الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلاَّ أنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إناهُ ولَكِنْ إذا دُعِيتُمْ فادْخُلُوا فَإذا طَعِمْتُمْ فانْتَشِرُوا ولا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إنَّ ذَلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ واللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ وإذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعًا فاسْأَلُوهُنَّ مِن وراءِ حِجابٍ ذَلِكُمْ أطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وقُلُوبِهِنَّ وما كانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ولا أنْ تَنْكِحُوا أزْواجَهُ مِن بَعْدِهِ أبَدًا إنَّ ذَلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ۝﴾ [الأحزاب: ٥٣]. في هذه الآيةِ: تعظيمٌ لحُرْمةِ بيتِ النبوَّةِ، فحرَّم الدخولَ إلى بيوتِهِ إلاَّ بإذنِهِ ولو كان ذلك لحاجاتٍ، وذلك بعدَما فرَضَ اللهُ الحِجابَ عليهنَّ، زيادةً في تطهيرِ بيتِ النبوَّةِ، ودفعًا للحرَجِ الذي يجدُهُ النبيُّ ﷺ مِن كثرةِ الناسِ الواردينَ إلى بيتِهِ بحاجاتِهم فيُؤذُونَهُ ويُؤذُونَ أهلَه، ولهذا قال تعالى: ﴿إنَّ ذَلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ﴾. وفي هذا: عِظَمُ حياءِ النبيِّ ﷺ مِن أصحابِه، مع علوِّ مَقامِهِ وسيادتِهِ في الخَلْقِ، فإنّ الرفيعَ عادةً يَجسُرُ على مَن دونَهُ ولا يجدُ في نفسِهِ حياءً كما يجدُهُ ممَّن هو مِثلُهُ أو فوقَه، وهذا مِن كمالِ الخُلُقِ وصِفاتِ الأنبياءِ، كما قال تعالى: ﴿وإنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ۝﴾ [القلم: ٤]، وقد جاء في «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ، قال: «كان النبيُّ ﷺ أشَدَّ حَياءً مِنَ العَذْراءِ فِي خِدْرِها»[[أخرجه البخاري (٣٥٦٢)، ومسلم (٢٣٢٠).]]. والحياءُ ممَّن دونَ الإنسانِ هو محلُّ اختبارِ كمالِ الأخلاقِ ونُبلِها، وأمّا حياءُ الإنسانِ ممَّن هو مِثلُه وفوقَه، فيجدُهُ أكثَرُ الناسِ. وقد تقدَّم الكلامُ على مسألةِ الاستئذانِ عندَ دخولِ البيوتِ وصِفَتِهِ، وبَذْلِ السلامِ عندَ دخولِها، في سورةِ النورِ. وقولُه تعالى: ﴿إلاَّ أنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إناهُ ولَكِنْ إذا دُعِيتُمْ فادْخُلُوا فَإذا طَعِمْتُمْ فانْتَشِرُوا﴾، يعني: غيرَ منتظِرِينَ نُضْجَ الطعامِ واستواءَهُ، وذلك أنّ منهم مَن كان يأتي إلى بيتِ النبيِّ ﷺ وقتَ غدائِهِ مِن غيرِ دعوةٍ، فنهاهُم اللهُ عن ذلك، وأَذِنَ لهم بدخولِ البيتِ عندَ الدعوةِ فحَسْبُ، مِن غيرِ مجيءٍ لانتظارِ الغداءِ بلا دعوةٍ منه ﷺ. وقولُه تعالى: ﴿وإذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعًا فاسْأَلُوهُنَّ مِن وراءِ حِجابٍ﴾، في هذا تعظيمٌ لحُرْمةِ أمَّهاتِ المؤمنينَ بعدَما بيَّن حُرْمةَ بيتِه. والمتاعُ: كلُّ ما يُستمتَعُ به مِن البيوتِ عادةً، مِن طعامٍ وشرابٍ وإناءٍ ولِباسٍ. والحِجابُ يُستعمَلُ في الكتابِ والسُّنَّةِ بمعانٍ، أشهَرُها وأَعَمُّها ـ وهو المرادُ هنا ـ: أنّه بمعنى الحاجزِ الساترِ بينَ شيئَيْنِ، ويكونُ مِن جدارٍ أو قُماشٍ أو خَشَبٍ، وليس هو في القرآنِ والسُّنَّةِ يُطلَقُ على معنًى مِن مَعاني اللِّباسِ أو اللُّبْسِ، وهو المرادُ في الآيةِ لأُمَّهاتِ المؤمنينَ: ﴿وإذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعًا فاسْأَلُوهُنَّ مِن وراءِ حِجابٍ﴾، ومِن هذا المعنى: قولُه تعالى: ﴿وما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلاَّ وحْيًا أوْ مِن وراءِ حِجابٍ﴾ [الشورى: ٥١]، وقولُهُ عن مريمَ: ﴿فاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجابًا﴾ [١٧]، وقولُه عن نبيِّه سليمانَ: ﴿فَقالَ إنِّي أحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتّى تَوارَتْ بِالحِجابِ ۝﴾ [ص: ٣٢]، وقولُه عن قولِ الكفارِ للنبيِّ ﷺ: ﴿ومِن بَيْنِنا وبَيْنِكَ حِجابٌ فاعْمَلْ إنَّنا عامِلُونَ ۝﴾ [فصلت: ٥]، وكذلك هو في السُّنَّةِ بمِثْلِ هذا المعنى، فليس هو لِباسًا يختَصُّ به أحدٌ، وإنّما هو ساتِرٌ بينَ جهتَيْنِ أو شيئَيْنِ: فقد يُطلَقُ في اللُّغةِ على الفصلِ بينَ رجالٍ ورجالٍ، كما في حديثِ أنسٍ في «الصحيحَيْنِ»، في قصةِ موتِ النبيِّ ﷺ، قال: «أوْمَأَ النَّبِيُّ ﷺ بِيَدِهِ إلى أبِي بَكْرٍ أنْ يَتَقَدَّمَ، وأَرْخى النَّبِيُّ ﷺ الحِجابَ، فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ حَتّى ماتَ»[[أخرجه البخاري (٦٨١)، ومسلم (٤١٩).]]. وقد يُطلَقُ على الفصلِ بينَ الرجالِ والنساءِ، كما في قولِ عمرَ في الصحيحِ: «يا رَسُولَ اللهِ، يَدْخُلُ عَلَيْكَ البَرُّ والفاجِرُ، فَلَوْ أمَرْتَ أُمَّهاتِ المُؤْمِنِينَ بِالحِجابِ، فَأَنْزَلَ اللهُ آيَةَ الحِجابِ»[[أخرجه البخاري (٤٤٨٣).]]. وإنّما شدَّد اللهُ على نساءِ النبيِّ، تعظيمًا للنبيِّ ﷺ، وبقيَّةُ النساءِ يَدخُلْنَ في هذا الحُكْمِ، لكنَّ حُكْمَهُنَّ أخَفُّ، لأنّ التَّبِعَةَ عليهنَّ وعلى أزواجِهنَّ أيسَرُ، ولأنّ اللهَ ذكَرَ علةً مشترَكةً لكلِّ النساءِ: ﴿ذَلِكُمْ أطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وقُلُوبِهِنَّ﴾، ولا يسُوغُ أنّ طهارةَ قلوبِ سائرِ المؤمناتِ وسائرِ المؤمنينَ ليس بمَطلَبٍ في الشرعِ، وقد ذكَرَ اللهُ ذلك في أمَّهاتِ المؤمنينَ، وهنَّ أطهَرُ نساءِ العالَمِين، وفي الصحابةِ، وهم أطهَرُ الأمَّةِ بعدَ نبيِّها، فغيرُهم أحوَجُ إلى ذلك، وقال بعمومِ هذه الآيةِ ابنُ جريرٍ الطبريُّ، وابنُ عبدِ البَرِّ، وغيرُهما[[«تفسير الطبري» (١٩ /١٦٦)، و«التمهيد» (٨ /٢٣٦).]]. وهذه الآيةُ جاءتْ في حُكْمِ الاحتجابِ عن الرجالِ في البيوتِ، ومِثلُهُ التعليمُ والعملُ، لأنّه يطولُ الحديثُ والقعودُ فيها، فكانتْ آيةُ الحجابِ مبيِّنةً لحُكْمٍ، وآيةُ الجلابيبِ مبيِّنةً لحُكْمٍ آخَرَ، وهو اللِّباسُ عندَ إرادةِ الخروجِ إلى الطُّرُقاتِ والسوقِ والمساجدِ وغيرِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب