الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: لا تُحرموا على أنفسكم ما لم أحرمه عليكم أيها المؤمنون بالله وبرسوله منَ البحائر والسوائب ونحو ذلك، بَل كلوا ذلك، فإني لم أحرم عليكم غير الميتة والدم ولحم الخنزير، ومَا أهلّ به لغيري. * * * ومعنى قوله:"إنما حَرَّم عليكم الميتة"، ما حرَّم عليكم إلا الميتة. "وإنما": حرف واحدٌ، ولذلك نصبت"الميتة والدم"، وغير جائز في"الميتة" إذا جعلت"إنما" حرفًا واحدًا - إلا النصب. ولو كانت"إنما" حرفين، وكانت منفصلة من"إنّ"، لكانت"الميتة" مرفوعة وما بعدها. وكان تأويل الكلام حينئذ: إنّ الذي حرم الله عليكم من المطاعم الميتةُ والدمُ ولحمُ الخنزير، لا غير ذلك. [[انظر تفصيل هذا في معاني القرآن للفراء ١: ١٠٢-١٠٣.]] وقد ذُكر عن بعض القراء أنه قرأ ذلك كذلك، على هذا التأويل. ولست للقراءة به مستجيزًا =وإن كان له في التأويل والعربية وَجه مفهومٌ- لاتفاق الحجة من القراء على خلافه. فغيرُ جائز لأحد الاعتراض عليهم فيما نقلوه مجمعين عليه. * * * ولو قرئ في"حرّم" بضم الحاء من"حرّم"، لكان في"الميتة" وجهان من الرفع. أحدهما: من أن الفاعل غير مسمى،"وإنما" حرفٌ واحد. والآخر:"إن" و"ما" في معنى حرفين، و"حرِّم" من صلة"ما"،"والميتة" خبر"الذي" مرفوع على الخبر. ولست، وإن كان لذلك أيضًا وجه، مستجيزًا للقراءة به، لما ذكرت. * * * وأما"الميتة"، فإن القرأةَ مختلفة في قراءتها. فقرأها بعضهم بالتخفيف، ومعناه فيها التشديد، ولكنه يُخففها كما يخفف القائلون في:"هو هيّن ليّن""الهيْن الليْن"، [[في المطبوعة: "القائلون وهو هين لين. . . "، وكأن الصواب ما أثبت.]] كما قال الشاعر: [[هو عدي بن الرعلاء الغساني، والرعلاء أمه.]] لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ ... إِنَّمَا المَيْتُ مَيِّتُ الأحْيَاءِ [[الأصمعيات: ٥، ومعجم الشعراء: ٢٥٢، وتهذيب الألفاظ: ٤٤٨، واللسان (موت) وحماسة ابن الشجرى: ٥١، والخزانة ٤: ١٨٧، وشرح شواهد المغني: ١٣٨. من أبيات جيدة صادقة، يقول بعده: إِنَّمَا المَيْتُ مَنْ يَعِيشُ ذَلِيلاً ... كَاسِفًا بَالُهُ قَلِيلَ الرّجَاءِ فَأُنَاسٌ يُمَصَّصُونَ ثِمَادًا ... وَأُنَاسٌ حُلُوقُهُمْ فِي المَاء الثماد الماء القليل يبقى في الحفر. وما أصدق ما قال هذا الأبي الحر.]] فجمع بين اللغتين في بيت واحد، في معنى واحد. وقرأها بعضهم بالتشديد، وحملوها على الأصل، وقالوا: إنما هو"مَيْوِت"،"فيعل"، من الموت. ولكن"الياء" الساكنة و"الواو" المتحركة لما اجتمعتا،"والياء" مع سكونها متقدمة، قلبت"الواو""ياء" وشددت، فصارتا"ياء" مشددة، كما فعلوا ذلك في"سيد وجيد". قالوا: ومن خففها، فإنما طلب الخفة. والقراءةُ بها على أصلها الذي هو أصلها أولى. * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن التخفيف والتشديد في"ياء""الميتة" لغتان معروفتان في القراءة وفي كلام العرب، فبأيهما قرأ ذلك القارئ فمصيب. لأنه لا اختلاف في معنييهما. * * * وأما قوله:"وَمَا أهِلَّ به لغير الله"، فإنه يعني به: وما ذُبح للآلهة والأوثان يُسمى عليه بغير اسمه، أو قُصد به غيرُه من الأصنام. وإنما قيل:"وما أهِلَّ به"، لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرَّبوه لآلهتهم، سموا اسم آلهتهم التي قربوا ذلك لها، وجَهروا بذلك أصْواتَهم، فجرى ذلك من أمرهم على ذلك، حتى قيل لكل ذابح، سمَّى أو لم يُسمِّ، [[في المطبوعة: "يسمي بذلك أو لم يسم"، والصواب ما أثبت، فعل ماض كالذي يليه.]] جهر بالتسمية أو لم يجهر-:"مُهِلٌّ". فرفعهم أصواتهم بذلك هو"الإهلال" الذي ذكره الله تعالى فقال:"وما أهِلَّ به لغير الله". ومن ذلك قيل للملبِّي في حَجة أو عمرة"مُهِلّ"، لرفعه صوته بالتلبية. ومنه"استهلال" الصبي، إذا صاح عند سقوطه من بَطن أمه،"واستهلال" المطر، وهو صوت وُقوعه على الأرض، كما قال عمرو بن قميئة: ظَلَمَ البِطَاحَ لَهُ انْهِلالُ حَرِيصَةٍ ... فَصَفَا النِّطَافُ لَهُ بُعَيْدَ المُقْلَعِ [[سلف تخريج هذا البيت في ١: ٥٢٣-٥٢٤، وأن صواب نسبته إلى الحادرة الذبياني.]] واختلف أهل التأويل في ذلك. فقال بعضهم: يعني بقوله:"وما أهِلَّ به لغير الله"، ما ذبح لغير الله. * ذكر من قال ذلك: ٢٤٦٨- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وما أهِلّ به لغير الله" قال، ما ذبح لغير الله. ٢٤٦٩- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وما أهلّ به لغير الله" قال، ما ذبح لغير الله مما لم يُسم عليه. ٢٤٧٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وما أهلّ به لغير الله"، ما ذبح لغير الله. ٢٤٧١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس في قوله:"وما أهِلّ به لغير الله" قال، ما أهِلّ به للطواغيت. ٢٤٧٢- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك قال:"وما أُهلّ به لغير الله" قال، ما أهل به للطواغيت. ٢٤٧٣- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وما أهِلّ به لغير الله"، يعني: ما أهِل للطواغيت كلّها. يعني: ما ذبح لغير الله من أهل الكفر، غير اليهود والنصارى. ٢٤٧٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء في قول الله:"وما أهِلّ به لغير الله" قال، هو ما ذبح لغير الله. * * * وقال آخرون: معنى ذلك: ما ذكر عليه غير اسم الله. * ذكر من قال ذلك: ٢٤٧٥- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وما أهلّ به لغير الله"، يقول: ما ذكر عليه غير اسم الله. ٢٤٧٦- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد -وسألته عن قوله الله:"وما أهلّ به لغير الله"- قال: ما يذبح لآلهتهم، الأنصابُ التي يعبدونها أو يسمُّون أسماءَها عليها. قال: يقولون:"باسم فلان"، كما تقول أنت:"باسم الله" قال، فذلك قوله:"وما أهلّ به لغير الله". ٢٤٧٧- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا حيوة، عن عقبة بن مسلم التُّجيبي وقيس بن رافع الأشجعي أنهما قالا أحِل لنا ما ذُبح لعيد الكنائس، وما أهدي لها من خبز أو لحم، فإنما هو طعام أهل الكتاب. قال حيوة، قلت: أرأيت قَول الله:"وما أهِلّ به لغير الله"؟ قال: إنما ذلك المجوسُ وأهلُ الأوثان والمشركون. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فمن اضطر"، فمن حَلَّت به ضَرورة مجاعة إلى ما حرَّمت عليكم من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله -وهو بالصفة التي وصفنا- فلا إثم عليه في أكله إن أكله. * * * وقوله: فمن"اضطر""افتعل" من"الضّرورة". * * * و"غيرَ بَاغ" نُصِب على الحال مِنْ"مَنْ"، فكأنه. قيل: فمن اضطرّ لا باغيًا ولا عاديًا فأكله، فهو له حلال. * * * وقد قيل: إن معنى قوله:"فمن اضطر"، فمن أكره على أكله فأكله، فلا إثم عليه. * ذكر من قال ذلك: ٢٤٧٨- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا إسرائيل، عن سالم الأفطس، عن مجاهد قوله:"فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد" قال: الرجل يأخذُه العدو فيدعونه إلى معصية الله. * * * وأما قوله:"غيرَ بَاغ ولا عَاد"، فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون. فقال بعضهم: يعني بقوله:"غير باغ"، غيرَ خارج على الأئمة بسيفه باغيًا عليهم بغير جَور، ولا عاديًا عليهم بحرب وعدوان، فمفسدٌ عليهم السبيلَ. * ذكر من قال ذلك: ٢٤٧٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثًا، عن مجاهد:"فمن اضطر غيرَ بَاغٍ ولا عاد" قال، غيرَ قاطع سبيل، ولا مفارق جماعة، ولا خارج في معصية الله، فله الرخصة. ٢٤٨٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد"، يقول: لا قاطعًا للسبيل، ولا مفارقًا للأئمة، ولا خارجًا في معصية الله، فله الرخصة. ومن خرج بَاغيًا أو عاديًا في معصية الله، فلا رخصة له وإن اضطُرَّ إليه. ٢٤٨١- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد:"غير باغ ولا عاد" قال، هو الذي يقطع الطريق، فليس له رخصة إذا جاع أن يأكل الميتة، وإذا عطش أن يشربَ الخمر. ٢٤٨٢- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم -يعني الأفطس- عن سعيد في قوله:"فمن اضطُر غير باغ ولا عاد" قال، الباغي العادي الذي يقطع الطريق، فلا رخصة له ولا كرامة. ٢٤٨٣- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد في قوله:"فمن اضطُر غير باغ ولا عاد" قال، إذا خرج في سبيل من سُبُل الله فاضطر إلى شرب الخمر شرب، وإن اضطر إلى الميتة أكل. وإذا خرج يقطع الطريق، فلا رخصة له. ٢٤٨٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حفص بن غياث، عن الحجاج، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد قال:"غيرَ باغ" على الأئمة،"ولا عاد" قال، قاطع السبيل. ٢٤٨٥- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن اضطر غير باغ ولا عاد" قال، غير قاطع السبيل، ولا مفارق الأئمة، ولا خارج في معصية الله فله الرخصة. ٢٤٨٦- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن الحكم، عن مجاهد:"فمن اضطُر غير بَاغ ولا عاد" قال، غير باغ على الأئمة، ولا عاد على ابن السبيل. * * * وقال آخرون في تأويل قوله:"غيرَ باغ ولا عاد": غيرَ باغ الحرامَ في أكله، ولا معتدٍ الذي أبيحَ له منه. * ذكر من قال ذلك: ٢٤٨٧- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله:"فمن اضطُرَّ غير باغ ولا عاد" قال، غير باغ في أكله، ولا عادٍ: أن يتعدى حلالا إلى حرام، وهو يجد عنه مَندوحة. ٢٤٨٨- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد" قال، غير باغ فيها ولا معتدٍ فيها بأكلها، وهو غنيٌّ عنها. ٢٤٨٩- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عمن سمع الحسن يقول ذلك. ٢٤٩٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال حدثنا أبو تميلة، [[في المطبوعة: "أبو نميلة"، والصواب بالتاء. مضت ترجمته برقم: ٣٩٢، ٤٦١.]] عن أبي حمزة، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة قوله:"فمن اضطر غير باغ ولا عاد"،"غير باغ" يَبتغيه،"ولا عادٍ": يتعدى على ما يُمسك نفسه. ٢٤٩١- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فمن اضطر غير باغ ولا عاد"، يقول: من غير أن يبتغي حرامًا ويتعداه، ألا ترى أنه يقول: ﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾ [سورة المؤمنون: ٧\ سورة المعارج: ٣١] ٢٤٩٢- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فمن اضطُرّ غير باغٍ ولا عادٍ" قال، أن يأكل ذلك بَغيًا وتعديًا عن الحلال إلى الحرام، ويترك الحلال وهو عنده، ويتعدى بأكل هذا الحرام. هذا التعدي. ينكر أن يكونا مختلفين، ويقول: هذا وهذا واحد! * * * وقال آخرون تأويل ذلك: فمن اضطر غير باغ في أكله شهوة، ولا عاد فوق ما لا بُدَّ له منه. * ذكر من قال ذلك: ٢٤٩٣- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمن اضطر غير باغ ولا عاد". أمَّا"باغ"، فيبغي فيه شهوته. وأما"العادي"، فيتعدى في أكله، يأكل حتى يشبع، ولكن يأكل منه قدر ما يُمسك به نفسه حتى يبلغ به حاجته. * * * قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: فمن اضطر غير باغ بأكله ما حُرم عليه من أكله، ولا عاد في أكله، وله عن ترك أكله -بوجود غيره مما أحله الله له- مندوحة وغنى. وذلك أن الله تعالى ذكره لم يرخّصْ لأحد في قتل نفسه بحال. وإذ كان ذلك كذلك، فلا شك أن الخارجَ على الإمام والقاطعَ الطريقَ، وإن كانا قد أتيا ما حرَّم الله عليهما =: من خروج هذا على من خرج عليه، وسَعي هذا بالإفساد في الأرض، = فغيرُ مبيح لهما فعلهما ما فعلا مما حرّم الله عليهما -ما كان حرّم الله عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من ذلك- من قتل أنفسهما. [ورَدُّهما إلى محارم الله عليهما بعد فعلهما، ما فعلا وإن كان قد حرم عليهما ما كان مرخصا لهما قبل ذلك من فعلهما، وإن لم نرَ رَدَّهما إلى محارم الله عليهما تحريما، [[في المطبوعة: "وإن لم يؤدهما إلى محارم الله عليهما تحريمًا". وهو تصحيف مفسد قد آذى من أراد أن يفهم عن الطبري ما يقول. و"المحارم": كل ما حرم الله سبحانه علينا فهو من محارم الله. وانظر التعليق التالي.]] فغير مرخِّص لهما ما كان عليهما قبل ذلك حرامًا] . فإذ كان ذلك كذلك، فالواجبُ على قُطاع الطريق والبغاة على الأئمة العادلة، الأوبةُ إلى طاعة الله، والرجوعُ إلى ما ألزمهما الله الرجوع إليه، والتوبةُ من معاصي الله - لا قتلُ أنفسهما بالمجاعة، فيزدادان إلى إثمهما إثمًا، وإلى خلافهما أمرَ الله خلافًا. [[هذه الفقرة رد على القول الأول، قول من ذهب إلى أن"الباغي" هو الخارج على الأئمة، وأن"العادي" هو قاطع الطريق، وأنهما لفعلهما ذلك مستثنيان من حكم الآية في الترخيص للمضطر أن يأكل مما حرم الله عليه. ولكن العبارة في الأصل فاسدة، لا يكاد يكون لها معنى. ولم أستجز أن أدعها في الأصل على ما هي عليه. وهكذا كانت في الأصل: [بل ذلك من فعلهما، وإن لم يؤدهما إلى محارم الله عليهما تحريمًا، فغير مرخص لهما ما كان عليهما قبل ذلك حراما] . وهو كلام لا يستقيم، وقد اجتهدت فرأيت أنه سقط من ناسخ كلامه سطر كامل فيما أرجح، بين قوله: "من قتل أنفسهما" وقوله: "قبل ذلك من فعلهما" فبقيت"قبل" وحدها، فجاء ناسخ آخر فلم يستبن معنى ما يكتب، فجعل"قبل""بل"، ظنًا منه أن ذلك يقيم المعنى على وجه من الوجوه. فاضطرب الكلام كما ترى اضطرابًا لا يخلص إلى شيء مفهوم. وزاده فسادًا واضطرابًا تصحيف قوله: "وإن لم نر ردهما" بما كتب: "وإن لم يؤدهما"، فخلص إلى كلام ضرب عليه التخليط ضربًا! وقد ساق الطبري في هذه الفقرة حجتين لرد قول من قال إن الباغي هو الخارج على الإمام، وإن العادي هو قاطع السبيل. فالحجة الأولى: أن الباغي والعادي، وإن كان كلاهما قد أتى فعلا محرمًا، فإن إتيان هذا الفعل المحرم، لا يجعل قتل أنفسهما مباحًا لهما، إذ هو محرم عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من محارم الله عليهما. والحجة الأخرى: أن الله قد رخص لكل مضطر أن يأكل مما حرم عليه، فاستثناء الباغي والعادي من رخصة الله للمضطر. لا يعد عنده تحريمًا، بل هو رد إلى ما كان محرمًا عليهما قبل البغي أو العدوان. ومع ذلك فإن هذا الرد إلى ما كان محرمًا عليهما، وإن كان قد حرم عليهما ما كان مرخصًا لهما ولكل مضطر قبل البغي والعدوان، فإنه لا يرخص لهما قتل أنفسهما، وهو حرام عليهما قبل البغي والعدوان. وإذن، فالواجب عليهما أن يتوبا، لا أن يقتلا أنفسهما بالمجاعة، فيزدادان إثمًا إلى إثمهما، وخلافًا إلى خلافهما بالبغي والعدوان أمر الله.]] وأما الذي وجَّه تأويل ذلك إلى أنه غيرُ باغ في أكله شهوة، فأكل ذلك شهوة، لا لدفع الضرورة المخوف منها الهلاك -مما قد دخل فيما حرمه الله عليه- فهو بمعنى ما قلنا في تأويله، وإن كان للفظه مخالفًا. فأما توجيه تأويل قوله:"ولا عاد"، ولا آكل منه شبعه، ولكن ما يمسك به نفسه، فإن ذلك، بعض معاني الاعتداء في أكله. ولم يخصص الله من معاني الاعتداء في أكله معنى، فيقال عنى به بعض معانيه. فإذ كان ذلك كذلك، فالصواب من القول ما قلنا: من أنه الاعتداء في كل معانيه المحرّمة. * * * وأما تأويل قوله:"فلا إثم عليه"، يقول: من أكل ذلك على الصفة التي وصفنا، فلا تبعة عليه في أكله ذلك كذلك ولا حَرج. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣) ﴾ قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"إنّ الله غَفور رحيم"،"إنّ الله غَفورٌ" =إن أطعتم الله في إسلامكم، فاجتنبتم أكل ما حرم عليكم، وتركتم اتباعَ الشيطان فيما كنتم تحرمونه في جاهليتكم- طاعةً منكم للشيطان واقتفاءً منكم خُطواته - مما لم أحرمه عليكم = لما سلف منكم، في كفركم وقبل إسلامكم، في ذلك من خطأ وذنب ومعصية، فصافحٌ عنكم، وتارك عقوبتكم عليه،"رحيم" بكم إن أطعتموه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إنّ الذينَ يَكتمون ما أنزل الله من الكتاب"، أحبارَ اليهود الذين كتموا الناس أمرَ محمد ﷺ ونبوّته، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة، برُشًى كانوا أُعطوها على ذلك، كما:- ٢٤٩٤- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إنّ الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب" الآية كلها، هم أهل الكتاب، كتموا ما أنزل الله عليهم وبَين لهم من الحق والهدى، من بعث محمد ﷺ وأمره. ٢٤٩٥- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (إنّ الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويَشترون به ثمنًا قليلا) قال: هم أهل الكتاب، كتموا ما أنزل الله عليهم من الحق والإسلامَ وشأنَ محمد ﷺ. ٢٤٩٦- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط، عن السدي:"إن الذين يكتمون مَا أنزل الله منَ الكتاب"، فهؤلاء اليهود، كتموا اسم محمد ﷺ. ٢٤٩٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:"إنّ الذين يكتمونَ ما أنزل الله من الكتاب"، والتي في"آل عمران" ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا﴾ [سورة آل عمران: ٧٧] نزلتا جميعًا في يهود. * * * وأما تأويل قوله:"ويَشترون به ثمنًا قليلا"، فإنه يعني: يبتاعون به."والهاء" التي في"به"، من ذكر"الكتمان". فمعناه: ابتاعوا بكتمانهم ما كتموا الناس من أمر محمد ﷺ وأمر نبوَّته ثمنًا قليلا. وذلك أنّ الذي كانوا يُعطَوْن = على تحريفهم كتابَ الله وتأويلهِمُوه على غير وجهه، وكتمانهم الحق في ذلك = اليسيرَ من عرض الدنيا، كما:- ٢٤٩٨- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ويشترون به ثمنًا قليلا" قال، كتموا اسم محمد ﷺ، وأخذوا عليه طمعًا قليلا فهو الثمن القليل. * * * وقد بينت فيما مضى صفة"اشترائهم" ذلك، بما أغنى عن إعادته هاهنا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب