الباحث القرآني

﴿شَهْرُ رَمَضانَ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ بِرَفْعِ ”شَهْرُ“، وقَرَأهُ بِالنَّصْبِ مُجاهِدٌ، وشَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وهارُونُ الأعْوَرُ، عَنْ أبِي عَمْرٍو، وأبُو عُمارَةَ، عَنْ حَفْصٍ عَنْ عاصِمٍ. وإعْرابُ ”شَهْرُ“ يَتَبَيَّنُ عَلى المُرادِ بِقَوْلِهِ: ﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ [البقرة: ١٨٤]، فَإنْ كانَ المُرادُ بِها غَيْرُ أيّامِ رَمَضانَ فَيَكُونُ رَفْعُ ”شَهْرُ“ عَلى أنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وخَبَرُهُ قَوْلُهُ: ﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ﴾، ويَكُونُ ذِكْرُ هَذِهِ الجُمْلَةِ تَقْدِمَةً لِفَرْضِيَّةِ صَوْمِهِ بِذِكْرِ فَضِيلَتِهِ، والتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ هَذا الشَّهْرَ هو الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ، هو الَّذِي يُفْرَضُ عَلَيْكم صَوْمُهُ، وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ الَّذِي أُنْزِلَ، صِفَةً، إمّا لِلشَّهْرِ فَيَكُونُ مَرْفُوعًا، وإمّا لِرَمَضانَ فَيَكُونُ مَجْرُورًا. وخَبَرُ المُبْتَدَأِ والجُمْلَةُ بَعْدَهُ صِفَةٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ﴾، وتَكُونُ الفاءُ في - فَمَن - زائِدَةً عَلى مَذْهَبِ أبِي الحَسَنِ، ولا تَكُونُ هي الدّاخِلَةَ في خَبَرِ المُبْتَدَأِ إذا كانَ مِنها لِلشَّرْطِ: لِأنَّ ”شَهْرُ رَمَضانَ“ لا يُشْبِهُ الشَّرْطَ، قالُوا: ويَجُوزُ أنْ لا تَكُونَ الفاءُ زائِدَةً، بَلْ دَخَلَتْ هُنا كَما دَخَلَتْ في خَبَرِ الَّذِي، ومِثْلُهُ: ﴿قُلْ إنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنهُ فَإنَّهُ مُلاقِيكُمْ﴾ [الجمعة: ٨]، وهَذا الَّذِي قالُوهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ: لِأنَّ الَّذِي صِفَةٌ لِعَلَمٍ، أوْ لِمُضافٍ لِعَلَمٍ، فَلَيْسَ يُتَخَيَّلُ فِيهِ شَيْءٌ ما مِنَ العُمُومِ، ولِمَعْنى الفِعْلِ الَّذِي هو ﴿أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ﴾ لَفْظًا ومَعْنًى، فَلَيْسَ كَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ إنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنهُ﴾ [الجمعة: ٨]: لِأنَّ المَوْتَ هُنا لَيْسَ مُعَيَّنًا، بَلْ فِيهِ عُمُومٌ. وصِلَةُ الَّذِي مُسْتَقْبَلَةٌ، وهي - تَفِرُّونَ - وعَلى القَوْلِ بِأنَّ الجُمْلَةَ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَمَن شَهِدَ﴾ هي الخَبَرُ، يَكُونُ العائِدُ عَلى المُبْتَدَأِ تَكْرارُ المُبْتَدَأِ بِلَفْظِهِ، أيْ: فَمَن شَهِدَهُ مِنكم فَلْيَصُمْهُ، فَأقامَ لَفْظَ المُبْتَدَأِ مَقامَ الضَّمِيرِ، وحَصَلَ بِهِ الرَّبْطُ كَما في قَوْلِهِ: ؎لا أرى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ وذَلِكَ لِتَفْخِيمِهِ وتَعْظِيمِهِ، وإنْ كانَ المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] أيّامُ رَمَضانَ، فَجَوَّزُوا في إعْرابِ ”شَهْرُ“ وجْهَيْنِ. (أحَدُهُما): أنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هو شَهْرُ رَمَضانَ، أيِ: المَكْتُوبُ شَهْرُ (p-٣٩)رَمَضانَ، قالَهُ الأخْفَشُ، وقَدَّرَهُ الفَرّاءُ: ”ذَلِكم شَهْرُ“ وهو قَرِيبٌ. الثّانِي: أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن قَوْلِهِ ”الصِّيامُ“ أيْ: كُتِبَ عَلَيْكم شَهْرُ رَمَضانَ، قالَهُ الكِسائِيُّ، وفِيهِ بُعْدٌ لِوَجْهَيْنِ: أحَدُهُما: كَثْرَةُ الفَصْلِ بَيْنَ البَدَلِ والمُبْدَلِ مِنهُ، والثّانِي: أنَّهُ لا يَكُونُ إذْ ذاكَ إلّا مِن بَدَلِ الِاشْتِمالِ، لا وهو عَكْسُ بَدَلِ الِاشْتِمالِ: لِأنَّ بَدَلَ الِاشْتِمالِ في الغالِبِ يَكُونُ بِالمَصادِرِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرامِ قِتالٍ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢١٧]، وقَوْلِ الأعْشى: ؎لَقَدْ كانَ في حَوْلٍ ثَواءٍ ثَوَيْتَهُ ∗∗∗ تَقَضّى لُباناتٍ ويَسْأمُ سائِمُ وهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ الكِسائِيُّ بِالعَكْسِ، فَلَوْ كانَ هَذا التَّرْكِيبُ: كُتِبَ عَلَيْكم شَهْرُ رَمَضانَ صِيامُهُ، لَكانَ البَدَلُ إذْ ذاكَ صَحِيحًا وعُكِسَ، ويُمْكِنُ تَوْجِيهُ قَوْلِ الكِسائِيِّ عَلى أنْ يَكُونَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، فَيَكُونَ مِن بَدَلِ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، وهُما لِعَيْنٍ واحِدَةٍ، تَقْدِيرُهُ: صِيامُ شَهْرِ رَمَضانَ، فَحُذِفَ المُضافُ وأُقِيمَ المُضافُ إلَيْهِ مَقامَهُ، لَكِنْ في ذَلِكَ مَجازُ الحَذْفِ والفَصْلُ الكَثِيرُ بِالجُمَلِ الكَثِيرَةِ وهو بَعِيدٌ، ويَجُوزُ عَلى بُعْدٍ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن ”أيّامٌ مَعْدُوداتٌ“، عَلى قِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ، فَإنَّهُ قَرَأ: ”أيّامٌ مَعْدُوداتٌ“ بِالرَّفْعِ عَلى أنَّها خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيِ: المَكْتُوبُ صَوْمُهُ أيّامٌ مَعْدُوداتٌ. ذَكَرَ هَذِهِ القِراءَةَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الحُسَيْنُ بْنُ خالَوَيْهِ في كِتابِ (البَدِيعِ) لَهُ في القُرْآنِ: وانْتِصابُ ”شَهْرَ رَمَضانَ“ عَلى قِراءَةِ مَن قَرَأ ذَلِكَ عَلى إضْمارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: صُومُوا شَهْرَ رَمَضانَ، وجَوَّزُوا فِيهِ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن قَوْلِهِ: ﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ [البقرة: ١٨٤] . قالَهُ الأخْفَشُ، والرُّمّانِيُّ وفِيهِ بُعْدٌ لِكَثْرَةِ الفَصْلِ، وأنْ يَكُونَ مَنصُوبًا عَلى الإغْراءِ تَقْدِيرُهُ الزَمُوا شَهْرَ رَمَضانَ، قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ والحَوْفِيُّ، ورُدَّ بِأنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِلشَّهْرِ ذِكْرٌ، وإنْ كانَ مَنصُوبًا بِقَوْلِهِ: ﴿وأنْ تَصُومُوا﴾ [البقرة: ١٨٤]: حَكاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وجَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قالَ: وقُرِئَ بِالنَّصْبِ عَلى: صُومُوا شَهْرَ رَمَضانَ، أوْ عَلى الإبْدالِ مِن: ﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ [البقرة: ١٨٤]، أوْ عَلى أنَّهُ مَفْعُولُ ”﴿وأنْ تَصُومُوا﴾ [البقرة: ١٨٤]“، انْتَهى كَلامُهُ: وهَذا لا يَجُوزُ: لِأنَّ ”تَصُومُوا“ صِلَةٌ لِأنْ، وقَدْ فَصَلْتَ بَيْنَ مَعْمُولِ الصِّلَةِ وبَيْنَها بِالخَبَرِ الَّذِي هو ”خَيْرٌ“: لِأنَّ تَصُومُوا في مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ، أيْ: وصِيامُكم خَيْرٌ لَكم، ولَوْ قُلْتَ: أنْ يَضْرِبَ زَيْدًا شَدِيدٌ جازَ، وأنْ تَضْرِبَ شَدِيدٌ زَيْدًا، لَمْ يَجُزْ. وأدْغَمَتْ فِرْقَةٌ شَهْرَ رَمَضانَ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وذَلِكَ لا تَقْتَضِيهِ الأُصُولُ لِاجْتِماعِ السّاكِنَيْنِ فِيهِ، يَعْنِي بِالأُصُولِ أصُولَ ما قَرَّرَهُ أكْثَرُ البَصْرِيِّينَ: لِأنَّ ما قَبْلَ الرّاءِ في ”شَهْرُ“ حَرْفٌ صَحِيحٌ، فَلَوْ كانَ في حَرْفِ عِلَّةٍ لَجازَ بِإجْماعٍ مِنهم، نَحْوَ: هَذا ثَوْبُ بَكْرٍ: لِأنَّ فِيهِ لِكَوْنِهِ حَرْفَ عِلَّةٍ مَدًّا ما، ولَمْ تَقْصُرْ لُغَةُ العَرَبِ عَلى ما نَقَلَهُ أكْثَرُ البَصْرِيِّينَ، ولا عَلى ما اخْتارُوهُ، بَلْ إذا صَحَّ النَّقْلُ وجَبَ المَصِيرُ إلَيْهِ. ﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ﴾: تَقَدَّمَ إعْرابُهُ، وظاهِرُهُ أنَّهُ ظَرْفٌ لِإنْزالِ القُرْآنِ، والقُرْآنُ يَعُمُّ الجَمِيعَ ظاهِرًا، ولَمْ يُبَيَّنْ مَحَلُّ الإنْزالِ، فَعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ أُنْزِلَ جَمِيعُهُ إلى سَماءِ الدُّنْيا لَيْلَةَ أرْبَعٍ وعِشْرِينَ مِن رَمَضانَ، ثُمَّ أُنْزِلَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مُنَجَّمًا. وقِيلَ: الإنْزالُ هُنا هو عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَيَكُونُ القُرْآنُ مِمّا عُبِّرَ بِكُلِّهِ عَنْ بَعْضِهِ، والمَعْنى: بُدِئَ بِإنْزالِهِ فِيهِ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وذَلِكَ في الرّابِعِ والعِشْرِينَ مِن رَمَضانَ. أوْ تَكُونُ الألِفُ واللّامُ فِيهِ لِتَعْرِيفِ الماهِيَّةِ، كَما تَقُولُ: أكَلْتُ اللَّحْمَ، لا تُرِيدُ اسْتِغْراقَ الأفْرادِ، إنَّما تُرِيدُ تَعْرِيفَ الماهِيَّةِ. وقِيلَ مَعْنى: ﴿أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ﴾ أنَّ جِبْرِيلَ كانَ يُعارِضُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في رَمَضانَ بِما أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَمْحُو اللَّهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ ما يَشاءُ، قالَهُ الشَّعْبِيُّ: فَيَكُونُ الإنْزالُ عُبِّرَ بِهِ عَنِ المُعارَضَةِ. وقِيلَ: أُنْزِلَ في فَرْضِيَّةِ صَوْمِهِ القُرْآنُ، وفي شَأْنِهِ القُرْآنُ، كَما تَقُولُ: أُنْزِلَ في عائِشَةَ قُرْآنٌ. والقُرْآنُ الَّذِي نَزَلَ هو قَوْلُهُ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾ [البقرة: ١٨٣] . قالَهُ مُجاهِدٌ، والضَّحّاكُ. وقالَ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: في فَضْلِهِ، وقِيلَ: المَعْنى ﴿أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ﴾ أيْ: أُنْزِلَ مِنَ اللَّوْحِ المَحْفُوظِ إلى السَّفَرَةِ في سَماءِ الدُّنْيا في لَيْلَةِ القَدْرِ مِن عِشْرِينَ شَهْرًا، أوْ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ في عِشْرِينَ سَنَةً، قالَهُ مُقاتِلٌ. ورَوى واثِلَةُ بْنُ الأسْقَعِ (p-٤٠)عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «أُنْزِلَتْ صُحُفُ إبْراهِيمَ في أوَّلِ لَيْلَةٍ مِن شَهْرِ رَمَضانَ، والتَّوْراةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنهُ، والإنْجِيلُ لِثَلاثَ عَشْرَةَ، والقُرْآنُ لِأرْبَعٍ وعِشْرِينَ» . وفي رِوايَةِ أبِي ذَرٍّ: «نَزَلَتْ صُحُفُ إبْراهِيمَ في ثَلاثٍ مَضَيْنَ مِن رَمَضانَ، وإنْجِيلُ عِيسى في ثَمانِيَةَ عَشَرَ»، والجَمْعُ بَيْنَ الرِّوايَتَيْنِ بِأنَّ رِوايَةَ واثِلَةَ أُخْبِرَ فِيها عَنِ ابْتِداءِ نُزُولِ الصُّحُفِ والإنْجِيلِ، ورِوايَةَ أبِي ذَرٍّ أُخْبِرَ فِيها عَنِ انْتِهاءِ النُّزُولِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ”القُرانُ“ بِنَقْلِ حَرَكَةِ الهَمْزَةِ إلى الرّاءِ، وحَذْفِ الهَمْزَةِ، وذَلِكَ في جَمِيعِ القُرْآنِ سَواءٌ نُكِّرَ أمْ عُرِّفَ بِالألِفِ واللّامِ، أوْ بِالإضافَةِ، وهَذا المُخْتارُ مِن تَوْجِيهِ قِراءَتِهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ مَن قالَ: إنَّ النُّونَ فِيهِ مَعَ عَدَمِ الهَمْزِ أصْلِيَّةٌ مِن قَرَنْتُ الشَّيْءَ في الشَّيْءِ ضَمَمْتُهُ. * * * ﴿هُدًى لِلنّاسِ وبَيِّناتٍ﴾ انْتِصابُ: هُدًى عَلى الحالِ، وهو مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ اسْمِ الفاعِلِ، أيْ: هادِيًا لِلنّاسِ، فَيَكُونُ ”لِلنّاسِ“ مُتَعَلِّقًا بِلَفْظِ ”هُدًى“ لَمّا وقَعَ مَوْقِعَ هادٍ، وذُو الحالِ القُرْآنُ، والعامِلُ ”أُنْزِلَ“ وهي حالٌ لازِمَةٌ: لِأنَّ كَوْنَ القُرْآنِ هُدًى هو لازِمٌ لَهُ، وعُطِفَ قَوْلُهُ ”وبَيِّناتٍ“ عَلى ”هُدًى“ فَهو حالٌ أيْضًا، وهي لازِمَةٌ: لِأنَّ كَوْنَ القُرْآنِ آياتٍ جَلِيّاتٍ واضِحاتٍ وصْفٌ ثابِتٌ لَهُ، وهو مِن عَطْفِ الخاصِّ عَلى العامِّ: لِأنَّ الهُدى مِنهُ خَفِيٌّ ومِنهُ جَلِيٌّ، فَنَصَّ بِالبَيِّناتِ عَلى الجَلِيِّ مِنَ الهُدى: لِأنَّ القُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلى المُحْكَمِ والمُتَشابِهِ، والنّاسِخِ والمَنسُوخِ، فَذَكَرَ عَلَيْهِ أشْرَفَ أنْواعِهِ، وهو الَّذِي يَتَبَيَّنُ الحَلالُ والحَرامُ والمَوْعِظَةُ. ﴿مِنَ الهُدى والفُرْقانِ﴾ هَذا في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ: هُدًى وبَيِّناتٍ، أيْ: أنَّ كَوْنَ القُرْآنِ هُدًى وبَيِّناتٍ هو مِن جُمْلَةِ هُدى اللَّهِ وبَيِّناتِهِ، والهُدى والفُرْقانُ يَشْمَلُ الكُتُبَ الإلَهِيَّةَ، فَهَذا القُرْآنُ بَعْضُها، وعَبَّرَ عَنِ البَيِّناتِ بِالفُرْقانِ، ولَمْ يَأْتِ مِنَ الهُدى والبَيِّناتِ فَيُطابِقَ العَجُزُ الصَّدْرَ: لِأنَّ فِيهِ مَزِيدَ مَعْنًى لازِمٍ لِلْبَيِّناتِ، وهو كَوْنُهُ يُفَرَّقُ بِهِ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، فَمَتى كانَ الشَّيْءُ جَلِيًّا واضِحًا حَصَلَ بِهِ الفَرْقُ: ولِأنَّ في لَفْظِ ”الفُرْقانِ“ مُؤاخاةً لِلْفاصِلَةِ قَبْلَهُ، وهو قَوْلُهُ: ﴿شَهْرُ رَمَضانَ﴾، ثُمَّ قالَ: ﴿الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ﴾، ثُمَّ قالَ: ﴿هُدًى لِلنّاسِ وبَيِّناتٍ مِنَ الهُدى والفُرْقانِ﴾، فَحَصَلَ بِذَلِكَ تَواخِي هَذِهِ الفَواصِلِ، فَصارَ الفُرْقانُ هُنا أمْكَنَ مِنَ البَيِّناتِ مِن حَيْثُ اللَّفْظُ ومِن حَيْثُ المَعْنى، كَما قَرَّرْناهُ. ولا يَظْهَرُ هُنا ما قالَهُ بَعْضُ النّاسِ مِن أنَّ الهُدى والفُرْقانَ أُرِيدَ بِهِ القُرْآنُ: لِأنَّ الشَّيْءَ لا يَكُونُ بَعْضَ نَفْسِهِ، وفي (المُنْتَخَبِ) أنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يُحْمَلَ: هُدًى الأوَّلُ عَلى أُصُولِ الدِّينِ، والثّانِي عَلى فُرُوعِهِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: اللّامُ في الهُدى لِلْعَهْدِ، والمُرادُ الأوَّلُ، انْتَهى كَلامُهُ. يَعْنِي: أنَّهُ أتى بِهِ مُنَكَّرًا أوَّلًا، ثُمَّ أتى بِهِ مُعَرَّفًا ثانِيًا، فَدَلَّ عَلى أنَّهُ الأوَّلُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَما أرْسَلْنا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا﴾ [المزمل: ١٥] ﴿فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ﴾ [المزمل: ١٦]، فَمَعْلُومٌ أنَّ الرَّسُولَ الَّذِي عَصاهُ فِرْعَوْنُ هو الرَّسُولُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْهِ، ومِن ذَلِكَ قَوْلُهم: لَقِيتُ رَجُلًا فَضَرَبْتُ الرَّجُلَ، فالمَضْرُوبُ هو المَلْقِيُ، ويُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِجَعْلِ ضَمِيرِ النَّكِرَةِ مَكانَ ذَلِكَ هَذا الثّانِي، فَيَصِحُّ المَعْنى: لِأنَّهُ لَوْ أتى فَعَصاهُ فِرْعَوْنُ، أوْ: لَقِيتُ رَجُلًا فَضَرَبْتُهُ، لَكانَ كَلامًا صَحِيحًا، ولا يَتَأتّى هَذا الَّذِي قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ هُنا: لِأنَّهُ ذَكَرَ هو والمُعْرِبُونَ: أنَّ هُدًى مَنصُوبٌ عَلى الحالِ وصْفٌ في ذِي الحالِ، وعُطِفَ عَلَيْهِ وبَيِّناتٍ، فَلا يَخْلُو قَوْلُهُ ”مِنَ الهُدى“ المُرادُ بِهِ الهُدى الأوَّلُ مِن أنْ يَكُونَ صِفَةً لِقَوْلِهِ ”هُدًى“ أوْ لِقَوْلِهِ ”وبَيِّناتٍ“ أوْ لَهُما، أوْ مُتَعَلِّقًا بِلَفْظِ بَيِّناتٍ، لا جائِزَ أنْ يَكُونَ صِفَةً لِهُدًى: لِأنَّهُ مِن حَيْثُ هو وصْفٌ لَزِمَ أنْ يَكُونَ بَعْضًا، ومِن حَيْثُ هو الأوَّلُ لَزِمَ أنْ يَكُونَ هو إيّاهُ، والشَّيْءُ الواحِدُ لا يَكُونُ بَعْضًا كُلًّا بِالنِّسْبَةِ لِماهِيَّتِهِ، ولا جائِزَ أنْ يَكُونَ صِفَةً لِبَيِّناتٍ فَقَطْ: لِأنَّ ”وبَيِّناتٍ“ مَعْطُوفٌ عَلى هُدًى، وهُدًى حالٌ، والمَعْطُوفُ عَلى الحالِ حالٌ، والحالُ وصْفٌ في ذِي الحالِ، فَمِن حَيْثُ كَوْنُهُما حالَيْنِ تَخَصَّصَ بِهِما ذُو الحالِ إذْ هُما وصْفانِ، ومِن حَيْثُ وُصِفَتْ ”بَيِّناتٍ“ بِقَوْلِهِ: مِنَ الهُدى، خَصَّصَها بِهِ، فَوُقِفَ تَخْصِيصُ القُرْآنِ عَلى قَوْلِهِ هُدًى وبَيِّناتٍ مَعًا، ومِن حَيْثُ جُعِلَتْ ”مِنَ الهُدى“ صِفَةً (p-٤١)لِبَيِّناتٍ تَوَقَّفَ تَخْصِيصُ بَيِّناتٍ عَلى هُدًى، فَلَزِمَ مِن ذَلِكَ تَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، وهو مُحالٌ، ولا جائِزَ أنْ يَتَعَلَّقَ بِلَفْظِ ”﴿وبَيِّناتٍ﴾“ لِأنَّ المُتَعَلِّقَ تَقْيِيدٌ لِلْمُتَعَلَّقِ بِهِ، فَهو كالوَصْفِ، فَيَمْتَنِعُ مِن حَيْثُ يَمْتَنِعُ الوَصْفُ. وأيْضًا فَلَوْ جَعَلْتَ هُنا مَكانَ الهُدى ضَمِيرًا، فَقُلْتَ: وبَيِّناتٍ مِنهُ أيْ: مِن ذَلِكَ الهُدى لَمْ يَصِحَّ، فَلِذَلِكَ اخْتَرْنا أنْ يَكُونَ الهُدى والفُرْقانُ عامَّيْنِ حَتّى يَكُونَ هُدًى وبَيِّناتٌ بَعْضًا مِنهُما. * * * ﴿فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ الألِفُ واللّامُ في الشَّهْرِ لِلْعَهْدِ، ويَعْنِي بِهِ شَهْرَ رَمَضانَ، ولِذَلِكَ يَنُوبُ عَنْهُ الضَّمِيرُ، ولَوْ جاءَ: فَمَن شَهِدَهُ مِنكم فَلْيَصُمْهُ لَكانَ صَحِيحًا، وإنَّما أبْرَزَهُ ظاهِرًا لِلتَّنْوِيهِ بِهِ والتَّعْظِيمِ لَهُ، وحَسَّنَ لَهُ أيْضًا كَوْنُهُ مِن جُمْلَةٍ ثانِيَةٍ. ومَعْنى شُهُودِ الشَّهْرِ الحُضُورُ فِيهِ. فانْتِصابُ الشَّهْرِ عَلى الظَّرْفِ، والمَعْنى: أنَّ المُقِيمَ في شَهْرِ رَمَضانَ إذا كانَ بِصِفَةِ التَّكْلِيفِ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، إذِ الأمْرُ يَقْتَضِي الوُجُوبَ، وهو قَوْلُهُ ”فَلْيَصُمْهُ“ وقالُوا عَلى انْتِصابِ الشَّهْرِ: أنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، وهو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: فَمَن شَهِدَ، حُذِفَ مَفْعُولُهُ تَقْدِيرُهُ المِصْرَ أوِ البَلَدَ. وقِيلَ انْتِصابُ الشَّهْرِ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، وهو عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: فَمَن شَهِدَ مِنكم دُخُولَ الشَّهْرِ عَلَيْهِ وهو مُقِيمٌ لَزِمَهُ الصَّوْمُ، وقالُوا: يُتِمُّ الصَّوْمَ مَن دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضانُ وهو مُقِيمٌ، أقامَ أمْ سافَرَ، وإنَّما يُفْطِرُ في السَّفَرِ مَن دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضانُ وهو في سَفَرٍ، وإلى هَذا ذَهَبَ عَلِيٌّ، وابْنُ عَبّاسٍ، وعَبِيدَةُ السَّلْمانِيُّ، والنَّخَعِيُّ، والسُّدِّيُّ، والجُمْهُورُ عَلى أنَّ مَن شَهِدَ أوَّلَ الشَّهْرِ أوْ آخِرَهُ فَلْيَصُمْ ما دامَ مُقِيمًا. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الشَّهْرُ مَنصُوبٌ عَلى الظَّرْفِ، وكَذَلِكَ الهاءُ في ”فَلْيَصُمْهُ“، ولا يَكُونُ مَفْعُولًا بِهِ، كَقَوْلِكَ: شَهِدْتُ الجُمُعَةَ: لِأنَّ المُقِيمَ والمُسافِرَ كِلاهُما شاهِدانِ لِلشَّهْرِ، انْتَهى كَلامُهُ. وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ ذَلِكَ يَكُونُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ تَقْدِيرُهُ: فَمَن شَهِدَ مِنكم دُخُولَ الشَّهْرِ، أيْ: مَن حَضَرَ. وقِيلَ: التَّقْدِيرُ هِلالَ الشَّهْرِ، وهَذا ضَعِيفٌ: لِأنَّكَ لا تَقُولُ شَهِدْتُ الهِلالَ، إنَّما تَقُولُ: شاهَدْتُ: ولِأنَّهُ كانَ يَلْزَمُ الصَّوْمُ كُلَّ مَن شَهِدَ الهِلالَ ولَيْسَ كَذَلِكَ. ومِنكم، في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ في شَهِدَ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ كائِنًا مِنكم. وقالَ أبُو البَقاءِ، مِنكم حالٌ مِنَ الفاعِلِ وهي مُتَعَلِّقَةٌ بِشَهِدَ، فَتَناقَضَ، لِأنَّ جَعْلَها حالًا يُوجِبُ أنْ يَكُونَ العامِلُ مَحْذُوفًا، وجَعْلَها مُتَعَلِّقَةً بِشَهِدَ يُوجِبُ أنْ لا يَكُونَ حالًا، فَتَناقَضَ. و”مَن“ مِن قَوْلِهِ ”فَمَن شَهِدَ“ الظّاهِرُ أنَّها شَرْطِيَّةٌ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، وقَدْ مَرَّ نَظائِرُهُ. وقَرَأ الجُمْهُورُ بِسُكُونِ اللّامِ في: فَلْيَصُمْهُ، أجْرَوْا ذَلِكَ مَجْرى ”فَعَلَ“ فَخَفَّفُوا، وأصْلُها الكَسْرُ، وقَرَأ أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، والحَسَنُ، والزُّهْرِيُّ، وأبُو حَيْوَةَ، وعِيسى الثَّقَفِيُّ، وكَذَلِكَ قَرَءُوا لامَ الأمْرِ في جَمِيعِ القُرْآنِ نَحْوَ: ﴿فَلْيَكْتُبْ ولْيُمْلِلِ﴾ [البقرة: ٢٨٢] بِالكَسْرِ، وكَسْرِ لامِ الأمْرِ، وهو مَشْهُورُ لُغَةِ العَرَبِ، وعِلَّةُ ذَلِكَ ذُكِرَتْ في النَّحْوِ. ونَقَلَ صاحِبُ التَّسْهِيلِ أنَّ فَتْحَ لامِ الأمْرِ لُغَةٌ، وعَنِ ابْنِهِ أنَّ تِلْكَ لُغَةُ بَنِي سُلَيْمٍ. وقالَ: حَكاها الفَرّاءُ. وظاهِرُ كَلامِهِما الإطْلاقُ في أنَّ فَتْحَ اللّامِ لُغَةٌ، ونَقَلَ صاحِبُ كِتابِ الإعْرابِ، وهو أبُو الحَكَمِ بْنُ عُذْرَةَ الخَضْراوِيُّ، عَنِ الفَرّاءِ أنَّ مِنَ العَرَبِ مَن يَفْتَحُ هَذِهِ اللّامَ لِفَتْحَةِ الياءِ بَعْدَها، قالَ: فَلا يَكُونُ عَلى هَذا الفَتْحُ إنِ انْكَسَرَ ما بَعْدَها أوْ ضُمَّ، انْتَهى كَلامُهُ. وذَلِكَ نَحْوَ: لَيُنْبَذَنَّ، ولَتُكْرِمْ زَيْدًا، ولَيُكْرَمْ عَمْرًا وخالِدًا، وقُومُوا فَلَأُصَلِّ لَكم. ﴿ومَن كانَ مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الجُمْلَةِ، وذِكْرُ فائِدَةِ تَكْرارِها عَلى تَقْدِيرِ: أنَّ شَهْرَ رَمَضانَ هو قَوْلُهُ ”﴿أيّامًا مَعْدُوداتٍ﴾ [البقرة: ١٨٤]“، فَأغْنى ذَلِكَ عَنْ إعادَتِهِ هُنا. * * * ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ تَقَدَّمَ الكَلامُ في الإرادَةِ في قَوْلِ: ﴿ماذا أرادَ (p-٤٢)اللَّهُ بِهَذا مَثَلًا﴾ [البقرة: ٢٦]، والإرادَةُ هُنا إمّا أنْ تَبْقى عَلى بابِها، فَتَحْتاجُ إلى حَذْفٍ، ولِذَلِكَ قَدَّرَهُ صاحِبُ (المُنْتَخَبِ): يُرِيدُ اللَّهُ أنْ يَأْمُرَكم بِما فِيهِ يُسْرٌ، وإمّا أنْ يُتَجَوَّزَ بِها عَنِ الطَّلَبِ، أيْ: يَطْلُبُ اللَّهُ مِنكُمُ اليُسْرَ، والطَّلَبُ عِنْدَنا غَيْرُ الإرادَةِ، وإنَّما احْتِيجَ إلى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ: لِأنَّ ما أرادَهُ اللَّهُ كائِنٌ لا مَحالَةَ، عَلى مَذْهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ، وعَلى ظاهِرِ الكَلامِ لَمْ يَكُنْ لِيَقَعَ عُسْرٌ، وهو واقِعٌ، وأمّا عَلى مَذْهَبِ المُعْتَزِلَةِ فَتَكُونُ الآيَةُ عَلى ظاهِرِها، وأرادَ: يَتَعَدّى إلى الأجْرامِ بِالباءِ، وإلى المَصادِرِ بِنَفْسِهِ كالآيَةِ. ويَأْتِي أيْضًا مُتَعَدِّيًا إلى الأجْرامِ بِنَفْسِهِ وإلى المَصادِرِ بِالباءِ. قالَ: ؎أرادَتْ عِرارًا بِالهَوانِ ومَن يُرِدْ عِرارًا، لَعَمْرِي ! بِالهَوانِ فَقَدْ ظَلَمْ قالُوا: يُرِيدُ هُنا بِمَعْنى أرادَ، فَهو مُضارِعٌ أُرِيدَ بِهِ الماضِي، والأوْلى أنْ يُرادَ بِهِ الحالَةُ الدّائِمَةُ هُنا: لِأنَّ المُضارِعَ هو المَوْضُوعُ لِما هو كائِنٌ لَمْ يَنْقَطِعْ، والإرادَةُ صِفَةُ ذاتٍ لا صِفَةُ فِعْلٍ، فَهي ثابِتَةٌ لَهُ تَعالى دائِمًا، وظاهِرُ اليُسْرِ والعُسْرِ العُمُومُ في جَمِيعِ الأحْوالِ الدُّنْيَوِيَّةِ والأُخْرَوِيَّةِ. وفِي الحَدِيثِ. «دِينُ اللَّهِ يُسْرٌ، يَسِّرْ ولا تُعَسِّرْ» . «وما خُيِّرَ بَيْنَ أمْرَيْنِ إلّا اخْتارَ أيْسَرَهُما»، وفي القُرْآنِ: ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨]، ﴿ويَضَعُ عَنْهم إصْرَهم والأغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: ١٥٧]، فَيَنْدَرِجُ في العُمُومِ في اليُسْرِ فِطْرُ المَرِيضِ والمُسافِرِ اللَّذَيْنِ ذُكِرَ حُكْمُهُما قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ، ويَنْدَرِجُ في العُمُومِ في العُسْرِ صَوْمُهُما لِما في حالَتَيِ المَرَضِ والسَّفَرِ مِنَ المَشَقَّةِ والتَّعْسِيرِ. ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وابْنِ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٍ، والضَّحّاكِ: أنَّ اليُسْرَ الفِطْرُ في السَّفَرِ، والعُسْرَ الصَّوْمُ فِيهِ، ويُحْمَلُ تَفْسِيرُهم عَلى التَّمْثِيلِ بِفَرْدٍ مِن أفْرادِ العُمُومِ، وناسَبَ أنْ مَثَّلُوا بِذَلِكَ: لِأنَّ الآيَةَ جاءَتْ في سِياقِ ما قَبْلَها، فَدَخَلَ فِيها ما قَبْلَها دُخُولًا لا يُمْكِنُ أنْ يَخْرُجَ مِنها، وفي (المُنْتَخَبِ): ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ﴾ كافٍ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾، وإنَّما كُرِّرَ تَوْكِيدًا، انْتَهى. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، ويَحْيى بْنُ وثّابٍ، وابْنُ هُرْمُزَ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ: اليُسُرَ والعُسُرَ، بِضَمِّ السِّينِ فِيهِما، والباقُونَ بِالإسْكانِ. * * * ﴿ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ﴾: قَرَأ أبُو بَكْرٍ، وأبُو عَمْرٍو بِخِلافٍ عَنْهُما، ورُوِيَ: مُشَدَّدَ المِيمِ مَفْتُوحَ الكافِ، والباقُونَ بِالتَّخْفِيفِ وإسْكانِ الكافِ، وفي اللّامِ أقْوالٌ، الأوَّلُ: قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هي اللّامُ الدّاخِلَةُ عَلى المَفْعُولِ، كالَّتِي في قَوْلِكَ: ضَرَبْتُ لِزَيْدٍ، المَعْنى، ويُرِيدُ إكْمالَ العِدَّةِ، وهي مَعَ الفِعْلِ مُقَدَّرَةٌ بِأنْ، كَأنَّ الكَلامَ: ويُرِيدُ لِأنْ تُكْمِلُوا العِدَّةَ، هَذا قَوْلُ البَصْرِيِّينَ، ونَحْوُهُ. قَوْلُ أبِي صَخْرٍ: ؎أُرِيدُ لِأنْسى ذِكْرَها فَكَأنَّما تُخَيَّلُ لِي لَيْلى بِكُلِّ طَرِيقِ انْتَهى كَلامُهُ. وهو كَما جَوَّزَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قالَ: كَأنَّهُ قِيلَ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ، ويُرِيدُ لِتُكْمِلُوا، لِقَوْلِهِ: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا﴾ [الصف: ٨]، وفي كَلامِهِ أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى اليُسْرِ، ومُلَخَّصُ هَذا القَوْلِ: أنَّ اللّامَ جاءَتْ في المَفْعُولِ المُؤَخَّرِ عَنِ الفِعْلِ، وهو مِمّا نَصُّوا عَلى أنَّهُ قَلِيلٌ، أوْ ضَرُورَةٌ، لَكِنْ يُحَسِّنُ ذَلِكَ هُنا، بُعْدُهُ عَنِ الفِعْلِ بِالفَصْلِ، فَكَأنَّهُ لَمّا أخَذَ الفِعْلُ مَفْعُولَهُ، وهو اليُسْرُ، وفُصِلَ بَيْنَهُما بِجُمْلَةٍ وهي ”﴿ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾“ بَعُدَ الفِعْلُ عَنِ اقْتِضائِهِ، فَقُوِّيَ بِاللّامِ، كَحالِهِ إذا تَقَدَّمَ فَقُلْتُ لِزَيْدٍ ضَرَبْتُ: لِأنَّهُ بِالتَّقَدُّمِ وتَأخُّرِ العامِلِ ضَعُفَ العامِلُ عَنِ الوُصُولِ إلَيْهِ، فَقُوِّيَ بِاللّامِ، إذْ أصْلُ العامِلِ أنْ يَتَقَدَّمَ، وأصْلُ المَعْمُولِ أنْ يَتَأخَّرَ عَنْهُ، لَكِنْ في هَذا القَوْلِ إضْمارُ أنْ بَعْدَ اللّامِ الزّائِدَةِ، وفِيهِ بُعْدٌ، وفي كَلامِ ابْنِ عَطِيَّةَ تَتَبُّعٌ، وهو في قَوْلِهِ ”وهي“ يَعْنِي بِاللّامِ مَعَ الفِعْلِ، يَعْنِي ”تُكْمِلُوا“ مُقَدَّرَةً بِأنْ، ولَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ ”أنْ“ مُضْمَرَةٌ بَعْدَها واللّامُ حَرْفُ جَرٍّ، ويُبَيِّنُ ذَلِكَ أنَّهُ قالَ: كَأنَّ الكَلامَ: ويُرِيدُ لِأنْ تُكْمِلُوا العِدَّةَ، فَأظْهَرَ ”أنْ“ بَعْدَ اللّامِ، فَتَصْحِيحُ لَفْظِهِ أنْ تَقُولَ، وهي مَعَ الفِعْلِ مُقَدَّرانِ بَعْدَها، وقَوْلُهُ: هَذا قَوْلُ البَصْرِيِّينَ ونَحْوُهُ، قَوْلُ أبِي صَخْرٍ: ؎أُرِيدُ لِأنْسى ذِكْرَها لَيْسَ كَما ذَكَرَ، بَلْ ذَلِكَ مَذْهَبُ الكِسائِيِّ والفَرّاءِ، زَعْمًا أنَّ العَرَبَ تَجْعَلُ لامَ كَيْ (p-٤٣)فِي مَوْضِعِ أنْ في أرَدْتُ وأمَرْتُ. قالَ تَعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾ [النساء: ٢٦]، ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا﴾ [الصف: ٨]، و﴿أنْ يُطْفِئُوا﴾ [التوبة: ٣٢]، ﴿إنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ﴾ [الأحزاب: ٣٣] . وقالَ الشّاعِرُ: ؎أُرِيدُ لِأنْسى ذِكْرَها وقالَ تَعالى: ﴿وأُمِرْنا لِنُسْلِمَ﴾ [الأنعام: ٧١]، و﴿أنْ أُسْلِمَ﴾ [غافر: ٦٦]، وذَهَبَ سِيبَوَيْهِ وأصْحابُهُ إلى أنَّ اللّامَ هُنا باقِيَةٌ عَلى حالِها و”أنْ“ مُضْمَرَةٌ بَعْدَها، لَكِنَّ الفِعْلَ قَبْلَها يُقَدِّرُهُ بِمَصْدَرٍ، كَأنَّهُ قالَ: الإرَداةُ لِلتَّبْيِينِ، وإرادَتِي لِهَذا، وذَهَبَ بَعْضُ النّاسِ إلى زِيادَةِ اللّامِ، وقَدْ أمْعَنّا الكَلامَ عَلى هَذِهِ المَسْألَةِ في كِتابِ (التَّكْمِيلِ في شَرْحِ التَّسْهِيلِ) فَتُطالَعُ هُناكَ. وتَلَخَّصَ مِمّا ذَكَرْناهُ أنَّ ما قالَ مِن أنَّهُ قَوْلُ البَصْرِيِّينَ لَيْسَ كَما قالَ، إنَّما يَتَمَشّى قَوْلُهُ: وهي مَعَ الفِعْلِ مُقَدَّرَةٌ بِأنْ عَلى قَوْلِ الكِسائِيِّ والفَرّاءِ، لا عَلى قَوْلِ البَصْرِيِّينَ. وتَناقَضَ قَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ أيْضًا: لِأنَّهُ قالَ: هي اللّامُ الدّاخِلَةُ عَلى المَفْعُولِ كالَّتِي في قَوْلِكَ: ضَرَبْتُ لِزَيْدٍ، المَعْنى ويُرِيدُ إكْمالَ العِدَّةِ. ثُمَّ قالَ: وهي مَعَ الفِعْلِ مَقَدَّرَةٌ بِأنْ، فَمِن حَيْثُ جَعَلَها الدّاخِلَةَ عَلى المَفْعُولِ لا يَكُونُ جُزْءًا مِنَ المَفْعُولِ، ومِن حَيْثُ قَدَّرَها بِأنْ كانَتْ جُزْءًا مِنَ المَفْعُولِ: لِأنَّ المَفْعُولَ إنَّما يَنْسَبِكُ مِنها مَعَ الفِعْلِ، فَهي جُزْءٌ لَهُ، والشَّيْءُ الواحِدُ لا يَكُونُ جُزْءًا لِشَيْءٍ غَيْرِ جُزْءٍ لَهُ، فَتَناقَضَ. وأمّا تَجْوِيزُ الزَّمَخْشَرِيِّ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى ”اليُسْرَ“ فَلا يُمْكِنُ إلّا بِزِيادَةِ اللّامِ وإضْمارِ أنْ بَعْدَها، أوْ بِجَعْلِ اللّامِ لِمَعْنى أنْ، فَلا تَكُونُ أنْ مُضْمَرَةً بَعْدَها، وكِلاهُما ضَعِيفٌ. القَوْلُ الثّانِي: أنْ تَكُونَ اللّامُ في ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ لامَ الأمْرِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ اللّامُ لامَ الأمْرِ والواوُ عاطِفَةً جُمْلَةَ كَلامٍ عَلى جُمْلَةِ كَلامٍ، انْتَهى كَلامُهُ. ولَمْ يَذْكُرْ هَذا الوَجْهَ فِيما وقَفْنا عَلَيْهِ غَيْرُ ابْنِ عَطِيَّةَ، ويُضَعِّفُ هَذا القَوْلَ أنَّ النَّحْوِيِّينَ قالُوا: أمْرُ الفاعِلِ المُخاطَبِ فِيهِ التِفاتٌ، قالُوا: أحَدُهُما لُغَةٌ رَدِيئَةٌ قَلِيلَةٌ، وهو إقْرارُ تاءِ الخِطابِ ولامُ الأمْرِ قَبْلَها، واللُّغَةُ الأُخْرى هي الجَيِّدَةُ الفَصِيحَةُ، وهو أنْ يَكُونَ الفِعْلُ عارِيًا مِن حَرْفِ المُضارَعَةِ ومِنَ اللّامِ، ويُضَعِّفُ هَذا القَوْلَ أيْضًا أنَّهُ لَمْ يُؤْثَرْ عَنْ أحَدٍ مِنَ القُرّاءِ أنَّهُ قَرَأ بِإسْكانِ هَذِهِ اللّامِ، فَلَوْ كانَتْ لامَ الأمْرِ لَكانَتْ كَسائِرِ أخَواتِها مِنَ القِراءَةِ بِالوَجْهَيْنِ فِيها، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّها لامُ الجَرِّ لا لامُ الأمْرِ، وقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: والواوُ عاطِفَةٌ جُمْلَةَ كَلامٍ عَلى جُمْلَةِ كَلامٍ، يَعْنِي: أنَّها إذا كانَتِ اللّامُ لِلْأمْرِ كانَ العَطْفُ مِن قَبِيلِ عَطْفِ الجُمَلِ، وإذا كانَتْ كاللّامِ في: ضَرَبْتُ لِزَيْدٍ، كانَتْ مِن قِبَلِ عَطْفِ المُفْرَداتِ. القَوْلُ الثّالِثُ: أنْ تَكُونَ اللّامُ لِلتَّعْلِيلِ، واخْتَلَفَ قائِلُو هَذا القَوْلِ عَلى أقْوالٍ، أحَدُها: أنْ تَكُونَ الواوُ عاطِفَةً عَلى عِلَّةٍ مَحْذُوفَةٍ، التَّقْدِيرُ: لِتَعْمَلُوا ما تَعْمَلُونَ ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. ويَكُونُ هَذا الفِعْلُ المُعَلَّلُ عَلى هَذا القَوْلِ إرادَةَ اليُسْرِ. الثّانِي: أنْ يَكُونَ بَعْدَ الواوِ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ هو المُعَلَّلُ، التَّقْدِيرُ: وفَعَلَ هَذا لِتُكْمِلُوا العِدَّةَ، قالَهُ الفَرّاءُ. الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى عِلَّةٍ مَحْذُوفَةٍ وقَدْ حُذِفَ مَعْلُولُها، التَّقْدِيرُ: فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لِيُسَهِّلَ عَلَيْكم ولِتُكْمِلُوا، قالَهُ الزَّجّاجُ. الرّابِعُ: أنْ يَكُونَ الفِعْلُ المُعَلَّلُ مُقَدَّرًا بَعْدَ التَّعْلِيلِ، تَقْدِيرُهُ: ولَأنْ تُكْمِلُوا العِدَّةَ رَخَّصَ لَكم هَذِهِ الرُّخْصَةَ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا قَوْلُ بَعْضِ الكُوفِيِّينَ. الخامِسُ: أنَّ الواوَ زائِدَةٌ، التَّقْدِيرُ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ لِتُكْمِلُوا العِدَّةَ، وهَذا قَوْلٌ ضَعِيفٌ. السّادِسُ: أنْ يَكُونَ الفِعْلُ المُعَلَّلُ مُقَدَّرًا بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿ولَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾، وتَقْدِيرُهُ: شَرَعَ ذَلِكَ. قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، قالَ ما نَصُّهُ: شَرَعَ ذَلِكَ، يَعْنِي جُمْلَةَ ما ذُكِرَ مِن أمْرِ الشّاهِدِ بِصَوْمِ الشَّهْرِ، وأمْرِ المُرَخَّصِ لَهُ بِمُراعاةِ عِدَّةِ ما أفْطَرَ فِيهِ، ومِنَ التَّرْخِيصِ في إباحَةِ الفِطْرِ، فَقَوْلُهُ: لِتُكْمِلُوا، عِلَّةُ الأمْرِ بِمُراعاةِ العِدَّةِ، ولِتُكَبِّرُوا عِلَّةُ ما عَلَّمَ مِن كَيْفِيَّةِ القَضاءِ والخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الفِطْرِ، ولَعَلَّكم تَشْكُرُونَ عِلَّةُ التَّرْخِيصِ والتَّيْسِيرِ. وهَذا نَوْعٌ مِنَ اللَّفِّ لَطِيفُ المَسْلَكِ لا يَكادُ يَهْتَدِي إلى تَبَيُّنِهِ إلّا النّاقِدُ المُحْذِقُ مِن عُلَماءِ البَيانِ، انْتَهى كَلامُهُ. والألِفُ واللّامُ في قَوْلِهِ: ﴿ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ﴾ الظّاهِرُ أنَّها لِلْعَهْدِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ راجِعًا إلى قَوْلِهِ: ﴿فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ أيْ: ولِيُكْمِلَ مَن أفْطَرَ في مَرَضِهِ (p-٤٤)أوْ سَفَرِهِ عِدَّةَ الأيّامَ الَّتِي أفْطَرَ فِيها بِأنْ يَصُومَ مِثْلَها، وقِيلَ: عِدَّةَ الهِلالِ سَواءٌ كانَتْ تِسْعَةً وعِشْرِينَ يَوْمًا أمْ كانَ ثَلاثِينَ، فَتَكُونُ العِدَّةُ راجِعَةً إذْ ذاكَ إلى شَهْرِ رَمَضانَ المَأْمُورِ بِصَوْمِهِ. * * * ﴿ولِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى ”﴿ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ﴾“، والكَلامُ في اللّامِ كالكَلامِ في لامِ ”﴿ولِتُكْمِلُوا﴾“، ومَعْنى التَّكْبِيرِ هُنا تَعْظِيمُ اللَّهِ والثَّناءُ عَلَيْهِ، فَلا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ، بَلْ يُعَظَّمُ اللَّهُ ويُثْنى عَلَيْهِ بِما شاءَ مِن ألْفاظِ الثَّناءِ والتَّعْظِيمِ، وقِيلَ: هو التَّكْبِيرُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الهِلالِ في آخِرِ رَمَضانَ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: حَقٌّ عَلى المُسْلِمِينَ إذا رَأوْا هِلالَ شَوّالٍ أنْ يُكَبِّرُوا، وقِيلَ: هو التَّكْبِيرُ المَسْنُونُ في العِيدِ، وقالَ سُفْيانُ: هو التَّكْبِيرُ يَوْمَ الفِطْرِ. واخْتُلِفَ في مُدَّتِهِ وفي كَيْفِيَّتِهِ، فَعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: يُكَبِّرُ مِن رُؤْيَةِ الهِلالِ إلى انْقِضاءِ الخُطْبَةِ ويُمْسِكُ وقْتَ خُرُوجِ الإمامِ ويُكَبِّرُ بِتَكْبِيرِهِ، وقِيلَ - وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ: مِن رُؤْيَةِ الهِلالِ إلى خُرُوجِ الإمامِ إلى الصَّلاةِ. وقالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ، ومالِكٌ: مِن حِينِ يَخْرُجُ مِن مَنزِلِهِ إلى أنْ يَخْرُجَ الإمامُ ورَوى ابْنُ القاسِمِ، وعَلِيُّ بْنُ زِيادٍ: إنْ خَرَجَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَلا يُكَبِّرُ في طَرِيقِهِ ولا في جُلُوسِهِ حَتّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وإنْ غَدا بَعْدَ الطُّلُوعِ فَلْيُكَبِّرْ في طَرِيقِهِ إلى المُصَلّى وإذا جَلَسَ حَتّى يَخْرُجَ الإمامُ. واخْتُلِفَ عَنْ أحْمَدَ، فَنَقَلَ الأثَرُ عَنْهُ أنَّهُ إذا جاءَ إلى المُصَلّى يَقْطَعُ: قالَ أبُو يَعْلى: يَعْنِي: وخَرَجَ الإمامُ، ونَقَلَ حَنْبَلٌ عَنْهُ أنْ يَقْطَعَ بَعْدَ فَراغِ الإمامِ مِنَ الخُطْبَةِ. واخْتَلَفُوا في الأضْحى، فَقالَ مالِكٌ، والشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ، وأبُو يُوسُفَ، ومُحَمَّدٌ: الفِطْرُ والأضْحى سَواءٌ في ذَلِكَ، وبِهِ قالَ ابْنُ المُسَيَّبِ، وأبُو سَلَمَةَ، وعُرْوَةُ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: يُكَبِّرُ في الأضْحى ولا يُكَبِّرُ في الفِطْرِ. وكَيْفِيَّتُهُ عِنْدَ الجُمْهُورِ: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ، ثَلاثًا، وهو مَرْوِيٌّ عَنْ جابِرٍ، وقِيلَ: يُكَبِّرُ ويُهَلِّلُ ويُسَبِّحُ أثْناءَ التَّكْبِيرِ، ومِنهم مَن يَقُولُ: اللَّهُ أكْبَرُ كَبِيرًا، والحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وسُبْحانَ اللَّهِ بُكْرَةً وأصِيلًا. وكانَ ابْنُ المُبارَكِ يَقُولُ: اللَّهُ أكْبَرُ اللَّهُ أكْبَرُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، واللَّهُ أكْبَرُ ولِلَّهِ الحَمْدُ، اللَّهُ أكْبَرُ عَلى ما هَدانا. وقالَ ابْنُ المُنْذِرِ: كانَ مالِكٌ لا يَجِدُ فِيهِ حَدًّا، وقالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: اخْتارَ عُلَماؤُنا التَّكْبِيرَ المُطْلَقَ وهو ظاهِرُ الكِتابِ، وقالَ أحْمَدُ: كُلٌّ واسِعٌ، وحُجَجُ هَذِهِ الأقاوِيلِ في كُتُبِ الفِقْهِ. ورَجَّحَ في (المُنْتَخَبِ) أنَّ إكْمالَ العِدَّةِ هو في صَوْمِ رَمَضانَ، وأنَّ تَكْبِيرَ اللَّهِ هو عِنْدَ الِانْقِضاءِ عَلى ما هَدى إلى هَذِهِ الطّاعَةِ، ولَيْسَ بِمَعْنى التَّعْظِيمِ. قالَ: لِأنَّ تَكْبِيرَ اللَّهِ بِمَعْنى تَعْظِيمِهِ هو واجِبٌ في جَمِيعِ الأوْقاتِ وفي كُلِّ الطّاعاتِ، فَلا مَعْنى لِلتَّخْصِيصِ، انْتَهى. و”عَلى“، تَتَعَلَّقُ ”بِتُكَبِّرُوا“ وفِيها إشْعارٌ بِالعِلْيَةِ، كَما تَقُولُ أشْكُرُكَ عَلى ما أسْدَيْتَ إلَيَّ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإنَّما عَدّى فِعْلَ التَّكْبِيرِ بِحَرْفِ الِاسْتِعْلاءِ لِكَوْنِهِ مُضَمَّنًا مَعْنى الحَمْدِ، كَأنَّهُ قِيلَ: ولِتُكَبِّرُوا اللَّهَ حامِدِينَ عَلى ما هَداكم، انْتَهى كَلامُهُ. وقَوْلُهُ كَأنَّهُ قِيلَ: ولِتُكَبِّرُوا اللَّهَ حامِدِينَ عَلى ما هَداكم، هو تَفْسِيرُ مَعْنًى لا تَفْسِيرُ إعْرابٍ، إذْ لَوْ كانَ تَفْسِيرَ إعْرابٍ لَمْ تَكُنْ ”عَلى“ مُتَعَلِّقًا بِتُكَبِّرُوا المُضَمَّنَةِ مَعْنى الحَمْدِ، إنَّما كانَتْ تَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِحامِدِينَ الَّتِي قَدَّرَها، والتَّقْدِيرُ الإعْرابِيُّ هو أنْ تَقُولَ: كَأنَّهُ قِيلَ ولِتَحْمَدُوا اللَّهَ بِالتَّكْبِيرِ عَلى ما هَداكم، كَما قَدَّرَ النّاسُ في قَوْلِهِمْ: قَتَلَ اللَّهُ زِيادًا أعْنِي أيْ: صَرَفَ اللَّهُ زِيادًا عَنِّي بِالقَتْلِ، وفي قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎ويَرْكَبُ يَوْمَ الرَّوْعِ فِينا فَوارِسٌ بَصِيرُونَ في طَعْنِ الأباهِرِ والكُلى أيْ: تَحْكُمُونَ بِالبَصِيرَةِ في طَعْنِ الأباهِرِ، والظّاهِرُ في ”ما“ أنَّها مَصْدَرِيَّةٌ أيْ: عَلى هِدايَتِكم، وجَوَّزُوا أنْ تَكُونَ ”ما“ بِمَعْنى الَّذِي، وفِيهِ بُعْدٌ: لِأنَّهُ يَحْتاجُ إلى حَذْفَيْنِ أحَدُهُما: حَذَفُ العائِدِ عَلى ”ما“ أيْ: عَلى الَّذِي هَداكُمُوهُ، وقَدَّرْناهُ مَنصُوبًا لا مَجْرُورًا بِإلى، ولا بِاللّامِ لِيَكُونَ حَذْفُهُ أسْهَلَ مِن حَذْفِهِ مَجْرُورًا. والثّانِي: حَذْفُ مُضافٍ بِهِ يَصِحُّ الكَلامُ، التَّقْدِيرُ: عَلى اتِّباعِ الَّذِي هَداكُمُوهُ، وما أشْبَهَ هَذا التَّقْدِيرَ مِمّا يَصِحُّ بِهِ (p-٤٥)مَعْنى الكَلامِ. والظّاهِرُ أنَّ مَعْنى: هَداكم، حُصُولُ الهِدايَةِ لَكم مِن غَيْرِ تَقْيِيدٍ، وقِيلَ: المَعْنى، هِدايَتُكم لِما ضَلَّ فِيهِ النَّصارى مِن تَبْدِيلِ صِيامِهِمْ، وإذا كانَتْ بِمَعْنى ”الَّذِي“، فالمَعْنى عَلى ما أرْشَدَكم إلَيْهِ مِن شَرِيعَةِ الإسْلامِ. ﴿ولَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾، هو تَرَجٍّ في حَقِّ البَشَرِ عَلى نِعْمَةِ اللَّهِ في الهِدايَةِ، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، فَيَكُونُ الشُّكْرُ عَلى الهِدايَةِ، وقِيلَ: المَعْنى تَشْكُرُونَ عَلى ما أنْعَمَ بِهِ مِن ثَوابِ طاعاتِكم. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومَعْنى ﴿ولَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾، وإرادَةُ أنْ تَشْكُرُوا، فَتَأوَّلَ التَّرَجِّيَ مِنَ اللَّهِ عَلى مَعْنى الإرادَةِ، وجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ التَّرَجِّيَ مِنَ المَخْلُوقِ، إذِ التَّرَجِّي حَقِيقَةً يَسْتَحِيلُ عَلى اللَّهِ، فَلِذَلِكَ أوَّلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِالإرادَةِ، وجَعَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِنَ البَشَرِ، والقَوْلانِ مُتَكافِيانِ، وإذا كانَ التَّكْلِيفُ شاقًّا ناسَبَ أنْ يُعَقَّبَ بِتَرَجِّي التَّقْوى، وإذا كانَ تَيْسِيرًا ورُخْصَةً ناسَبَ أنْ يُعَقَّبَ بِتَرَجِّي الشُّكْرِ، فَلِذَلِكَ خُتِمَتْ هَذِهِ الآيَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾: لِأنَّ قَبْلَهُ تَرْخِيصٌ لِلْمَرِيضِ والمُسافِرِ بِالفِطْرِ، وقَوْلُهُ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ﴾، وجاءَ عُقَيْبَ قَوْلِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾ [البقرة: ١٨٣]، ﴿لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٨٣]، وقَبْلَهُ ﴿ولَكم في القِصاصِ حَياةٌ﴾ [البقرة: ١٧٩]، ثُمَّ قالَ: ﴿لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: ١٨٣]: لِأنَّ الصِّيامَ والقِصاصَ مِن أشَقِّ التَّكالِيفِ، وكَذا يَجِيءُ أُسْلُوبُ القُرْآنِ فِيما هو شاقٌّ، وفِيما فِيهِ تَرْخِيصٌ أوْ تَرْقِيَةٌ، فَيَنْبَغِي أنْ يُلْحَظَ ذَلِكَ حَيْثُ جاءَ فَإنَّهُ مِن مَحاسِنِ عِلْمِ البَيانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب