الباحث القرآني

﴿إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ﴾ أيْ: أكْلَها والِانْتِفاعَ بِها، وأضافَ الحُرْمَةَ إلى العَيْنِ - مَعَ أنَّ الحُرْمَةَ مِنَ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي هي مِن صِفاتِ فِعْلِ المُكَلَّفِ، ولَيْسَتْ مِمّا تَتَعَلَّقُ بِالأعْيانِ - إشارَةً إلى حُرْمَةِ التَّصَرُّفِ في المَيْتَةِ، وهي الَّتِي ماتَتْ مِن غَيْرِ ذَكاةٍ شَرْعِيَّةٍ مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ بِأخْصَرِ طَرِيقٍ وأوْكَدِهِ؛ حَيْثُ جَعَلَ العَيْنَ غَيْرَ قابِلَةٍ لِتَعَلُّقِ فِعْلِ المُكَلَّفِ بِها إلّا ما خَصَّهُ الدَّلِيلُ كالتَّصَرُّفِ بِالمَدْبُوغِ وألْحَقَ بِـ (المَيِّتَة) ما أُبِينَ مِن حَيٍّ لِلْحَدِيثِ الَّذِي أخْرَجَهُ (p-42)أبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ، وحَسَّنَهُ عَنْ أبِي واقِدٍ اللِّيثِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: «ما قُطِعَ مِنَ البَهِيمَةِ وهي حَيَّةٌ فَهي مَيْتَةٌ”،» وخَرَجَ عَنْها السَّمَكُ والجَرادُ لِلْحَدِيثِ الَّذِي أخْرَجَهُ ابْنُ ماجَهْ والحاكِمُ مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - مَرْفُوعًا: «“أُحِلَّتْ لَنا مَيْتَتانِ ودَمانِ؛ السَّمَكُ والجَرادُ، والكَبِدُ والطِّحالُ» ولِلْعُرْفِ أيْضًا فَإنَّهُ إذا قالَ القائِلُ: أكَلَ فُلانٌ المَيْتَةَ لَمْ يَسْبِقِ الوَهْمُ إلَيْهِما، نَعَمْ حَرَّمَ بَعْضُهم مَيْتَةَ السَّمَكِ الطّافِي وما ماتَ مِنَ الجَرادِ بِغَيْرِ سَبَبٍ، وعَلَيْهِ أكْثَرُ المالِكِيَّةِ، واسْتُدِلَّ بِعُمُومِ الآيَةِ عَلى تَحْرِيمِ الأجِنَّةِ، وتَحْرِيمِ ما لا نَفْسَ لَهُ سائِلَةً، خِلافًا لِمَن أباحَهُ مِنَ المالِكِيَّةِ، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ: ( المَيِّتَةُ ) مُشَدِّدَةً، ﴿والدَّمَ﴾ قُيِّدَ في سُورَةِ الأنْعامِ بِالمَسْفُوحِ وسَيَأْتِي، واسْتَدَلَّ بِعُمُومِهِ عَلى تَحْرِيمِ نَجاسَةِ دَمِ الحُوتِ، وما لا نَفْسَ لَهُ تَسِيلُ. ﴿ولَحْمَ الخِنْزِيرِ﴾ خُصَّ اللَّحْمُ بِالذِّكْرِ مَعَ أنَّ بَقِيَّةَ أجْزائِهِ أيْضًا حَرامٌ خِلافًا لِلظّاهِرِيَّةِ؛ لِأنَّهُ مُعْظَمُ ما يُؤْكَلُ مِنَ الحَيَوانِ وسائِرِ أجْزائِهِ كالتّابِعِ لَهُ، وقِيلَ: خُصَّ اللَّحْمُ لِيَدُلَّ عَلى تَحْرِيمِ عَيْنِهِ ذُكِّيَ أوْ لَمْ يُذَكَّ، وفِيهِ ما لا يَخْفى، ولَعَلَّ السِّرَّ في إقْحامِ لَفْظِ اللَّحْمِ هُنا إظْهارُ حُرْمَةِ ما اسْتَطْيَبُوهُ وفَضَّلُوهُ عَلى سائِرِ اللُّحُومِ واسْتَعْظَمُوا وُقُوعَ تَحْرِيمِهِ، واسْتَدَلَّ أصْحابُنا بِعُمُومِ الخِنْزِيرِ عَلى حُرْمَةِ خِنْزِيرِ البَحْرِ، وقالَ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -: لا بَأْسَ بِهِ، ورُوِيَ عَنِ الإمامِ مالِكٍ، أنَّهُ قالَ لَهُ شَخْصٌ: ما تَقُولُ في خِنْزِيرِ البَحْرِ؟ فَقالَ: حَرامٌ، ثُمَّ جاءَ آخَرُ فَقالَ لَهُ: ما تَقُولُ في حَيَوانٍ في البَحْرِ عَلى صُورَةِ الخِنْزِيرِ؟ فَقالَ: حَلالٌ، فَقِيلَ لَهُ فِيَ ذَلِكَ، فَقالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى حَرَّمَ الخِنْزِيرَ ولَمْ يُحَرِّمْ ما هو عَلى صُورَتِهِ، والسُّؤالُ مُخْتَلِفٌ في الصُّورَتَيْنِ. ﴿وما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾ أيْ: ما وقَعَ مُتَلَبِّسًا بِهِ؛ أيْ: بِذَبْحِهِ الصَّوْتُ لِغَيْرِ اللَّهِ - تَعالى - وأصْلُ الإهْلالِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِن أهْلِ اللُّغَةِ رُؤْيَةُ الهِلالِ، لَكِنْ لَمّا جَرَتِ العادَةُ أنْ يُرْفَعَ الصَّوْتُ بِالتَّكْبِيرِ إذا رُؤِيَ سُمِّي بِذَلِكَ إهْلالًا، ثُمَّ قِيلَ لِرَفْعِ الصَّوْتِ وإنْ كانَ بِغَيْرِهِ، والمُرادُ بِغَيْرِ اللَّهِ - تَعالى - الصَّنَمُ وغَيْرُهُ كَما هو الظّاهِرُ، وذَهَبَ عَطاءٌ ومَكْحُولٌ والشَّعْبِيُّ والحَسَنُ وسَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ إلى تَخْصِيصِ الغَيْرِ بِالأوَّلِ، وأباحُوا ذَبِيحَةَ النَّصْرانِيِّ إذا سُمِّيَ عَلَيْها بِاسْمِ المَسِيحِ، وهَذا خِلافُ ما اتَّفَقَ عَلَيْهِ الأئِمَّةُ مِنَ التَّحْرِيمِ، وإنَّما قَدِمَ بِهِ هُنا؛ لِأنَّهُ أمَسُّ بِالفِعْلِ وأُخِّرَ في مَواضِعَ أُخَرَ نَظَرًا لِلْمَقْصُودِ فِيها مِن ذِكْرِ المُسْتَنْكَرِ، وهو الذَّبْحُ لِغَيْرِ اللَّهِ - عَزَّ شَأْنُهُ - . ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ﴾ بِالِاسْتِتارِ عَلى مُضْطَرٍّ آخَرَ بِأنْ يَنْفَرِدَ بِتَناوُلِهِ فَيَهْلِكَ الآخَرُ، ﴿ولا عادٍ﴾ أيْ: مُتَجاوِزٍ ما يَسُدُّ الرَّمَقَ والجُوعَ، وهو ظاهِرٌ في تَحْرِيمِ الشِّبَعِ، وهو مَذْهَبُ الأكْثَرِينَ، فَعَنِ الإمامِ أبِي حَنِيفَةَ والشّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما -: ”لا يَأْكُلُ المُضْطَرُّ مِنَ المَيْتَةِ إلّا قَدْرُ ما يُمْسِكُ رَمَقَهُ؛ لِأنَّ الإباحَةَ لِلِاضْطِرارِ، وقَدِ انْدَفَعَ بِهِ“، وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الحَسَنِ العِبْرِيُّ: يَأْكُلُ مِنها قَدْرَ ما يَسُدُّ جَوْعَتَهُ؛ وخالَفَ في ذَلِكَ الإمامُ مالِكٌ فَقالَ: يَأْكُلُ مِنها حَتّى يَشْبَعَ ويَتَزَوَّدَ، فَإنْ وجَدَ غِنًى عَنْها طَرَحَها، ونُقِلَ عَنِ الشّافِعِيِّ أنَّ المُرادَ غَيْر باغٍ عَلى الوالِي ولا عاد بِقَطْعِ الطَّرِيقِ وجَعَلَ مِن ذَلِكَ السَّفَرِ في مَعْصِيَةٍ، فالعاصِي في سَفَرِهِ لا يُباحُ لَهُ الأكْلُ مِن هَذِهِ المُحَرَّماتِ، وهو المَرْوِيُّ عَنِ الإمامِ أحْمَدَ أيْضًا، وهو خِلافُ مَذْهَبِنا، ويَحْتاجُ حُكْمُ الرُّخْصَةِ عَلى هَذا إلى التَّقْيِيدِ بِأنَّ لا يَكُونَ زائِدًا عَلى قَدْرِ الضَّرُورَةِ مِن خارِجٍ، واسْتَدِلُّ بِعُمُومِ الآيَةِ عَلى جَوازِ أكْلِ المُضْطَرِّ مَيْتَةَ الخِنْزِيرِ والآدَمِيِّ، خِلافًا لِمَن مَنَعَ ذَلِكَ، وقَرَأ أهْلُ الحِجازِ والشّامِ والكِسائِيُّ ( فَمَنُ اضْطُرَّ ) بِضَمِّ النُّونِ، وأبُو جَعْفَرٍ مِنهم بِكَسْرِ الطّاءِ مَنِ ( اضْطِرَّ ) . ﴿فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ أيْ: في تَناوُلِهِ، بَلْ رُبَّما يَأْثَمُ بِتَرْكِ التَّناوُلِ. ﴿إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 137﴾ فَلِذا أسْقَطَ الحُرْمَةَ في تَناوُلِهِ ورَخَّصَ، وقِيلَ: الحُرْمَةُ باقِيَةٌ إلّا أنَّهُ سَقَطَ الإثْمُ عَنِ المُضْطَرِّ وغُفِرَ لَهُ لِاضْطِرارِهِ كَما هو الظّاهِرُ مِن تَقْيِيدِ الإثْمِ بِـ ( عَلَيْهِ )، واسْتُدِلَّ لِلْأوَّلِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلا ما اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ﴾ حَيْثُ اسْتُثْنِيَ مِنَ الحُرْمَةِ، (p-43)ثُمَّ اعْلَمْ أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ مِنَ الآيَةِ قَصْرَ الحُرْمَةِ عَلى ما ذُكِرَ مُطْلَقًا كَما هو الظّاهِرُ حَتّى يَرِدَ مَنعُ الحَصْرِ بِحُرْمَةِ أشْياءَ لَمْ تَذْكُرْ، بَلْ مُقَيَّدٌ بِما اعْتَقَدُوهُ حَلالًا بِقَرِينَةِ أنَّهم كانُوا يَسْتَحِلُّونَ ما ذُكِرَ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكم ما ذُكِرَ مِن جِهَةِ ما اسْتَحْلَلْتُمُوهُ لِأشْياءَ أُخَرَ، والمَقْصُودُ مِن قَصْرِ الحُرْمَةِ عَلى ما ذَكَرُوهُ اعْتِقادُهم حِلِّيَتَهُ بِأبْلَغِ وجْهٍ وآكَدِهِ، فَيَكُونُ قَصْرَ قَلْبٍ إلّا أنَّ الجُزْءَ الثّانِيَ لَيْسَ لِرَدِّ اعْتِقادِ الحُرْمَةِ؛ إذْ لَمْ يَعْتَقِدُوا حُرْمَةَ شَيْءٍ مِمّا اسْتَحَلُّوهُ، بَلْ تَأْكِيدُ الجُزْءِ الأوَّلِ، والخِطابُ لِلنّاسِ بِاعْتِبارِ دُخُولِ المُشْرِكِينَ فِيهِمْ، فَيَكُونُ مُفادُ الآيَةِ الزَّجْرَ عَنْ تَحْلِيلِ المُحَرَّماتِ، كَما أنَّ ﴿يا أيُّها النّاسُ كُلُوا﴾ زَجْرٌ عَنْ تَحْرِيمِ الحَلالاتِ، أوِ المُرادُ قَصْرُ حُرْمَةِ ما ذُكِرَ عَلى حالِ الِاخْتِيارِ، كَأنَّهُ قِيلَ: ( إنَّما حَرُمَ عَلَيْكم ) هَذِهِ الأشْياءُ ما لَمْ تَضْطَرُّوا إلَيْها، والأنْسَبُ حِينَئِذٍ أنْ يَكُونَ الخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيَكُونَ مَحَطُّ الفائِدَةِ هو القَيْدُ حَيْثُ كانُوا مُعْتَقِدِينَ لِحُرْمَةِ هَذِهِ الأُمُورِ، وفائِدَةُ الحُكْمِ التَّرْخِيصُ بَعْدَ التَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ بِطَلَبِ الحَلالِ الطَّيِّبِ، أوْ تَشْرِيفُهم بِالِامْتِنانِ بِهَذا التَّرْخِيصِ بَعْدَ الِامْتِنانِ عَلَيْهِمْ بِإباحَةِ المُسْتَلَذّاتِ، واخْتارَ بَعْضُهم أنَّ المُرادَ مِنَ الحَصْرِ رَدُّ المُشْرِكِينَ في تَحْرِيمِهِمْ ما أحَلَّهُ اللَّهُ - تَعالى - مِنَ البَحِيرَةَ والوَصِيلَةِ والحامِ وأمْثالِها لِأكْلِهِمْ مِن هَذِهِ المُحَرَّماتِ المَذْكُورَةِ في الآيَةِ، فَكَأنَّهم قالُوا: تِلْكَ حُرِّمَتْ عَلَيْنا، ولَكِنَّ هَذِهِ أُحِلَّتْ لَنا، فَقِيلَ: ما حُرِّمَتْ إلّا هَذِهِ - فَهو إذًا إضافِيٌّ - وذَهَبَ آخَرُونَ إلى أنَّهُ قَصْرُ إفْرادٍ بِالنِّسْبَةِ إلى ما حَرَّمَهُ المُؤْمِنُونَ مَعَ المَذْكُوراتِ مِنَ المُسْتَلَذّاتِ، وفِيهِ أنَّ المُؤْمِنِينَ لَمْ يَعْتَقِدُوا حُرْمَةَ المُسْتَلَذّاتِ، بَلْ حَرَّمُوها عَلى أنْفُسِهِمْ لِما سَمِعُوا مِن شَدائِدِ المُحاسَبَةِ والسُّؤالِ عَنِ النِّعَمِ، قالَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ فَلْيُتَدَبَّرْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب