابُ بنُ مُرَّةَ مِن قُرَيْشٍ، واسمُ رَمَضانَ في الجاهليَّةِ: النّاتِقُ أو النّاطِلُ، مِن الناقةِ الناتِقِ، أيْ: كثيرةِ الولادةِ، أو مِن الناطِلِ وهو: كيلُ السَّوائِلِ.
ويذكُرُ الفَلَكيُّونَ: أنّ التسميةَ الجديدةَ للشهورِ وقعَتْ في الخريفِ، وهو ليس شديدَ الحَرِّ، وهذا يعكِّرُ عليه القولُ بتسميتِهِ لِشِدَّةِ الحرِّ كما قال ابنُ دُرَيْدٍ وغيرُه.
وقـيـل: مأخوذٌ مِن رَمَضِ الصائمِ، وهو حَرُّ جَوْفِهِ مِن شِدَّةِ العطشِ.
وقـيـل: لأنّه يَرْمَضُ الذنوبَ ويَحْرِقُها بالرحمةِ والمغفرةِ التي تتنزَّلُ فيه، فرمضانُ مِن أعظمِ مكفِّراتِ الذنوبِ لمَنِ احتسَبَ صيامَهُ وقيامَه، وقد جاء في «الصحيحَيْنِ» مرفوعًا: (مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا، غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ) [[أخرجه البخاري (٣٨) (١/١٦)، ومسلم (٧٦٠) (١/٥٢٣)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]]، فالصومُ يَرْمَضُ الذنبَ ويَحْرِقُهُ، كما أنّ الصومَ يَرْمَضُ النَّفْسَ، فالجزاءُ مِن جنسِ العملِ.
وقيل: هو مِن: رمَضْتُ النَّصْلَ أرْمِضُهُ رَمْضًا: إذا دقَقْتَهُ بينَ حجرَيْنِ لِيَرِقَّ، سُمِّيَ بذلك، لأنّه شهرُ مشقَّةٍ ومكابَدةٍ، وعُسْرٍ وجُوعٍ، يذكِّرُ الصائمينَ بما يقاسِيهِ أهلُ النارِ فيها.
وقيل: لأنّهم كانوا يَرْمِضُونَ أسلحتَهم فيه ـ أيْ: يرقِّقُونَها ـ ليُحارِبوا بها في شَوّالٍ قبلَ دخولِ الأشهُرِ الحرُمِ.
ورُوِيَ عن بعضِ السَّلَفِ، كمجاهِدِ بنِ جَبْرٍ: أنّ رمضانَ اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ تعالى.
رواهُ سُفْيانُ عنه، أخرَجَهُ ابنُ جريرٍ[[«تفسير الطبري» (٣/١٨٧).]].
ورواهُ ابنُ عساكِرَ في «تاريخِ دِمَشْقَ»، عن سُنَيْدِ بنِ داودَ، نا وكيعٌ، عن طَلْحةَ بنِ عَمْرٍو، عن مجاهدٍ، قال: «لا تقولوا: رَمَضانُ، ولكن قولوا: شهرُ رَمَضانَ، لعلَّه اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ عزّ وجل»[[«تاريخ دمشق» لابن عساكر (٢٦/٢٤٠).]].
وقد كَرِهَ مَن قالَ بأنّ رَمَضانَ مِن أسماءِ اللهِ: أنْ يُطلَقَ رمضانُ على الشَّهْرِ دون أنْ يُجعَلَ مضافًا إليه، فلا يجوزُ أن يُقالَ: رمضانُ، وإنّما تقولُ شهرُ رمضانَ، لأنّه شهرُ اللهِ، وليس هو اللهَ.
وهذا القولُ لا دليلَ عليه، ولا يثبُتُ شيءٌ في الوحيِ أنّ رمضانَ مِن أسماءِ اللهِ، وأسماءُ اللهِ وصفاتُهُ توقيفيَّةٌ.
وأمّا ما روى ابنُ أبي حاتمٍ، قال: حدَّثنا محمَّدُ بنُ بكّارِ بنِ الرَّيّانِ، حدَّثنا أبو مَعْشَرٍ، عن محمَّدِ بنِ كعبٍ القُرَظيِّ، وسعيدٍ ـ هو المَقْبُريُّ ـ عن أبي هريرةَ، قال: «لا تقولوا: رمضانُ، فإنّ رمضانَ اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ تعالى، ولكنْ قولوا: شهرُ رمضانَ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣١٠).]]:
فمنكَرٌ لا يصحُّ، فأبو مَعْشَرٍ: هو نَجِيحُ بنُ عبدِ الرحمنِ المَدَنيُّ إمامُ المغازي والسِّيَرِ، وفيه ضَعْفٌ، وقد رواهُ ابنُه محمَّدٌ عنه، عندَ البيهقيِّ في «سننِه»، فجعلَهُ مرفوعًا عن أبي هريرةَ[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (٤/٢٠١).]].
قال ابنُ كَثِيرٍ رحمه الله لمّا ساقَهُ في «تفسيرِهِ»: «وقد أنكرَهُ عليه الحافظُ ابنُ عَدِيٍّ، وهو جَدِيرٌ بالإنكارِ، فإنّه متروكٌ، وقد وهِمَ في رفعِ هذا الحديثِ»[[«تفسير ابن كثير» (١/٥٠٢).]].
ورُوِيَ عن أبي مَعْشَرٍ مِن قولِ محمَّدِ بنِ كَعْبٍ، وهو أشبَهُ، قاله البيهقيُّ[[ينظر: «السنن الكبرى» للبيهقي (٤/٢٠١).]].
وقد روى ابنُ النَّجّارِ في «كتابِهِ»، وأبو طاهرِ بنُ أبي الصَّقْرِ في «مَشْيَخَتِهِ» خبرًا منكَرًا، مِن حديثِ أحمدَ بنِ عليِّ بنِ خَلَفٍ، حدَّثنا موسى بنُ إبراهيمَ الأنصاريُّ، حدَّثنا أبو معاويةَ الضَّرِيرُ، عن هشامِ بنِ عُرْوةَ، عن أبيه، عن عائشةَ رضي الله عنها، قالت: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، ما معنى رمضانَ؟ فقال رسولُ اللهِ ﷺ: (يا حُمَيْراءُ، لا تَقُولِي: رَمَضانُ، فَإنَّهُ اسْمٌ مِن أسْماءِ اللهِ، ولَكِنْ قُولِي: شَهْرُ رَمَضانَ، يعني: رمَضانُ أرْمَضَ فِيهِ ذُنُوبَ عِبادِهِ، فَغَفَرَها)، قالتْ عائشةُ: فقُلْنا: شَوّالٌ يا رسولَ اللهِ ؟ فقال: (شالَتْ لَهُمْ ذُنُوبُهُمْ، فَذَهَبَتْ) [[أخرجه أبو طاهر بن أبي الصقر في «مشيخته» (ص١٢٦).]].
وهو خبرٌ منكَرٌ أيضًا[[ينظر: «اللآلئ المصنوعة، في الأحاديث الموضوعة» (٢/٨٣).]].
وقد أعلَّ البخاريُّ الأحاديثَ الوارِدةَ في البابِ موقوفةً ومرفوعةً، حيثُ ترجَمَ، فقال: «بابٌ: هل يقالُ: رمضانُ، أو شهرُ رمضانَ؟ ومَن رأى كلَّه واسعًا»[[«صحيح البخاري» (٣/٢٥).]].
وساق أحاديثَ في ذلك، منها: (مَن صامَ رَمَضانَ إيمانًا واحْتِسابًا، غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ) [[أخرجه البخاري (١٩٠١) (٣/٢٦).]]، ونحوُ ذلك.
وقد ترجَمَ النَّسائيُّ في «سننِه» نحوَ ذلك، فقال: «بابُ الرُّخْصةِ في أنْ يُقالَ لشهرِ رمضانَ: رمضانُ»[[«سنن النسائي» (٤/١٣٠).]].
ثمَّ أورَدَ حديثَ أبي بَكْرةَ مرفوعًا: (لا يَقُولَنَّ أحَدُكُمْ: صُمْتُ رَمَضانَ، ولا قُمْتُهُ كُلَّهُ) [[أخرجه النسائي (٢١٠٩) (٤/١٣٠).]]، وغيرَه.
والأحاديثُ التي فيها ذِكْرُ رمضانَ مجرَّدًا تبلُغُ المِئِينَ، لكنَّ الغرَضَ يحصُلُ بحديثٍ واحدٍ.
وقد كَرِهَ بعضُ السَّلَفِ أنْ يُجمَعَ رمضانُ، إذْ يُجمَعُ في العربيَّةِ على وزنِ جمعِ المؤنَّثِ السالمِ، وعلى أوزانِ جموعِ التكسيرِ، فيُقالُ: رَمَضاناتٌ، ورَماضِينُ، وأَرْمِضَةٌ، وأَرْمِضاءُ... إلى آخرِه.
قولُه: ﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وبَيِّناتٍ مِنَ الهُدى والفُرْقانِ﴾:
أُنزِلَ القرآنُ في رَمَضانَ بلا خلافٍ، وإنّما اختَلَفوا في المرادِ بالآيةِ، هل هو نزولُهُ إلى السماءِ الدُّنْيا، أو نزولُهُ على النبيِّ ﷺ أوَّلَ ما نزَل بمكَّةَ؟:
القولُ الأوَّلُ: جاء عن ابنِ عبّاسٍ والشَّعْبيِّ وغيرِهما، قال ابنُ عبّاسٍ: «أُنزِلَ القرآنُ كلُّهُ جُمْلةً واحدةً في ليلةِ القَدْرِ في رمضانَ إلى السماءِ الدُّنْيا، فكان اللهُ إذا أراد أنْ يُحدِثَ في الأرضِ شيئًا أنزَلَ منه، حتى جمَعَهُ»[[«تفسير الطبري» (٣/١٩٠).]].
ورُوِيَ هذا بألفاظٍ مختلِفةٍ، رواه عنه سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ وعِكْرِمةُ ومِقسَمٌ[[ينظر: «تفسير الطبري» (٣/١٩٠ ـ ١٩١).]].
وهو الأشهرُ من أقوالِ المفسِّرين.
والقولُ الثاني: رُوِيَ عن الشَّعْبيِّ أيضًا وابنِ إسحاقَ في «السِّيرَةِ» وغيرِهما، والأوَّلُ أصحُّ عن الشَّعْبيِّ.
روى ابنُ جريرٍ، عن داودَ، عن الشَّعْبيِّ، قال: «بلَغَنا أنّ القرآنَ نزَلَ جملةً واحدةً إلى السماءِ الدُّنيا»[[«تفسير الطبري» (٣/١٩١).]].
وفي قوله تعالى: ﴿هُدىً لِلنّاسِ وبَيِّناتٍ مِنَ الهُدى والفُرْقانِ﴾ إشارةٌ إلى نزولِه إلى السماءِ الدُّنْيا فيها، وهذا محتمِلٌ أن يكونَ القرآنُ نزَلَ مجمَلًا إلى السماءِ الدُّنْيا في ليلةِ القدرِ، ونزَلَ أوَّلَ ما نزَلَ فيها أيضًا، فهدايةُ الناسِ وانتفاعُهم ببيِّناتِهِ، وكونُهُ فَيْصلًا وفُرْقانًا للحقِّ الملتبِسِ في عقولِهم عن الباطلِ، لا يكونُ إلاَّ مع نزولِهِ على النبيِّ ﷺ في الأرضِ.
ويؤيِّدُ هذا قولُهُ تعالى: ﴿إنّا أنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إنّا كُنّا مُنْذِرِينَ ﴾ [الدخان: ٣] فالإنذارُ المذكورُ في الآية: إمّا وعدٌ بكونِهِ نذيرًا للناسِ عندَ نزولِه، كما في قولِهِ تعالى: ﴿وعْدًا عَلَيْنا إنّا كُنّا فاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: ١٠٤]، فيُحمَلُ على القولِ الثاني، وإمّا إخبارٌ بأثَرِه في الناسِ عندَ نزولِه، فيُحمَلُ على القولِ الأوَّلِ.
ولا يختلِفُ القولُ الثاني عن القولِ الأوَّلِ، إذا قيلَ بأنّ اللهَ أنزَلَهُ في ليلةِ القدرِ جملةً واحدةً، ثمَّ أنزَلَهُ فيها على نبيِّه ﷺ:
فمَن قال بنزولِ القرآنِ إلى الأرضِ في ليلةِ القدرِ، لا يَنفي قولَ مَن قال: إنّه نزَلَ جُمْلةً إلى السماءِ الدُّنيا، ولكنَّه يُثبِتُ معنًى زائدًا بعدَ الإنزالِ مجمَلًا.
ومَن قال: إنّ المقصودَ إنزالُهُ جملةً في ليلةِ القدرِ، يسكُتُ ولا يَنفي نزولَهُ إلى الأرضِ في ليلةِ القدرِ، وهذا الذي يَظهَرُ مِن الأقوالِ المرويَّةِ عن ابنِ عبّاسٍ في هذا البابِ، ممّا رواهُ ابنُ جَرِيرٍ والنَّسائيُّ والبيهقيُّ والحاكمُ والطَّبَرانيُّ.
والقرآنُ في اللَّوْحِ المحفوظِ قبلَ نزولِهِ: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ ﴾ [البروج: ٢١ ـ ٢٢]، وقد أنزَلَه اللهُ إلى السماءِ الدُّنيا جملةً كما سبَقَ.
أصلُ تسمية القرآنِ:
واختَلَفُوا في «القرآنِ»، هل هو مشتقٌّ أو لا؟:
وقيل: هو اسمٌ لكلامِه يَجري مَجْرى الأعلامِ في أسماءِ غيرِه.
قال الشافعيُّ: «القُرانُ اسمٌ، وليس بمهموزٍ، ولم يُؤخَذْ مِن قَرَأْتُ، ولكنَّه اسمٌ لكتابِ اللهِ تعالى، مِثلُ التَّوْراةِ والإنجيلِ»، رواهُ البيهقيُّ عنه كما في «المناقبِ».
وقيل: إنّه مشتقٌّ، واختُلِفَ في اشتقاقِهِ، فقيل: مأخوذٌ مِن قَرَنْتُ الشيءَ بالشيءِ: إذا ضمَمْتَ أحدَهما إلى الآخَرِ، فسُمِّيَ به، لاقترانِ السُّوَرِ والآياتِ والحروفِ، ولذا يُقالُ للجمعِ بين التَّمرتَيْنِ: إقرانٌ، ويُقالُ للجمعِ بينَ الحجِّ والعُمْرةِ: قِرانٌ.
والقرآنُ هدًى للناسِ يَهْدِيهم ويُرشِدُهم، وهو بيِّناتٌ مِن الهُدى والفُرْقانِ، يَفصِلُ الحلالَ عن الحَرامِ، ويبيِّنُهُ ويَدْعو إليه، كلٌّ بقَدْرِهِ وقيمتِه، فمنه الحلالُ ومنه الحرامُ، والحرامُ منه الكبيرةُ ومنه الصغيرةُ، والحلالُ منه المأكولُ ومنه المشروبُ، ومنه المركوبُ ومنه الملبوسُ.
وبيَّن اللهُ فيه الحدودَ وتفاصيلَها وأحوالَها، وأحوالَ فاعِليها في الدُّنيا والآخِرةِ.
قولُه تعالى: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾:
مَن كان حاضِرًا رمضانَ وليس هو من أهلِ الأعذارِ، فيجبُ عليه صومُهُ، وهذا هو الظاهرُ مِن الآيةِ، وفي حديثِ سلَمةَ بنِ الأَكْوَعِ في أنّ الصيامَ كان أوَّلَ أمرِهِ على التخييرِ، مَن شاء صام رمضانَ، ومَن شاء أفطَرَهُ وأَطْعَمَ، ثمَّ أوجَبَهُ اللهُ بهذه الآيةِ، فالمقصودُ مِن شهودِ الشهرِ هو طلوعُ هلالِه على المكلَّفِ بلا عُذْرٍ.
السفرُ بعدَ رؤيةِ هلالِ رمضانَ:
ورُوِيَ عن بعضِ السَّلَفِ: أنّ المرادَ به: مَن رأى الهلالَ مقيمًا، وجَبَ عليه الصومُ، ولا يُعذَرُ بسفَرِه بعدَ ذلك للشهرِ كلِّه، ومِن بابِ أولى مَن أصبَحَ صائمًا، ثمَّ أرادَ السفرَ نهارًا: أنّه لا يُفطِرُ، رُوِيَ هذا عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ، رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ، عن عَبِيدةَ السَّلْمانِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ، قالَ: «مَن أدْرَكَهُ رَمَضانُ وهُوَ مُقِيمٌ، ثُمَّ سافَرَ بَعْدُ، لَزِمَهُ الصَّوْمُ، لأَنَّ اللهَ تَعالى يَقُولُ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣١٢).]].
ورُوِيَ عن عَبِيدةَ السَّلْمانيِّ، رواهُ ابنُ جَرِيرٍ، عن محمَّدٍ، عن عَبِيدةَ ـ في الرَّجُلِ يُدرِكُهُ رمضانُ، ثمَّ يسافِرُ ـ قال: «إذا شهِدتَّ أوَّلَهُ، فصُمْ آخِرَهُ، ألا تراهُ يقولُ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ ؟!»[[«تفسير الطبري» (٣/١٩٣).]].
روى عبدُ الرزّاقِ في «المصنَّفِ»، مِن حديثِ ابنِ سِيرينَ، عن عَبِيدةَ السَّلْمانيِّ، أنّه قال: «مَن سافَرَ فِي رَمَضانَ، وقَدْ كانَ صامَ أوَّلَهُ مُقِيمًا، فَلْيَصُمْ آخِرَهُ، ألا تَسْمَعُ أنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾»[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (٧٧٥٩) (٤/٢٦٩).]].
ورُوِيَ هذا عن غيرِ واحدٍ مِن الصحابةِ بأسانيدَ لا تخلو مِن عِلَّةٍ، رُوِيَ عن ابنِ عبّاسٍ، وجاء عنه خلافُهُ، وهو أصحُّ.
وما جاء عن عائشةَ لا يُفيدُ الأمرَ بالصومِ لمَن رأى الهلالَ مقيمًا أن يصومَ في السَّفَرِ، وإنّما هو فيمَن شهِدَ الهلالَ: ألاَّ يسافِرَ وهو ليس على الإلزامِ، فروى ابنُ جريرٍ، عن أبي يَزِيدَ، عن أُمِّ ذَرَّةَ، قالتْ: «أتيتُ عائشةَ في رَمَضانَ، قالتْ: مِن أين جِئْتِ؟ قلتُ: مِن عندِ أخي حُنَيْنٍ، قالتْ: ما شأنُه؟ قالتْ: ودَّعْتُهُ يُرِيدُ يرتحلُ، قالتْ: فأَقْرِئِيهِ السَّلامَ، ومُرِيهِ فليُقِمْ، فلو أدركَني رمضانُ وأنا ببعضِ الطَّريقِ لَأَقَمْتُ له»[[«تفسير الطبري» (٣/١٩٥).]].
وهذا ظاهرٌ في قولِها: «لَأَقَمْتُ لَهُ»، لأنّها تكرَهُ أنْ يرتكبَ الإنسانُ سببًا يُوجِبُ فِطْرَهُ وقد طلَعَ عليه الهلالُ حاضرًا.
ولعلَّها تريدُ دَفْعَ التساهلِ في صيامِ رمضانَ، والتغافُلِ عن ساعاتِهِ ولياليهِ الفاضلةِ بسَفَرٍ مُباحٍ أو طاعةٍ مرجوحةٍ، ولا خلافَ عندَ السَّلَفِ: أنّ الإقامةَ في رمضانَ للصومِ والعبادةِ أفضلُ من السَّفَرِ المباحِ ولو صام فيه الإنسانُ، لأنّه ولو صامَ ينشغلُ ويَعجِزُ عن بقيَّةِ الطاعاتِ، فكيف بمَن يُسافِرُ ويُفطِرُ؟!
والمسافِرُ له الترخُّصُ بالفطرِ عندَ عامَّةِ السَّلَفِ، وأنّ الصيامَ لا يجبُ عليه إذا دخَلَ عليه رمضانُ وهو حاضِرٌ، رُوِيَ هذا عن ابنِ المسيَّبِ والحسَنِ والنَّخَعيِّ، والحكَمِ وحمّادٍ.
فالمرادُ بالشهودِ هنا: شهودُهُ وحضورُ هلالِه مع التكليفِ بلا عذرٍ، وجَبَ على شاهِدِه صيامُهُ.
وقد قال أبو حنيفةَ وأصحابُهُ: مَن شَهِدَ رمضانَ وهو صحيحٌ عاقلٌ بالغٌ، فعليه صومُهُ، فإنْ جُنَّ بعدَ دخولِهِ عليه وهو بالصفةِ التي وصَفْنا، ثمَّ أفاقَ بعدَ انقضائِه، لَزِمَهُ قضاءُ ما كان فيه مِن أيّامِ الشهرِ مغلوبًا على عقلِه، لأنّه كان ممَّن شهِدَهُ وهو ممَّن عليه فُرِضَ.
قالوا: ومِثلُهُ مَن شَهِدَ رمضانَ وهو مكلَّفٌ، كمَن به جنونٌ حتى بَقِيَ مِن الشهرِ يومٌ، قالوا: يجبُ عليه قضاؤُه.
قالوا: ومَن خرَجَ الشهرُ وهو مجنونٌ مِن أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ، ثمَّ أفاقَ: لا يجبُ عليه شيءٌ، لأنّه لم يَشْهَدْهُ.
فمَن كان مِن أهلِ التكليفِ قبلَ رمضانَ، ثمَّ جُنَّ في رمضانَ، وأفاقَ بعدَهُ، يجبُ عليه القضاءُ بكلِّ حالٍ، وهذا الذي عليه فُتيا السَّلَفِ، وقد حكاهُ ابنُ جريرٍ إجماعًا[[ينظر: «تفسير الطبري» (٣/١٩٨ ـ ١٩٩).]].
فالتكليفُ لا يرتبِطُ بشهودِ شيءٍ مِن الشهرِ، أوَّلَهُ أو آخِرَهُ، فالآيةُ تقصدُ الخطابَ بالتكليفِ أداءً لا قضاءً، والآيةُ ناسخةٌ للتخييرِ الذي كان عليه أمرُ الصومِ قبلَ ذلك، لا أنّها مشرِّعةٌ تشريعًا ابتدائيًّا بلا علمٍ سابقٍ، فالصحابةُ يَعلَمونَ تشريعَ الصومِ وحالَهُ، والخطابُ إنّما هو بالإلزامِ به لمَن شَهِدَهُ، ورُخِّصَ لأهلِ العذرِ بفِطْرِه.
صومُ المريضِ:
وقولُه: ﴿ومَن كانَ مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾:
والمرضُ الذي يَعجِزُ معه الإنسانُ عن الصومِ، أو يشُقُّ عليه مشقَّةً تُؤْذِيهِ، أو تُرجِئُ عنه الشفاءَ، فضلًا عن المرضِ الذي يخافُ معه على نفسِه، فكلُّ ذلك يجوزُ للإنسانِ أن يُفطِرَ لأَجْلِه، ولا خلافَ عندَ السلفِ في ذلك.
حدود المرضِ المجيزِ للفطرِ:
وإنّما يختلِفونَ في حدِّ المرضِ ووصفِهِ الذي يُوجِبُ الفِطْرَ، قال الحسَنُ والنَّخَعيُّ: «إذا لم يَستطِعِ المريضُ أن يصلِّيَ قائمًا، أفطَرَ»[[«تفسير الطبري» (٣/٢٠٢).]].
وقد قيّده أحمد بعدم الاستطاعة، فقيل له: مثل الحمى؟ قال: وأي مرض أشد من الحمى؟! قال تعالى: ﴿فَمَن كانَ مِنكُمْ مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] [[مسائل صالح (٢٧٤)، ومسائل أبي داود (١٣٦).]].
روى الربيعُ، عن الشافعيِّ: «أنّه كلُّ مرضٍ كان الأغلبُ مِن أمرِ صاحبِهِ بالصومِ الزيادةَ في عِلَّتِهِ زيادةً غيرَ مُحتمَلةٍ»[[«تفسير الطبري» (٣/٢٠٢).]].
ومرادُهُ: المرضُ الذي يُصيبُ عمومَ بدَنِهِ، فيُعجِزُهُ عن القيامِ، ولا يدخُلُ في هذا مرضُ القَدَمِ اللازمُ الذي لا يُؤذي بقيَّةَ البدنِ، مِن كسرٍ أو بترٍ دائمٍ لِقَدَمٍ يستطيعُ معه الإنسانُ الصومَ، فهذا مرضٌ للقَدَمِ، لا مرضٌ للبدَنِ ينتشِرُ في الجسمِ أذاهُ.
حكمُ صومِ المسافرِ:
وعامَّةُ السلفِ ـ وهو قولُ الأئمَّةِ الأربعةِ ـ: أنّ مَن صام وهو مسافِرٌ، انعقَدَ صيامُهُ.
ورُوِيَ عن بعضِ السلفِ: عدَمُ جوازِ الصيامِ في السفرِ وعدَمُ انعقادِه، وهذا يخالِفُ ظاهرَ القرآنِ والسُّنَّةِ.
وخالَفَ في هذا قِلَّةٌ من الصحابةِ، وفي صِحَّتِهِ وصراحتِهِ عن مجموعِهم نظَرٌ.
ومَن غلَبَ على ظَنِّهِ الأذى وشدةُ المشقَّةِ، كُرِهَ أو حَرُمَ عليه الصومُ، قال أبو سعيدٍ مَوْلى المَهْريِّ: «قَدِمْتُ مِن العمرةِ ومعي صَحْبٌ لي، فنَزَلْنا عندَ أبي هُرَيْرةَ ـ عليه رضوانُ اللهِ تعالى ـ بأرضِهِ، فأصبَحْنا مُفطِرِينَ إلا صاحبًا لنا، فجاء أبو هريرةَ ـ عليه رضوانُ اللهِ تعالى ـ في نصفِ النهارِ، ورأى صاحِبَنا يلتمِسُ بَرْدَ النَّخْلِ، فقال: ما بالُ صاحبِكم؟ قُلْنا: إنه صائمٌ، فقال أبو هريرةَ ـ عليه رضوانُ اللهِ تعالى ـ: «أما يَعْلَمُ أنّها رخصةٌ مِن اللهِ ؟! لو مات، ما صَلَّيْتُ عليه»[[أخرجه البوصيري في «إتحاف الخيرة» (٢٣٢٢) (٣/١١٤)، وابن حجر في «المطالب العالية» (١٠٣٨) (٦/٨٨).]].
وهو صحيحٌ عنه.
ولا يُؤخَذُ منه وجوبُ الفِطْرِ، لأنّ أبا هريرةَ قاله في حقِّ مَن قتَلَ نفسَهُ من الجوعِ.
قال ابنُ المُنذِرِ ـ عليه رحمةُ اللهِ ـ: «ورُوِيَ هذا عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ أنه قال: «مَن صام في السَّفَرِ، قضاهُ»، ورُوِيَ نحوُهُ عن عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ، ورُوِيَ عن عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ، عليه رضوانُ اللهِ تعالى أنّه قال: «الصَّوْمُ في السَّفَرِ كالفِطْرِ في الحَضَرِ»، ورُوِيَ هذا عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ وابنِ شِهابٍ الزُّهْريِّ وغيرِهما»[[ينظر: «الإشراف على مذاهب العلماء» لابن المنذر (٣/١٤٢).]].
ومنَعَ غيرُ واحدٍ من الظاهريَّةِ مِن الصومِ في السفرِ.
واختلَفَ الأئمَّةُ الأربعةُ في التفاضُلِ بينَ الصومِ والفِطْرِ في السفرِ على ثلاثةِ أقوالٍ:
١ ـ ذهَبَ جمهورُ العلماءِ، وهو قولُ أبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعيِّ: إلى أنه يجوزُ الترخُّصُ بالفطرِ في السفرِ، إلا أنّ الصومَ أفضلُ.
٢ ـ وذهَبَ أحمدُ في المشهورِ عنه: إلى أنّ الرُّخْصةَ للصائمِ أن يُفطِرَ في السفرِ إلا أنّ الفطرَ أفضلُ، وهذا مرويٌّ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ، فقد روى نافعٌ، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ، أنه قال: «إنِّي أُحِبُّ أن أُفطِرَ في السفرِ، وألاَّ أصومَ»[[أخرجه مالك في «الموطأ» (عبد الباقي) (٢٥) (١/٢٩٥)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٤/٤١٣) (رقم ٨١٧٢١).]].
٣ ـ ورُوِيَ عن أحمدَ روايةٌ أخرى، وهو قولُ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، وقال به ابنُ المنذرِ: أنّ الأمرَ مبنيٌّ على السَّعَةِ والقُدْرةِ، فإن استطاعَ الإنسانُ أن يصومَ بلا مشقَّةٍ، كان الصيامُ أفضَلَ، وإنْ كان ثَمَّةَ مشقَّةٌ، فالفطرُ أفضلُ، والرخصةُ له في الحالَيْنِ بالصومِ أو الفطرِ ما لم يُؤْذِ نفسَهُ بالصومِ.
وهذا أقرَبُ الأقوالِ، وبه تجتمعُ النصوصُ، وعليه تُحمَلُ أحوالُ الصحابةِ والتابعينَ، وتَباينُهُمْ في الصومِ في السفرِ.
وقد جاءتِ الرواياتُ عن رسولِ اللهِ ﷺ متبايِنةً بالنهيِ والإقرارِ، بالنهيِ عن الصيامِ في السفرِ، وبإقرارِ الصحابةِ على صَوْمِهم وفِطْرِهم، فقد روى مسلِمٌ، عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ، قال: «غَزَوْنا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ لِسِتَّ عَشْرةَ مَضَتْ مِن رَمَضانَ، فَمِنّا مَن صامَ ومِنّا مَن أفْطَرَ، فَلَمْ يَعِبِ الصّائِمُ عَلى المُفْطِرِ، ولا المُفْطِرُ عَلى الصّائِمِ»[[أخرجه مسلم (١١١٦) (٢/٧٨٦).]].
وأضعفُ هذه الأقوالِ: القولُ بعدمِ انعقادِ الصومِ في السفرِ، وأنّه محرَّمٌ بكلِّ حالٍ، فاللهُ قد رخَّصَ لهذه الأمَّةِ بالفِطْرِ، والرخصةُ لا تَلْزَمُ صاحبَها، وقد روى أحمدُ وابنُ خُزَيْمةَ في «صحيحِه»، مِن حديثِ عُمارةَ، عن نافعٍ، عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ، عن رسولِ اللهِ ﷺ، أنّه قال: (إنَّ اللهَ يُحِبُّ أنْ تُؤْتى رُخَصُهُ، كَما يَكْرَهُ أنْ تُؤْتى مَعْصِيَتُهُ) [[أخرجه أحمد (٥٨٦٦) (٢/١٠٨)، وابن خزيمة في «صحيحه» (٢٠٢٧).]].
ورُوِيَ عن حمزةَ بنِ عمرٍو الأَسْلَميِّ، أنّه قال: يا رسولَ اللهِ، أجِدُ بي قُوَّةً على الصيامِ في السفرِ، فهل عليَّ جُناحٌ؟ فقال رسولُ اللهِ ﷺ: (هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اللهِ، فَمَن أخَذَ بِها فَحَسَنٌ، ومَن أحَبَّ أنْ يَصُومَ، فَلا جُناحَ عَلَيْهِ) [[أخرجه مسلم (١١٢١) (٢/٧٩٠).]].
قولُه: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾:
جعَلَ اللهُ الصيامَ يُسْرًا في أصلِ تشريعِهِ، فكان مستحَبًّا ثلاثةُ أيامٍ مِن كلِّ شهرٍ، مفرَّقةً لا متتابِعةً، وفَرْضًا على قولٍ، وذلك ترويضًا للنفسِ وتعويدًا لها.
ثمَّ شرَعَ اللهُ الصيامَ لرمَضانَ اختيارًا، ثمَّ جعَلَهُ اللهُ فرضًا، يصامُ شهرًا واحدًا في السَّنَةِ، وهو الشهرُ التاسعُ من السَّنةِ القمريَّةِ، وجعَلَ لأهلِ الأعذارِ الفِطْرَ رُخْصةً، بل ربَّما وجَبَ إذا كان يَخشى معه على نَفْسِهِ الهلاكَ.
والإرادةُ في الآيةِ هي إرادةُ التشريعِ، وهو معنى التيسيرِ في الحُكْمِ، وهذا أيضًا معنى التوسُّطِ في قولِهِ: ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وسَطًا﴾ [البقرة: ١٤٣]، يَعني: عَدْلًا، والعدلُ هو إنصافُ المكلَّفِينَ وأهلِ الحقِّ بما يَعمَلُونَ ويستحِقُّون، والوَسَطيَّةُ شريعةٌ ثابتةٌ، لا حُكْمٌ يُبحَثُ عنه، فاللهُ يقولُ: ﴿جَعَلْناكُمْ﴾ [البقرة: ١٤٣]، فاللهُ جعَلَ وأرادَ وقضى الأمرَ، فكُلُّ أمرِهِ ونهيِهِ وسَطٌ ويُسْرٌ ورحمةٌ، والخروجُ عنه ظُلْمٌ وتشدُّدٌ وتفريطٌ وإفراط.
ومِن يُسْرِ اللهِ وعدلِهِ: الترخيصُ لأهلِ الأعذارِ ـ كالمسافرِ والمريضِ، والحاملِ والمرضعِ، والشيخِ الكبيرِ وشبهِهم ـ بالفِطْرِ.
روى ابنُ جريرٍ، وابنُ أبي حاتمٍ، عَنْ عليِّ بنِ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عَبّاسٍ، في قَوْلِهِ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾، قالَ: «اليُسْرُ الإفْطارُ فِي السَّفَرِ»[[«تفسير الطبري» (٣/٢١٨)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣١٣).]].
ورُوِيَ عن عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ والضَّحّاكِ نحوُهُ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣١٣).]].
قولُه: ﴿ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ ولِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾:
أي: إنّ اللهَ يُريدُ مِن عبادِه إكمالَ العِدَّةِ بالأداءِ لمَن استطاعَ الأداءَ، أو بقضاءِ أيّامٍ أُخَرَ لِمَن كان معذورًا، أو بالإطعامِ بدلًا عن الصيامِ لمن عجَزَ وعجزُهُ دائمٌ كالشيخِ الكبيرِ.
فالعِدَّةُ هي عِدَّةُ رمضانَ، قاله الربيعُ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٣١٤).]].
التكبيرُ ليلةَ العيدِ:
وفي الآيةِ: دليلٌ على مشروعيَّةِ التكبيرِ ليلةَ العيدِ، ويَبدأُ مِن بعدِ غروبِ الشمسِ مِن آخِرِ يومٍ مِن رمضانَ، حتى دخولِ الإمامِ لصلاةِ العيدِ وشروعِهِ في خُطْبَتِه، تعظيمًا للهِ وشُكْرًا له على إتمامِ النِّعْمةِ والهدايةِ إلى الخيرِ، قال ابنُ زيدٍ: «كان ابنُ عباسٍ يقولُ: حقٌّ على المسلِمِينَ إذا نظَرُوا إلى هلالِ شَوّالٍ أن يكبِّروا اللهَ حتى يَفْرُغوا مِن عِيدِهم، لأنّ اللهَ ـ تعالى ذِكرُهُ ـ يقولُ: ﴿ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ ولِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ﴾»، رواهُ ابنُ جريرٍ[[«تفسير الطبري» (٣/٢٢٢).]].
وصحَّ عن ابنِ عمرَ، أنّه كان إذا غدا إلى المصلّى يومَ العِيدِ، كبَّرَ ورفَعَ صوتَهُ بالتكبيرِ.
ورُوِيَ مرفوعًا ولا يصحُّ.
والذي عليه عملُ الفقهاءِ في المدينةِ: التكبيرُ حتى يبلُغَ صلاةَ العيدِ، روى ابنُ جريرٍ، عن ابنِ وهبٍ: «قال عبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ: والجماعةُ عندَنا على أنْ يَغْدُوا بالتكبيرِ إلى المصلّى»[[«تفسير الطبري» (٣/٢٢٢).]].
وهذا الذي عليه عملُ الفقهاءِ في البُلْدانِ، قال الشافعيُّ: «وأُحِبُّ أن يكبِّرَ الإمامُ خَلْفَ صلاةِ المغربِ والعشاءِ والصبحِ وبين ذلك، وغاديًا حتى ينتهيَ إلى المصلّى»[[«معرفة السنن والآثار» للبيهقي (٥/٥١).]].
وجاء عن غيرِ واحدٍ من السَّلَفِ تكبيرُهم من المسجدِ مِن ليلةِ العيدِ بعدَ المَغْرِبِ، جاء عن سعيدِ بنِ المسيَّبِ، وعروةَ بنِ الزُّبَيْرِ، وأبي سَلَمةَ بنِ عبدِ الرحمنِ، وأبي بكرِ بنِ عبدِ الرحمنِ: «كانوا يكبِّرون ليلةَ الفِطْرِ في المسجدِ، يَجهَرونَ بالتكبيرِ».
ولا يختلِفُ الأئمَّةُ الأربعةُ في استحبابِ التكبيرِ، وما رُوِيَ عن أبي حنيفةَ مِن عدمِ مشروعيَّتِهِ، فخطأٌ، فمرادُهُ عدمُ الجهرِ بالتكبيرِ، لا أصلُ التكبيرِ.
وعن أبي حنيفةَ روايةٌ بالجهرِ بالتكبيرِ، اختارَها الطحاويُّ وغيرُهُ.
التكبيرُ في عيد الفطرِ أشدُّ من الأضحى:
وكانوا يُكبِّرونَ في الفِطْرِ أشدَّ مِن تكبيرِهم في الأضحى، وبهذه الآية استدل أحمد على ذلك، فإنه سئل عن التكبير في الفطر والأضحى، فقال: هو في الفطر أوجب لقول اللَّه تعالى: ﴿ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ ولِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ﴾، ونقل ابنه عبد الله عنه قوله: «يوم الفطر أشد»[[مسائل ابن هاني (١/٩٤)، ومسائل عبد الله (١٢٨).]]، لأنّ الفِطْرَ يعقُبُ عملًا يَشهَدُهُ كلُّ الناسِ، وهو صومُ رمضانَ، بخلافِ الأضحى، فهو يصاحِبُ عَمَلًا يشهدُهُ الحُجّاجُ، مع فضلِ تلك الأيامِ العشرِ للحاجِّ وغيرِه، إلاَّ أنّ شهودَ الناسِ وإدراكَهُمْ للعملِ الذي يكلَّفُ به كلُّ قادرٍ وهو الصيامُ ـ أظهَرُ من أيامِ العشرِ التي لا يجبُ الحَجُّ إلاَّ على مَن لم يؤدِّه، وعلى مَن دخَلَ فيه ـ والعملُ في العشرِ مستَحَبٌّ لا واجبٌ كصومِ رمضانَ.
وقد رُوِيَ عن أبي عبدِ الرحمنِ السُّلَميِّ، أنه قال: «كانوا في التكبيرِ في الفِطْرِ أشدَّ منهم في الأضحى»[[أخرجه الدارقطني في «سننه» (١٧١٣) (٢/٣٨٠)، والحاكم في «المستدرك» (١١٠٧)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٣/٢٧٩).]].
وقولُه: ﴿عَلى ما هَداكُمْ﴾ يُحمَلُ على المعنيَيْنِ للهدايةِ، هدايةِ التوفيقِ، وهدايةِ الدلالةِ والإرشادِ، فاللَّهُ قال في أوَّلِ الآيةِ: ﴿هُدىً لِلنّاسِ وبَيِّناتٍ مِنَ الهُدى والفُرْقانِ﴾، يَعني: القرآنَ فيما تضمَّنَهُ مِن أحكامٍ، ومنها أحكامُ الصيامِ، فالمكبِّرُ يعظِّمُ اللهَ ويَحمَدُهُ على تلك الهدايةِ التي دلَّه اللهُ إليها بكتابِه، ويُعظِّمُهُ ويحمَدُهُ في ختامِ الشهرِ على أنْ هداهُ هدايةَ توفيقٍ للصيامِ وإكمالِ العِدَّةِ، وهذا كقولِ أهلِ الجَنَّةِ: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهَذا وما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أنْ هَدانا اللَّهُ﴾ [الأعراف: ٤٣]، فالحمدُ والتعظيمُ في خاتِمَةِ الأعمالِ يكونُ للهدايةِ بنَوْعَيْها.
وأَتَمُّ أنواعِ الشُّكْرِ: شُكْرُ المنعِمِ قبلَ العبادةِ ومعَها وبعدَ تمامِها، وعدَمُ نقضِ الشكرِ بعدَ ذلك بكُفْرٍ.
{"ayah":"شَهۡرُ رَمَضَانَ ٱلَّذِیۤ أُنزِلَ فِیهِ ٱلۡقُرۡءَانُ هُدࣰى لِّلنَّاسِ وَبَیِّنَـٰتࣲ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ ٱلشَّهۡرَ فَلۡیَصُمۡهُۖ وَمَن كَانَ مَرِیضًا أَوۡ عَلَىٰ سَفَرࣲ فَعِدَّةࣱ مِّنۡ أَیَّامٍ أُخَرَۗ یُرِیدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡیُسۡرَ وَلَا یُرِیدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ وَلِتُكۡمِلُوا۟ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا۟ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق