الباحث القرآني

* بابُ تَحْرِيمُ المَيْتَةِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ قالَ أبُو بَكْرٍ: المَيْتَةُ في الشَّرْعِ اسْمٌ لِلْحَيَوانِ المَيِّتِ غَيْرِ المُذَكّى، وقَدْ يَكُونُ مَيْتَةً بِأنْ يَمُوتَ حَتْفَ أنْفِهِ مِن غَيْرِ سَبَبٍ لِآدَمِيٍّ فِيهِ، وقَدْ يَكُونُ مَيْتَةً لِسَبَبِ فِعْلِ آدَمِيٍّ إذا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ فِيهِ عَلى وجْهِ الذَّكاةِ المُبِيحَةِ لَهُ. وسَنُبَيِّنُ شَرائِطَ الذَّكاةِ في مَوْضِعِها إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. والمَيْتَةُ وإنْ كانَتْ فِعْلًا لِلَّهِ تَعالى وقَدْ عَلَّقَ التَّحْرِيمَ بِها مَعَ عِلْمِنا بِأنَّ التَّحْرِيمَ والتَّحْلِيلَ والحَظْرَ والإباحَةَ إنَّما يَتَناوَلانِ أفْعالَنا ولا يَجُوزُ أنْ يَتَناوَلا فِعْلَ غَيْرِنا؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ أنْ يُنْهى الإنْسانُ عَنْ فِعْلِ غَيْرِهِ ولا أنْ يُؤْمَرَ بِهِ، فَإنَّ مَعْنى ذَلِكَ لَمّا كانَ مَعْقُولًا عِنْدَ المُخاطَبِينَ جازَ إطْلاقُ لَفْظِ التَّحْرِيمِ والتَّحْلِيلِ فِيهِ وإنْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةً، وكانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلى تَأْكِيدِ حُكْمِ التَّحْرِيمِ، فَإنَّهُ يَتَناوَلُ سائِرَ وُجُوهِ المَنافِعِ، ولِذَلِكَ قالَ أصْحابُنا: لا يَجُوزُ الِانْتِفاعُ بِالمَيْتَةِ عَلى وجْهٍ ولا يُطْعِمُها الكِلابَ والجَوارِحَ؛ لِأنَّ ذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ الِانْتِفاعِ بِها، وقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ المَيْتَةَ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا مُعَلَّقًا بِعَيْنِها مُؤَكِّدًا بِهِ حُكْمَ الحَظْرِ فَلا يَجُوزُ الِانْتِفاعُ بِشَيْءٍ مِنها إلّا أنْ يُخَصَّ شَيْءٌ مِنها بِدَلِيلٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهُ. وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ تَخْصِيصُ مَيْتَةِ السَّمَكِ والجَرادِ مِن هَذِهِ الجُمْلَةِ بِالإباحَةِ، فَرَوى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ عَنْ أبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أُحِلَّتْ لَنا مَيْتَتانِ ودَمانِ، فَأمّا المَيْتَتانِ فالجَرادُ والسَّمَكُ، وأمّا الدَّمانِ فالطِّحالُ والكَبِدُ» . ورَوى عَمْرُو بْنُ دِينارٍ عَنْ جابِرٍ «فِي قِصَّةِ جَيْشِ الخَبَطِ أنَّ البَحْرَ ألْقى إلَيْهِمْ حُوتًا فَأكَلُوا مِنهُ نِصْفَ شَهْرٍ، ثُمَّ لَمّا رَجَعُوا أخْبَرُوا النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ: هَلْ عِنْدَكم مِنهُ شَيْءٌ تُطْعِمُونِي ؟» . ولا خِلافَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ في إباحَةِ السَّمَكِ غَيْرِ الطّافِي وفي الجَرادِ. ومِنَ النّاسِ مَنِ اسْتَدَلَّ عَلى تَخْصِيصِ عُمُومِ آيَةِ تَحْرِيمِ المَيْتَةِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُحِلَّ لَكم صَيْدُ البَحْرِ وطَعامُهُ مَتاعًا لَكُمْ﴾ [المائدة: ٩٦] وبِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ في حَدِيثِ صَفْوانَ بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَّقِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ المُغِيرَةَ بْنِ أبِي بُرْدَةَ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ في البَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ ماؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ» . وسَعِيدُ بْنُ سَلَمَةَ مَجْهُولٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ بِالثَّبْتِ، وقَدْ خالَفَهُ في سَنَدِهِ يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ الأنْصارِيِّ، فَرَواهُ عَنِ المُغِيرَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بُرْدَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ومِثْلُ هَذا الِاخْتِلافِ (p-١٣٣)فِي السَّنَدِ يُوجِبُ اضْطِرابَ الحَدِيثِ، وغَيْرُ جائِزٍ تَخْصِيصُ آيَةٍ مُحْكَمَةٍ بِهِ وقَدْ رَوى ابْنُ زِيادٍ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ البُكائِيُّ قالَ: حَدَّثَنا سُلَيْمانُ الأعْمَشُ قالَ: حَدَّثَنا أصْحابُنا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في البَحْرِ: «ذَكِيٌّ صَيْدُهُ طَهُورٌ ماؤُهُ» وهَذا أضْعَفُ عِنْدَ أهْلِ النَّقْلِ مِنَ الأوَّلِ. وقَدْ رُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ آخَرُ، وهو ما رَواهُ يَحْيى بْنُ أيُّوبَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، وعَمْرِو بْنِ الحارِثِ عَنْ بَكْرِ بْنِ سَوادَةَ، عَنْ أبِي مُعاوِيَةَ العَلَوِيِّ، عَنْ، مُسْلِمِ بْنِ مَخْشِيٍّ المُدْلَجِي، عَنْ الفَرّاسِي، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ في البَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ ماؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ» وهَذا أيْضًا لا يُحْتَجُّ بِهِ لِجَهالَةِ رُواتِهِ، ولا يُخَصُّ بِهِ ظاهِرُ القُرْآنِ وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ بْنُ حَنْبَلٍ قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو القاسِمِ بْنُ أبِي الزِّنادِ قالَ: حَدَّثَنا إسْحاقُ بْنُ حازِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ عَطاءٍ، عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ «سُئِلَ عَنِ البَحْرِ فَقالَ: هو الطَّهُورُ ماؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ» قالَ أبُو بَكْرٍ: وقَدِ اخْتُلِفَ في السَّمَكِ الطّافِي وهو الَّذِي يَمُوتُ في الماءِ حَتْفَ أنْفِهِ فَكَرِهَهُ أصْحابُنا والحَسَنُ بْنُ حَيِّ. وقالَ مالِكٌ والشّافِعِيُّ: " لا بَأْسَ بِهِ " وقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِيهِ أيْضًا، فَرَوى عَطاءُ بْنُ السّائِبِ عَنْ مَيْسَرَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: " ما طَفا مِن مَيْتَةِ البَحْرِ فَلا تَأْكُلْهُ " . ورَوى عَمْرُو بْنُ دِينارٍ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي الهُذَيْلِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: " أنَّهُما كَرِها الطّافِيَ " . فَهَؤُلاءِ الثَّلاثَةُ مِنَ الصَّحابَةِ قَدْ رُوِيَ عَنْهم كَراهَتُهُ. ورُوِيَ عَنْ جابِرِ بْنِ زَيْدٍ وعَطاءٍ وسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ والحَسَنِ وابْنِ سِيرِينَ وإبْراهِيمَ كَراهِيَتُهُ. ورُوِيَ عَنْ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وأبِي أيُّوبَ إباحَةُ أكْلِ الطّافِي مِنَ السَّمَكِ والَّذِي يَدُلُّ عَلى حَظْرِ أكْلِهِ ظاهِرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ﴾ [المائدة: ٣] واتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلى تَخْصِيصِ غَيْرِ الطّافِي مِنَ الجُمْلَةِ فَخَصَّصْناهُ، واخْتَلَفُوا في الطّافِي فَوَجَبَ اسْتِعْمالُ حُكْمِ العُمُومِ فِيهِ. وقَدْ حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ سُلَيْمٍ الطّائِفِيُّ قالَ: حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ أبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ما ألْقى البَحْرُ أوْ جَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ، وما ماتَ فِيهِ وطَفا فَلا تَأْكُلُوهُ» . ورَوى إسْماعِيلُ بْنُ عَيّاشٍ قالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ وهْبِ بْنِ كَيْسانَ، ونُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ المُجْمِرُ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قالَ: «ما جَزَرَ عَنْهُ البَحْرُ فَلا تَأْكُلْ وما ألْقى فَكُلْ، وما وجَدْتَهُ مَيِّتًا طافِيًا فَلا تَأْكُلْهُ» . وقَدْ رَوى ابْنُ أبِي ذِئْبٍ عَنْ أبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِثْلَهُ. وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا مُوسى (p-١٣٤)بْنُ زَكَرِيّا قالَ: حَدَّثَنا سَهْلُ بْنُ عُثْمانَ قالَ: حَدَّثَنا حَفْصٌ، عَنْ يَحْيى بْنِ أبِي أُنَيْسَةَ، عَنْ أبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «إذا وجَدْتُمُوهُ حَيًّا فَكُلُوهُ، وما ألْقى البَحْرُ حَيًّا فَماتَ فَكُلُوهُ، وما وجَدْتُمُوهُ مَيِّتًا طافِيًا فَلا تَأْكُلُوهُ» وحَدَّثَنا ابْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسى بْنُ أبِي عُثْمانَ الدِّهْقانُ قالَ: حَدَّثَنا الحُسَيْنُ بْنُ يَزِيدَ الطَّحّانُ: حَدَّثَنا حَفْصُ بْنُ غِياثٍ، عَنِ ابْنِ أبِي ذِئْبٍ، عَنْ أبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ما صِدْتُمُوهُ وهو حَيٌّ فَماتَ فَكُلُوهُ، وما ألْقى البَحْرُ مَيِّتًا طافِيًا فَلا تَأْكُلُوهُ» . فَإنْ قِيلَ: قَدْ رَوى هَذا الحَدِيثَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ وأيُّوبُ وحَمّادٌ عَنْ أبِي الزُّبَيْرِ مَوْقُوفًا عَلى جابِرٍ قِيلَ لَهُ: هَذا لا يُفْسِدُهُ عِنْدَنا، لِأنَّهُ جائِزٌ أنْ يَرْوِيَهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ تارَةً ثُمَّ يُرْسِلَ عَنْهُ فَيُفْتِيَ بِهِ، وفُتْياهُ بِما رَواهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ غَيْرُ مُفْسِدٍ لَهُ بَلْ يُؤَكِّدُهُ. عَلى أنَّ إسْماعِيلَ بْنَ أُمَيَّةَ فِيما يَرْوِيهِ عَنْ أبِي الزُّبَيْرِ لَيْسَ بِدُونِ مَن ذَكَرْتَ، وكَذَلِكَ ابْنُ أبِي ذِئْبٍ، فَزِيادَتُهُما في الرَّفْعِ مَقْبُولَةٌ عَلى هَؤُلاءِ. فَإنْ قِيلِ: قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «أُحِلَّتْ لَنا مَيْتَتانِ ودَمانِ السَّمَكُ والجَرادُ» وذَلِكَ عُمُومٌ في جَمِيعِهِ قِيلَ لَهُ: يَخُصُّ ما ذَكَرْنا ورَوَيْنا في النَّهْيِ عَنِ الطّافِي، ويَلْزَمُ مُخالِفَنا عَلى أصْلِهِ في تَرْتِيبِ الأخْبارِ أنْ يَبْنِيَ العامَّ عَلى الخاصِّ فَيَسْتَعْمِلُهُما وأنْ لا يُسْقِطَ الخاصَّ بِالعامِّ، وعَلى أنَّ هَذا خَبَرٌ في رَفْعِهِ اخْتِلافٌ، فَرَواهُ مَرْحُومٌ العَطّارُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ عَنْ أبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، ورَواهُ يَحْيى الحِمّانِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ مَرْفُوعًا، فَيَلْزَمُكَ فِيهِ مِثْلُ ما رُمْتَ إلْزامَنا إيّاهُ في خَبَرِ الطّافِي فَإنِ احْتَجَّ بِما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «الطَّهُورُ ماؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ» ولَمْ يُخَصِّصِ الطّافِيَ مِن غَيْرِهِ. قِيلَ لَهُ: نَسْتَعْمِلُهُما جَمِيعًا ونَجْعَلُهُما كَأنَّهُما ورَدا مَعًا، نَسْتَعْمِلُ خَبَرَ الطّافِي في النَّهْيِ ونَسْتَعْمِلُ خَبَرَ الإباحَةِ فِيما عَدا الطّافِيَ. فَإنْ قِيلَ: فَإنَّ مِن أصْلِ أبِي حَنِيفَةَ في الخاصِّ والعامِّ أنَّهُ مَتى اتَّفَقَ الفُقَهاءُ عَلى اسْتِعْمالِ أحَدِ الخَبَرَيْنِ واخْتَلَفُوا في اسْتِعْمالِ الآخَرَ كانَ ما اُتُّفِقَ في اسْتِعْمالِهِ قاضِيًا عَلى ما اخْتُلِفَ فِيهِ، وقَوْلُهُ ﷺ: " هو الحِلُّ مَيْتَتُهُ " و" أُحِلَّتْ لَنا مَيْتَتانِ " مُتَّفَقٌ عَلى اسْتِعْمالِهِما وخَبَرُ الطّافِي مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَيَنْبَغِي أنْ يُقْضى عَلَيْهِ بِالخَبَرَيْنِ الآخَرَيْنِ قِيلَ لَهُ: إنَّما يُعْرَفُ ذَلِكَ مِن مَذْهَبِهِ وقَوْلِهِ فِيما لَمْ يُعَضِّدْهُ نَصُّ الكِتابِ، فَأمّا إذا كانَ عُمُومُ الكِتابِ مُعاضِدًا لِلْخَبَرِ المُخْتَلَفِ في اسْتِعْمالِهِ فَإنّا لا نَعْرِفُ قَوْلَهُ فِيهِ. وجائِزٌ أنْ يُقالَ إنَّهُ لا يُعْتَبَرُ وُقُوعُ الخِلافِ في اسْتِعْمالِهِ بَعْدَ أنْ يُعَضِّدَهُ عُمُومُ الكِتابِ، فَيُسْتَعْمَلَ حِينَئِذٍ مَعَ العامِّ المُتَّفَقِ عَلى اسْتِعْمالِهِ، ويَكُونَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا مِنهُ. فَإنِ (p-١٣٥)احْتَجُّوا بِحَدِيثِ جابِرٍ في قِصَّةِ جَيْشِ الخَبَطِ وإباحَةِ النَّبِيِّ ﷺ أكْلَ الحُوتِ الَّذِي ألْقاهُ البَحْرُ، فَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَنا بِطافٍ وإنَّما الطّافِي ما ماتَ حَتْفَ أنْفِهِ في الماءِ مِن غَيْرِ سَبَبٍ حادِثٍ ومِنَ النّاسِ مَن يَظُنُّ أنَّ كَراهَةَ الطّافِي مِن أجْلِ بَقائِهِ في الماءِ حَتّى طَفا عَلَيْهِ فَيُلْزِمُونَنا عَلَيْهِ الحَيَوانَ المُذَكّى إذا أُلْقِيَ في الماءِ حَتّى طَفا عَلَيْهِ. وهَذا جَهْلٌ مِنهم بِمَعْنى المَقالَةِ ومَوْضِعِ الخِلافِ؛ لِأنَّ السَّمَكَ لَوْ ماتَ ثُمَّ طَفا عَلى الماءِ لَأُكِلَ، ولَوْ ماتَ حَتْفَ أنْفِهِ ولَمْ يَطْفُ عَلى الماءِ لَمْ يُؤْكَلْ، والمَعْنى فِيهِ عِنْدَنا هو مَوْتُهُ في الماءِ حَتْفَ أنْفِهِ لا غَيْرُ. وقَدْ رَوى لَنا عَبْدُ الباقِي حَدِيثًا وقالَ لَنا إنَّهُ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، فَذَكَرَ أنَّهُ حَدَّثَهُ بِهِ عُبَيْدُ بْنُ شَرِيكٍ البَزّازُ قالَ: حَدَّثَنا أبُو الجُماهِرِ قالَ: حَدَّثَنا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ أبانَ بْنِ أبِي عَيّاشٍ، عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «كُلْ ما طَفا عَلى البَحْرِ» وأبانُ بْنُ أبِي عَيّاشٍ لَيْسَ هو مِمَّنْ يَثْبُتُ ذَلِكَ بِرِوايَتِهِ، قالَ شُعْبَةُ: لَأنْ أزْنِيَ سَبْعِينَ زَنْيَةً أحَبُّ إلَيَّ مِن أنْ أرْوِيَ عَنْ أبانَ بْنِ أبِي عَيّاشٍ فَإنِ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُحِلَّ لَكم صَيْدُ البَحْرِ وطَعامُهُ﴾ [المائدة: ٩٦] وأنَّهُ عُمُومٌ في الطّافِي وغَيْرِهِ، قِيلَ لَهُ: الجَوابُ عَنْهُ مِن وجْهَيْنِ: أحَدِهِما: أنَّهُ مَخْصُوصٌ بِما ذَكَرْنا مِن تَحْرِيمِ المَيْتَةِ والأخْبارِ الوارِدَةِ في النَّهْيِ عَنْ أكْلِ الطّافِي. والثّانِي: أنَّهُ رُوِيَ في التَّفْسِيرِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وطَعامُهُ﴾ [المائدة: ٩٦] أنَّهُ ما ألْقاهُ البَحْرُ فَماتَ، و" صَيْدُهُ " ما اصْطادُوا وهو حَيٌّ، والطّافِي خارِجٌ مِنهُما؛ لِأنَّهُ لَيْسَ مِمّا ألْقاهُ البَحْرُ ولا مِمّا صِيدَ؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ أنْ يُقالَ: اصْطادَ سَمَكًا مَيِّتًا، كَما لا يُقالَ: اصْطادَ مَيِّتًا. فالآيَةُ لَمْ تَنْتَظِمِ الطّافِيَ ولَمْ تَتَناوَلْهُ، واللَّهُ أعْلَمْ. * * * بابُ جُلُودِ المَيْتَةِ إذا دُبِغَتْ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ والدَّمَ﴾ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلا أنْ يَكُونَ مَيْتَةً أوْ دَمًا﴾ [الأنعام: ١٤٥] يَقْتَضِي تَحْرِيمَ المَيْتَةِ بِجَمِيعِ أجْزائِها، وجِلْدُها مِن أجْزائِها؛ لِأنَّهُ قَدْ حَلَّهُ المَوْتُ بَدَلًا مِنَ الحَياةِ الَّتِي كانَتْ فِيهِ. إلّا أنَّ قَوْلَهُ: ﴿عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾ [الأنعام: ١٤٥] قَدْ دَلَّ عَلى الِاقْتِصارِ بِالتَّحْرِيمِ عَلى ما يَتَأتّى فِيهِ الأكْلُ. وقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ هَذا المَعْنى في جِلْدِ المَيْتَةِ بَعْدَ الدِّباغِ بِقَوْلِهِ: «إنَّما حُرِّمَ أكْلُها» «وإنَّما حُرِّمَ لَحْمُها» وقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في حُكْمِ جِلْدِ المَيْتَةِ بَعْدَ الدِّباغِ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ وسُفْيانُ الثَّوْرِيُّ وعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الحَسَنِ العَنْبَرِيُّ والأوْزاعِيُّ والشّافِعِيُّ: " يَجُوزُ بَيْعُهُ بَعْدَ الدِّباغِ والِانْتِفاعُ بِهِ " قالَ الشّافِعِيُّ: إلّا جِلْدَ الكَلْبِ والخِنْزِيرِ. وأصْحابُنا لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ جِلْدِ الكَلْبِ وغَيْرِهِ، وجَعَلُوهُ طاهِرًا بِالدِّباغِ إلّا جِلْدَ الخِنْزِيرِ خاصَّةً. وقالَ مالِكٌ: " يُنْتَفَعُ بِجُلُودِ المَيْتَةِ في الجُلُوسِ عَلَيْها ويُغَرْبَلُ عَلَيْها ولا تُباعُ ولا يُصَلّى عَلَيْها " . وقالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: " لا بَأْسَ بِبَيْعِ جُلُودِ المَيْتَةِ قَبْلَ الدِّباغِ إذا بُيِّنَتْ أنَّها مَيْتَةٌ " . والحُجَّةُ لِمَن طَهَّرَها وجَعْلَها مُذَكّاةً ما ورَدَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ الآثارِ المُتَواتِرَةِ مِنَ الوُجُوهِ المُخْتَلِفَةِ بِألْفاظٍ مُخْتَلِفَةٍ كُلُّها يُوجِبُ طَهارَتَها والحُكْمَ بِذَكاتِها، فَمِنها حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «أيُّما إهابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» وحَدِيثُ الحَسَنِ عَنْ الجَوْنِ بْنِ قَتادَةَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ المُحَبِّقِ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أتى في غَزْوَةِ تَبُوكَ عَلى بَيْتٍ بِفِنائِهِ قِرْبَةٌ مُعَلَّقَةٌ فاسْتَسْقى فَقِيلَ: إنَّها مَيْتَةٌ، فَقالَ: ذَكاةُ الأدِيمِ دِباغَتُهُ» . ورَوى سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثابِتٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «دِباغُ جُلُودِ المَيْتَةِ طَهُورُها» وسِماكٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ قالَتْ: «كانَتْ لَنا شاةٌ فَماتَتْ فَطَرَحْناها، فَجاءَ النَّبِيُّ ﷺ فَقالَ: ما فَعَلَتْ شاتُكم ؟ فَقُلْنا: رَمَيْناها، فَتَلا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾ [الأنعام: ١٤٥] الآيَةَ، أفَلا اسْتَمْتَعْتُمْ بِإهابِها» فَبَعَثْنا إلَيْها فَسَلَخْناها ودَبَغْنا جِلْدَها وجَعَلْناهُ سِقاءً وشَرِبْنا فِيهِ حَتّى صارَ شَنًّا. وقالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: «مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِشاةِ مَيْمُونَةَ فَقالَ: ما عَلى أهْلِ هَذِهِ لَوِ انْتَفَعُوا بِإهابِها» والزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ قالَتْ: «مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِشاةٍ لَهم مَيِّتَةٍ فَقالَ: ألا دَبَغُوا إهابَها فانْتَفَعُوا بِهِ فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّها مَيْتَةٌ، فَقالَ: إنَّما حُرِّمَ مِنَ المَيْتَةِ أكْلُها» في غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأخْبارِ، كُلُّها يُوجِبُ طَهارَةَ جِلْدِ المَيْتَةِ (p-١٤٣)بَعْدَ الدِّباغِ، كَرِهْتُ الإطالَةَ بِذِكْرِها وهَذِهِ الأخْبارُ كُلُّها مُتَواتِرَةٌ مُوجِبَةٌ لِلْعِلْمِ والعَمَلِ، قاضِيَةٌ عَلى الآيَةِ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: وُرُودُها مِنَ الجِهاتِ المُخْتَلِفَةِ الَّتِي يَمْنَعُ مِثْلُها التَّواطُؤَ والِاتِّفاقَ عَلى الوَهْمِ أوِ الغَلَطِ. والثّانِي: جِهَةُ تَلَقِّي الفُقَهاءِ إيّاها بِالقَبُولِ واسْتِعْمالِهِمْ لَها. فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّها مُسْتَعْمَلَةٌ مَعَ آيَةِ تَحْرِيمِ المَيْتَةِ وأنَّ المُرادَ بِالآيَةِ تَحْرِيمُها قَبْلَ الدِّباغِ، وما قَدَّمْنا مِن دَلالَةِ قَوْلِهِ: ﴿عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ﴾ [الأنعام: ١٤٥] أنَّ المُرادَ بِالآيَةِ فِيما يَتَأتّى فِيهِ الأكْلُ، والجِلْدُ بَعْدَ الدِّباغِ خارِجٌ عَنْ حَدِّ الأكْلِ، فَلَمْ يَتَناوَلْهُ التَّحْرِيمُ، ومَعَ ذَلِكَ فَإنَّ هَذِهِ الأخْبارَ لا مَحالَةَ بَعْدَ تَحْرِيمِ المَيْتَةِ، لَوْلا ذَلِكَ لَما رَمَوْا بِالشّاةِ المَيْتَةِ ولَما قالُوا: إنَّها مَيْتَةٌ، ولَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ ﷺ لِيَقُولَ: «إنَّما حُرِّمَ أكْلُها» فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ تَحْرِيمَ المَيْتَةِ مُقَدَّمٌ عَلى هَذِهِ الأخْبارِ، وأنَّ هَذِهِ الأخْبارَ مُبَيِّنَةٌ أنَّ الجِلْدَ بَعْدَ الدِّباغِ غَيْرُ مُرادٍ بِالآيَةِ، ولَمّا وافَقَنا مالِكٌ عَلى جَوازِ الِانْتِفاعِ بِهِ بَعْدَ الدِّباغِ فَقَدِ اسْتَعْمَلَ الأخْبارَ الوارِدَةَ في طَهارَتِها، ولا فَرْقَ في شَيْءٍ مِنها بَيْنَ افْتِراشِها والصَّلاةِ عَلَيْها وبَيْنَ أنْ تُباعَ أوْ يُصَلّى عَلَيْها، بَلْ في سائِرِ الأخْبارِ أنَّ دِباغَها ذَكاتُها، ودِباغَها طَهُورُها. وإذا كانَتْ مُذَكّاةً لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ الصَّلاةِ عَلَيْها وبَيْعُها وحُكْمُ افْتِراشِها والجُلُوسُ عَلَيْها كَسائِرِ جُلُودِ الحَيَوانِ المُذَكّاةِ، ألا تَرى أنَّها قَبْلَ الدِّباغِ باقِيَةٌ عَلى حُكْمِ التَّحْرِيمِ في امْتِناعِ جَوازِ الِانْتِفاعِ بِها مِن سائِرِ الوُجُوهِ كالِانْتِفاعِ بِلُحُومِها ؟ فَلَمّا اتَّفَقْنا عَلى خُرُوجِها عَنْ حُكْمِ المَيْتَةِ بَعْدَ الدِّباغِ فِيما وصَفْنا ثَبَتَ أنَّها مُذَكّاةٌ طاهِرَةٌ بِمَنزِلَةِ ذَكاةِ الأصْلِ. ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أيْضًا أنَّ التَّحْرِيمَ مُتَعَلِّقٌ بِكَوْنِها مَأْكُولَةً، وإذا خَرَجَ عَنْ حَدِّ الأكْلِ صارَ بِمَنزِلَةِ الثَّوْبِ والخَشَبِ ونَحْوِ ذَلِكَ. ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أيْضًا مُوافَقَةُ مالِكٍ إيّانا عَلى جَوازِ الِانْتِفاعِ بِشَعْرِ المَيْتَةِ وصُوفِها لِامْتِناعِ أكْلِهِ، وذَلِكَ مَوْجُودٌ في الجِلْدِ بَعْدَ الدِّباغِ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَها. فَإنْ قِيلَ: إنَّما جازَ ذَلِكَ في الشَّعْرِ والصُّوفِ؛ لِأنَّهُ يُؤْخَذُ مِنهُ في حالِ الحَياةِ. قِيلَ لَهُ: لَيْسَ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ ما ذَكَرْنا عِلَّةَ الإباحَةِ، وكَذَلِكَ ما ذَكَرْتَ، فَيَكُونُ لِلْإباحَةِ عِلَّتانِ: إحْداهُما: أنَّهُ لا يَتَأتّى فِيهِ الأكْلُ، والأُخْرى: أنَّهُ يُؤْخَذُ مِنهُ في حالِ الحَياةِ فَيَجُوزُ الِانْتِفاعُ بِهِ؛ لِأنَّ مُوجَبَهُما حُكْمٌ واحِدٌ. ومَتى عَلَّلْناهُ بِما وصَفْناهُ وجَبَ قِياسُ الجِلْدِ عَلَيْهِ. وإذا عَلَّلْتَهُ بِما وصَفْتَ كانَ مَقْصُورَ الحُكْمِ عَلى المَعْلُولِ، وقَدْ رَوى الحَكَمُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي لَيْلى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قالَ: «قُرِئَ عَلَيْنا كِتابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أنْ لا تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بِإهابٍ ولا عَصَبٍ» فاحْتَجَّ بِذَلِكَ مَن حَظَرَ جِلْدَ المَيْتَةِ بَعْدَ الدِّباغِ وغَيْرُ جائِزٍ مُعارَضَةُ الأخْبارِ الوارِدَةِ في الإباحَةِ (p-١٤٤)بِهَذا الخَبَرِ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ الأخْبارَ الَّتِي قَدَّمْناها في حَيِّزِ التَّواتُرِ المُوجِبِ لِلْعِلْمِ، وحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ ورَدَ مِن طَرِيقِ الآحادِ، وقَدْ رَوى عاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ قَيْسِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أبِي ثابِتٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي لَيْلى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قالَ: " كَتَبَ إلَيْنا عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ أنْ لا تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بِإهابٍ ولا عَصَبٍ " فَذَكَرَ في هَذا الحَدِيثِ أنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَيْهِمْ بِذَلِكَ، فَلا يَجُوزُ مُعارَضَةُ الأخْبارِ الَّتِي قَدَّمْنا بِمِثْلِهِ. ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّهُما لَوْ تَساوَيا في النَّقْلِ لَكانَ خَبَرُ الإباحَةِ أوْلى لِاسْتِعْمالِ النّاسِ لَهُ وتَلَقِّيهِمْ إيّاهُ بِالقَبُولِ. ووَجْهٌ آخَرُ: وهو أنَّ خَبَرَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ لَوِ انْفَرَدَ عَنْ مُعارَضَةِ الأخْبارِ الَّتِي قَدَّمْنا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ما يُوجِبُ تَحْرِيمَ الجِلْدِ بَعْدَ الدِّباغِ؛ لِأنَّهُ قالَ: " لا تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بِإهابٍ ولا عَصَبٍ " وهو إنَّما يُسَمّى إهابًا قَبْلَ الدِّباغِ، والمَدْبُوغُ لا يُسَمّى إهابًا وإنَّما يُسَمّى أدِيمًا فَلَيْسَ إذًا في هَذا الخَبَرِ ما يُوجِبُ تَحْرِيمَهُ بَعْدَ الدِّباغِ. وأمّا قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ في إباحَةِ بَيْعِ جِلْدِ المَيْتَةِ قَبْلَ الدِّباغِ فَقَوْلٌ خارِجٌ عَنِ اتِّفاقِ الفُقَهاءِ لَمْ يُتابِعْهُ عَلَيْهِ أحَدٌ، ومَعَ ذَلِكَ هو مُخالِفٌ لِقَوْلِهِ ﷺ: «لا تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بِإهابٍ ولا عَصَبٍ»؛ لِأنَّهُ قَبْلَ الدِّباغِ يُسَمّى إهابًا. والبَيْعُ مِن وُجُوهِ الِانْتِفاعِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مَحْظُورًا بِقَوْلِهِ: «لا تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بِإهابٍ ولا عَصَبٍ» قالَ أبُو بَكْرٍ: فَإنْ قالَ قائِلٌ: قَوْلُهُ ﷺ: «إنَّما حُرِّمَ مِنَ المَيْتَةِ أكْلُها» يَدُلُّ عَلى أنَّ التَّحْرِيمَ مَقْصُورٌ عَلى الأكْلِ دُونَ البَيْعِ قِيلَ لَهُ: فَيَنْبَغِي أنْ تُجِيزَ بَيْعَ لَحْمِها بِقَوْلِهِ: «إنَّما حُرِّمَ أكْلُها» فَإذا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ اللَّحْمِ مَعَ قَوْلِهِ: " إنَّما حُرِّمَ أكْلُها " كَذَلِكَ حُكْمُ الجِلْدِ قَبْلَ الدِّباغِ فَإنْ قالَ قائِلٌ: مَنَعْتَ بَيْعَ اللَّحْمِ بِقَوْلِهِ: " إنَّما حُرِّمَ أكْلُها " قِيلَ لَهُ: وامْنَعْ بَيْعَ الجِلْدِ بِقَوْلِهِ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ﴾ [المائدة: ٣]؛ لِأنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الجِلْدِ واللَّحْمِ وإنَّما خَصَّ مِن جُمْلَتِهِ المَدْبُوغَ مِنهُ دُونَ غَيْرِهِ. وأيْضًا فَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَباعُوها وأكَلُوا أثْمانَها» وإذا كانَ الجِلْدُ مُحَرَّمَ الأكْلِ قَبْلَ الدِّباغِ كَتَحْرِيمِ اللَّحْمِ، وجَبَ أنْ لا يَجُوزَ بَيْعُهُ كَبَيْعِ اللَّحْمِ نَفْسِهِ وكَبَيْعِ سائِرِ المُحَرَّماتِ لِأعْيانِها كالخَمْرِ والدَّمِ ونَحْوِهِما. وأمّا جِلْدُ الكَلْبِ فَيَلْحَقُهُ الدِّباغُ ويَطْهُرُ إذا كانَ مَيْتَةً، لِقَوْلِهِ ﷺ: «أيُّما إهابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» وقالَ: «دِباغُ الأدِيمِ ذَكاتُهُ» ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الكَلْبِ وغَيْرِهِ ولِأنَّهُ تَلْحَقُهُ الذَّكاةُ عِنْدَنا لَوْ ذُبِحَ لَكانَ طاهِرًا. فَإنْ قِيلَ: إذا كانَ نَجِسًا في حالِ الحَياةِ كَيْفَ يَطْهُرُ بِالدِّباغِ ؟ قِيلَ لَهُ: كَما يَكُونُ جِلْدُ المَيْتَةِ نَجِسًا ويُطَهِّرُهُ الدِّباغُ؛ لِأنَّ الدِّباغَ ذَكاتُهُ كالذَّبْحِ. وأمّا الخِنْزِيرُ فَلا تَلْحَقُهُ الذَّكاةُ؛ لِأنَّهُ مُحَرَّمُ العَيْنِ بِمَنزِلَةِ الخَمْرِ والدَّمِ (p-١٤٥)فَلا تَعْمَلُ فِيهِ الذَّكاةُ، ألا تَرى أنَّهُ لا يَجُوزُ الِانْتِفاعُ بِهِ في حالِ الحَياةِ والكَلْبُ يَجُوزُ الِانْتِفاعُ بِهِ في حالِ الحَياةِ ؟ فَلَيْسَ هو مُحَرَّمَ العَيْنِ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * بابُ تَحْرِيمِ الِانْتِفاعِ بِدُهْنِ المَيْتَةِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الخِنْزِيرِ﴾ وقالَ: ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلا أنْ يَكُونَ مَيْتَةً﴾ [الأنعام: ١٤٥] وهَذانِ الظّاهِرانِ يَحْظُرانِ دُهْنَ المَيْتَةِ كَما أوْجَبا حَظْرَ لَحْمِها وسائِرِ أجْزائِها. وقَدْ رَوى مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ عَنْ عَطاءٍ عَنْ جابِرٍ قالَ: «لَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَكَّةَ أتاهُ أصْحابُ الصَّلِيبِ الَّذِينَ يَجْمَعُونَ الأوْداكَ فَقالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ إنّا نَجْمَعُ هَذِهِ الأوْداكَ وهي مِنَ المَيْتَةِ وعَكْرِها وإنَّما هي لِلْأُدُمِ والسُّفُنِ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: قاتَلَ اللَّهُ اليَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَباعُوها وأكَلُوا أثْمانَها» فَنَهاهم عَنْ ذَلِكَ. فَأخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أنَّ تَحْرِيمَ اللَّهِ تَعالى إيّاها عَلى الإطْلاقِ قَدْ أوْجَبَ تَحْرِيمَ بَيْعِها كَما أوْجَبَ تَحْرِيمَ أكْلِها. وقَدْ ذُكِرَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطاءٍ أنَّهُ يَدْهُنُ بِشُحُومِ المَيْتَةِ ظُهُورَ السُّفُنِ، وهو قَوْلٌ شاذٌّ وقَدْ ورَدَ الأثَرُ بِتَحْرِيمِهِ واقْتَضى ظاهِرُ الآيَةِ حَظْرَهُ. * * * بابُ الفَأْرَةِ تَمُوتُ في السَّمْنِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ﴾ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ﴾ [المائدة: ٣] لَمْ يَقْتَضِ تَحْرِيمَ ما ماتَتْ فِيهِ مِنَ المائِعاتِ، وإنَّما اقْتَضى تَحْرِيمَ عَيْنِ المَيْتَةِ، وما جاوَرَ المَيْتَةَ فَلا يُسَمّى مَيْتَةً، فَلَمْ يَنْتَظِمْهُ لَفْظُ التَّحْرِيمِ. ولَكِنَّهُ مُحَرَّمُ الأكْلِ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ وهو ما رَوى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الفَأْرَةِ تَقَعُ في السَّمْنِ، فَقالَ ﷺ: إنْ كانَ جامِدًا فَألْقُوها وما حَوْلَها، وإنْ كانَ مائِعًا فَلا تَقْرَبُوهُ» ورَوى أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِثْلَهُ. ورَوى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ: «أنَّ فَأْرَةً وقَعَتْ في سَمْنٍ فَماتَتْ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ألْقُوها وما حَوْلَها ثُمَّ كُلُوهُ» . ورَوى عَبْدُ الجَبّارِ بْنُ عُمَرَ عَنِ ابْنِ شِهابٍ عَنْ سالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أنَّهُ «أخْبَرَهُ أنَّهُ كانَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَيْثُ سَألَهُ رَجُلٌ عَنْ فَأْرَةٍ وقَعَتْ في ودَكٍ لَهم فَقالَ: أجامِدٌ هو ؟ قالَ: نَعَمْ قالَ: اطْرَحُوها واطْرَحُوا ما حَوْلَها وكُلُوا ودَكَكم قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ مائِعٌ قالَ: فانْتَفِعُوا بِهِ ولا تَأْكُلُوهُ» فَأطْلَقَ النَّبِيُّ ﷺ جَوازَ الِانْتِفاعِ بِهِ مِن غَيْرِ جِهَةِ الأكْلِ. وهَذا يَقْتَضِي جَوازَ (p-١٤٦)بَيْعِهِ؛ لِأنَّهُ ضَرْبٌ مِن ضُرُوبِ الِانْتِفاعِ، ولَمْ يَخُصَّ النَّبِيُّ ﷺ شَيْئًا مِنهُ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وأبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ وأبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ والحَسَنِ في آخَرِينَ مِن السَّلَفِ جَوازُ الِانْتِفاعِ بِهِ مِن غَيْرِ جِهَةِ الأكْلِ، قالَ أبُو مُوسى: " بِيعُوهُ ولا تَطْعَمُوهُ " ولا نَعْلَمُ أحَدًا مِنَ الفُقَهاءِ مَنَعَ الِانْتِفاعَ بِهِ مِن جِهَةِ الِاسْتِصْباحِ ودَبْغِ الجُلُودِ ونَحْوِهِ. ويَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَ أصْحابِنا أيْضًا ويُبَيَّنُ عَيْبُهُ، وحُكِيَ عَنْ الشّافِعِيِّ أنَّ بَيْعَهُ لا يَجُوزُ ويَجُوزُ الِاسْتِصْباحُ بِهِ. وقَدْ رُوِيَ في حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ إطْلاقُ الِانْتِفاعِ مِن غَيْرِ تَخْصِيصٍ مِنهُ لِوَجْهٍ دُونَ وجْهٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ المُحَرَّمَ مِنهُ الأكْلُ دُونَ غَيْرِهِ، وأنَّ بَيْعَهُ جائِزٌ كَما يَجُوزُ بَيْعُ سائِرَ الأشْياءِ الَّتِي يَجُوزُ الِانْتِفاعُ بِها مِن نَحْوِ الحِمارِ والبَغْلِ، إذْ لَيْسَ لِهَذِهِ الأشْياءِ حَقٌّ في مَنعِ البَيْعِ، وهو مِمّا يَجُوزُ الِانْتِفاعُ بِهِ وهو غَيْرُ مُحَرَّمِ العَيْنِ. فَإنْ قِيلَ: يَجُوزُ الِانْتِفاعُ بِأُمِّ الوَلَدِ والمُدَبَّرِ ولا يَجُوزُ بَيْعُهُما قِيلَ لَهُ: هَذا لا يَلْزَمُ عَلى ما ذَكَرْنا؛ لِأنّا قَيَّدْنا المَعْنى بِأنَّهُ لا حَقَّ لِما جازَ الِانْتِفاعُ بِهِ مِن ذَلِكَ في مَنعِ بَيْعِهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ تَحْرِيمُ أكْلِهِ جَوازَ بَيْعِهِ مِن حَيْثُ جازَ الِانْتِفاعُ بِهِ مِن غَيْرِ جِهَةِ الأكْلِ ولا حَقَّ لَهُ في مَنعِ البَيْعِ. وأمّا المُدَبَّرُ وأُمُّ الوَلَدِ فَإنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُما حَقُّ العَتاقِ، وفي جَوازِ بَيْعِهِما إبْطالٍ لِحَقِّهِما، فَلِذَلِكَ مُنِعَ بَيْعُهُما مَعَ إطْلاقِ سائِرِ وُجُوهِ الِانْتِفاعِ فِيهِما. ولَيْسَ هَذا عِنْدَهم بِمَنزِلَةِ ودَكِ المَيْتَةِ؛ لِأنَّهُ مُحَرَّمُ العَيْنِ كَلَحْمِها مَمْنُوعٌ الِانْتِفاعُ بِهِ مِن سائِرِ الوُجُوهِ، ولَيْسَ ما ماتَ فِيهِ الفَأْرَةُ مِنَ المائِعاتِ بِمُحَرَّمِ العَيْنِ وإنَّما هو مُحَرَّمُ الأكْلِ لِمُجاوَرَتِهِ المَيْتَةَ، وسائِرُ وُجُوهِ المَنافِعِ مُطْلَقَةٌ فِيهِ سِوى الأكْلِ، فَكانَ بَيْعُهُ بِمَنزِلَةِ بَيْعِ الحِمارِ والبَغْلِ والكَلْبِ ونَحْوِهِ مِمّا يَجُوزُ الِانْتِفاعِ بِهِ ولا يَجُوزُ أكْلُهُ. وكَذَلِكَ الرَّقِيقُ يَجُوزُ بَيْعُهم كَسائِرِ مَنافِعِهِمْ. وقَدْ دَلَّ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ في أمْرِهِ بِإلْقاءِ الفَأْرَةِ وما حَوْلَها في الجامِدِ مِنهُ عَلى مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ ما كانَ نَجِسًا في نَفْسِهِ فَإنَّهُ يُنَجِّسُ بِالمُجاوَرَةِ لِحُكْمِهِ فِيما جاوَرَ الفَأْرَةَ مِنهُ بِالنَّجاسَةِ، وأنَّ ما يُنَجَّسُ بِالمُجاوَرَةِ لا يُنَجِّسُ ما جاوَرَهُ؛ إذْ لَمْ يَحْكم بِنَجاسَةِ السَّمْنِ المُجاوِرِ لِلسَّمْنِ النَّجِسِ؛ لِأنَّهُ لَوْ وجَبَ الحُكْمُ بِذَلِكَ لَوَجَبَ الحُكْمُ بِتَنْجِيسِ سائِرِ سَمْنِ الإناءِ بِمُجاوَرَةِ كُلِّ جُزْءٍ مِنهُ لِغَيْرِهِ. فَهَذا أصْلٌ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ، وكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى اخْتِلافِ مَراتِبِ النَّجاسَةِ في التَّغْلِيظِ والتَّخْفِيفِ وأنَّها لَيْسَتْ مُتَساوِيَةَ المَنازِلِ، فَجازَ مِن أجْلِ ذَلِكَ أنْ يُعْتَبَرَ في بَعْضِها أكْثَرُ مِن قَدْرِ الدِّرْهَمِ وفي بَعْضِها الكَثِيرُ الفاحِشُ عَلى حَسَبِ قِيامِ دَلالَةِ التَّخْفِيفِ والتَّغْلِيظِ، واللَّهُ أعْلَمُ بِالصَّوابِ. (p-١٤٧) * * * بابُ القِدْرِ يَقَعُ فِيها الطَّيْرُ فَيَمُوتُ ذَكَرَ أبُو جَعْفَرٍ الطَّحاوِيُّ قالَ: سَمِعْتُ أبا حازِمٍ القاضِيَ يُحَدِّثُ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ قالَ: كُنْتُ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأتاهُ ابْنُ المُبارَكِ بِهَيْئَةِ خُراسانِيٍّ، فَسَألَهُ عَنْ رَجُلٍ نَصَبَ لَهُ قِدْرًا فِيها لَحْمٌ عَلى النّارِ فَمَرَّ طَيْرٌ فَوَقَعَ فِيها فَماتَ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ لِأصْحابِهِ: ماذا تَرَوْنَ ؟ فَذَكَرُوا لَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ اللَّحْمَ يُؤْكَلُ بَعْدَما يُغْسَلُ ويُهْراقُ المَرَقُ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ: بِهَذا نَقُولُ ولَكِنْ هو عِنْدَنا عَلى شَرِيطَةٍ، فَإنْ كانَ وقَعَ فِيها في حالِ سُكُونِها فَكَما في هَذِهِ الرِّوايَةِ، وإنْ وقَعَ فِيها في حالِ غَلَيانِها لَمْ يُؤْكَلِ اللَّحْمُ ولا المَرَقُ. فَقالَ لَهُ ابْنُ المُبارَكِ: ولِمَ ذَلِكَ ؟ فَقالَ: لِأنَّهُ إذا سَقَطَ فِيها في حالِ غَلَيانِها فَماتَ فَقَدْ داخَلَتِ المَيْتَةُ اللَّحْمَ، وإذا وقَعَ في حالِ سُكُونِها فَماتَ فَإنَّ المَيْتَةَ وسَّخَتِ اللَّحْمَ. فَقالَ ابْنُ المُبارَكِ وعَقَدَ بِيَدِهِ ثَلاثِينَ: هَذا زِرَّيْنٌ، بِالفارِسِيَّةِ، يَعْنِي المَذْهَبَ. ورَوى ابْنُ المُبارَكِ عَنْ عَبّادِ بْنِ راشِدٍ عَنِ الحَسَنِ مِثْلَ جَوابِ أبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وقَدْ ذَكَرَ أبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِلَّةَ فَرْقِهِ بَيْنَ وُقُوعِهِ في حالِ الغَلَيانِ وحالِ السُّكُونِ، وهو فَرْقٌ ظاهِرٌ وقالَ ابْنُ وهْبٍ عَنْ مالِكٍ في الدَّجاجَةِ تَقَعُ في قِدْرِ اللَّحْمِ وهي تُطْبَخُ فَتَمُوتُ فِيها، قالَ: " لا أرى أنْ آكُلَ تِلْكَ القِدْرَ؛ لِأنَّ المَيْتَةَ قَدِ اخْتَلَطَتْ بِما كانَ في القِدْرِ " . وقالَ الأوْزاعِيُّ: " يُغْسَلُ اللَّحْمُ ويُؤْكَلُ " . وقالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: " لا يُؤْكَلُ ذَلِكَ اللَّحْمُ حَتّى يُغْسَلَ مِرارًا ويُغْلى عَلى النّارِ حَتّى يَذْهَبَ كُلُّ ما كانَ فِيهِ " . وقَدْ رَوى ابْنُ المُبارَكِ عَنْ عُثْمانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الباهِلِيِّ قالَ: حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في طَيْرٍ وقَعَ في قِدْرٍ فَماتَ فَقالَ: " يُهْراقُ المَرَقُ ويُؤْكَلُ اللَّحْمُ " ولَمْ يَذْكُرْ فِيهِ حالُ الغَلَيانِ. ورَوى مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْبانَ عَنِ السّائِبِ بْنِ خَبّابٍ: أنَّهُ كانَ لَهُ قِدْرٌ عَلى النّارِ فَسَقَطَتْ فِيها دَجاجَةٌ فَماتَتْ ونَضِجَتْ مَعَ اللَّحْمِ، فَسَألْتُ ابْنَ عَبّاسٍ فَقالَ: " اطْرَحِ المَيْتَةَ وأهْرِقِ المَرَقَ وكُلِ اللَّحْمَ، فَإنْ كَرِهْتَهُ فَأرْسِلْ إلَيَّ مِنهُ عُضْوًا أوْ عُضْوَيْنِ " . وهَذا أيْضًا لا دَلالَةَ فِيهِ عَلى حالِ الغَلَيانِ؛ لِأنَّهُ جائِزٌ أنْ يَكُونَ وقَعَتْ فِيهِ بَعْدَ سُكُونِ الغَلَيانِ والمَرَقُ حارٌّ فَنَضِجَتْ فِيهِ، واللَّهُ سُبْحانَهُ أعْلَمُ. * * * بابُ تَحْرِيمِ الدَّمِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ والدَّمَ﴾ وقالَ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ﴾ [المائدة: ٣] فَلَوْ لَمْ يَرِدْ في تَحْرِيمِهِ غَيْرُ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ لاقْتَضى ذَلِكَ تَحْرِيمَ سائِرِ الدِّماءِ قَلِيلِها وكَثِيرِها، فَلَمّا قالَ في آيَةٍ أُخْرى: ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلا أنْ يَكُونَ مَيْتَةً أوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ [الأنعام: ١٤٥] دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ المُحَرَّمَ مِنَ الدَّمِ هو المَسْفُوحُ دُونَ غَيْرِهِ. فَإنْ قالَ قائِلٌ: قَوْلُهُ: ﴿أوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ [الأنعام: ١٤٥] خاصٌّ فِيما كانَ مِنهُ عَلى هَذِهِ الصِّفَةِ، وقَوْلُهُ في الآيَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ عامٌّ في سائِرِ الدِّماءِ، فَوَجَبَ إجْراؤُهُ عَلى عُمُومِهِ؛ إذْ لَيْسَ في الآيَةِ ما يَخُصُّهُ. قِيلَ (p-١٥٢)لَهُ: قَوْلُهُ: ﴿أوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ [الأنعام: ١٤٥] جاءَ فِيهِ نَفْيٌ لِتَحْرِيمِ سائِرِ الدِّماءِ إلّا ما كانَ مِنهُ بِهَذا الوَصْفِ؛ لِأنَّهُ قالَ: ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ﴾ [الأنعام: ١٤٥] إلى قَوْلِهِ: ﴿أوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ [الأنعام: ١٤٥] وإذْ كانَ ذَلِكَ عَلى ما وصَفْنا لَمْ يَخْلُ مِن أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ والدَّمَ﴾ مُتَأخِّرًا عَنْ قَوْلِهِ: ﴿أوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ [الأنعام: ١٤٥] أوْ أنْ يَكُونا نَزَلا مَعًا. فَلَمّا عَدِمْنا تارِيخَ نُزُولِ الآيَتَيْنِ وجَبَ الحُكْمُ بِنُزُولِهِما مَعًا، فَلا يَثْبُتُ حِينَئِذٍ تَحْرِيمُ الدَّمِ إلّا مَعْقُودًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وهو أنْ يَكُونَ مَسْفُوحًا. وحَدَّثَنا أبُو القاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ المَرْوَزِيِّ قالَ: حَدَّثَنا الحُسَيْنُ بْنُ أبِي الرَّبِيعِ الجُرْجانِيُّ: أخْبَرَنا عَبْدُ الرَّزّاقِ قالَ: أخْبَرَنا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قالَ: لَوْلا هَذِهِ الآيَةُ: ﴿أوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ [الأنعام: ١٤٥] لاتَّبَعَ المُسْلِمُونَ مِنَ العُرُوقِ ما اتَّبَعَ اليَهُودُ. وحَدَثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قالَ: حَدَّثَنا الحَسَنُ قالَ: أخْبَرَنا عَبْدُ الرَّزّاقِ قالَ: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿أوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ [الأنعام: ١٤٥] قالَ: " حُرِّمَ مِنَ الدَّمِ ما كانَ مَسْفُوحًا، وأمّا اللَّحْمُ يُخالِطُهُ الدَّمُ فَلا بَأْسَ بِهِ " . ورَوى القاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عائِشَةَ، أنَّها سُئِلَتْ عَنِ الدَّمِ يَكُونُ في اللَّحْمِ والمَذْبَحِ قالَتْ: " إنَّما نَهى اللَّهُ عَنِ الدَّمِ المَسْفُوحِ " . ولا خِلافَ بَيْنَ الفُقَهاءِ في جَوازِ أكْلِ اللَّحْمِ مَعَ بَقاءِ أجْزاءِ الدَّمِ في العُرُوقِ؛ لِأنَّهُ غَيْرُ مَسْفُوحٍ، ألا تَرى أنَّهُ مَتى صُبَّ عَلَيْهِ الماءُ ظَهَرَتْ تِلْكَ الأجْزاءُ فِيهِ ؟ ولَيْسَ هو بِمُحَرَّمٍ؛ إذْ لَيْسَ هو مَسْفُوحًا ولِما وصَفْنا قالَ أصْحابُنا: " إنَّ دَمَ البَراغِيثِ والبَقِّ والذُّبابِ لَيْسَ بِنَجَسٍ " وقالُوا أيْضًا: " إنَّ دَمَ السَّمَكِ لَيْسَ بِنَجَسِ لِأنَّهُ يُؤْكَلُ بِدَمِهِ " . وقالَ مالِكٌ في دَمِ البَراغِيثِ: " إذا تَفاحَشَ غَسَلَهُ ويَغْسِلُ دَمَ الذُّبابِ ودَمَ السَّمَكِ " . وقالَ الشّافِعِيُّ: " لا يَفْسُدُ الوُضُوءُ إلّا أنْ تَقَعَ فِيهِ نَجاسَةٌ مِن دَمٍ أوْ بَوْلٍ أوْ غَيْرِهِ " فَعَمَّ الدِّماءَ كُلَّها. فَإنْ قالَ قائِلٌ: قَوْلُهُ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ﴾ [المائدة: ٣] وقَوْلُهُ: ﴿أوْ دَمًا مَسْفُوحًا﴾ [الأنعام: ١٤٥] يُوجِبُ تَحْرِيمَ دَمِ السَّمَكِ؛ لِأنَّهُ مَسْفُوحٌ. قِيلَ لَهُ: هَذا مَخْصُوصٌ بِقَوْلِهِ ﷺ: «أُحِلَّتْ لِي مَيْتَتانِ ودَمانِ: السَّمَكُ والجَرادُ» فَلَمّا أباحَ السَّمَكَ بِما فِيهِ مِنَ الدَّمِ مِن غَيْرِ إراقَةِ دَمِهِ، وقَدْ تَلَقّى المُسْلِمُونَ هَذا الخَبَرَ بِالقَبُولِ في إباحَةِ السَّمَكِ مِن غَيْرِ إراقَةِ دَمِهِ، وجَبَ تَخْصِيصُ الآيَةِ في إباحَةِ دَمِ السَّمَكِ؛ إذْ لَوْ كانَ مَحْظُورًا لَما حَلَّ دُونَ إراقَةِ دَمِهِ كالشّاةِ وسائِرِ الحَيَوانِ ذَواتِ الدِّماءِ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * بابُ تَحْرِيمِ الخِنْزِيرِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الخِنْزِيرِ﴾ وقالَ تَعالى: (p-١٥٣)﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ ولَحْمُ الخِنْزِيرِ﴾ [المائدة: ٣] وقالَ تَعالى: ﴿قُلْ لا أجِدُ في ما أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلا أنْ يَكُونَ مَيْتَةً أوْ دَمًا مَسْفُوحًا أوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ﴾ [الأنعام: ١٤٥] فَنَصَّ في هَذِهِ الآياتِ عَلى تَحْرِيمِ لَحْمِ الخِنْزِيرِ، والأُمَّةُ عَقَلَتْ مِن تَأْوِيلِهِ ومَعْناهُ مِثْلَ ما عَقَلَتْ مِن تَنْزِيلِهِ، واللَّحْمُ وإنْ كانَ مَخْصُوصًا بِالذِّكْرِ فَإنَّ المُرادَ جَمِيعُ أجْزائِهِ، وإنَّما خَصَّ اللَّحْمَ بِالذِّكْرِ؛ لِأنَّهُ أعْظَمُ مَنفَعَتِهِ وما يُبْتَغى مِنهُ، كَما نَصَّ عَلى تَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ عَلى المُحْرِمِ والمُرادُ حَظْرُ جَمِيعِ أفْعالِهِ في الصَّيْدِ، وخَصَّ القَتْلَ بِالذِّكْرِ؛ لِأنَّهُ أعْظَمُ ما يُقْصَدُ بِهِ الصَّيْدُ. وكَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ وذَرُوا البَيْعَ﴾ [الجمعة: ٩] فَخَصَّ البَيْعَ بِالنَّهْيِ؛ لِأنَّهُ كانَ أعْظَمَ ما يَبْتَغُونَ مِن مَنافِعِهِمْ والمَعْنِيُّ جَمِيعُ الأُمُورِ الشّاغِلَةِ عَنِ الصَّلاةِ. وإنَّما نَصَّ عَلى البَيْعِ تَأْكِيدًا لِلنَّهْيِ عَنِ الِاشْتِغالِ عَنِ الصَّلاةِ، كَذَلِكَ خَصَّ لَحْمَ الخِنْزِيرِ بِالنَّهْيِ تَأْكِيدًا لِحُكْمِ تَحْرِيمِهِ وحَظْرًا لِسائِرِ أجْزائِهِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ المُرادَ بِذَلِكَ جَمِيعُ أجْزائِهِ وإنْ كانَ النَّصُّ خاصًّا في لَحْمِهِ. وقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في جَوازِ الِانْتِفاعِ بِشَعْرِ الخِنْزِيرِ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ ومُحَمَّدٌ: " يَجُوزُ الِانْتِفاعُ لِلْخَرَزِ " . وقالَ أبُو يُوسُفَ: " أكْرَهُ الخَرَزَ بِهِ " ورُوِيَ عَنْهُ الإباحَةُ. وقالَ الأوْزاعِيُّ لا بَأْسَ أنْ يُخاطَ بِشَعْرِ الخِنْزِيرِ ويَجُوزُ لِلْخَرّازِ أنْ يَشْتَرِيَهُ ولا يَبِيعَهُ " . وقالَ الشّافِعِيُّ: " لا يَجُوزُ الِانْتِفاعُ بِشَعْرِ الخِنْزِيرِ " . قالَ أبُو بَكْرٍ: لَمّا كانَ المَنصُوصُ عَلَيْهِ في الكِتابِ مِنَ الخِنْزِيرِ لَحْمَهُ وكانَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِحُكْمِ تَحْرِيمِهِ عَلى ما بَيَّنّا، جازَ أنْ يُقالَ إنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ يَتَناوَلُ الشَّعْرَ وغَيْرَهُ، وجائِزٌ أنْ يُقالَ إنَّ التَّحْرِيمَ مُنْصَرِفٌ إلى ما كانَ فِيهِ الحَياةُ مِنهُ مِمّا لَمْ يَأْلَمْ بِأخْذِهِ مِنهُ، فَأمّا الشَّعْرُ فَإنَّهُ لَمّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَياةٌ لَمْ يَكُنْ مِن أجْزاءِ الحَيِّ فَلَمْ يَلْحَقْهُ حُكْمُ التَّحْرِيمِ كَما بَيَّنّا في شَعْرِ المَيْتَةِ، وأنَّ حُكْمَ المُذَكّى والمَيْتَةِ في الشَّعْرِ سَواءٌ، إلّا أنَّ مَن أباحَ الِانْتِفاعَ بِهِ مِن أصْحابِنا فَذَكَرَ أنَّهُ إنَّما أجازَهُ اسْتِحْسانًا، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ تَناوَلَ الجَمِيعَ عِنْدَهم بِما عَلَيْهِ مِنَ الشَّعْرِ. وإنَّما اسْتَحْسَنُوا إجازَةَ الِانْتِفاعِ بِهِ لِلْخَرَزِ دُونَ جَوازِ بَيْعِهِ وشِرائِهِ لَمّا شاهَدُوا المُسْلِمِينَ وأهْلَ العِلْمِ يُقِرُّونَ الأساكِفَةَ عَلى اسْتِعْمالِهِ مِن غَيْرِ نَكِيرٍ ظَهَرَ مِنهم عَلَيْهِمْ، فَصارَ هَذا عِنْدَهم إجْماعًا مِنِ السَّلَفِ عَلى جَوازِ الِانْتِفاعِ بِهِ، وظُهُورُ العَمَلِ مِنَ العامَّةِ في شَيْءٍ مَعَ إقْرارِ السَّلَفِ إيّاهم عَلَيْهِ وتَرْكِهِمُ النَّكِيرَ عَلَيْهِمْ يُوجِبُ إباحَتَهُ عِنْدَهم. وهَذا مِثْلُ ما قالُوا في إباحَةِ دُخُولِ الحَمّامِ مِن غَيْرِ شَرْطِ أُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ ولا مِقْدارٍ مَعْلُومٍ لِما يَسْتَعْمِلُهُ مِنَ الماءِ ولا مِقْدارِ مُدَّةِ لُبْثِهِ فِيهِ؛ لِأنَّ هَذا كانَ ظاهِرًا مُسْتَفِيضًا في عَهْدِ السَّلَفِ (p-١٥٤)مِن غَيْرِ مُنْكِرٍ بِهِ عَلى فاعِلِيهِ، فَصارَ ذَلِكَ إجْماعًا مِنهم. وكَذَلِكَ قالُوا في الِاسْتِصْناعِ إنَّهم أجازُوهُ لِعَمَلِ النّاسِ، ومُرادُهم فِيهِ إقْرارُ السَّلَفِ الكافَّةَ عَلى ذَلِكَ وتَرْكُهُمُ النَّكِيرَ عَلَيْهِمْ في اسْتِعْمالِهِ، فَصارَ ذَلِكَ أصْلًا في جَوازِهِ، ونَظائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في خِنْزِيرِ الماءِ، فَقالَ أصْحابُنا: " لا يُؤْكَلُ " . وقالَ مالِكٌ وابْنُ أبِي لَيْلى والشّافِعِيُّ والأوْزاعِيُّ: " لا بَأْسَ بِأكْلِ كُلِّ شَيْءٍ يَكُونُ في البَحْرِ " . وقالَ الشّافِعِيُّ: " لا بَأْسَ بِخِنْزِيرِ الماءِ " . ومِنهم مَن يُسَمِّيهِ حِمارَ الماءِ. وقالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: " لا يُؤْكَلُ إنْسانُ الماءِ ولا خِنْزِيرُ الماءِ " . قالَ أبُو بَكْرٍ: ظاهِرُ قَوْلِهِ ﴿ولَحْمَ الخِنْزِيرِ﴾ مُوجِبٌ لِحَظْرِ جَمِيعِ ما يَكُونُ مِنهُ في البَرِّ وفي الماءِ لِشُمُولِ الِاسْمِ لَهُ. فَإنْ قِيلَ: إنَّما يَنْصَرِفُ هَذا إلى خِنْزِيرِ البَرِّ؛ لِأنَّهُ الَّذِي يُسَمّى بِهَذا الِاسْمِ عَلى الإطْلاقِ، وخِنْزِيرُ الماءِ لا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ وإنَّما يُسَمّى بِهِ مُقَيَّدًا، واسْمُهُ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ في العادَةِ حِمارُ الماءِ. قِيلَ لَهُ: لا يَخْلُو خِنْزِيرُ الماءِ مِن أنْ يَكُونَ عَلى خِلْقَةِ خِنْزِيرِ البَرِّ وصِفَتِهِ أوْ عَلى غَيْرِ ذَلِكَ، فَإنْ كانَ عَلى هَذِهِ الخِلْقَةِ فَلا فَرْقَ بَيْنَهُما في إطْلاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ مِن قِبَلِ أنَّ كَوْنَهُ في الماءِ لا يُغَيِّرُ حُكْمَهُ إذا كانَ في مَعْناهُ وعَلى خِلْقَتِهِ إلّا أنْ تَقُومَ الدَّلالَةُ عَلى خُصُوصِهِ، وإنْ كانَ عَلى خِلْقَةٍ أُخْرى غَيْرِها ومِن أجْلِها يُسَمّى حِمارَ الماءِ فَكَأنَّهم إنَّما أجْرَوُا اسْمَ الخِنْزِيرِ عَلى ما لَيْسَ بِخِنْزِيرٍ، ومَعْلُومٌ أنَّ أحَدًا لَمْ يُخَطِّئْهم في التَّسْمِيَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ خِنْزِيرٌ عَلى الحَقِيقَةِ وأنَّ الِاسْمَ يَتَناوَلُهُ عَلى الإطْلاقِ، وتَسْمِيَتُهم إيّاهُ حِمارَ الماءِ لا يَسْلُبُهُ اسْمَ الخِنْزِيرِ؛ إذْ جائِزٌ أنْ يَكُونُوا سَمَّوْهُ بِذَلِكَ لِيُفَرِّقُوا بَيْنَهُ وبَيْنَ خِنْزِيرِ البَرِّ. وكَذَلِكَ كَلْبُ البَرِّ سَواءٌ لا فَرْقَ بَيْنَهُما؛ إذْ كانَ الِاسْمُ يَتَناوَلُ الجَمِيعَ وإنْ خالَفَهُ في بَعْضِ أوْصافِهِ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * بابُ تَحْرِيمِ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ ولا خِلافَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ أنَّ المُرادَ بِهِ الذَّبِيحَةُ إذا أُهِلَّ بِها لِغَيْرِ اللَّهِ عِنْدَ الذَّبْحِ، فَمِنَ النّاسِ مَن يَزْعُمُ أنَّ المُرادَ بِذَلِكَ ذَبائِحُ عَبَدَةِ الأوْثانِ الَّذِينَ كانُوا يَذْبَحُونَ لِأوْثانِهِمْ؛ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ﴾ [المائدة: ٣] وأجازُوا ذَبِيحَةَ النَّصْرانِيِّ إذا سَمّى عَلَيْها بِاسْمِ المَسِيحِ، وهو مَذْهَبُ عَطاءٍ ومَكْحُولٍ والحَسَنِ والشَّعْبِيِّ وسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، وقالُوا: " إنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ أباحَ أكْلَ ذَبائِحِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِأنَّهم يُهِلُّونَ بِاسْمِ المَسِيحِ عَلى ذَبائِحِهِمْ " . وهُوَ مَذْهَبُ الأوْزاعِيِّ واللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ أيْضًا. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ ومالِكٌ والشّافِعِيُّ: " لا تُؤْكَلُ (p-١٥٥)ذَبائِحُهم إذا سَمَّوْا عَلَيْها بِاسْمِ المَسِيحِ " . وظاهِرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ يُوجِبُ تَحْرِيمَها إذا سُمِّيَ عَلَيْها بِاسْمٍ غَيْرِ اللَّهِ؛ لِأنَّ الإهْلالَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ هو إظْهارُ غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ، ولَمْ تُفَرِّقِ الآيَةُ بَيْنَ تَسْمِيَةِ المَسِيحِ وبَيْنَ تَسْمِيَةِ غَيْرِهِ بَعْدَ أنْ يَكُونَ الإهْلالُ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ. وقَوْلُهُ في آيَةٍ أُخْرى: ﴿وما ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ﴾ [المائدة: ٣] وعادَةُ العَرَبِ في الذَّبائِحِ لِلْأوْثانِ غَيْرُ مانِعٍ اعْتِبارَ عُمُومِ الآيَةِ فِيما اقْتَضاهُ مِن تَحْرِيمِ ما سُمِّيَ عَلَيْهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعالى. وقَدْ رَوى عَطاءُ بْنُ السّائِبِ عَنْ زاذانَ ومَيْسَرَةَ، أنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ: " إذا سَمِعْتُمُ اليَهُودَ والنَّصارى يُهِلُّونَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَلا تَأْكُلُوا، وإذا لَمْ تَسْمَعُوهم فَكُلُوا فَإنَّ اللَّهَ قَدْ أحَلَّ ذَبائِحَهم " وهو يَعْلَمُ ما يَقُولُونَ وأمّا ما احْتَجَّ بِهِ القائِلُونَ بِإباحَةِ ذَلِكَ لِإباحَةِ اللَّهِ طَعامَ أهْلِ الكِتابِ مَعَ عِلْمِهِ بِما يَقُولُونَ، فَلَيْسَ فِيهِ دَلالَةٌ عَلى ما ذَكَرُوا؛ لِأنَّ إباحَةَ طَعامِ أهْلِ الكِتابِ مَعْقُودَةٌ بِشَرِيطَةِ أنْ لا يُهِلُّوا لِغَيْرِ اللَّهِ؛ إذْ كانَ الواجِبُ عَلَيْنا اسْتِعْمالَ الآيَتَيْنِ بِمَجْمُوعِهِما، فَكَأنَّهُ قالَ: وطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حِلٌّ لَكم ما لَمْ يُهِلُّوا بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ. فَإنْ قالَ قائِلٌ: إنَّ النَّصْرانِيَّ إذا سَمّى اللَّهَ فَإنَّما يُرِيدُ بِهِ المَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَإذا كانَ إرادَتُهُ كَذَلِكَ ولَمْ تَمْنَعْ صِحَّةَ ذَبِيحَتِهِ وهو مَعَ ذَلِكَ مُهِلٌّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، كَذَلِكَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ حُكْمُهُ إذا أظْهَرَ ما يُضْمِرُهُ عِنْدَ ذِكْرِ اللَّهِ تَعالى في إرادَتِهِ المَسِيحَ. قِيلَ لَهُ: لا يَجِبُ ذَلِكَ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى إنَّما كَلَّفَنا حُكْمَ الظّاهِرِ؛ لِأنَّ الإهْلالَ هو إظْهارُ القَوْلِ، فَإذا أظْهَرَ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ لَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُ لِقَوْلِهِ: ﴿وما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ وإذا أظْهَرَ اسْمَ اللَّهِ فَغَيْرُ جائِزٍ لَنا حَمْلُهُ عَلى اسْمِ المَسِيحِ عِنْدَهُ؛ لِأنَّ حُكْمَ الأسْماءِ أنْ تَكُونَ مَحْمُولَةً عَلى حَقائِقِها ولا تُحْمَلُ عَلى ما لا يَقَعُ الِاسْمُ عَلَيْهِ عِنْدَنا ولا يَسْتَحِقُّهُ. ومَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أنْ تَكُونَ العِبادَةُ عَلَيْنا في اعْتِبارِ إظْهارِ الِاسْمِ دُونَ الضَّمِيرِ، ألا تَرى أنَّ مَن أظْهَرَ القَوْلَ بِالتَّوْحِيدِ وتَصْدِيقِ الرَّسُولِ ﷺ كانَ حُكْمُهُ حُكْمَ المُسْلِمِينَ مَعَ جَوازِ اعْتِقادِهِ لِلتَّشْبِيهِ المُضادِّ لِلتَّوْحِيدِ ؟ وكَذَلِكَ قالَ ﷺ: «أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حَتّى يَقُولُوا لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، فَإذا قالُوها عَصَمُوا مِنِّي دِماءَهم وأمْوالَهم إلّا بِحَقِّها وحِسابُهم عَلى اللَّهِ» وقَدْ أعْلَمَهُ اللَّهُ أنَّ في القَوْمِ مُنافِقِينَ يَعْتَقِدُونَ غَيْرَ ما يُظْهِرُونَ، ولَمْ يُجْرِهِمْ مَعَ ذَلِكَ مَجْرى سائِرِ المُشْرِكِينَ بَلْ حَكَمَ لَهم فِيما يُعامَلُونَ بِهِ مِن أحْكامِ الدُّنْيا بِحُكْمِ سائِرِ المُسْلِمِينَ عَلى ما ظَهَرَ مِن أُمُورِهِمْ دُونَ ما بَطَنَ مِن ضَمائِرِهِمْ. وكَذَلِكَ جائِزٌ أنْ تَكُونَ صِحَّةُ ذَكاةِ النَّصْرانِيِّ مُتَعَلِّقَةً بِإظْهارِ اسْمِ اللَّهِ تَعالى، وأنَّهُ مَتى أظْهَرَ اسْمَ المَسِيحِ لَمْ تَصِحَّ ذَكاتُهُ، كَسائِرِ المُشْرِكِينَ إذا أظْهَرُوا عَلى ذَبائِحِهِمْ (p-١٥٦)أسْماءَ أوْثانِهِمْ واللَّهُ أعْلَمُ. * * * بابُ ذِكْرِ الضَّرُورَةِ المُبِيحَةِ لِأكْلِ المَيْتَةِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ وقالَ في آيَةٍ أُخْرى: ﴿وقَدْ فَصَّلَ لَكم ما حَرَّمَ عَلَيْكم إلا ما اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١١٩] وقالَ: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لإثْمٍ فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: ٣] فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى الضَّرُورَةَ في هَذِهِ الآياتِ، وأطْلَقَ الإباحَةَ في بَعْضِها بِوُجُودِ الضَّرُورَةِ مِن غَيْرِ شَرْطٍ ولا صِفَةٍ، وهو قَوْلُهُ: ﴿وقَدْ فَصَّلَ لَكم ما حَرَّمَ عَلَيْكم إلا ما اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١١٩] فاقْتَضى ذَلِكَ وُجُودَ الإباحَةِ بِوُجُودِ الضَّرُورَةِ في كُلِّ حالٍ وُجِدَتِ الضَّرُورَةَ فِيها. واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ﴾ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ ومَسْرُوقٌ: ﴿غَيْرَ باغٍ﴾ في المَيْتَةِ ﴿ولا عادٍ﴾ في الأكْلِ. وهو قَوْلُ أصْحابِنا ومالِكِ بْنِ أنَسٍ. وأباحُوا لِلْبُغاةِ الخارِجِينَ عَلى المُسْلِمِينَ أكْلَ المَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَما أباحُوهُ لِأهْلِ العَدْلِ. وقالَ مُجاهِدٌ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرِ: " إذا لَمْ يَخْرُجْ باغِيًا عَلى إمامِ المُسْلِمِينَ ولَمْ يَكُنْ سَفَرُهُ في مَعْصِيَةٍ فَلَهُ أنْ يَأْكُلَ المَيْتَةَ إذا اضْطُرَّ إلَيْها، وإنْ كانَ سَفَرُهُ في مَعْصِيَةٍ أوْ كانَ باغِيًا عَلى الإمامِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أنْ يَأْكُلَ " . وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ. وقَوْلُهُ: ﴿إلا ما اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١١٩] يُوجِبُ الإباحَةَ لِلْجَمِيعِ مِنَ المُطِيعِينَ والعُصاةِ، وقَوْلُهُ في الآيَةِ الأُخْرى: ﴿غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ﴾ وقَوْلُهُ: ﴿غَيْرَ مُتَجانِفٍ لإثْمٍ﴾ [المائدة: ٣] لَمّا كانَ مُحْتَمِلًا أنْ يُرِيدَ بِهِ البَغْيَ والعُدْوانَ في الأكْلِ واحْتَمَلَ البَغْيَ عَلى الإمامِ أوْ غَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ لَنا تَخْصِيصُ عُمُومِ الآيَةِ الأُخْرى بِالِاحْتِمالِ، بَلِ الواجِبُ حَمْلُهُ عَلى ما يُواطِئُ مَعْنى العُمُومِ مِن غَيْرِ تَخْصِيصٍ. وأيْضًا فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ سَفَرُهُ في مَعْصِيَةٍ بَلْ كانَ سَفَرُهُ لِحَجٍّ أوْ غَزْوٍ أوْ تِجارَةٍ وكانَ مَعَ ذَلِكَ باغِيًا عَلى رَجُلٍ في أخْذِ مالِهِ أوْ عادِيًا في تَرْكِ صَلاةٍ أوْ زَكاةٍ، لَمْ يَكُنْ ما هو عَلَيْهِ مِنَ البَغْيِ والعُدْوانِ مانِعًا مِنِ اسْتِباحَةِ المَيْتَةِ لِلضَّرُورَةِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ﴾ لَمْ يُرِدْ بِهِ انْتِفاءَ البَغْيِ والعُدْوانِ في سائِرِ الوُجُوهِ، ولَيْسَ في الآيَةِ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنهُ مَخْصُوصٍ فَيُوجِبُ ذَلِكَ كَوْنَ اللَّفْظِ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلى البَيانِ، فَلا يَجُوزُ تَخْصِيصُ الآيَةِ الأُولى بِهِ لِتَعَذُّرِ اسْتِعْمالِهِ عَلى حَقِيقَتِهِ وظاهِرِهِ. ومَتى حَمَلْنا ذَلِكَ عَلى البَغْيِ والتَّعَدِّي في الأكْلِ اسْتَعْمَلْنا اللَّفْظَ عَلى عُمُومِهِ وحَقِيقَتِهِ فِيما أُرِيدَ بِهِ ووَرَدَ فِيهِ، فَكانَ حَمْلُهُ عَلى ذَلِكَ أوْلى مِن وجْهَيْنِ: أحَدِهِما: أنَّهُ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا عَلى عُمُومِهِ، والآخَرِ: أنّا لا نُوجِبُ بِهِ تَخْصِيصَ قَوْلِهِ: ﴿إلا ما اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١١٩] (p-١٥٧)وكَذَلِكَ: ﴿غَيْرَ مُتَجانِفٍ لإثْمٍ﴾ [المائدة: ٣] لا يَخْلُو مِن أنْ يُرِيدَ بِهِ مُجانَبَةَ سائِرِ الآثامِ حَتّى يَكُونَ شَرْطُ الإباحَةِ لِلْمُضْطَرِّ أنْ يَكُونَ "غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإثْمٍ" أصْلًا في الأكْلِ وغَيْرِهِ، حَتّى إنْ كانَ مُقِيمًا عَلى تَرْكِ رَدِّ مَظْلِمَةِ دِرْهَمٍ أوْ تَرْكِ صَلاةٍ أوْ صَوْمٍ لَمْ يَتُبْ مِنهُ لا يَحِلُّ لَهُ الأكْلُ، أوْ أنْ يَكُونَ جائِزٌ لَهُ الأكْلُ مَعَ كَوْنِهِ مُقِيمًا عَلى ضَرْبٍ مِنَ المَعاصِي بَعْدَ أنْ لا يَكُونَ سَفَرُهُ في مَعْصِيَةٍ ولا خارِجًا عَلى إمامٍ. وقَدَ ثَبَتَ عِنْدَ الجَمِيعِ أنَّ إقامَتَهُ عَلى بَعْضِ المَعاصِي لا تَمْنَعُ اسْتِباحَتَهُ لِلْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَثَبَتَ أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُرادٍ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُحْتاجُ في إثْباتِ المَأْثَمِ الَّذِي يَمْنَعُ الِإسْتِباحَةَ إلى دَلالَةٍ مِن غَيْرِ الآيَةِ. وهَذا يُوجِبُ إجْمالَ اللَّفْظِ وافْتِقارَهُ إلى البَيانِ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلى وُقُوفِ حُكْمِ الآيَةِ عَلى بَيانٍ مِن غَيْرِها، ومَتى أمْكَنَنا اسْتِعْمالُ حُكْمِ الآيَةِ وجَبَ عَلَيْنا اسْتِعْمالُها، وجِهَةُ إمْكانِ اسْتِعْمالِها ما وصَفْنا مِن إثْباتِ المُرادِ بَغْيًا وتَعَدِّيًا في الأكْلِ بِأنْ لا يَتَناوَلَ مِنها إلّا بِمِقْدارِ ما يُمْسِكُ الرَّمَقَ ويُزِيلُ خَوْفَ التَّلَفِ. وأيْضًا قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] ومَن امْتَنَعَ مِنَ المُباحِ حَتّى ماتَ كانَ قاتِلًا نَفْسَهُ مُتْلِفًا لَها عِنْدَ جَمِيعِ أهْلِ العِلْمِ ولا يَخْتَلِفُ في ذَلِكَ عِنْدَهم حُكْمُ العاصِي والمُطِيعِ. بَلْ يَكُونُ امْتِناعُهُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ الأكْلِ زِيادَةً عَلى عِصْيانِهِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ حُكْمُهُ وحُكْمُ المُطِيعِ سَواءً في اسْتِباحَةِ الأكْلِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، ألا تَرى أنَّهُ لَوِ امْتَنَعَ مِن أكْلِ المُباحِ مِنَ الطَّعامِ مَعَهُ حَتّى ماتَ كانَ عاصِيًا لِلَّهِ تَعالى وإنْ كانَ باغِيًا عَلى الإمامِ خارِجًا في سَفَرِ مَعْصِيَةٍ، والمَيْتَةُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِمَنزِلَةِ المُذَكّى في حالِ الإمْكانِ والسَّعَةِ. فَإنْ قِيلَ: قَدْ يُمْكِنُهُ الوُصُولُ إلى اسْتِباحَةِ أكْلِ المَيْتَةِ بِالتَّوْبَةِ، فَإذا لَمْ يَتُبْ فَهو الجانِي عَلى نَفْسِهِ. قِيلَ لَهُ: أجَلْ، هو كَما قُلْتَ، إلّا أنَّهُ غَيْرُ مُباحٍ لَهُ الجِنايَةُ عَلى نَفْسِهِ بِتَرْكِ الأكْلِ وإنْ لَمْ يَتُبْ؛ لِأنَّ تَرْكَ التَّوْبَةِ لا يُبِيحُ لَهُ قَتْلَ نَفْسِهِ؛ وهَذا العاصِي مَتى تَرَكَ الأكْلَ في حالِ الضَّرُورَةِ حَتّى ماتَ كانَ مُرْتَكِبًا لِضَرْبَيْنِ مِنَ المَعْصِيَةِ: أحَدُهُما: خُرُوجُهُ في مَعْصِيَةٍ، والثّانِي: جِنايَتُهُ عَلى نَفْسِهِ بِتَرْكِ الأكْلِ. وأيْضًا فالمُطِيعُ والعاصِي لا يَخْتَلِفانِ فِيما يَحِلُّ لَهُما مِنَ المَأْكُولاتِ أوْ يُحَرَّمُ، ألا تَرى أنَّ سائِرَ المَأْكُولاتِ الَّتِي هي مُباحَةٌ لِلْمُطِيعِينَ هي مُباحَةٌ لِلْعُصاةِ كَسائِرِ الأطْعِمَةِ والأشْرِبَةِ المُباحَةِ ؟ وكَذَلِكَ ما حُرِّمَ مِنَ الأطْعِمَةِ والأشْرِبَةِ لا يَخْتَلِفُ في تَحْرِيمِهِ حُكْمُ المُطِيعِينَ والعُصاةِ، فَلَمّا كانَتِ المَيْتَةُ مُباحَةً لِلْمُطِيعِينَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وجَبَ أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ العُصاةِ فِيها كَسائِرِ الأطْعِمَةِ المُباحَةِ في غَيْرِ حالِ الضَّرُورَةِ. فَإنْ قالَ قائِلٌ: إباحَةُ المَيْتَةِ رُخْصَةٌ لِلْمُضْطَرِّ ولا رُخْصَةَ لِلْعاصِي. (p-١٥٨)قِيلَ لَهُ: قَدِ انْتَظَمَتْ هَذِهِ المُعارَضَةُ الخَطَأ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: قَوْلُكَ " إباحَةُ المَيْتَةِ رُخْصَةٌ لِلْمُضْطَرِّ "؛ وذَلِكَ لِأنَّ أكْلَ المَيْتَةِ فَرْضٌ عَلى المُضْطَرِّ والِاضْطِرارُ يُزِيلُ الحَظْرَ، ومَتى امْتَنَعَ المُضْطَرُّ مِن أكْلِها حَتّى ماتَ صارَ قاتِلًا لِنَفْسِهِ، بِمَنزِلَةِ مَن تَرَكَ أكْلَ الخُبْزِ وشُرْبَ الماءِ في حالِ الإمْكانِ حَتّى ماتَ كانَ عاصِيًا لِلَّهِ جانِيًا عَلى نَفْسِهِ. ولا خِلافَ في أنَّ هَذا حُكْمُ المُضْطَرِّ إلى المَيْتَةِ غَيْرِ الباغِي. فَقَوْلُ القائِلِ: " إباحَةُ المَيْتَةِ رُخْصَةٌ لِلْمُضْطَرِّ " بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ لَوْ قالَ: " إنَّ إباحَةَ أكْلِ الخُبْزِ وشُرْبِ الماءِ رَخْصَةٌ لِغَيْرِ المُضْطَرِّ " ولا يُطْلِقُ هَذا أحَدٌ يَعْقِلُ؛ لِأنَّ النّاسَ كُلَّهم يَقُولُونَ: فُرِضَ عَلى المُضْطَرِّ إلى المَيْتَةِ أكْلُها، فَلا فَرْقَ بَيْنَهُما؛ ولَمّا لَمْ يَخْتَلِفِ العاصِي والمُطِيعِ في أكْلِ الخُبْزِ وشُرْبِ الماءِ كَذَلِكَ في أكْلِ المَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وأمّا الوَجْهُ الثّانِي مِنَ الخَطَأِ فَهو قَوْلُكَ: " إنَّهُ لا رُخْصَةَ لِلْعاصِي " وهَذِهِ قَضِيَّةٌ فاسِدَةٌ بِإجْماعِ المُسْلِمِينَ؛ لِأنَّهم رَخَّصُوا لِلْمُقِيمِ العاصِي الإفْطارَ في رَمَضانَ إذا كانَ مَرِيضًا، وكَذَلِكَ يُرَخِّصُونَ لَهُ في السَّفَرِ التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ الماءِ، ويُرَخِّصُونَ لِلْمُقِيمِ العاصِي أنْ يَمْسَحَ يَوْمًا ولَيْلَةً. وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ «أنَّهُ رَخَّصَ لِلْمُقِيمِ يَوْمًا ولَيْلَةً ولِلْمُسافِرِ ثَلاثَةَ أيّامٍ ولَيالِيَها» . ولَمْ يُفَرِّقْ فِيهِ بَيْنَ العاصِي والمُطِيعِ؛ فَبانَ بِما وصَفْنا فَسادُ هَذِهِ المَقالَةِ. وقَوْلُهُ: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ وقَوْلُهُ: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لإثْمٍ فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: ٣] كُلُّ واحِدٍ مِن هَذَيْنِ فِيهِ ضَمِيرٌ لا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الكَلامُ؛ وذَلِكَ لِأنَّ وُقُوعَ الضَّرُورَةِ لَيْسَ مِن فِعْلِ المُضْطَرِّ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ وقَوْلُهُ: ﴿فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: ٣] خَبَرًا لَهُ. وقَوْلُهُ: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾ لا بُدَّ لَهُ مِن خَبَرٍ بِهِ يَتِمُّ الكَلامُ، إذْ لَمْ يَكُنِ الحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِنَفْسِ الضَّرُورَةِ، وخَبَرُهُ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ الكَلامُ ضَمِيرُهُ وهو الأكْلُ، فَكَأنَّ تَقْدِيرَهُ " فَمَنِ اضْطُرَّ فَأكَلَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ " ثُمَّ قَوْلُهُ: ﴿غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ﴾ عَلى قَوْلِ مَن يَقُولُ ﴿غَيْرَ باغٍ﴾ في المَيْتَةِ ﴿ولا عادٍ﴾ في الأكْلِ، فَيَكُونُ البَغْيُ والعُدْوانُ حالًا لِلْأكْلِ، وتَقْدِيرُهُ عَلى قَوْلِ مَن يَقُولُ: ﴿غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ﴾ عَلى المُسْلِمِينَ، فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ عَلى المُسْلِمِينَ فَأكَلَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ البَغْيُ والعُدْوانُ حالًا لَهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ قَبْلَ أنْ يَأْكُلَ، فَلا يَكُونُ ذَلِكَ صِفَةً لِلْأكْلِ، وعِنْدَ الأوَّلِينَ يَكُونُ صِفَةً لِلْأكْلِ. والحَذْفُ في هَذا المَوْضِعِ كالحَذْفِ في قَوْلِهِ: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٤] والمَعْنى: فَأفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ فَحَذَفَ " فَأفْطَرَ " . وقَوْلُهُ: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أوْ بِهِ أذًى مِن رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِن صِيامٍ﴾ [البقرة: ١٩٦] ومَعْناهُ: " فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ " وإنَّما جازَ الحَذْفُ لِعِلْمِ المُخاطَبِينَ بِالمَحْذُوفِ (p-١٥٩)ودَلالَةِ الخِطابِ عَلَيْهِ. وهَذا يُوجِبُ أنْ يَكُونَ حَمْلُهُ عَلى البَغْيِ والعُدْوانِ في الأكْلِ أوْلى مِنهُ عَلى المُسْلِمِينَ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِلْمُسْلِمِينَ في الآيَةِ ذِكْرٌ لا مَحْذُوفًا ولا مَذْكُورًا كَحَذْفِ الأكْلِ، فَحَمْلُهُ عَلى ما في مُقْتَضى الآيَةِ بِأنْ يَكُونَ حالًا لَهُ فِيهِ وصِفَةً أوْلى مِن حَمْلِهِ عَلى مَعْنًى لَمْ يَتَضَمَّنْهُ اللَّفْظُ لا مَحْذُوفًا ولا مَذْكُورًا. وأمّا قَوْلُهُ: ﴿إلا ما اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١١٩] فَلا ضَمِيرَ فِيهِ ولا حَذْفَ؛ لِأنَّهُ لَفْظٌ مُسْتَغْنٍ بِنَفْسِهِ؛ إذْ هو اسْتِثْناءٌ مِن جُمْلَةٍ مَفْهُومَةِ المَعْنى وهو التَّحْرِيمُ بِقَوْلِهِ: ﴿وقَدْ فَصَّلَ لَكم ما حَرَّمَ عَلَيْكم إلا ما اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١١٩] فَإنَّهُ مُباحٌ لَكم وهَذا اللَّفْظُ مُسْتَغْنٍ عَنِ الضَّمِيرِ. ومَعْنى الضَّرُورَةِ هاهُنا هو خَوْفُ الضَّرَرِ عَلى نَفْسِهِ أوْ بَعْضِ أعْضائِهِ بِتَرْكِهِ الأكْلَ. وقَدِ انْطَوى تَحْتَهُ مَعْنَيانِ: أحَدُهُما: أنْ يَحْصُلَ في مَوْضِعٍ لا يَجِدُ غَيْرَ المَيْتَةِ، والثّانِي: أنْ يَكُونَ غَيْرُها مَوْجُودًا ولَكِنَّهُ أُكْرِهَ عَلى أكْلِها بِوَعِيدٍ يَخافُ مِنهُ تَلَفَ نَفْسِهِ أوْ تَلَفَ بَعْضِ أعْضائِهِ. وكِلا المَعْنَيَيْنِ مُرادٌ بِالآيَةِ عِنْدَنا لِاحْتِمالِهِما، وقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّهُ تَأوَّلَها عَلى ضَرُورَةِ الإكْراهِ؛ لِأنَّهُ إذا كانَ المَعْنى في ضَرُورَةِ المَيْتَةِ ما يَخافُ عَلى نَفْسِهِ مِنَ الضَّرَرِ في تَرْكِ تَناوُلِهِ وذَلِكَ مَوْجُودٌ في ضَرُورَةِ الإكْراهِ وجَبَ أنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ، ولِذَلِكَ قالَ أصْحابُنا فِيمَن أُكْرِهَ عَلى أكْلِ المَيْتَةِ فَلَمْ يَأْكُلْها حَتّى قُتِلَ كانَ عاصِيًا لِلَّهِ، كَمَنِ اضْطُرَّ إلى مَيْتَةٍ بِأنْ عَدِمَ غَيْرَها مِنَ المَأْكُولاتِ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتّى ماتَ كانَ عاصِيًا، كَمَن تَرَكَ الطَّعامَ والشَّرابَ وهو واجِدُهُما حَتّى ماتَ فَيَمُوتُ عاصِيًا لِلَّهِ بِتَرْكِهِ الأكْلَ؛ لِأنَّ أكْلَ المَيْتَةِ مُباحٌ في حالِ الضَّرُورَةِ كَسائِرِ الأطْعِمَةِ في غَيْرِ حالِ الضَّرُورَةِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب