الباحث القرآني

﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلا أنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ شُرُوعٌ في بَيانِ بَعْضِ الحُقُوقِ عَلى النّاسِ المُتَعَلِّقَةِ بِهِ ﷺ وهو عِنْدَ نِسائِهِ والحُقُوقِ المُتَعَلِّقَةِ بِهِنَّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُنَّ، ومُناسِبَةُ ذَلِكَ لِما تَقَدَّمَ ظاهِرَةٌ، والآيَةُ عِنْدَ الأكْثَرِينَ نَزَلَتْ يَوْمَ تَزَوَّجَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ. أخْرَجَ الإمامُ أحْمَدُ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والبُخارِيُّ ومُسْلِمٌ والنَّسائِيُّ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ مِن طُرُقٍ عَنْ أنَسٍ قالَ: «لَمّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ دَعا القَوْمَ فَطَعِمُوا ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ وإذا هو كَأنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيامِ فَلَمْ يَقُومُوا فَلَمّا رَأى ذَلِكَ قامَ، فَلَمّا قامَ قامَ مَن قامَ وقَعَدَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ فَجاءَ النَّبِيُّ ﷺ لِيَدْخُلَ فَإذا القَوْمُ جُلُوسٌ ثُمَّ إنَّهم قامُوا فانْطَلَقْتُ فَجِئْتُ أخْبَرْتُ النَّبِيَّ ﷺ أنَّهم قَدِ اِنْطَلَقُوا فَجاءَ حَتّى دَخَلَ فَذَهَبْتُ أدْخَلُ فَألْقى الحِجابَ بَيْنِي وبَيْنَهُ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ﴾ الآيَةَ» . والنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿إلا أنْ يُؤْذَنَ﴾ بِتَقْدِيرِ باءِ المُصاحِبَةِ اِسْتِثْناءٌ مُفَرَّغٌ مِن أعَمِّ الأحْوالِ أيْ لا تَدْخُلُوها في حالٍ مِنَ الأحْوالِ إلّا حالَ كَوْنِكم مَصْحُوبِينَ بِالإذْنِ. وجَوَّزَ أبُو حَيّانَ كَوْنَهُ بِتَقْدِيرِ باءَ السَّبَبِيَّةِ فَيَكُونُ الِاسْتِثْناءُ مِن أعَمِّ الأسْبابِ أيْ لا تَدْخُلُوها بِسَبَبٍ مِنَ الأسْبابِ إلّا بِسَبَبِ الإذْنِ، وذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إلى أنَّهُ اِسْتِثْناءٌ مِن أعَمِّ الأوْقاتِ أيْ لا تَدْخُلُوها في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ إلّا وقْتَ أنْ يُؤْذَنَ لَكم. وأوْرَدَ عَلَيْهِأبُو حَيّانَ أنَّ الوُقُوعَ مَوْقِعَ الظَّرْفِ مُخْتَصٌّ بِالمَصْدَرِ الصَّرِيحِ دُونَ (p-68)المُؤَوَّلِ فَلا يُقالُ أتَيْتُكَ أنْ يَصِيحَ الدِّيكُ وإنَّما يُقالُ أتَيْتُكَ صِياحَ الدِّيكِ، ولا يَخْفى أنَّ القَوْلَ بِالِاخْتِصاصِ أحَدُ قَوْلَيْنِ لِلنُّحاةِ في المَسْألَةِ، نَعَمْ إنَّهُ الأشْهُرُ واَلزَّمَخْشَرِيُّ إمامٌ في العَرَبِيَّةِ لا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِمِثْلِ هَذِهِ المُخالَفَةِ. وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ الوَقْتَ مُقَدَّرٌ في نَظْمِ الكَلامِ فَيَكُونُ مَحْذُوفًا حَذْفَ حَرْفِ الجَرِّ وأنَّ هَذا لَيْسَ مِن بابِ وُقُوعِ المَصْدَرِ مَوْقِعَ الظَّرْفِ. وأجازَ بَعْضُ الأجِلَّةِ كَوْنَ ذَلِكَ اِسْتِثْناءً مِن أعَمِّ الأحْوالِ بِلا تَقْدِيرِ الباءِ بَلْ بِاعْتِبارِ أنَّ المَصْدَرَ مُؤَوَّلٌ بِاسْمِ المَفْعُولِ أيْ لا تَدْخُلُوها إلّا مَأْذُونًا لَكم والمَصْدَرُ المَسْبُوكُ قَدْ يُؤَوَّلُ بِمَعْنى المَفْعُولِ كَما قِيلَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما كانَ هَذا القُرْآنُ أنْ يُفْتَرى﴾ [يُونُسَ: 37] إنَّ المَعْنى ما كانَ هَذا القُرْآنُ مُفْتَرًى، فَمَن قالَ كَوْنُ المَصْدَرِ بِمَعْنى المَفْعُولِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ في المُؤَوَّلِ لَمْ يُصِبْ، وقِيلَ فِيما ذُكِرَ مُخالَفَةٌ لِقَوْلِ النُّحاةِ المَصْدَرُ المَسْبُوكُ مَعْرِفَةٌ دائِمًا كَما صَرَّحَ بِهِ في (اَلْمُغْنِي). وتَعَقَّبَهُ الخَفاجِيُّ بِأنَّ الحَقَّ أنَّهُ سَطْحِيٌّ وأنَّهُ قَدْ يَكُونُ نَكِرَةً وذَكَرَ قَوْلَهُ تَعالى: ( ما كانَ ) الخ. وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿إلى طَعامٍ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِ ﴿يُؤْذَنَ﴾ وعُدِّيَ بِإلى مَعَ أنَّهُ يَتَعَدّى بِفي فَيُقالُ أُذِنَ لَهُ في كَذا لِتَضْمِينِهِ مَعْنى الدُّعاءِ لِلْإشْعارِ بِأنَّهُ لا يَنْبَغِي أنْ يَدْخُلُوا عَلى طَعامٍ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ وإنْ تَحَقَّقَ الإذْنُ الصَّرِيحُ في دُخُولِ البَيْتِ فَإنَّ كُلَّ إذْنٍ لَيْسَ بِدَعْوَةٍ، وقِيلَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَدْ تَنازَعَ فِيهِ الفِعْلانِ (تَدْخُلُوا) و(يُؤْذَنَ) وهو مِمّا لا بَأْسَ بِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿غَيْرَ ناظِرِينَ إناهُ﴾ أيْ غَيْرَ مُنْتَظَرِينَ نُضْجَهُ وبُلُوغَهُ، تَقُولُ أنى الطَّعامُ يَأْنِي أنْيًا كَقَلى يَقْلِي قَلْيًا إذا نَضِجَ وبَلَغَ، قالَهُ الزَّجّاجُ، وقالَ مَكِّيٌّ: إناهُ ظَرْفُ زَمانٍ مَقْلُوبُ آنٍ الَّتِي بِمَعْنى الحِينِ فَقُلِبَتِ النُّونُ قَبْلَ الألِفِ وغُيِّرَتِ الهَمْزَةُ إلى الكَسْرَةِ، أيْ غَيْرَ ناظِرِينَ آنَهُ أيْ حِينَهُ والمُرادُ حِينَ إدْراكِهِ ونُضْجِهِ أوْ حِينَ أكْلِهِ، حالٌ مِن فاعِلِ تَدَخُلُوا وهو حالٌ مُفَرَّغٌ مِن أعَمِّ الأحْوالِ كَما سَمِعْتَ في ﴿أنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ وإذا جُعِلَ ذَلِكَ حالًا فَهي حالٌ مُتَرادِفَةٌ فَكَأنَّهُ قِيلَ: لا تَدْخُلُوا في حالٍ مِنَ الأحْوالِ إلّا مَصْحُوبِينَ بِالإذْنِ غَيْرَ ناظِرِينَ، والظّاهِرُ أنَّها حالٌ مُقَدَّرَةٌ ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ مُقارِنَةً، واَلزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدَ أنْ جَعَلَ ما تَقَدَّمَ نَصْبًا عَلى الظَّرْفِيَّةِ جَعَلَ هَذا حالًا أيْضًا لَكِنَّهُ قالَ بَعْدَ وقْعِ الِاسْتِثْناءِ عَلى الوَقْتِ والحالِ مَعًا كَأنَّهُ قِيلَ لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلّا وقْتَ الإذْنِ ولا تَدْخُلُوها إلّا غَيْرَ ناظِرِينَ. وتَعَقَّبَهُ أبُو حَيّانَ بِأنَّهُ لا يَجُوزُ عَلى مَذْهَبِ الجُمْهُورِ مِن أنَّهُ لا يَقَعُ بَعْدَ إلّا في الِاسْتِثْناءِ إلّا المُسْتَثْنى أوِ المُسْتَثْنى مِنهُ أوْ صِفَةُ المُسْتَثْنى مِنهُ ثُمَّ قالَ وأجازَ الأخْفَشُ والكِسائِيُّ ذَلِكَ في الحالِ أجازَ ما ذَهَبَ القَوْمُ إلّا يَوْمَ الجُمْعَةِ راحِلِينَ عَنّا، فَيَجُوزُ ما قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَيْهِ ولا يَخْفى عَلى المُتَأمِّلِ في كَلامِ الزَّمَخْشَرِيِّ أنَّهُ بَعِيدٌ بِمَراحِلَ عَنْ جَعْلِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ كالمِثالِ المَذْكُورِ لِأنَّهُ عَلى التَّأْخِيرِ والتَّقْدِيمِ، وكَلامُهُ آبَ عَنِ اِعْتِبارِ ذَلِكَ في الآيَةِ، نَعَمْ لَوِ اِقْتَصَرَ عَلى جَعْلِ ﴿غَيْرَ ناظِرِينَ﴾ حالًا مِن ضَمِيرِ ﴿تَدْخُلُوا﴾ لَأمْكَنَ أنْ يُقالَ: إنَّ مُرادَهُ لا تَدْخُلُوا غَيْرَ ناظِرِينَ إلّا أنْ يُؤْذَنَ لَكم ويَكُونُ المَعْنى أنَّ دُخُولَهم غَيْرَ ناظِرِينَ إناهُ مَشْرُوطٌ بِالإذْنِ وأمّا دُخُولُهم ناظِرِينَ فَمَمْنُوعٌ مُطْلَقًا بِطَرِيقِ الأوْلى ثُمَّ قُدِّمَ المُسْتَثْنى وأُخِّرَ الحالُ. وتَعَقَّبَهُ بَعْضُهم بِأنَّ فِيهِ اِسْتِثْناءَ شَيْئَيْنِ وهُما الظَّرْفُ والحالُ بِأداةٍ واحِدَةٍ، وقَدْ قالَ اِبْنُ مالِكٍ في التَّسْهِيلِ: لا يُسْتَثْنى بِأداةٍ واحِدَةٍ دُونَ عِطْفِ شَيْئانِ وظاهِرُهُ عَدَمُ جَوازِ ذَلِكَ سَواءٌ كانَ الِاسْتِثْناءُ مُفَرَّغًا أمْ لا وسَواءٌ كانَ الشَّيْئانِ مِمّا يَعْمَلُ فِيهِما العامِلُ المُتَقَدِّمُ أمْ لا فَلا يَجُوزُ قامَ القَوْمُ إلّا زَيْدًا عَمْرًا، ولا ما قامَ القَوْمُ إلّا زَيْدًا عَمْرًا، أوْ إلّا زَيْدٌ عَمْرٌو، ولا ما قامَ إلّا خالِدٌ بَكْرٌ، ولا ما أعْطَيْتُ أحَدًا شَيْئًا إلّا عَمْرًا دانِقًا، ولا ما أعْطَيْتُ إلّا عَمْرًا دانِقًا، ولا ما أخَذَ أحَدٌ شَيْئًا إلّا زَيْدٌ دِرْهَمًا، ولا ما أخَذَ أحَدٌ إلّا زَيْدٌ دِرْهَمًا، والكَلامُ (p-69)فِي هَذِهِ المَسْألَةِ وما يَصِحُّ مِن هَذِهِ التَّراكِيبِ وما لا يَصِحُّ وإذا صَحَّ فَعَلى أيِّ وجْهٍ يَصِحُّ طَوِيلٌ عَرِيضٌ، واَلَّذِي أمِيلُ إلَيْهِ تَقْيِيدُ إطْلاقِهِمْ لا يُسْتَثْنى بِأداةٍ واحِدَةٍ دُونَ عِطْفِ شَيْئَيْنِ بِما إذا كانَ الشَّيْئانِ لا يَعْمَلُ فِيهِما العامِلُ السّابِقُ قَبْلَ الِاسْتِثْناءِ فَلا يَجُوزُ ما قامَ إلّا زَيْدٌ إلّا بَكْرٌ مَثَلًا، إذْ لا يَكُونُ لِلْفِعْلِ فاعِلانِ دُونَ عَطْفٍ ولا ما ضَرَبْتُ إلّا زَيْدًا عَمْرًا مَثَلًا، إذْ لا يَكُونُ لِضَرَبَ مَفْعُولانِ دُونَ عَطْفٍ أيْضًا، وأرى جَوازَ نَحْوِ ما أعْطَيْتُ أحَدًا شَيْئًا إلّا عَمْرًا دانِقًا ونَحْوِ ما ضَرَبَ إلّا زَيْدٌ عَمْرًا مِن غَيْرِ حاجَةٍ إلى اِلْتِزامِ إبْدالِ اِسْمَيْنِ مِنِ اِسْمَيْنِ نَظِيرَ قَوْلِهِ: ؎ولَمّا قَرَعْنا النَّبْعَ بِالنَّبْعِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ أبَتْ عِيدانُهُ أنْ تَكَسَّرا فِي الأوَّلِ وإضْمارِ فِعْلٍ ناصِبٍ لِعَمْرٍو دَلَّ عَلَيْهِ المَذْكُورُ في الثّانِي، وما ذَكَرَهُ اِبْنُ مالِكٍ في الِاحْتِجاجِ عَلى الشُّبَهِ بِالعَطْفِ حَيْثُ قالَ: كَما لا يُقَدَّرُ بَعْدَ حَرْفِ العَطْفِ مَعْطُوفانِ كَذَلِكَ لا يُقْدَّرُ بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْناءِ مُسْتَثْنَيانِ لا يَتِمُّ عَلَيْنا فَإنّا نَقُولُ في العَطْفِ بِالجَوازِ في مِثْلِ ما ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا وبَكْرٌ خالِدًا قَطْعًا فَنَحْوَ ما أعْطَيْتُ أحَدًا شَيْئًا إلّا زَيْدًا دانِقًا كَذَلِكَ، وقَوْلُهُ: إنَّ الِاسْتِثْناءَ في حُكْمِ جُمْلَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ لِأنَّ مَعْنى جاءَ القَوْمُ إلّا زَيْدًا جاءَ القَوْمُ ما مِنهم زَيْدٌ، وهو عَلى ما قِيلَ يَقْتَضِي أنْ لا يَعْمَلَ ما قَبْلُ إلّا فِيما بَعْدَها في مِثْلِ ما ذُكِرَ لِأنَّها بِمَثابَةِ ما ولَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الصُّوَرِ المُسْتَثْناةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ كَما لا يَخْفى، وما في أمالِي الكافِيَةِ مِن أنَّهُ لا بُدَّ في المُسْتَثْنى المُفَرَّغِ مِن تَقْدِيرِ عامٍّ فَلَوِ اُسْتُعْمِلَ بَعْدَ إلّا شَيْئانِ فَإمّا أنْ لا يُقَدَّرَ عامٌّ أصْلًا وهو يُخالِفُ حُكْمَ البابِ أوْ يُقَدَّرَ عامّانِ وهو يُؤَدِّي إلى أمْرٍ خارِجٍ عَنِ القِياسِ مِن غَيْرِ ثَبْتٍ، ولَوْ جازَ في الِاثْنَيْنِ جازَ فِيما فَوْقَهُما وهو ظاهِرُ البُطْلانِ أوْ يُقَدَّرُ لِأحَدِهِما دُونَ الآخَرِ وهو يُؤَدِّي إلى اللَّبْسِ فِيما قُصِدَ. تَعَقَّبَهُ الحَدِيثِيُّ بِأنَّ لِقائِلٍ أنْ يَخْتارَ الثّالِثَ ويَقُولَ: العامُّ لا يُقَدَّرُ إلّا لِلَّذِي يَلِي إلّا مِنهُما لِأنَّهُ المُسْتَثْنى المُفَرَّغِ ظاهِرًا فَلا يَحْصُلُ اللَّبْسُ أصْلًا، وأبُو حَيّانَ قَدَّرَ في الآيَةِ مَحْذُوفًا وجَعَلَ ﴿غَيْرَ ناظِرِينَ﴾ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِيهِ والتَّقْدِيرُ اُدْخُلُوا غَيْرَ ناظِرِينَ وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلامُ اِبْنِ مالِكٍ حَيْثُ أوْجَبَ في نَحْوِ ما ضَرَبَ إلّا زَيْدٌ عَمْرًا جَعَلَ عَمْرًا مَفْعُولًا لِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ المَذْكُورُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اِسْتِئْنافًا بَيانِيًّا وقَعَتْ جَوابًا لِسُؤالٍ نَشَأ مِنَ الجُمْلَةِ الأُولى كَأنَّهُ لَمّا قِيلَ ما ضَرَبَ إلّا زَيْدٌ سَألَ سائِلٌ مَن ضَرَبَ؟ فَقِيلَ: ضَرَبَ عَمْرًا، وذَكَرَ العَلّامَةُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ في رِسالَتِهِ المُسَمّاةِ بِالحِلْمِ والأناةِ في إعْرابِ ﴿غَيْرَ ناظِرِينَ إناهُ﴾ وفِيها يَقُولُ الصَّلاحُ الصَّفَدَيُّ: ؎يا طالِبَ النَّحْوِ في زَمانٍ ∗∗∗ أطْوَلَ ظِلًّا مِنَ القَناةِ ؎وما تَحَلّى مِنهُ بِعِقْدٍ ∗∗∗ عَلَيْكَ بِالحِلْمِ والأناةِ إنَّ الظّاهِرَ أنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ ما قالَ ذَلِكَ إلّا تَفْسِيرَ مَعْنًى والمُسْتَثْنى في الحَقِيقَةِ هو المَصْدَرُ المُتَعَلِّقُ بِهِ الظَّرْفُ والحالُ فَكَأنَّهُ قِيلَ: لا تَدْخُلُوا إلّا دُخُولًا مَصْحُوبًا بِكَذا ثُمَّ قالَ: ولَسْتُ أقُولُ بِتَقْدِيرِ مَصْدَرٍ هو عامِلٌ فِيهِما فَإنَّ العَمَلَ لِلْفِعْلِ المُفَرَّغِ وإنَّما أرَدْتُ شَرْحَ المَعْنى، ومِثْلُ هَذا الإعْرابِ هو الَّذِي نَخْتارُهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلا مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾ [آلِ عِمْرانَ: 19] أيْ إلّا اِخْتِلافًا مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهم فَمِن بَعْدِ ما جاءَهم وبَغْيًا لَيْسا مُسْتَثْنَيَيْنِ بَلْ وقَعَ عَلَيْهِما المُسْتَثْنى وهو الِاخْتِلافُ كَما تَقُولُ ما قُمْتُ إلّا يَوْمَ الجُمْعَةِ ضاحِكًا أمامَ الأمِيرِ في دارِهِ فَكُلُّها يُعْلَمُ فِيها الفِعْلُ المُفَرَّغُ مِن جِهَةِ الصِّناعَةِ وهي مِن جِهَةِ المَعْنى كالشَّيْءِ الواحِدِ لِأنَّها بِمَجْمُوعِها بَعْضٌ مِنَ المَصْدَرِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الفِعْلُ المَنفِيُّ وهَذا أحْسَنُ مِن أنْ يُقَدَّرَ اِخْتَلَفُوا بَغْيًا بَيْنَهم لِأنَّهُ حِينَئِذٍ لا يُفِيدُ الحَصْرَ وعَلى ما قُلْناهُ يُفِيدُ الحَصْرَ فِيهِ كَما أفادَهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ( مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ ) فَهو حَصْرٌ في شَيْئَيْنِ لَكِنْ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْناهُ لا أنَّهُ اِسْتِثْناءُ شَيْئَيْنِ بَلِ اِسْتِثْناءُ شَيْءٍ صادِقٍ عَلى شَيْئَيْنِ، ويُمْكِنُ حَمْلُ كَلامِ الزَّمَخْشَرِيِّ عَلى ذَلِكَ فَقَوْلُهُ: وقَعَ (p-70)الِاسْتِثْناءُ عَلى الوَقْتِ والحالِ مَعًا صَحِيحٌ، إنَّ المُسْتَثْنى أعَمُّ لِأنَّ الأعَمَّ يَقَعُ عَلى الأخَصِّ والواقِعُ عَلى الواقِعِ واقِعٌ فَتَخَلَّصَ عَمّا ورَدَ عَلَيْهِ مِن قَوْلِ النُّحاةِ لا يُسْتَثْنى بِأداةٍ واحِدَةٍ دُونَ عِطْفِ شَيْئانِ اِنْتَهى فَتَدَبَّرْهُ. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ ﴿غَيْرَ ناظِرِينَ﴾ حالًا مِنَ المَجْرُورِ في ﴿لَكُمْ﴾ ولَمْ يَذْكُرْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وفي الكَشْفِ لَوْ جُعِلَ حالًا مِن ذَلِكَ لَأفادَ ما ذَكَرَهُ مِن حَيْثُ إنَّهُ نَهْيٌ عَنِ الدُّخُولِ في جَمِيعِ الأوْقاتِ إلّا وقْتَ وُجُودِ الإذْنِ المُقَيَّدِ، وقالَ العَلّامَةُ تَقِيُّ الدِّينِ لَمْ يُجْعَلْ حالًا مِن ذَلِكَ وإنْ كانَ جائِزًا مِن جِهَةِ الصِّناعَةِ لِأنَّهُ يَصِيرُ حالًا مُقَدَّرَةً ولِأنَّهم لا يَصِيرُونَ مَنهِيِّينَ عَنِ الِانْتِظارِ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ قَيْدًا في الإذْنِ ولَيْسَ المَعْنى عَلى ذَلِكَ بَلْ عَلى أنَّهم نُهُوا أنْ يَدْخُلُوا إلّا بِإذْنٍ ونُهُوا إذا دَخَلُوا أنْ يَكُونُوا غَيْرَ ناظِرِينَ إناهُ فَلِذَلِكَ اِمْتَنَعَ مِن جِهَةِ المَعْنى أنْ يَكُونَ العامِلُ فِيهِ ﴿يُؤْذَنَ﴾ وأنْ يَكُونَ حالًا مِن مَفْعُولِهِ اه. ولَعَلَّهُ أبْعَدُ نَظَرًا مِمّا في الكَشْفِ، وقَرَأ اِبْنُ أبِي عَبْلَةَ «غَيْرِ» بِالكَسْرِ عَلى أنَّهُ صِفَةٌ لِطَعامٍ فَيَكُونُ جارِيًا عَلى غَيْرِ مَن هو لَهُ، ومَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ في ذَلِكَ وُجُوبُ إبْرازِ الضَّمِيرِ بِأنْ يُقالَ هُنا غَيْرَ ناظِرٍ أنْتُمْ أوْ غَيْرَ ناظِرِينَ أنْتُمْ ولا بَأْسَ بِحَذْفِهِ عِنْدَ الكُوفِيِّينَ إذا لَمْ يَقَعُ لَبْسٌ كَما هُنا والتَّخْرِيجُ المَذْكُورُ عَلَيْهِ، وقَدْ أمالَ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ «إناهُ» بِناءً عَلى أنَّهُ مَصْدَرُ أنى الطَّعامُ إذا أدْرَكَ، وقَرَأ الأعْمَشُ «إناءَهُ» بِمَدَّةٍ بَعْدِ النُّونِ. ﴿ولَكِنْ إذا دُعِيتُمْ فادْخُلُوا﴾ اِسْتِدْراكٌ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إذْنٍ فِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ المُرادَ بِالإذْنِ إلى الطَّعامِ الدَّعْوَةُ إلَيْهِ ﴿فَإذا طَعِمْتُمْ فانْتَشِرُوا﴾ أيْ فَإذا أكَلْتُمُ الطَّعامَ فَتَفَرَّقُوا ولا تَلْبَثُوا، والفاءُ لِلتَّعْقِيبِ بِلا مُهْلَةٍ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ دُخُولُهم بَعْدَ الإذْنِ والدَّعْوَةِ عَلى وجْهٍ يَعْقُبُهُ الشُّرُوعُ في الأكْلِ بِلا فَصْلٍ، والآيَةُ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ الجُلُّ مِنَ المُفَسِّرِينَ خِطابٌ لِقَوْمٍ كانُوا يَتَحَيَّنُونَ طَعامَ النَّبِيِّ ﷺ فَيَدْخُلُونَ ويَقْعُدُونَ مُنْتَظِرِينَ لِإدْراكِهِ مَخْصُوصَةٌ بِهِمْ وبِأمْثالِهِمْ مِمَّنْ يَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِهِمْ في المُسْتَقْبَلِ، فالنَّهْيُ مَخْصُوصٌ بِمَن دَخَلَ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ وجَلَسَ مُنْتَظِرًا لِلطَّعامِ مِن غَيْرِ حاجَةٍ، فَلا تُفِيدُ النَّهْيَ عَنِ الدُّخُولِ بِإذْنٍ لِغَيْرِ طَعامٍ ولا عَنِ الجُلُوسِ واللُّبْثِ بَعْدَ الطَّعامِ لِمُهِمٍّ آخَرَ، ولَوِ اُعْتُبِرَ الخِطابُ عامًّا لَكانَ الدُّخُولُ واللُّبْثُ المَذْكُورانِ مَنهِيًّا عَنْهُما ولا قائِلَ بِهِ، ويُؤَيِّدُ ما ذُكِرَ ما أخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الرَّبِيعِ عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: كانُوا يَتَحَيَّنُونَ فَيَدْخُلُونَ بَيْتَ النَّبِيِّ ﷺ فَيَجْلِسُونَ فَيَتَحَدَّثُونَ لِيُدْرِكَ الطَّعامُ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآيَةَ، وكَذا ما أخْرَجَهُ اِبْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ أرْقَمَ قالَ نَزَلَتْ في الثُّقَلاءِ، ومِن هُنا قِيلَ إنَّها آيَةُ الثُّقَلاءِ، وتَقَدَّمَ لَكَ القَوْلُ بِجَوازِ كَوْنِ ﴿إلى طَعامٍ﴾ قَدْ تَنازَعَ فِيهِ الفِعْلانِ (تَدْخُلُوا) و(يُؤْذَنَ) والأمْرُ عَلَيْهِ ظاهِرٌ. وقالَ العَلّامَةُ اِبْنُ كَمالٍ: الظّاهِرُ أنَّ الخِطابَ عامَّ لِغَيْرِ المَحارِمِ وخُصُوصُ السَّبَبِ لا يَصْلُحُ مُخَصَّصًا عَلى ما تَقَرَّرَ في الأُصُولِ، نَعَمْ يَكُونُ وجْهًا لِتَقْيِيدِ الإذْنِ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿إلى طَعامٍ﴾ فَيَنْدَفِعُ وهْمُ اِعْتِبارِ مَفْهُومِهِ اِنْتَهى وفِيهِ بَحْثٌ فَتَأمَّلْ والمَشْهُورُ في سَبَبِ النُّزُولِ ما ذَكَرْناهُ أوَّلَ الكَلامِ في الآيَةِ عَنِ الإمامِ أحْمَدَ والشَّيْخَيْنِ وغَيْرِهِمْ فَلا تَغْفُلْ. ﴿ولا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ﴾ أيْ لِحَدِيثِ بَعْضِكم بَعْضًا أوْ لِحَدِيثِ أهْلِ البَيْتِ بِالتَّسَمُّعِ لَهُ فاللّامُ تَعْلِيلِيَّةٌ أوِ اللّامُ المُقَوِّيَةُ و﴿مُسْتَأْنِسِينَ﴾ مَجْرُورٌ مَعْطُوفٌ عَلى ﴿ناظِرِينَ﴾ ولا زائِدَةٌ، يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا مَعْطُوفًا عَلى ( غَيْرَ ) كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا الضّالِّينَ﴾ [اَلْفاتِحَةِ: 7] وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ حالًا مُقَدَّرَةً أوْ مُقارِنَةً مِن فاعِلِ فِعْلٍ حُذِفَ مَعَ فاعِلِهِ وذَلِكَ مَعْطُوفٌ عَلى المَذْكُورِ والتَّقْدِيرِ ولا تَدْخُلُوها أوْ لا تَمْكُثُوا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ. ﴿إنَّ ذَلِكُمْ﴾ أيِ اللُّبْثَ الدّالَّ عَلَيْهِ الكَلامُ أوِ الِاسْتِئْناسَ أوِ المَذْكُورَ مِنَ الِاسْتِئْناسِ والنَّظَرِ أوِ الدُّخُولَ عَلى غَيْرِ الوَجْهِ المَذْكُورِ، والأوَّلُ أقْوى مُلاءَمَةً (p-71)لِلسِّياقِ والسِّباقِ ﴿كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ﴾ لِأنَّهُ يَكُونُ مانِعًا لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَنْ قَضاءِ بَعْضِ أوْطارِهِ مَعَ ما فِيهِ مِن تَضْيِيقِ المُنَزَّلِ عَلَيْهِ ﷺ وعَلى أهْلِهِ ﴿فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ﴾ أيْ مِن إخْراجِكم بِأنْ يَقُولَ لَكُمُ اُخْرُجُوا أوْ مَن مَنَعَكم عَمّا يُؤْذِيهِ عَلى ما قِيلَ فالكَلامُ عَلى تَقْدِيرِ المُضافِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ﴾ فَإنَّهُ يَدُلُّ عَلى أنَّ المُسْتَحْيا مِنهُ مَعْنًى مِنَ المَعانِي ذَواتِهِمْ لِيَتَوارَدَ النَّفْيُ والإثْباتُ عَلى شَيْءٍ واحِدٍ كَما يَقْتَضِيهِ نِظامُ الكَلامِ فَلَوْ كانَ المُرادُ الِاسْتِحْياءَ مِن ذَواتِهِمْ لَقالَ سُبْحانَهُ واَللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنكُمْ، فالمُرادُ بِالحَقِّ إخْراجُهم أوِ المَنعُ عَنْ ذَلِكَ، ووُضِعَ الحَقُّ مَوْضِعَهُ لِتَعْظِيمِ جانِبِهِ، وحاصِلُ الكَلامِ أنَّهُ تَعالى لَمْ يَتْرُكِ الحَقَّ وأمَرَكم بِالخُرُوجِ، والتَّعْبِيرُ بِعَدَمِ الِاسْتِحْياءِ لِلْمُشاكَلَةِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ الكَلامُ عَلى الِاسْتِعارَةِ أوِ المَجازِ المُرْسَلِ، واعْتِبارُ تَقْدِيرِ المُضافِ مِمّا ذَهَبَ إلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ وكَثِيرٌ وهو الَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ، وفي (اَلْكَشْفِ) فَإنْ قُلْتَ: الِاسْتِحْياءُ مِن زَيْدٍ لِلْإخْراجِ مَثَلًا هو الحَقِيقَةُ والِاسْتِحْياءُ مِنَ اِسْتِخْراجِهِ تَوَسُّعٌ بِجَعْلِ ما نَشَأ مِنهُ الفِعْلُ كالصِّلَةِ وكِلْتا العِبارَتَيْنِ صَحِيحَةٌ يَصِحُّ إيقاعُ إحْداهُما مَوْقِعَ الأُخْرى، قُلْتُ: أُرِيدُ أنَّهُ لا بُدَّ مِن مُلاحَظَةِ مَعْنى الإخْراجِ فَإمّا أنْ يُقَدَّرَ الإخْراجُ ويُوقَعَ عَلَيْهِ فَيَكْثُرُ الإضْمارُ ولا يُطابِقُ اللَّفْظَ نَفْيًا وإثْباتًا، وإمّا أنْ يُقَدَّرَ المُضافُ فَيَقِلُّ ويُطابِقُ، ومَعَ وُجُودِ المُرَجِّحِ وفَقْدِ المانِعِ لا وجْهَ لِلْعُدُولِ فَلا بُدَّ مِمّا ذُكِرَ. وقالَ العَلّامَةُ اِبْنُ كَمالٍ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ﴾ تَعْلِيلُ المَحْذُوفِ دَلَّ عَلَيْهِ السِّياقُ، أيْ ولا يُخْرِجُكم فَيَسْتَحْيِي مِنكم ولِذَلِكَ صُدِّرَ بِأداةِ التَّعْلِيلِ ولَوْ كانَ المَعْنى يَسْتَحْيِي مِن إخْراجِكم لَكانَ حَقُّهُ أنْ يُصَدَّرَ بِالواوِ، وفِيهِ أنَّ الكَلامَ بَعْدَ تَسْلِيمِ ما ذُكِرَ عَلى تَقْدِيرِ المُضافِ. وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ الأصْلَ فَيَسْتَحْيِي مِنكم مِنَ الحَقِّ واَللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنكم مِنَ الحَقِّ، والمُرادُ بِالحَقِّ إخْراجُهم عَلى أنَّ ذَلِكَ مِنَ الِاحْتِباكِ وكِلا حَرْفَيِ الجَرِّ لَيْسَ بِمَعْنًى واحِدٍ بَلِ الأوَّلُ لِلِابْتِداءِ والثّانِي لِلتَّعْلِيلِ، وقالَ: إنَّ الحَمْلَ عَلى ذَلِكَ هو الأنْسَبُ لِلْإعْجازِ التَّنْزِيلِيِّ والِاخْتِصارِ القُرْآنِيِّ ولا يَخْفى ما فِيهِ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ كَما في البَحْرِ «فَيَسْتَحِي» بِكَسْرِ الحاءِ مُضارِعُ اِسْتَحى وهي لُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ والمَحْذُوفُ إمّا عَيْنُ الكَلِمَةِ فَوَزْنُهُ يَسْتَفِلُ أوْ لامُها فَوَزْنُهُ يَسْتَفِعُ، وفي الكَشّافِ قُرِئَ «لا يَسْتَحِي» بِياءٍ واحِدَةٍ وأظُنُّ أنَّ القِراءَةَ بِياءٍ واحِدَةٍ في الفِعْلِ في المَوْضِعَيْنِ، هَذا والظّاهِرُ حُرْمَةُ اللُّبْثِ عَلى المَدْعُوِّ إلى طَعامٍ بَعْدَ أنْ يَطْعَمَ إذا كانَ في ذَلِكَ أذًى لِرَبِّ البَيْتِ ولَيْسَ ما ذُكِرَ مُخْتَصًّا بِما إذا كانَ اللُّبْثُ في بَيْتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ومِن هُنا كانَ الثَّقِيلُ مَذْمُومًا عِنْدَ النّاسِ قَبِيحَ الفِعْلِ عِنْدَ الأكْياسِ. وعَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ وعائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما حَسْبُكَ في الثُّقَلاءِ أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ لَمْ يَحْتَمِلْهم وعِنْدِي كالثَّقِيلِ المَذْكُورِ مَن يُدْعى في وقْتٍ مُعَيَّنٍ مَعَ جَماعَةٍ فَيَتَأخَّرُ عَنْ ذَلِكَ الوَقْتِ مِن غَيْرِ عُذْرٍ كَثِيرٍ شَرْعِيٍّ بَلْ لِمَحْضِ أنْ يَنْتَظِرَ ويُظْهِرَ بَيْنَ الحاضِرِينَ مَزِيدَ جَلالَتِهِ، وأنَّ صاحِبَ البَيْتِ لا يَسَعُهُ تَقْدِيمُ الطَّعامِ لِلْحاضِرِينَ قَبْلَ حُضُورِهِ مَخافَةً مِنهُ أوِ اِحْتِرامًا لَهُ أوْ لِنَحْوِ ذَلِكَ فَيَتَأذّى لِذَلِكَ الحاضِرُونَ أوْ صاحِبُ البَيْتِ، وقَدْ رَأيْنا مِن هَذا الصِّنْفِ كَثِيرًا نَسْألُ اللَّهَ تَعالى العافِيَةَ إنَّ فَضْلَهُ سُبْحانَهُ كانَ كَبِيرًا. ﴿وإذا سَألْتُمُوهُنَّ﴾ الضَّمِيرُ لِنِساءِ النَّبِيِّ ﷺ المَدْلُولِ عَلَيْهِنَّ بِذِكْرِ بُيُوتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، أيْ وإذا طَلَبْتُمْ مِنهُنَّ ﴿مَتاعًا﴾ أيْ شَيْئًا يُتَمَتَّعُ بِهِ مِنَ الماعُونِ وغَيْرِهِ ﴿فاسْألُوهُنَّ﴾ فاطْلُبُوا مِنهُنَّ ذَلِكَ ﴿مِن وراءِ حِجابٍ﴾ أيْ سَتْرٍ. (p-72) أخْرَجَ البُخارِيُّ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: «قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ يا رَسُولَ اللَّهِ يَدْخُلُ عَلَيْكَ البَرُّ والفاجِرُ فَلَوْ أمَرْتَ أُمَّهاتِ المُؤْمِنِينَ بِالحِجابِ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى آيَةَ الحِجابِ،» وكانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ حَرِيصًا عَلى حِجابِهِنَّ وما ذاكَ إلّا حُبًّا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ. أخْرَجَ اِبْنُ جَرِيرٍ «عَنْ عائِشَةَ أنَّ أزْواجَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كُنْ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إذْ بَرَزْنَ إلى المَناصِعِ وهو صَعِيدٌ أفْيَحُ وكانَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: اُحْجُبْ نِساءَكَ فَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَفْعَلُ فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها لَيْلَةً مِنَ اللَّيالِي عِشاءً وكانَتِ اِمْرَأةً طَوِيلَةً فَناداها عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ بِصَوْتِهِ الأعْلى قَدْ عَرَفْناكِ يا سَوْدَةُ حِرْصًا عَلى أنْ يَنْزِلَ الحِجابُ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى الحِجابَ،» وذَلِكَ أحَدُ مُوافِقاتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ وهي مَشْهُورَةٌ. وعَدَّ الشِّيعَةُ ما وقَعَ مِنهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ في خَبَرِ اِبْنِ جَرِيرٍ مِنَ المَثالِبِ قالُوا: لِما فِيهِ مِن سُوءِ الأدَبِ وتَخْجِيلِ سَوْدَةَ حَرَمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وإيذائِها بِذَلِكَ. وأجابَ أهْلُ السُّنَّةِ بَعْدَ تَسْلِيمِ صِحَّةِ الخَبَرِ أنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ رَأى أنْ لا بَأْسَ بِذَلِكَ لَمّا غَلَبَ عَلى ظَنِّهِ مِن تَرَتُّبِ الخَيْرِ العَظِيمِ عَلَيْهِ، ورَسُولُ اللَّهِ ﷺ وإنْ كانَ أعْلَمَ مِنهُ وأغْيَرَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ اِنْتِظارًا لِلْوَحْيِ وهو اللّائِقُ بِكَمالِ شَأْنِهِ مَعَ رَبِّهِ عَزَّ وجَلَّ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ في الأدَبِ والنَّسائِيُّ مِن حَدِيثِ عائِشَةَ أنَّها كانَتْ تَأْكُلُ مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وكانَ يَأْكُلُ مَعَهُما بَعْضُ أصْحابِهِ فَأصابَتْ يَدُ رَجُلٍ يَدَها فَكَرِهَ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ، ولا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ ما ذُكِرَ سَبَبًا لِلنُّزُولِ. ونَزَلَ الحِجابُ عَلى ما أخْرَجَ اِبْنُ سَعْدٍ عَنْ أنَسٍ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الهِجْرَةِ، وأخْرَجَ عَنْ صالِحِ بْنِ كَيْسانَ أنَّ ذَلِكَ في ذِي القِعْدَةِ مِنها. ﴿ذَلِكُمْ﴾ الظّاهِرُ أنَّهُ إشارَةٌ إلى السُّؤالِ مِن وراءِ حِجابٍ، وقِيلَ: هو إشارَةٌ إلى ما ذُكِرَ مِن عَدَمِ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إذْنٍ وعَدَمِ الِاسْتِئْناسِ لِلْحَدِيثِ عِنْدَ الدُّخُولِ وسُؤالِ المَتاعِ مِن وراءِ حِجابٍ ﴿أطْهَرُ لِقُلُوبِكم وقُلُوبِهِنَّ﴾ أيْ أكْثَرُ تَطْهِيرًا مِنَ الخَواطِرِ الشَّيْطانِيَّةِ الَّتِي تَخْطُرُ لِلرِّجالِ في أمْرِ النِّساءِ ولِلنِّساءِ في أمْرِ الرِّجالِ، فَإنَّ الرُّؤْيَةَ سَبَبُ التَّعَلُّقِ والفِتْنَةِ، وفي بَعْضِ الآثارِ: النَّظَرُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِن سِهامِ إبْلِيسَ، وقالَ الشّاعِرُ: ؎والمَرْءُ ما دامَ ذا عَيْنٍ يُقَلِّبُها ∗∗∗ في أعْيُنِ العَيْنِ مَوْقُوفٌ عَلى الخَطَرِ ؎يَسُرُّ مُقْلَتَهُ ما ساءَ مُهْجَتَهُ ∗∗∗ لا مَرْحَبًا بِانْتِفاعٍ جاءَ بِالضَّرَرِ ﴿وما كانَ لَكُمْ﴾ أيْ وما صَحَّ وما اِسْتَقامَ لَكم ﴿أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ﴾ أيْ تَفْعَلُوا في حَياتِهِ فِعْلًا يَكْرَهُهُ ويَتَأذّى بِهِ كاللُّبْثِ والِاسْتِئْناسِ بِالحَدِيثِ الَّذِي كُنْتُمْ تَفْعَلُونَهُ وغَيْرِ ذَلِكَ، والتَّعْبِيرُ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِعُنْوانِ الرِّسالَةِ لِتَقْبِيحِ ذَلِكَ الفِعْلِ والإشارَةِ إلى أنَّهُ بِمَراحِلَ عَمّا يَقْتَضِيهِ شَأْنُهُ ﷺ إذْ في الرِّسالَةِ (p-73)مِن نَفْعِهِمُ المُقْتَضِي لِلْمُقابَلَةِ بِالمَثَلِ دُونَ الإيذاءِ ما فِيها. ﴿ولا أنْ تَنْكِحُوا أزْواجَهُ مِن بَعْدِهِ أبَدًا﴾ مِن بَعْدِ وفاتِهِ أوْ فِراقِهِ وهو كالتَّخْصِيصِ بَعْدَ التَّعْمِيمِ فَإنَّ نِكاحَ زَوْجَةِ الرَّجُلِ بَعْدَ فِراقِهِ إيّاها مِن أعْظَمِ الأذى، ومِنَ النّاسِ مَن تَفْرُطُ غَيْرَتُهُ عَلى زَوْجَتِهِ حَتّى يَتَمَنّى لَها المَوْتَ لِئَلّا تَنْكِحَ مِن بَعْدِهِ وخُصُوصًا العَرَبَ فَإنَّهم أشَدُّ النّاسِ غَيْرَةً، وحَكى الزَّمَخْشَرِيُّ أنَّ بَعْضَ الفِتْيانِ قَتَلَ جارِيَةً لَهُ يُحِبُّها مَخافَةَ أنْ تَقَعَ في يَدِ غَيْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. وظاهِرُ النَّهْيِ أنَّ العَقْدَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وعُمُومُ الأزْواجِ ظاهِرٌ في أنَّهُ لا فَرْقَ في ذَلِكَ بَيْنَ المَدْخُولِ بِها وغَيْرِها كالمُسْتَعِيذَةِ واَلَّتِي رَأى بِكَشْحِها بَياضًا فَقالَ لَها عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قَبْلَ الدُّخُولِ ««اِلْحَقِي بِأهْلِكِ»» وهو الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الإمامُ الشّافِعِيُّ وصَحَّحَهُ في الرَّوْضَةِ، وصَحَّحَ إمامُ الحَرَمَيْنِ والرّافِعِيُّ في الصَّغِيرِ أنَّ التَّحْرِيمَ لِلْمَدْخُولِ بِها فَقَطْ لِما رُوِيَ أنَّ الأشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ الكِنْدِيَّ نَكَحَ المُسْتَعِيذَةَ في زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ فَهَمَّ عُمَرُ بِرَجْمِهِ فَأُخْبِرَ أنَّها لَمْ يَكُنْ مَدْخُولًا بِها فَكَفَّ مِن غَيْرِ نَكِيرٍ، ورُوِيَ أيْضًا أنَّ قُتَيْلَةَ بِنْتَ قَيْسٍ أُخْتَ الأشْعَثِ المَذْكُورِ تَزَوَّجَها عِكْرِمَةُ بْنُ أبِي جَهْلٍ بِحَضْرَمَوْتَ وكانَتْ قَدْ زَوَّجَها أخُوها قَبْلُ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَبْلَ أنْ يَدْخُلَ بِها حَمَلَها مَعَهُ إلى حَضْرَمَوْتَ وتُوُفِّيَ عَنْها عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَبَلَغَ ذَلِكَ أبا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ فَقالَ: هَمَمْتُ أنْ أُحَرِّقَ عَلَيْها بَيْتَها فَقالَ لَهُ عُمَرُ: ما هي مِن أُمَّهاتِ المُؤْمِنِينَ ما دَخَلَ بِها ﷺ ولا ضَرَبَ عَلَيْها الحِجابَ. وقِيلَ: لَمْ يُحْتَجَّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ بَلِ اُحْتُجَّ بِأنَّها اِرْتَدَّتْ حِينَ اِرْتَدَّ أخُوها فَلَمْ تَكُنْ مِن أُمَّهاتِ المُؤْمِنِينَ بِارْتِدادِها، وكَذا هو ظاهِرٌ في أنَّهُ لا فَرْقَ في ذَلِكَ بَيْنَ المُخْتارَةِ مِنهُنَّ الدُّنْيا كَفاطِمَةَ بِنْتِ الضَّحّاكِ بْنِ سُفْيانَ الكِلابِيِّ في رِوايَةِ اِبْنِ إسْحاقَ والمُخْتارَةِ اللَّهَ تَعالى ورَسُولَهُ ﷺ كَنِسائِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ التِّسْعِ اللّاتِي تُوُفِّيَ عَنْهُنَّ. ولِلْعُلَماءِ في حِلِّ مُخْتارَةِ الدُّنْيا لِلْأزْواجِ طَرِيقانِ، أحَدُهُما طَرْدُ الخِلافِ، والثّانِي القَطْعُ بِالحِلِّ واخْتارَهُ الإمامُ والغَزالِيُّ عَلَيْهِما الرَّحْمَةُ، وكَأنَّ مَن قالَ بِحِلِّ غَيْرِ المَدْخُولِ بِها وبِحِلِّ المُخْتارَةِ المَذْكُورَةِ حَمَلَ الأزْواجَ عَلى مَن كُنَّ في عِصْمَتِهِ يَوْمَ نُزُولِ الآيَةِ وعَلى مَن يُشْبِهُهُنَّ ولَسْنَ إلّا المَدْخُولاتِ بِهِنَّ اللّاتِي اِخْتَرْنَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وإذا حُمِلَ ذَلِكَ وأُرِيدَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن بَعْدِهِ﴾ مِن بَعْدِ فِراقِهِ يَلْزَمُ حُرْمَةُ نِكاحِ مَن طَلَّقَها ﷺ مِن تِلْكَ الأزْواجِ عَلى المُؤْمِنِينَ وهو كَذَلِكَ. ومِن هُنا اِخْتَلَفَ القائِلُونَ بِانْحِصارِ طَلاقِهِ ﷺ بِالثَّلاثِ فَقالَ بَعْضُهُمْ: تَحِلُّ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَن طَلَّقَها ثَلاثًا مِن غَيْرِ مُحَلِّلٍ، وقالَ آخَرُونَ، لا تَحِلُّ لَهُ أبَدًا، وظاهِرُ التَّعْبِيرِ بِالأزْواجِ عَدَمُ شُمُولِ الحُكْمِ لِأُمَّةٍ فارَقَها ﷺ بَعْدَ وطْئِها. وفِي المَسْألَةِ أوْجُهٌ ثالِثُها أنَّها تَحْرُمُ إنْ فارَقَها بِالمَوْتِ كَمارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها ولا تَحْرُمُ إنْ باعَها أوْ وهَبَها في الحَياةِ. وحُرْمَةُ نِكاحِ أزْواجِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن بَعْدِهِ مِن خُصُوصِيّاتِهِ ﷺ، وسَمِعْتُ عَنْ بَعْضِ جَهَلَةِ المُتَصَوِّفَةِ أنَّهم يُحَرِّمُونَ نِكاحَ زَوْجَةِ الشَّيْخِ مِن بَعْدِهِ عَلى المُرِيدِ وهو جَهْلٌ ما عَلَيْهِ مَزِيدٌ. ﴿إنَّ ذَلِكُمْ﴾ إشارَةٌ إلى ما ذُكِرَ مِن إيذائِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ونِكاحِ أزْواجِهِ مِن بَعْدِهِ، وما فِيهِ مِن مَعْنى البُعْدِ لِلْإيذانِ بِبَعْدِ مَنزِلَتِهِ في الشَّرِّ والفَسادِ ﴿كانَ عِنْدَ اللَّهِ﴾ في حُكْمِهِ عَزَّ وجَلَّ ﴿عَظِيمًا﴾ أيْ أمْرًا عَظِيمًا وخَطْبًا هائِلًا لا يُقادَرُ قَدْرُهُ، وفِيهِ مِن تَعْظِيمِهِ تَعالى لِشَأْنِ رَسُولِهِ ﷺ وإيجابِ حُرْمَتِهِ حَيًّا ومَيِّتًا ما لا يَخْفى. (p-74) ولِذَلِكَ بالَغَ عَزَّ وجَلَّ في الوَعِيدِ حَيْثُ قالَ سُبْحانَهُ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب