الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إبْراهِيمَ ومَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا ومَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العالَمِينَ ﴾ [آل عمران: ٩٧].
ذكَرَ اللهُ أولَ بيتٍ وُضِعَ للناسِ وهو الذي بمكةَ، ثم عرَّفَ به بأنّه مَقامُ إبراهيمَ، أيِ: الذي أقامَ فيه الشعائرَ والنُّسُكَ، وهو شاملٌ لكلِّ البيتِ، وكان غيرُ واحدٍ مِن السلفِ يسمِّي كلَّ المشاعرِ، الكعبةَ والصَّفا والمروةَ ومِنًى ومُزْدَلِفَةَ وعرفةَ ورميَ الجمارِ: مقامَ إبراهيمَ، لأنّه أقامَ فيها شعائرَ الدِّينِ.
وبهذا قال ابنُ عباسٍ وسعيدُ بنُ جُبيرٍ وعطاءٌ ومجاهدٌ[[«تفسير الطبري» (٢/٥٢٥)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (١/٢٢٦).]].
المرادُ بمقامِ إبراهيمَ:
ومقامُ إبراهيمَ في كلامِ السلفِ يُرادُ به معنيان:
الأولُ: المعنى الخاصُّ، وهو الذي فيه الآيةُ البيِّنةُ، وهو المقامُ الذي كان يقفُ عليه إبراهيمُ لبناءِ البيتِ، ويُناوِلُهُ ابنُهُ إسماعيلُ الحَجَرَ، وقد كان قريبًا مِن حائطِ الكعبةِ، لمُقتضى البناءِ والإعانةِ عليه، ثمَّ نقَلَه عمرُ بنُ الخطّابِ كما صحَّ عنه وحكاهُ عطاءٌ ومجاهدٌ وغيرُهما، وذكَرَ غيرُ واحدٍ ذلك إجماعًا أنّ عمرَ هو مَن حرَّكَ مكانَ المقامِ.
تحريكُ مقامِ إبراهيمَ:
روى البيهقيُّ، عن هشامِ بنِ عُرْوةَ، عن أبيهِ، عن عائشةَ رضي الله عنها، أنّ المقامَ كان زمانَ رسولِ اللهِ ﷺ وزمانَ أبي بكرٍ رضي الله عنه مُلتصقًا بالبيتِ، ثمَّ أخَّرَه عمرُ بنُ الخطّابِ رضي الله عنه[[«دلائل النبوة» للبيهقي (٢/٦٣).]].
ثمَّ جرَفَه السَّيْلُ وابتعَدَ عن مكانِه، فأعادَهُ عمرُ.
ولم يُخالِفْ عمرَ على تحريكِه أحدٌ مِن الصحابةِ، وعمرُ هو الذي أنزَلَ اللهُ الصلاةَ خلفَ المقامِ بعدَ تعريضِه بذلك للنبيِّ ﷺ، فنزَلَ القرآنُ موافقًا لقولِه.
والصلاةُ المقصودةُ بالاتِّخاذِ في قولِه تعالى: ﴿واتَّخِذُوا مِن مَقامِ إبْراهِيمَ مُصَلّىً﴾ [البقرة: ١٢٥]، أيْ: هي الصلاةُ عندَ موضعِهِ الأصليِّ، وليس موضعَهُ الذي يُنقَلُ إليه، فالعِبْرةُ بالمقامِ لا بالحجارةِ، وهكذا الكَعْبةُ لو قُدِّرَ أنّها حُرِّكَتْ مِن مكانِها أو هُدِمَتْ ونُقِلَتْ حجارتُها، وجَبَتِ الصلاةُ إلى مكانِها، لا إلى الحجارةِ المنقولةِ، بل مَن صلّى إلى حجارةِ الكعبةِ المنقولةِ في جهةٍ إلى غيرِ موضعِ الكعبةِ الذي بناها عليه إبراهيمُ، بطَلَتْ صلاتُهُ بلا خلافٍ، فما زالَ الناسُ قبلَ الإسلامِ وبعدَهُ يَستعمِلونَ حجارةً جديدةً، ويُزِيلُونَ ما تفتَّتَ وتكسَّرَ مِن حجارةِ الكعبةِ.
وعَلِمْتُ قبلَ سنواتٍ يسيرةٍ أنّ حجارةً مِن الكعبةِ تكسَّرتْ فغُيِّرَتْ وأُبدِلَتْ بأجودَ منها، ورُمِيَتْ في البحرِ، حتى لا يُعرَفَ موضعُها فتُقصَدَ بذاتِها مِن دونِ اللهِ بالطوافِ والتبرُّكِ.
الثاني: المعنى العامُّ، وهو الحجُّ كلُّه صلاةً وطوافًا حولَ الكعبةِ وبينَ الصَّفا والمروةِ، والوقوفَ بعرفةَ، والمبيتَ بمزدلفةَ ومِنًى، ورميَ الجِمارِ، ويدخُلُ في هذا ما يَلحَقُه مِن أحكامٍ، كحُرْمةِ البيتِ، ومحظوراتِ النُّسُكِ، وأفعـالِ الحجِّ والعمرةِ وأقـوالِـه وتُرُوكِه.
وقد جعَلَ اللهُ في البيتِ الحرامِ آياتٍ بيِّناتٍ، أولُها مقامُ إبراهيمَ، وهي مشاعرُ النُّسُكِ ومواضعُه، ثمَّ تحريمُ البيتِ الحرامِ وتعظيمُه، والأمانُ لأهلِه ولِلاَّئِذِ فيه.
وذكَرَ اللهُ مقامَ إبراهيمَ في سورةِ البقرةِ: ﴿واتَّخِذُوا مِن مَقامِ إبْراهِيمَ مُصَلّىً﴾ [البقرة: ١٢٥]، والمرادُ به معناهُ الخاصُّ الذي هو الحجارةُ التي وضَعَ إبراهيمُ قَدَمَيْهِ عليها، وذكَرَه هنا في آلِ عِمرانَ، والمرادُ به هنا معناهُ العامُّ، لأنّ اللهَ جعَلَ البيِّنةَ في البيتِ، ولم يجعلِ المقامَ هو البيِّنةَ وحدَه، بل جعَلَه منها، ولذا عطَفَ عليه أحكامًا أُخَرَ، قال: ﴿ومَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا﴾، والأمانُ والحُرْمةُ هي للبيتِ وخارجِه في حدودِه المعروفةِ، وليستْ لمقامِ إبراهيمَ ومَوضعِ قدمَيْهِ خاصةً.
روى ابنُ المُنذرِ وابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتمٍ، عن عَطاءِ بنِ أبِي رَباحٍ، عَنِ ابنِ عَبّاسٍ، قالَ: «مَقامُ إبْراهِيمَ بَعْدُ كَثِيرٌ، مَقامُهُ: الحَجُّ كُلُّهُ»[[«تفسير الطبري» (٢/٥٢٥)، و«تفسير ابن المنذر» (١/٣٠٢)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٧١١).]].
وجاء عن بعضِ السلفِ: أنّ الآيةَ البيِّنةَ أثَرُ القدمَيْنِ، والمقامَ المشاعرُ كلُّها، أيْ: ما وضَعَ فيه إبراهيمُ قدمَيْهِ تعبُّدًا للهِ في البيتِ، مِن طوافٍ وصلاةٍ، وسعيٍ بينَ الصَّفا والمروةِ، ووقوفٍ بعرفةَ، ومبيتٍ بمزدلفةَ ومِنًى، ورميِ الجمارِ، وذِكرِ اللهِ، وغيرِ ذلك.
ورُوِيَ هذا عن ابنِ عباسٍ وعطاءٍ ومجاهدٍ، فقد روى ابنُ أبي نَجِيحٍ، عن مجاهدٍ، قال: «أثَرُ قدمَيْهِ فِي المقامِ آيةٌ بيِّنةٌ، ﴿ومَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا﴾ قالَ: هَذا شَيْءٌ آخَرُ»[[«تفسير الطبري» (٥/٦٠٠)، و«تفسير ابن المنذر» (١/٣٠٢)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٧١١).]].
تحريمُ الصيدِ وعَضْدِ الشجرِ بمَكَّة:
وقد جعَلَ اللهُ مكةَ حَرَمًا آمِنًا لا يُصادُ صَيْدُها، ولا يُعضَدُ شَوْكُها، والصيدُ والشجرُ في الحَرَمِ على نوعَيْنِ:
الـنـوعُ الأولُ: صيدُ الحرمِ وشجرُهُ الأصليُّ محرَّمٌ، والمرادُ بالشجرِ الذي ينبُتُ طبيعةً في الأرضِ ولا يَسْتَنْبِتُهُ الناسُ.
النوعُ الثاني: صيدُ الحرمِ وشجرُهُ غيرُ الأصليِّ، والمرادُ بالصيدِ غيرِ الأصليِّ هو المجلوبُ مِن خارجِ الحرمِ لِيُذبَحَ داخِلَهُ، فهذا لا حَرَجَ فيه، والشجرُ غيرُ الأصليِّ الذي يَسْتنبِتُهُ الناسُ في مَزارِعِهِمْ بالغرسِ أو البَذْرِ كالنخلِ والعنبِ وأشجارِ الزينةِ التي يستنبتُها الناسُ للظِّلِّ وغيرِه في البيوتِ والطرقاتِ والحدائقِ، فلا حُرْمةَ لها، وهي كحالِ الحيواناتِ الإنْسِيَّةِ الغنمِ والبقرِ والإبلِ التي تُنحَرُ وتُذبَحُ، لأنّها ليستْ صيدًا مستوحشًا، ومِثلُها الدجاجُ والحَمامُ التي يُربِّيها الإنسانُ: لا حُرمةَ لها.
صيدُ الأهليِّ المتوحِّشِ:
وإذا كانتِ الحَمامُ تحتَ تربيتِه، ثمَّ استوحَشَتْ ولَحِقَتْ بصَيْدِ الحرمِ فتوحَّشَتْ، أخَذَتِ اسمَ صيدِ الحرمِ وحُرْمَتَهُ، ما لم يكنْ قد مَلَكَها بمالٍ، فلَحِقَتْ بصيدِ الحرمِ، جازَ له صيدُها وتنفيرُها لأَخْذِها، لأنّها مِلْكٌ له، ومالُ الإنسانِ المملوكُ حقٌّ، وهو أعظمُ حُرْمةً مِن صيدِ الحرمِ، فلا تُغلَّبُ حُرمةُ الحرمِ عليه لمجرَّدِ توحُّشِهِ بعدَ مِلْكِه، لأنّ حُرْمةَ المِلكِ له أعظمُ عندَ اللهِ.
وتقدَّمَ في سورةِ البقرةِ الكلامُ على حُرْمةِ مكةَ وحُكْمِ إقامةِ الحدودِ فيها، فلْتُنظَرْ.
وقولُه تعالى: ﴿ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا ومَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العالَمِينَ ﴾ دليلٌ على فرضيَّةِ الحجِّ في الإسلامِ، ورُكنيَّتِهِ فيه، ففي «الصحيحينِ»، مِن حديثِ ابنِ عمرَ، قال ﷺ: (إنَّ الإسْلامَ بُنِيَ عَلى خَمْسٍ: شَهادَةِ أنْ لا إلَهَ إلاَّ اللهُ، وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، وصِيامِ رَمَضانَ، وحَجِّ البَيْتِ) [[أخرجه البخاري (٨) (١/١١)، ومسلم (١٦) (١/٤٥).]].
ترتيبُ أركانِ الإسلامِ:
وإنّما قُدِّمَتِ الصلاةُ والزكاةُ والصومُ على الحجِّ في الحديثِ، لأنّها أسبَقُ في زمنِ الفرضِ، وآكَدُ مِن جهةِ العملِ، وأَعَمُّ مِن جهةِ خطابِ المكلَّفينَ، فالصلاةُ يُؤمَرُ بها مِن غيرِ إثمٍ الصبيُّ وهو ابنُ سبعٍ، وتَجِبُ في كـلِّ الأرضِ عـلى المكـلَّفِ ذَكَـرًا أو أُنثى، الصحيحِ والمريضِ كلٌّ بحَسَبِهِ، وتتعدَّدُ في اليومِ والليلةِ، وأمّا بقيةُ الأركانِ، ففرضُها بينَ حَوْلِيٍّ كالزكاِة والصيامِ، وبينَ مرةٍ في العُمْرِ كالحجِّ.
وأمّا الزكاةُ، فالخِطابُ يَتوجَّهُ للمكلَّفينَ أوسعَ مِن خطابِ المكلَّفينَ في الصيامِ، فقُدِّمَتِ الزكاةُ، لأنّها تَجِبُ في الأموالِ، لا على الأشخاصِ، كزكاةِ الفِطْرِ، وهذا أعَمُّ في خِطابِها، فتجبُ الزكاةُ في مالِ الصحيحِ والمريضِ، الصغيرِ والكبيرِ، والعاقلِ والمجنونِ، ومَن عَجَزَ عن القيامِ بنفسِه، قامَ بها وليُّه.
وأمّا الصيامُ، فعلى الأشخاصِ المكلَّفِينَ، ويسقُطُ بالعجزِ، فلا يجبُ على الصغيرِ والمجنونِ والمريضِ والمسافرِ، ثمَّ إنّ الزكاةَ فريضةٌ متعدِّيةٌ مِن الغنيِّ إلى الفقيرِ، بخلافِ الصومِ، فهو عبادةٌ لازمةٌ لفاعِلِها، والزكاةُ قد تجبُ في الحَوْلِ أكثرَ مِن مرةٍ في الزروعِ والثِّمارِ التي يتكرَّرُ حَصادُها وقِطافُها في العامِ، لهذا كانتِ الزكاةُ أوسَعَ خطابًا مِن الصيامِ، فقُدِّمَتْ وتَلَتِ الصلاةَ في القرآنِ في مواضعَ كثيرةٍ، قال تعالى في الأمرِ بها: ﴿وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ﴾ [البقرة: ٤٣]، وعن عيسى قال: ﴿وأَوْصانِي بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ﴾ [مريم: ٣١]، وعن إسماعيلَ قال: ﴿وكانَ يَأْمُرُ أهْلَهُ بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ وكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ﴾ [مريم: ٥٥]، وقال في الإخبارِ عن المؤمِنينَ: ﴿وأَقامَ الصَّلاةَ وآتى الزَّكاةَ﴾ [البقرة: ١٧٧]، وقال: ﴿وأَقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ﴾ [البقرة: ٢٧٧]، وقال: ﴿والمُقِيمِينَ الصَّلاةَ والمُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾ [النساء: ١٦٢]، وقال: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهُمْ راكِعُونَ ﴾ [المائدة: ٥٥]، وقال عن أمَّهاتِ المؤمِنينَ: ﴿وأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكاةَ﴾ [الأحزاب: ٣٣]، وغير ذلك، فالزكاةُ أكثرُ الأحكامِ اقترانًا في القرآنِ بالصلاةِ.
ثمَّ جاء الصومُ في أركانِ الإسلامِ بعدَ الزكاةِ على قولِ الأكثرِ، لأنّه يَلِيها في سَعَةِ المخاطَبِينَ، ثمَّ جاءَ الحجُّ بعدَ الصيامِ، لأنّ الصيامَ أوسعُ في التكليفِ، فهو في كلِّ عامٍ، والحجُّ في العُمْرِ مرة، ثمَّ إنّ الحجَّ محصورٌ في بقعةٍ معيَّنةٍ، والصومُ تكليفٌ يُؤدّى في كلِّ الأرضِ.
تأخُّرُ فرضِ الحجِّ:
وإنّما تأخَّرَ فرضُ الحجِّ، لأنّ أرضَهُ التي يُؤدّى عليها ـ وهي مكةُ ـ ليستْ في يدِ المسلِمِينَ، فتأخَّرَ الخطابُ حتى تتهيَّأَ الأسبابُ.
مع أنّ مشروعيةَ الحجِّ باقيةٌ قبلَ فرضِهِ، وكان الناسُ قبلَ البعثةِ على بقيَّةٍ مِن مناسِكِ إبراهيمَ الخليلِ، وقد حجَّ النبيُّ ﷺ على مناسِكِ إبراهيمَ قبلَ هِجْرتِهِ، كما في «الصحيحينِ»، مِن حديثِ جُبيرِ بنِ مُطعِمٍ، وقد لَحِقَ مناسكَ الخليلِ تبديلٌ في أهلِ مكةَ وغيرِهم إلا قليلًا[[أخرجه البخاري (١٦٦٤) (٢/١٦٣)، ومسلم (١٢٢٠) (٢/٨٩٤): عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قالَ: أضْلَلْتُ بَعِيرًا لِي، فَذَهَبْتُ أطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ واقِفًا بِعَرَفَةَ، فَقُلْتُ: «هَذا واللهِ مِنَ الحُمْسِ، فَما شَأْنُهُ هاهُنا؟!».]].
حكمُ تارِكِ الحجِّ:
وقد جعَلَ اللهُ الحجَّ عَلَمًا على انقيادِ الناسِ وبقائِهم على دِينِ محمدٍ دِينِ الإسلامِ، فكانوا يُقْبِلُونَ على النبيِّ ﷺ بأنفسِهم أو برُسُلِهم أو بأقوالِهم عندَ قومِهم، ويُسْلِمُونَ رغبةً ورهبةً، فيُؤاخَذونَ على ظاهرِهم، ثمَّ لمّا فرَضَ اللهُ الحجَّ، امتازَ أهلُ الاتِّباعِ والانقيادِ مِن أهلِ النفاقِ، ولذا قال تعالى: ﴿ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا ومَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العالَمِينَ ﴾، روى ابنُ أبي حاتمٍ، عن ابنِ أبي نَجِيحٍ، عن عِكْرِمةَ، قال: «لمّا أنزَلَ اللهُ قولَهُ تعالى: ﴿ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا﴾ [آل عمران: ٨٥]، قالتِ المِلَلُ: نحن مُسلِمونَ، فأنزَلَ اللَّهُ: ﴿ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا﴾، فحَجَّ المسلِمونَ، وقعَدَ الكفارُ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٢/٦٩٩).]].
والكفرُ في الآيةِ يُرادُ به الجُحُودُ على قولِ عامَّةِ السلفِ، وبهذا قال ابنُ عباسٍ وابنُ عمرَ ومجاهدٌ.
قال ابنُ عمرَ ومجاهدٌ: مَن كَفَرَ، أيْ: باللهِ واليومِ الآخِرِ.
وقال ابنُ عباسٍ: مَن زعَمَ أنّه لم يَنْزِلْ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٣/٧١٤ ـ ٧١٥).]].
صحَّ هذا عن ابنِ عباسٍ مِن غيرِ وجهٍ.
ولم يَثْبُتْ عنِ النبيِّ ﷺ في تكفيرِ تارِكِ الحجِّ كَسَلًا حديثٌ، ولا عن أحدٍ مِن الصحابةِ رضي الله عنهم، إلا ما جاءَ عن عمرَ بنِ الخطّابِ، فيما رواهُ البيهقيُّ والإسماعيليُّ، مِن حديثِ ابنِ غَنْمٍ، عن عمرَ، قال: «مَن أطاقَ الحجَّ، فلم يَحُجَّ، فسواءٌ عليه مات يهوديًّا أو نصرانيًّا»[[ينظر: «مسند الفاروق» لابن كثير (١/٢٩٢)، و«تفسير ابن كثير» (٢/٨٥).]].
وهو صحيحٌ عنه، ويظهَرُ أنّ مُرادَه في ذلك مَن ترَكَ الحجَّ غيرَ مؤمنٍ بوجوبِه، ففي لفظِه عندَ سعيدِ بنِ منصورٍ، مِن حديثِ الحسنِ، عنه، قال: «أنْ يَضرِبُوا عليهم الجِزْيَةَ، ما هم بمسلِمينَ، ما هم بمسلِمينَ!»[[ينظر: «الأربعون حديثًا» للآجري (ص: ١٦٩)، و«تفسير ابن كثير» (٢/٨٥).]]، والجزيةُ لا تُضرَبُ على المُرْتَدِّ الذي دخَلَ الإسلامَ، ثمَّ ارتدَّ بتركِ الحجِّ تساهُلًا، وإنّما تُضرَبُ على الكتابيِّ الأصليِّ، واختُلِفَ في المشرِكِينَ، لأنّ المرتدَّ يُقتَلُ، فعُمَرُ يُخاطِبُ مَن زعَمَ الإسلامَ ولم يُؤمِن بالحجِّ، لا مَن دخَلَ الإسلامَ وخرَجَ منه بتركِ الحجِّ تهاوُنًا.
وإدراكُ عُذْرِ تارِكِ الحجِّ شاقٌّ، لأنّه يُوكَلُ إلى الأفرادِ وأمانتِهم وديانتِهم، فموانعُ الحجِّ كثيرةٌ ظاهرةٌ وباطنةٌ، ومِن البواطنِ ما لا يُدرِكُهُ أحدٌ إلا صاحِبُه، ولهذا يُشدِّدُ الحاكمُ في أداءِ الحجِّ في الخِطابِ، لا في العِقابِ.
وقد جاء القولُ بكفرِ تارِكِ الحجِّ عن ابنِ مسعودٍ وسعيدِ بنِ جُبيرٍ عندَ اللالكائيِّ، ولا يصحُّ، ورُوِيَ ذلك عن نافعٍ والحكمِ وإسحاقَ، وهو روايةٌ عن أحمدَ، وقولُ ابنِ حبيبٍ مِن المالكيَّةِ.
وقولُه: ﴿مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا﴾: عَرَّفَ أحمدُ الاستطاعةَ بأنّها الزادُ والراحلةُ مِن الموضع[[«مسائل ابن منصور» (١/٥١٥)، و«مسائل عبد الله» (١٩٧).]] يكونُ منه، وعَدَّ المَحْرَم للمرأةِ مِنَ السبيلِ، والاستطاعةُ تَختلِفُ بحسَبِ الحالِ والمكانِ، فالاستطاعةُ للمَكِّيِّ تختلفُ عنِ الآفاقِيِّ، والآفاقِيُّونَ يختلِفونَ قُربًا وبُعدًا، وجامعُ الاستطاعةِ: سلامةُ البدنِ، والزادُ للجميعِ، والراحلةُ (لغيرِ المكيِّ)، ولم يَثبُتْ عن النبيِّ ﷺ في حدِّ الاستطاعةِ شيءٌ، لاختلافِ أحوالِ الناسِ وتبايُنِهم مَنزِلًا وحالًا، والواردُ في ذلك بين ضعيفٍ ومُرسَلٍ، وأَمْثَلُ شيءٍ في ذلك موقوفٌ صحيحٌ مِن حديثِ عليِّ بنِ أبي طلحةَ، عن ابنِ عباسٍ، وقد بيَّنْتُ ذلك في شرحِ حديثِ جابرٍ الطويلِ في صِفَةِ حَجَّةِ النبيِّ ﷺ.
{"ayah":"فِیهِ ءَایَـٰتُۢ بَیِّنَـٰتࣱ مَّقَامُ إِبۡرَ ٰهِیمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنࣰاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَیۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَیۡهِ سَبِیلࣰاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِیٌّ عَنِ ٱلۡعَـٰلَمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق