الباحث القرآني

﴿إنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ﴾: تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى ”إنَّما“ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ [البقرة: ١١] . وقَرَأ الجُمْهُورُ: ”حَرَّمَ“ مُسْنَدًا إلى ضَمِيرِ اسْمِ اللَّهِ، وما بَعْدَهُ نُصِبَ، فَتَكُونُ ما مُهَيِّئَةً في إنَّما. هَيَّأتْ إنَّ لِوِلايَتِها الجُمْلَةَ الفِعْلِيَّةَ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ: بِرَفْعِ ”المَيْتَةِ“ وما بَعْدَها، فَتَكُونُ ما مَوْصُولَةً اسْمَ إنَّ، والعائِدُ عَلَيْها مَحْذُوفٌ، أيْ إنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ المَيْتَةَ، وما بَعْدَها خَبَرُ إنَّ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ: ”حُرِّمَ“ مُشَدَّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، فاحْتَمَلَتْ ما وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً اسْمَ إنَّ، والعائِدُ الضَّمِيرُ المُسْتَكِنُّ في حَرَّمَ. والمَيْتَةُ خَبَرُ إنَّ. والوَجْهُ الثّانِي: أنْ تَكُونَ ما مُهَيِّئَةً و”المَيْتَةُ“ مَرْفُوعٌ بِحَرَّمَ. وقَرَأ أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: ”إنَّما حَرُمَ“، بِفَتْحِ الحاءِ وضَمِّ الرّاءِ مُخَفَّفَةً جَعَلَهُ لازِمًا، و”المَيْتَةُ“ وما بَعْدَها مَرْفُوعٌ. ويُحْتَمَلُ ما الوَجْهَيْنِ مِنَ التَّهْيِئَةِ والوَصْلِ، و”المَيْتَةُ“ فاعِلُ يَحْرُمُ، إنْ كانَتْ ما مُهَيِّئَةً، وخَبَرُ إنَّ، إنْ كانَتْ ما مَوْصُولَةً. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ: المَيِّتَةُ، بِتَشْدِيدِ الياءِ في جَمِيعِ القُرْآنِ، وهو أصْلٌ لِلتَّخْفِيفِ. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى هَذا التَّخْفِيفِ في قَوْلِهِ: ﴿أوْ كَصَيِّبٍ﴾ [البقرة: ١٩]، وهُما لُغَتانِ جَيِّدَتانِ، وقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُما الشّاعِرُ في قَوْلِهِ: ؎لَيْسَ مَن ماتَ فاسْتَراحَ بِمَيْتٍ إنَّما المَيْتُ مَيِّتُ الأحْياءِ قِيلَ: وحَكى أبُو مُعاذٍ عَنِ النَّحْوِيِّينَ الأوَّلِينَ، أنَّ المَيْتَ بِالتَّخْفِيفِ: الَّذِي فارَقَتْهُ الرُّوحُ، والمَيِّتُ بِالتَّشْدِيدِ: الَّذِي لَمْ يَمُتْ، بَلْ عايَنَ أسْبابَ المَوْتِ. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في المَوْتِ. (ولَمّا أمَرَ تَعالى): بِأكْلِ الحَلالِ في الآيَةِ السّابِقَةِ، فَصَّلَ هُنا أنْواعَ الحَرامِ، وأسْنَدَ التَّحْرِيمَ إلى المَيْتَةِ. والظّاهِرُ أنَّ المَحْذُوفَ هو الأكْلُ؛ لِأنَّ التَّحْرِيمَ لا يَتَعَلَّقُ بِالعَيْنِ، ولِأنَّ السّابِقَ المُباحَ هو الأكْلُ في قَوْلِهِ: ﴿كُلُوا مِمّا في الأرْضِ﴾ [البقرة: ١٦٨]، ﴿كُلُوا مِن طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ﴾ [البقرة: ١٧٢] . فالمَمْنُوعُ هُنا هو الأكْلُ، وهَكَذا حَذْفُ المُضافِ يُقَدَّرُ بِما يُناسِبُ. فَقَوْلُهُ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكم أُمَّهاتُكُمْ﴾ [النساء: ٢٣]، المَحْذُوفُ: وطْءٌ، كَأنَّهُ قِيلَ: وطْءُ أُمَّهاتِكم، ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ [النساء: ٢٤]، أيْ وطْءُ ما وراءَ ذَلِكم. فَسائِرُ وُجُوهِ الِانْتِفاعاتِ مُحَرَّمٌ مِن هَذِهِ الأعْيانِ المَذْكُورَةِ، إمّا بِالقِياسِ عَلى الأكْلِ عِنْدَ مَن يَقُولُ بِالقِياسِ، وإمّا بِدَلِيلِ سَمْعِيٍّ عِنْدَ مَن لا يَقُولُ بِهِ. وقالَ بَعْضُ النّاسِ ما مَعْناهُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا أسْنَدَ التَّحْرِيمَ إلى المَيْتَةِ، وما نَسَّقَ عَلَيْها وعَلَّقَهُ بِعَيْنِها، كانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلى تَأْكِيدِ حُكْمِ التَّحْرِيمِ وتَناوُلِ سائِرِ وُجُوهِ المَنافِعِ، فَلا يُخَصُّ شَيْءٌ مِنها إلّا بِدَلِيلٍ يَقْتَضِي جَوازَ الِانْتِفاعِ بِهِ، فاسْتَنْبَطَ هَذا القَوْلُ تَحْرِيمَ سائِرِ الِانْتِفاعاتِ مِنَ اللَّفْظِ. والأظْهَرُ ما ذَكَرْناهُ مِن تَخَصُّصِ المُضافِ المَحْذُوفِ بِأنَّهُ الأكْلُ. وظاهِرُ لَفْظِ المَيْتَةِ يَتَناوَلُ العُمُومَ، ولا يُخَصُّ شَيْءٌ مِنها إلّا بِدَلِيلٍ. قالَ قَوْمٌ: خُصَّ هَذا العُمُومُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أُحِلَّ لَكم صَيْدُ البَحْرِ وطَعامُهُ مَتاعًا لَكم ولِلسَّيّارَةِ﴾ [المائدة: ٩٦]، وبِما رُوِيَ مِن قَوْلِهِ ﷺ: «أُحِلَّتْ لَنا مَيْتَتانِ» . وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الحُوتُ والجَرادُ لَمْ يَدْخُلْ قَطُّ في هَذا العُمُومِ. انْتَهى. فَإنْ عَنى لَمْ يَدْخُلْ في دَلالَةِ اللَّفْظِ، فَلا نُسَلِّمُ لَهُ ذَلِكَ. وإنْ عَنى لَمْ يَدْخُلْ في الإرادَةِ، فَهو كَما قالَ لِأنَّ المُخَصَّصَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الدُّخُولَ في اللَّفْظِ العامِّ الَّذِي خُصِّصَ بِهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ) في المَيْتاتِ ما يَحِلُّ وهو السَّمَكُ والجَرادُ (قُلْتُ): قَصَدَ ما يَتَفاهَمُهُ النّاسُ ويَتَعارَفُونَهُ في العادَةِ. ألا تَرى أنَّ القائِلَ إذا قالَ: أكَلَ فُلانٌ مَيْتَةً، لَمْ يَسْبِقِ الفَهْمُ إلى السَّمَكِ والجَرادِ ؟ كَما لَوْ قالَ: أكَلَ دَمًا، لَمْ يَسْبِقْ إلى الكَبِدِ والطِّحالِ. ولِاعْتِبارِ العادَةِ والتَّعارُفِ قالُوا: مَن حَلَفَ لا يَأْكُلُ لَحْمًا فَأكَلَ سَمَكًا، لَمْ يَحْنَثْ وإنْ أكَلَ لَحْمًا في الحَقِيقَةِ. وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لِتَأْكُلُوا مِنهُ لَحْمًا طَرِيًّا﴾ [النحل: ١٤]، وشَبَّهُوهُ بِمَن حَلَفَ لا يَرْكَبُ دابَّةً، فَرَكِبَ كافِرًا، لَمْ يَحْنَثْ وإنْ سَمّاهُ اللَّهُ دابَّةً في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ شَرَّ الدَّوابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الأنفال: ٥٥] . انْتَهى كَلامُهُ. ومُلَخَّصُ ما يَقُولُهُ: إنَّ السَّمَكَ والجَرادَ لَمْ يَنْدَرِجْ في عُمُومِ المَيْتَةِ مِن حَيْثُ الدَّلالَةُ، ولَيْسَ كَما قالَ. وكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ، وقَدْ (p-٤٨٧)رُوِيَ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ: «أُحِلَّتْ لَنا مَيْتَتانِ»، فَلَوْ لَمْ يَنْدَرِجْ في الدَّلالَةِ لَما احْتِيجَ إلى تَقْرِيرٍ شَرْعِيٍّ في حِلِّهِ، إذْ كانَ يَبْقى مَدْلُولًا عَلى حِلِّهِ بِقَوْلِهِ: ﴿كُلُوا مِمّا في الأرْضِ﴾ [البقرة: ١٦٨]، ﴿كُلُوا مِن طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ﴾ [البقرة: ١٧٢] . ولَيْسَ مِن شَرْطِ العُمُومِ ما يَتَفاهَمُهُ النّاسُ ويَتَعارَفُونَهُ في العادَةِ، كَما قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، بَلْ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُخاطَبِ شُعُورٌ ألْبَتَّةَ، ولا عِلْمٌ بِبَعْضِ أفْرادِ العامِّ، وعُلِّقَ الحُكْمُ عَلى العامِّ؛ لانْدَرَجَ فِيهِ ذَلِكَ الفَرْدُ الَّذِي لا شُعُورَ لِلْمُخاطَبِ بِهِ. مِثالُ ذَلِكَ ما جاءَ في الحَدِيثِ: «نَهى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ أكْلِ كُلِّ ذِي نابٍ مِنَ السِّباعِ» . فَهَذا عُلِّقَ الحُكْمُ فِيهِ بِكُلِّ ذِي نابٍ. والمُخاطَبُ - الَّذِينَ هُمُ العَرَبُ - لا عِلْمَ لَهم بِبَعْضِ أفْرادِ ذِي النّابِ، وذَلِكَ الفَرْدُ مُنْدَرِجٌ في العُمُومِ يُقْضى عَلَيْهِ بِالنَّهْيِ، كَما في بِلادِنا - بِلادِ الأنْدَلُسِ - حَيَوانٌ مُفْتَرِسٌ يُسَمّى عِنْدَهم بِالدُّبِّ وبِالسَّمْعِ، وهو ذُو أنْيابٍ يَفْتَرِسُ الرَّجُلَ ويَأْكُلُهُ، ولا يُشْبِهُ الأسَدَ، ولا الذِّئْبَ، ولا النَّمِرَ، ولا شَيْئًا مِمّا يَعْرِفُهُ العَرَبُ، ولا نَعْلَمُهُ خُلِقَ بِغَيْرِ بِلادِ الأنْدَلُسِ. فَهَذا لا يَذْهَبُ أحَدٌ إلى أنَّهُ لَيْسَ مُنْدَرِجًا في عُمُومِ النَّهْيِ عَنْ أكْلِ كُلِّ ذِي نابٍ، بَلْ شَمِلَهُ النَّهْيُ كَما شَمِلَ غَيْرَهُ مِمّا تَعاهَدَهُ العَرَبُ وعَرِفُوهُ؛ لِأنَّ الحُكْمَ نِيطَ بِالعُمُومِ وعُلِّقَ بِهِ، فَهو مُعَلَّقٌ بِكُلِّ فَرْدٍ مِن أفْرادِهِ، حَتّى بِما كانَ لَمْ يُخْلَقْ ألْبَتَّةَ وقْتَ الخِطابِ، ثُمَّ خُلِقَ شَكْلًا مُبايِنًا لِسائِرِ الأشْكالِ ذَواتِ الأنْيابِ، فَيَنْدَرِجُ فِيهِ، ويُحْكَمُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ. وإنَّما تَمْثِيلُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِالإيمانِ، فَلِلْإيمانِ أحْكامٌ مَنُوطَةٌ بِها، ويُؤَوَّلُ التَّحْقِيقُ فِيها إلى أنَّ ذَلِكَ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ بِإرادَةِ خُرُوجِ بَعْضِ الأفْرادِ مِنهُ. و”المَيْتَةَ“: ما ماتَ دُونَ ذَكاةٍ مِمّا لَهُ نَفْسٌ سائِلَةٌ. واخْتُلِفَ في السَّمَكِ الطّافِي - وهو ما ماتَ في الماءِ فَطَفا -: فَذَهَبَ مالِكٌ وغَيْرُهُ أنَّهُ حَلالٌ. ومَذْهَبُ العِراقِيِّينَ أنَّهُ مَمْنُوعٌ مِن أكْلِهِ. وفي كَلامِ بَعْضِ الحَنَفِيِّينَ عَنْ أبِي حَنِيفَةَ أنَّهُ مَكْرُوهٌ. وأمّا ما ماتَ مِنَ الجَرادِ بِغَيْرِ تَسَبُّبٍ، فَهو عِنْدَ مالِكٍ وجُمْهُورِ أصْحابِهِ أنَّهُ حَرامٌ، وعِنْدَ ابْنِ عَبْدِ الحَكَمِ وابْنِ نافِعٍ حَلالٌ، وعِنْدَ ابْنِ القاسِمِ وابْنِ وهْبٍ وأشْهَبَ وسَحْنُونٍ تَقْيِيداتٌ في الجَرادِ ذُكِرَتْ في كُتُبِ المالِكِيَّةِ. هَذا حُكْمُ المَيْتَةِ بِالنِّسْبَةِ إلى الأكْلِ. وأمّا الِانْتِفاعُ بِشَيْءٍ مِنها، نَحْوَ: الجِلْدِ، والشَّعْرِ، والرِّيشِ، واللَّبَنِ، والبَيْضِ، والأنْفِحَةِ، والجَنِينِ، والدُّهْنِ، والعَظْمِ، والقَرْنِ، والنّابِ، والعَصَبِ، فَذَلِكَ مَذْكُورٌ في كُتُبِ الفِقْهِ، ولَهم في ذَلِكَ اخْتِلافٌ وتَقْيِيدٌ كَثِيرٌ يُوقَفُ عَلى ذَلِكَ في تَصانِيفِهِمْ. ”والدَّمَ“: ظاهِرُهُ العُمُومُ، ويَتَخَصَّصُ بِالمَسْفُوحِ لِآيَةِ الأنْعامِ. فَإذا كانَ مَسْفُوحًا، فَلا خِلافَ في نَجاسَتِهِ وتَحْرِيمِهِ. وفي دَمِ السَّمَكِ المُزايِلِ لَهُ في مَذْهَبِ مالِكٍ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ طاهِرٌ، ويَقْتَضِي ذَلِكَ أنَّهُ غَيْرُ مُحَرَّمٍ. وأجْمَعُوا عَلى جَوازِ أكْلِ الدَّمِ المُتَحَلِّلِ بِالعُرُوقِ واللَّحْمِ الشّاقِّ إخْراجُهُ، وكَذَلِكَ الكَبِدِ والطِّحالِ. وذَكَرَ المُفَسِّرُونَ في يَسِيرِ الدَّمِ المَسْفُوحِ الخِلافَ في العَفْوِ عَنْهُ، وفي مِقْدارِ اليَسِيرِ، والخِلافَ في دَمِ البَراغِيثِ والبَقِّ والذُّبابِ، وهَذا كُلُّهُ مِن عِلْمِ الفِقْهِ، فَيُطالَعُ في كُتُبِ الفِقْهِ. ولَمْ يَذْكُرِاللَّهُ تَعالى حِكْمَةً في تَحْرِيمِ أكْلِ المَيْتَةِ والدَّمِ، ولا جاءَ نَصٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في ذَلِكَ. ولَوْ تَعَبَّدَنا تَعالى بِجَوازِ أكْلِ المَيْتَةِ والدَّمِ، لَكانَ ذَلِكَ شَرْعًا يَجِبُ اتِّباعُهُ. وقَدْ ذَكَرُوا أنَّ الحِكْمَةَ في تَحْرِيمِ المَيْتَةِ جُمُودُ الدَّمِ فِيها بِالمَوْتِ، وأنَّهُ يُحْدِثُ أذًى لِلْآكِلِ. وفي تَحْرِيمِ الدَّمِ أنَّهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ يَجْمُدُ، فَهو في الأذى كالجامِدِ في المَيْتَةِ، وهَذا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ الحِسَّ يُكَذِّبُ ذَلِكَ. وجَدْنا مَن يَأْكُلُ المَيْتَةَ، ويَشْرَبُ الدَّمَ مِنَ الأُمَمِ، صُوَرُهم وسِحَنُهم مِن أحْسَنِ ما يُرى وأجْمَلِهِ، ولا يَحْدُثُ لَهم أذًى بِذَلِكَ. * * * و”لَحْمُ الخِنْزِيرِ“: ظاهِرُهُ أنَّ المُحَرَّمَ مِنهُ هو لَحْمُهُ فَقَطْ. وقَدْ ذَهَبَ إلى ذَلِكَ داوُدُ - رَأْسُ الظّاهِرِيَّةِ - فَقالَ: المُحَرَّمُ اللَّحْمُ دُونَ الشَّحْمِ. وقالَ غَيْرُهُ مِن سائِرِ العُلَماءِ: المُحَرَّمُ لَحْمُهُ وسائِرُ أجْزائِهِ. وإنَّما خُصَّ اللَّحْمُ بِالذِّكْرِ، والمُرادُ جَمِيعُ أجْزائِهِ؛ لِكَوْنِ اللَّحْمِ هو مُعْظَمَ ما يُنْتَفَعُ بِهِ. كَما نَصَّ عَلى قَتْلِ الصَّيْدِ عَلى المُحْرِمِ، والمُرادُ حَظْرُ جَمِيعِ أفْعالِهِ في الصَّيْدِ. وكَما نَصَّ عَلى تَرْكِ البَيْعِ ﴿إذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ﴾ [الجمعة: ٩]؛ لِأنَّهُ كانَ أعْظَمَ ما كانُوا يَبْتَغُونَ بِهِ مَنافِعَهم، فَهو أشْغَلُ (p-٤٨٨)لَهم مِن غَيْرِهِ، والمُرادُ جَمِيعُ الأُمُورِ الشّاغِلَةِ عَنِ الصَّلاةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): فَما لَهُ ذَكَرَ لَحْمَ الخِنْزِيرِ دُونَ شَحْمِهِ ؟ (قُلْتُ): لِأنَّ الشَّحْمَ داخِلٌ في ذِكْرِ اللَّحْمِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لَحْمٌ سَمِينٌ، يُرِيدُونَ أنَّهُ شَحِيمٌ. انْتَهى. وقَوْلُهم هَذا لَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلى أنَّ الشَّحْمَ داخِلٌ في ذِكْرِ اللَّحْمِ؛ لِأنَّ وصْفَ الشَّيْءِ بِأنَّهُ يُمازِجُهُ شَيْءٌ آخَرَ، لا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ مَدْلُولِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، ألا تَرى أنَّكَ تَقُولُ مَثَلًا رَجُلٌ لابِنٌ، أوْ رَجُلٌ عالِمٌ ؟ لا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلى أنَّ اللَّبَنَ أوِ العِلْمَ داخِلٌ في ذِكْرِ الرَّجُلِ، ولا أنَّ ذِكْرَ الرَّجُلِ. مُجَرَّدًا عَنِ الوَصْفَيْنِ يَدُلُّ عَلَيْهِما. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وخُصٌّ ذِكْرُ اللَّحْمِ مِنِ الخِنْزِيرِ لِيَدُلَّ عَلى تَحْرِيمِ عَيْنِهِ، ذُكِيَّ أوْ لَمْ يُذَكَّ، ولِيَعُمَّ الشَّحْمَ وما هُناكَ مِنَ الغَضارِيفِ وغَيْرِها. وأجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى تَحْرِيمِ شَحْمِهِ. انْتَهى كَلامُهُ. ولَيْسَ كَما ذَكَرَ؛ لِأنَّ ذِكْرَ اللَّحْمِ لا يَعُمُّ الشَّحْمَ وما هُناكَ مِنَ الغَضارِيفِ؛ لِأنَّ كُلًّا مِنَ اللَّحْمِ والشَّحْمِ وما هُناكَ مِن غُضْرُوفٍ وغَيْرِهِ، لَيْسَ لَهُ اسْمٌ يَخُصُّهُ. إذْ أُطْلِقَ ذَلِكَ الِاسْمُ، لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الآخَرُ، ولا يَدُلُّ عَلَيْهِ لا بِمُطابَقَةٍ ولا تَضَمُّنٍ. فَإذَنْ تَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ يَدُلُّ عَلى تَخْصِيصِهِ بِالحُكْمِ، إذْ لَوْ أُرِيدَ المَجْمُوعُ، لَدَلَّ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلى المَجْمُوعِ. وقَوْلُهُ: أجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلى تَحْرِيمِ شَحْمِهِ، لَيْسَ كَما ذَكَرَ. ألا تَرى أنَّ داوُدَ لا يُحَرِّمُ إلّا ما ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى، وهو اللَّحْمُ دُونَ الشَّحْمِ ؟ إلّا أنْ يَذْهَبَ ابْنُ عَطِيَّةَ إلى ما يُذْكَرُ عَنْ أبِي المَعالِي عَبْدِ المَلِكِ الجُوَيْنِيِّ، مِن أنَّهُ لا يُعْتَدُّ في الإجْماعِ، بِخِلافِ داوُدَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَهُ إجْماعًا. وقَدِ اعْتَدَّ أهْلُ العِلْمِ الَّذِينَ لَهُمُ الفَهْمُ التّامُّ والِاجْتِهادُ، قَبْلَ أنْ يُخْلَقَ الجُوَيْنِيُّ بِأزْمانٍ، بِخِلافِ داوُدَ، ونَقَلُوا أقاوِيلَهُ في كُتُبِهِمْ، كَما نَقَلُوا أقاوِيلَ الأئِمَّةِ، كالأوْزاعِيِّ، وأبِي حَنِيفَةَ، ومالِكٍ، والثَّوْرِيِّ، والشّافِعِيِّ، وأحْمَدَ. ودانَ بِمَذْهَبِهِ وقَوْلِهِ وطَرِيقَتِهِ ناسٌ وبِلادٌ وقُضاةٌ ومُلُوكُ الأزْمانِ الطَّوِيلَةِ، ولَكِنَّهُ في عَصْرِنا هَذا قَدْ حُمِلَ هَذا المَذْهَبُ. ولَمّا كانَ اللَّحْمُ يَتَضَمَّنُ عِنْدَ مالِكٍ الشَّحْمَ، ذَهَبَ إلى أنَّهُ لَوْ حَلَفَ حالِفٌ أنْ لا يَأْكُلَ لَحْمًا، فَأكَلَ شَحْمًا، أنَّهُ يَحْنَثُ. وخالَفَهُ أبُو حَنِيفَةَ والشّافِعِيُّ فَقالا: لا يَحْنَثُ، كَما لَوْ حَلَفَ أنَّهُ لا يَأْكُلُ شَحْمًا، فَأكَلَ لَحْمًا. وقالَ تَعالى: ﴿حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما﴾ [الأنعام: ١٤٦] . والإجْماعُ أنَّ اللَّحْمَ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ عَلى اليَهُودِ، فالحَقُّ أنَّ كُلًّا مِنهُما لا يَنْدَرِجُ تَحْتَ لَفْظِ الآخَرِ. واخْتَلَفُوا في الِانْتِفاعِ بِشِعْرِهِ في خَرَزِ وغَيْرِهِ، فَأجازَ ذَلِكَ مالِكٌ وأبُو حَنِيفَةَ والأوْزاعِيُّ، ولَمْ يُجِزْ ذَلِكَ الشّافِعِيُّ. وقالَ أبُو يُوسُفَ: أكْرَهُ الخَرَزَ بِهِ. ورُوِيَ عَنْهُ الإباحَةُ أيْضًا. وهَلْ يَتَناوَلُ لَفْظُ الخِنْزِيرِ خِنْزِيرَ البَحْرِ ؟ ذَهَبَ إلى ذَلِكَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ ؟ فَمَنَعُوا مِن أكْلِهِ ؟ وقالَ ابْنُ أبِي لَيْلى والأوْزاعِيُّ والشّافِعِيُّ: لا بَأْسَ بِأكْلِهِ. وقالَ اللَّيْثُ: لا يُؤْكَلُ خِنْزِيرُ الماءِ، ولا إنْسانُهُ، ولا كَلْبُهُ. وسُئِلَ مالِكٌ عَنْ خِنْزِيرِ الماءِ، فَتَوَقَّفَ وقالَ: أنْتُمْ تُسَمُّونَهُ خِنْزِيرًا. وقالَ ابْنُ القاسِمِ: أنا أتَّقِيهِ ولا أُحَرِّمُهُ. وعِلَّةُ تَحْرِيمِ لَحْمِ الخِنْزِيرِ قالُوا: تَفَرَّدَ النَّصارى بِأكْلِهِ، فَنُهِيَ المُسْلِمُونَ عَنْ أكْلِهِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلى أنْ تُقاطِعُوهم، إذْ كانَ الخِنْزِيرُ مِن أنْفَسِ طَعامِهِمْ. وقِيلَ: لِكَوْنِهِ مَمْسُوخًا، فَغَلَّظَ تَحْرِيمَ أكْلِهِ لِخُبْثِ أصْلِهِ. وقِيلَ: لِأنَّهُ يَقْطَعُ الغَيْرَةَ ويَذْهَبُ بِالأنَفَةِ، فَيَتَساهَلُ النّاسُ في هَتْكِ المُحَرَّمِ وإباحَةِ الزِّنا، ولَمْ تُشِرِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ إلى شَيْءٍ مِن هَذِهِ التَّعْلِيلاتِ الَّتِي ذَكَرُوها. ”وما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ“: أيْ ما ذُبِحَ لِلْأصْنامِ والطَّواغِيتِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ والضَّحّاكُ، أوْ ما ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُ غَيْرِ اللَّهِ، قالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ وغَيْرُهُ، أوْ ما ذُكِرَ اسْمُ المَسِيحِ عَلَيْهِ، قالَهُ الزُّهْرِيُّ، أوْ ما قُصِدَ بِهِ غَيْرُ وجْهِ اللَّهِ تَعالى لِلتَّفاخُرِ والتَّباهِي، قالَهُ عَلِيٌّ والحَسَنُ. ورُوِيَ أنَّ عَلِيًّا قالَ في الإبِلِ الَّتِي نَحَرَها غالِبٌ أبُو الفَرَزْدَقِ: إنَّها مِمّا أُهِلَّ بِها لِغَيْرِ اللَّهِ، فَتَرَكَها النّاسُ، راعى عَلِيٌّ النِّيَّةَ في ذَلِكَ. ومَنَعَ الحَسَنُ مِن أكْلِ جَزُورٍ ذَبَحَتْها امْرَأةٌ لِلَعِبِها وقالَ: إنَّها نَحَرَتْ لِصَنَمٍ. وسُئِلَتْ عائِشَةُ عَنْ أكْلِ ما يَذْبَحُهُ الأعاجِمُ لِأعْيادِهِمْ ويَهْدُونَ لِلْمُسْلِمِينَ فَقالَتْ: لا تَأْكُلُوهُ، وكُلُوا مِن أشْجارِهِمْ. والَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الآيَةِ تَحْرِيمُ ما ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَيَنْدَرِجُ (p-٤٨٩)فِي لَفْظِ غَيْرِ اللَّهِ الصَّنَمُ والمَسِيحُ والفَخْرُ واللَّعِبُ، وسُمِّيَ ذَلِكَ إهْلالًا؛ لِأنَّهم يَرْفَعُونَ أصْواتَهم بِاسْمِ المَذْبُوحِ لَهُ عِنْدَ الذَّبِيحَةِ، ثُمَّ تَوَسَّعَ فِيهِ وكَثُرَ حَتّى صارَ اسْمًا لِكُلِّ ذَبِيحَةٍ جُهِرَ عَلَيْها أوْ لَمْ يُجْهَرْ، كالإهْلالِ بِالتَّلْبِيَةِ صارَ عَلَمًا لِكُلِّ مُحْرِمٍ رَفَعَ صَوْتَهُ أوْ لَمْ يَرْفَعْهُ. ومَن حَمَلَ ذَلِكَ عَلى ما ذُبِحَ عَلى النُّصُبِ، وهي الأوْثانُ، أجازَ ذَبِيحَةَ النَّصْرانِيِّ، إذا سَمّى عَلَيْها بِاسْمِ المَسِيحِ. وإلى هَذا ذَهَبَ عَطاءٌ ومَكْحُولٌ والحَسَنُ والشَّعْبِيُّ وابْنُ المُسَيَّبِ والأوْزاعِيُّ واللَّيْثُ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ ومالِكٌ والشّافِعِيُّ: لا تُؤْكَلُ ذَبائِحُهم إذا سَمَّوْا عَلَيْها اسْمَ المَسِيحِ، وهو ظاهِرُ قَوْلِهِ: (لِغَيْرِ اللَّهِ) كَما ذَكَرْناهُ؛ لِأنَّ الإهْلالَ لِغَيْرِ اللَّهِ هو إظْهارُ غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ، ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اسْمِ المَسِيحِ واسْمِ غَيْرِهِ. ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أنَّهُ قالَ: إذا سَمِعْتُمُ اليَهُودَ والنَّصارى يُهِلُّونَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَلا تَأْكُلُوا. وأُهِلَّ: مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ. والمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ هو الجارُّ والمَجْرُورُ في قَوْلِهِ: ”بِهِ“، والضَّمِيرُ في ”بِهِ“ عائِدٌ عَلى ”ما“، إذْ هي مَوْصُولَةٌ بِمَعْنى الَّذِي. ومَعْنى أهَلَّ بِكَذا، أيْ صاحَ. فالمَعْنى: وما صِيحَ بِهِ، أيْ فِيهِ، أيْ في ذَبْحِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، ثُمَّ صارَ ذَلِكَ كِنايَةً عَنْ كُلِّ ما ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، صِيحَ في ذَبْحِهِ أوْ لَمْ يُصَحْ، كَما ذَكَرْناهُ قَبْلُ. وفي ذَبِيحَةِ المَجُوسِيِّ خِلافٌ. وكَذَلِكَ فِيما حُرِّمَ عَلى اليَهُودِيِّ والنَّصْرانِيِّ بِالكِتابِ. أمّا ما حَرَّمُوهُ بِاجْتِهادِهِمْ، فَذَلِكَ لَنا حَلالٌ. ونَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ مالِكٍ: الكَراهَةَ فِيما سَمّى عَلَيْهِ الكِتابِيُّ اسْمَ المَسِيحِ، أوْ ذَبَحَهُ لِكَنِيسَةٍ، ولا يَبْلُغُ بِهِ التَّحْرِيمَ. * * * ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾، وقالَ: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإثْمٍ﴾ [المائدة: ٣] . وقالَ: ﴿وقَدْ فَصَّلَ لَكم ما حَرَّمَ عَلَيْكم إلّا ما اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١١٩]، فَلَمْ يُقَيِّدْ في هَذِهِ الآيَةِ الِاضْطِرارَ، وقَيَّدَهُ فِيما قَبْلُ. فَإنَّ المُضْطَرَّ يَكُونُ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإثْمٍ. وفي الأُولى بِقَوْلِهِ: ﴿غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ﴾ . قالَ مُجاهِدٌ وابْنُ جُبَيْرٍ وغَيْرُهُما: غَيْرَ باغٍ عَلى المُسْلِمِينَ وعادٍ عَلَيْهِمْ. فَيَدْخُلُ في الباغِي والعادِي: قُطّاعُ السَّبِيلِ، والخارِجُ عَلى السُّلْطانِ، والمُسافِرُ في قَطْعِ الرَّحِمِ، والغارَةِ عَلى المُسْلِمِينَ وما شاكَلَهُ، ولِغَيْرِ هَؤُلاءِ هي الرُّخْصَةُ. وإلى هَذا ذَهَبَ الشّافِعِيُّ، وهو أنَّهُ إذا لَمْ يَخْرُجُ باغِيًا عَلى إمامِ المُسْلِمِينَ، ولَمْ يَكُنْ سَفَرُهُ في مَعْصِيَةٍ، فَلَهُ أنْ يَأْكُلَ مِن هَذِهِ المُحَرَّماتِ إذا اضْطُرَّ إلَيْها. وإنْ كانَ سَفَرُهُ في مَعْصِيَةٍ، أوْ كانَ باغِيًا عَلى الإمامِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ أنْ يَأْكُلَ. وقالَ عِكْرِمَةُ وقَتادَةُ والرَّبِيعُ وابْنُ زَيْدٍ وغَيْرُهم: غَيْرُ قاصِدٍ فَسادًا وتَعَدٍّ، بِأنْ يَجِدَ عَنْ هَذِهِ المُحَرَّماتِ مَندُوحَةً. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والحَسَنُ: غَيْرُ باغٍ في المَيْتَةِ في الأكْلِ، ولا عادٍ بِأكْلِها، وهو يَجِدُ غَيْرَها، وهو يَرْجِعُ لِمَعْنى القَوْلِ قَبْلَهُ. وبِهِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ ومالِكٌ: وأباحَ هَؤُلاءِ لِلْبُغاةِ الخارِجِينَ عَلى المُسْلِمِينَ الأكْلَ مِن هَذِهِ المُحَرَّماتِ عِنْدَ الِاضْطِرارِ، كَما أباحُوا لِأهْلِ العَدْلِ. وقالَ السُّدِّيِّ: ”غَيْرَ باغٍ“ أيْ مُتَزَيِّدٍ عَلى إمْساكِ رَمَقِهِ وإبْقاءِ قُوَّتِهِ، فَيَجِيءُ أكْلُهُ شَهْوَةً، ”ولا عادٍ“ أيْ مُتَزَوِّدٍ. وقِيلَ: ”غَيْرَ باغٍ“ أيْ مُسْتَحِلٍّ لَها، ”ولا عادٍ“ أيْ مُتَزَوِّدٍ مِنها. وقالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: ”غَيْرَ باغٍ“ أيْ مُجاوِزٍ القَدْرَ الَّذِي يَحِلُّ لَهُ، ”ولا عادٍ“ أيْ لا يَقْصِدُهُ فِيما لا يَحِلُّ لَهُ. والظّاهِرُ مِن هَذِهِ الأقْوالِ، عَلى ما يُفْهَمُ مِن ظاهِرِ الآيَةِ، أنَّهُ لا إثْمَ في تَناوُلِ شَيْءٍ مِن هَذِهِ المُحَرَّماتِ لِلْمُضْطَرِّ الَّذِي لَيْسَ بِباغٍ ولا عادٍ. وإنَّ قَوْلَهُ: ﴿إلّا ما اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١١٩]، لا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّقْيِيدِ المَذْكُورِ هُنا، وفي قَوْلِهِ: ﴿غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإثْمٍ﴾ [المائدة: ٣]؛ لِأنَّ آيَةَ الأنْعامِ فِيها حَوالَةً عَلى هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ؛ لِأنَّهُ قالَ: ﴿وقَدْ فَصَّلَ لَكم ما حَرَّمَ عَلَيْكم إلّا ما اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ﴾ [الأنعام: ١١٩] . وتَفْصِيلُ المُحَرَّمِ هو في هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ، والِاضْطِرارُ فِيهِما مُقَيَّدٌ، فَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا في الآيَةِ الَّتِي أُحِيلَتْ عَلى غَيْرِها. والظّاهِرُ في البَغْيِ والعُدْوانِ، أنَّ ذَلِكَ مِن قِبَلِ المَعاصِي؛ لِأنَّهُما مَتى أُطْلِقَتا، تَبادَرَ الذِّهْنُ إلى ذَلِكَ. وفي جَوازِ مِقْدارِ ما يُأْكَلُ مِنِ المَيْتَةِ، وفي التَّزَوُّدِ مِنها، وفي شُرْبِ الخَمْرِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ قِياسًا عَلى هَذِهِ المُحَرَّماتِ. وفي أكْلِ ابْنِ آدَمَ خِلافٌ مَذْكُورٌ في كُتُبِ الفِقْهِ، قالُوا: وإنْ وجَدَ مَيْتَةً وخِنْزِيرًا، أكَلَ المَيْتَةَ، قالُوا: لِأنَّها أُبِيحَتْ لَهُ في حالِ الِاضْطِرارِ، والخِنْزِيرُ (p-٤٩٠)لا يَحِلُّ بِحالٍ، ولَيْسَ كَما قالُوا لِأنَّ قَوْلَهُ: (فَمَنِ اضْطُرَّ) جاءَ بَعْدَ ذِكْرِ تَحْرِيمِ المَيْتَةِ والدَّمِ ولَحْمِ الخِنْزِيرِ. فالمَعْنى: فَمَنِ اضْطُرَّ إلى أكْلِ شَيْءٍ مِن هَذِهِ المُحَرَّماتِ، فَرُتْبَتُها في الإباحَةِ لِلْأكْلِ مِنها مُتَساوِيَةٌ، فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنها أوْلى مِنَ الآخَرِ بِالإباحَةِ، والمُضْطَرُّ مُخَيَّرٌ فِيما يَأْكُلُ مِنها. فَقَوْلُهم: إنَّ الخِنْزِيرَ لا يَحِلُّ بِحالٍ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وذَكَرَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ أنَّهم أجْمَعُوا عَلى أنَّ مَن سافَرَ لِغَزْوٍ، أوْ حَجٍّ، أوْ تِجارَةٍ، وكانَ مَعَ ذَلِكَ باغِيًا في أخْذِ مالٍ، أوْ عادِيًا في تَرْكِ صَلاةٍ أوْ زَكاةٍ، لَمْ يَكُنْ ما هو عَلَيْهِ مِنَ البَغْيِ والعُدْوانِ مانِعًا مِنَ اسْتِباحَةِ المَيْتَةِ لِلضَّرُورَةِ. وأنَّهم أجْمَعُوا أيْضًا عَلى جَوازِ التَّرْخِيصِ لِلْباغِي، أوِ العادِي الحاضِرِ، وفي نَقْلِ هَذَيْنِ الإجْماعَيْنِ نَظَرٌ. واخْتَلَفَ القُرّاءُ في حَرَكَةِ النُّونِ مِن قَوْلِهِ: (فَمَنِ اضْطُرَّ) (وأنِ احْكم) (ولَكِنِ انْظُرْ) وشَبَهِهِ وحَرَكَةِ الدّالِّ مِن: (ولَقَدِ اسْتُهْزِئَ)، والتّاءِ مِن: ﴿وقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ﴾ [يوسف: ٣١]، وحَرَكَةِ التَّنْوِينِ مِن: ﴿فَتِيلًا﴾ [النساء: ٤٩] ﴿انْظُرْ﴾ [النساء: ٥٠]، ونَحْوِهِ، وحَرَكَةِ اللّامِ مِن نَحْوِ: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ﴾ [الإسراء: ١١٠]، والواوِ مِن نَحْوِ: ﴿أوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ﴾ [الإسراء: ١١٠]، فَكَسَرَ ذَلِكَ عاصِمٌ وحَمْزَةُ، وحَرَّكَها أبُو عَمْرٍو، إلّا في اللّامِ والواوِ؛ وعَبّاسٌ ويَعْقُوبُ إلّا في الواوِ؛ وضَمَّ باقِيَ السَّبْعَةِ، إلّا ابْنَ ذَكْوانَ فَإنَّهُ كَسَرَ التَّنْوِينَ. وعَنْهُ في: ﴿بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا﴾ [الأعراف: ٤٩]، و﴿خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ﴾ [إبراهيم: ٢٦] خِلافٌ، وضابِطُ هَذا أنَّهُ يَكُونُ ضَمَّةُ هَذِهِ الأفْعالِ لازِمَةً، فَإنْ كانَتْ عارِضَةً، فالكَسْرُ نَحْوَ: ﴿أنِ امْشُوا﴾ [ص: ٦]، وتَوْجِيهُ الكَسْرِ أنَّهُ حَرَكَةُ التِقاءِ السّاكِنَيْنِ، والضَّمُّ أنَّهُ اتِّباعٌ. ولَمْ يَعْتَدُّوا بِالسّاكِنِ؛ لِأنَّهُ حاجِزٌ غَيْرُ حَصِينٍ، أوْ لِيَدُلُّوا عَلى أنَّ حَرَكَةَ هَمْزَةِ الوَصْلِ المَحْذُوفَةِ كانَتْ ضَمَّةً. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ وأبُو السَّمالِ: فَمَنِ اضْطِرَّ، بِكَسْرِ الطّاءِ، وأصْلُهُ اضْطَرَرَ، فَلَمّا أُدْغِمَ نُقِلَتْ حَرَكَةُ الرّاءِ إلى الطّاءِ. وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: فَمَنِ اطَّرَّ، بِإدْغامِ الضّادِ في الطّاءِ، وذَلِكَ حَيْثُ وقَعَ. ومَعْنى الِاضْطِرارِ: الِالجاءُ بِعَدَمٍ وغَرَثٍ، هَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ. وقِيلَ مَعْناهُ: أُكْرِهَ وغُلِبَ عَلى أكْلِ هَذِهِ المُحَرَّماتِ. وانْتِصابُ (غَيْرَ باغٍ) عَلى الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ في اضْطُرَّ، وجَعَلَهُ بَعْضُهم حالًا مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ في الفِعْلِ المَحْذُوفِ المَعْطُوفِ عَلى قَوْلِهِ: ”اضْطُرَّ“، وقَدَّرُوهُ: فَمَنِ اضْطُرَّ فَأكَلَ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ. قَدَّرَهُ كَذَلِكَ القاضِي وأبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ لِيَجْعَلا ذَلِكَ قَيْدًا في الأكْلِ، لا في الِاضْطِرارِ. ولا يَتَعَيَّنُ ما لاقاهُ؛ إذْ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ هَذا المُقَدَّرُ بَعْدَ قَوْلِهِ: ”غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ“، بَلْ هو الظّاهِرُ والأوْلى؛ لِأنَّ في تَقْدِيرِ قَبْلَ ”غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ“ فَصْلًا بَيْنَ ما ظاهِرُهُ الِاتِّصالُ بِما بَعْدَهُ، ولَيْسَ ذَلِكَ في تَقْدِيرِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ (غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ) . و”عادٍ“: اسْمُ فاعِلٍ مِن عَدا، ولَيْسَ اسْمَ فاعِلٍ مَن عادَ، فَيَكُونُ مَقْلُوبًا، أوْ مَحْذُوفًا مِن بابِ شاكَ ولاثَ، كَما ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُهم؛ لِأنَّ القَلْبَ لا يَنْقاسُ، ولا نَصِيرُ إلَيْهِ إلّا لِمُوجِبٍ، ولا مُوجِبَ هُنا لِادِّعاءِ القَلْبِ. وأصْلُ البَغْيِ - كَما تَقَدَّمَ - هو طَلَبُ الفَسادِ، وإنْ كانَ قَدْ ورَدَ لِمُطْلَقِ الطَّلَبِ، فاسْتُعْمِلَ في طَلَبِ الخَيْرِ، كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎أألْخَيْرُ الَّذِي أنا أبْتَغِيهِ أمِ الشَّرُّ الَّذِي هو يَبْتَغِينِي ويُقالُ: ؎لا يَمْنَعَنَّكَ مِن بِغاءِ الخَيْرِ تِعْقادُ التَّمائِمِ ”فَلا إثْمَ عَلَيْهِ“، الإثْمُ: تَحَمُّلُ الذَّنْبِ، نَفى بِذَلِكَ عَنْهُ الحَرَجَ. والمَحْذُوفُ الَّذِي قَدَّرْناهُ مِن قَوْلِنا: فَأكَلَ، لا بُدَّ مِنهُ لِأنَّهُ لا يَنْفِ الإثْمَ عَمَّنْ لَمْ يُوجِدْ مِنهُ الِاضْطِرارُ، ولا يَتَرَتَّبُ ذَلِكَ عَلى الِاضْطِرارِ وحْدَهُ، بَلْ عَلى الأكْلِ المُتَرَتِّبِ عَلى الِاضْطِرارِ، في حالِ كَوْنِ المُضْطَرِّ لا باغِيًا ولا عادِيًا. وظاهِرُ هَذا التَّرْكِيبِ أنَّهُ مَتى كانَ عاصِيًا بِسَفَرِهِ فَأكَلَ، أنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ الإثْمُ؛ لِأنَّهُ يُطْلَقُ أنَّهُ باغٍ، خِلافًا لِأبِي حَنِيفَةَ ومَن وافَقَهُ، فَإنَّهُ يُبِيحُ لَهُ الأكْلَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وظاهِرُ بِناءِ ”اضْطُرَّ“ حُصُولُ مُطْلَقِ الضَّرُورَةِ بِشَغَبٍ، أوْ إكْراهٍ، سَواءٌ حَصَلَ الِاضْطِرارُ في سَفَرٍ أوْ حَضَرٍ. وظاهِرُ قَوْلِهِ: (فَلا إثْمَ عَلَيْهِ) نَفْيُ كُلِّ فَرْدٍ مِنِ الإثْمِ عَنْهُ إذا أكَلَ، لا وُجُوبُ الأكْلِ. وقالَ الطَّبَرِيُّ: لَيْسَ الأكْلُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ رُخْصَةً، بَلْ ذَلِكَ عَزِيمَةٌ واجِبَةٌ، ولَوِ امْتَنَعَ مِنَ الأكْلِ كانَ (p-٤٩١)عاصِيًا. وقالَ مَسْرُوقٌ: بَلَغَنِي أنَّهُ مَنِ اضْطُرَّ إلى المَيْتَةِ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتّى ماتَ، دَخَلَ النّارَ، كَأنَّهُ أشارَ إلى أنَّهُ قاتِلُ نَفْسِهِ بِتَرْكِهِ ما أباحَ اللَّهُ لَهُ. (إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ): لَمّا ذَكَرَ أشْياءَ مُحَرَّمَةً اقْتَضى المَنعَ مِنها، ثُمَّ ذَكَرَ إباحَتَها لِلْمُضْطَرِّ في تِلْكَ الحالِ المُقَيَّدَةِ لَهُ، أتْبَعَ ذَلِكَ بِالإخْبارِ عَنْ نَفْسِهِ بِأنَّهُ تَعالى غَفُورٌ رَحِيمٌ؛ لِأنَّ المُخاطَبَ بِصَدَدِ أنْ يُخالِفَ، فَيَقَعُ في شَيْءٍ مِن أكْلِ هَذِهِ المُحَرَّماتِ، فَأخْبَرَ بِأنَّهُ غَفُورٌ لِلْعُصاةِ إذا تابُوا، رَحِيمٌ بِهِمْ. أوْ لِأنَّ المُخاطَبَ إذا اضْطُرَّ فَأكَلَ ما يَزِيدُ عَلى قَدْرِ الحاجَةِ، فَهو تَعالى غَفُورٌ لَهُ ذَلِكَ، رَحِيمٌ بِأنْ أباحَ لَهُ قَدْرَ الحاجَةِ. أوْ لِأنَّ مُقْتَضى الحُرْمَةِ قائِمٌ في هَذِهِ المُحَرَّماتِ، ثُمَّ رَخَّصَ في تَناوُلِها مَعَ قِيامِ المانِعِ، فَعَبَّرَ عَنْ هَذا التَّرْخِيصِ والإباحَةِ بِالمَغْفِرَةِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ الغُفْرانِ صِفَةَ الرَّحْمَةِ، أيْ لِأجْلِ رَحْمَتِي بِكم أبَحْتُ لَكم ذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب