الباحث القرآني
قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إبْراهِيمَ﴾؛
قالَ أبُو بَكْرٍ: اَلْآيَةُ في مَقامِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أنَّ قَدَمَيْهِ دَخَلَتا في حَجَرٍ صَلْدٍ بِقُدْرَةِ اللَّهِ (تَعالى)؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَلالَةً؛ وآيَةً عَلى تَوْحِيدِ اللَّهِ (تَعالى)؛ وعَلى صِحَّةِ نُبُوَّةِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ ومِنَ الآياتِ فِيهِ ما ذَكَرْنا مِن أمْنِ الوَحْشِ؛ وأُنْسِهِ فِيهِ؛ مَعَ السِّباعِ الضّارِيَةِ المُتَعادِيَةِ؛ وأمْنِ الخائِفِ في الجاهِلِيَّةِ فِيهِ؛ ويُتَخَطَّفُ النّاسُ مِن حَوْلِهِمْ؛ وإمْحاقِ الجِمارِ عَلى كَثْرَةِ الرّامِي مِن لَدُنْ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - إلى يَوْمِنا هَذا؛ مَعَ أنَّ حَصى الجِمارِ إنَّما تُنْقَلُ إلى مَوْضِعِ الرَّمْيِ مِن غَيْرِهِ؛ وامْتِناعِ الطَّيْرِ مِنَ العُلُوِّ عَلَيْهِ؛ وإنَّما يَطِيرُ حَوْلَهُ؛ لا فَوْقَهُ؛ واسْتِشْفاءِ المَرِيضِ مِنها بِهِ؛ وتَعْجِيلِ العُقُوبَةِ لِمَنِ انْتَهَكَ حُرْمَتَهُ؛ وقَدْ كانَتِ العادَةُ بِذَلِكَ جارِيَةً؛ ومِن إهْلاكِ أصْحابِ الفِيلِ؛ لَمّا قَصَدُوا لَإخْرابِهِ؛ بِالطَّيْرِ الأبابِيلِ؛ فَهَذِهِ كُلُّها مِن آياتِ الحَرَمِ؛ سِوى ما لا نُحْصِيهِ مِنها؛ وفي جَمِيعِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّ المُرادَ بِالبَيْتِ هُنا الحَرَمُ كُلُّهُ؛ لِأنَّ هَذِهِ الآياتِ مَوْجُودَةٌ في الحَرَمِ؛ (p-٣٠٤)ومَقامُ إبْراهِيمَ – عَلَيْهِ السَّلامُ - لَيْسَ في البَيْتِ؛ إنَّما هو خارِجَ البَيْتِ؛ واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
بابُ الجانِي يَلْجَأُ إلى الحَرَمِ أوْ يَجْنِي فِيهِ
قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿ومَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا﴾؛
قالَ أبُو بَكْرٍ: لَمّا كانَتِ الآياتُ المَذْكُورَةُ عُقَيْبَ قَوْلِهِ: ﴿إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ﴾ [آل عمران: ٩٦]؛ مَوْجُودَةً في جَمِيعِ الحَرَمِ؛ ثُمَّ قالَ: ﴿ومَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا﴾؛ وجَبَ أنْ يَكُونَ مُرادُهُ جَمِيعَ الحَرَمِ؛ وقَوْلُهُ: ﴿ومَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا﴾؛ يَقْتَضِي أمْنَهُ عَلى نَفْسِهِ؛ سَواءٌ كانَ جانِيًا قَبْلَ دُخُولِهِ؛ أوْ جَنى بَعْدَ دُخُولِهِ؛ إلّا أنَّ الفُقَهاءَ مُتَّفِقُونَ عَلى أنَّهُ مَأْخُوذٌ بِجِنايَتِهِ في الحَرَمِ؛ في النَّفْسِ؛ وما دُونَها؛ ومَعْلُومٌ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ومَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا﴾؛ هو أمْرٌ؛ وإنْ كانَ في صُورَةِ الخَبَرِ؛ كَأنَّهُ قالَ: "هُوَ آمِنٌ في حُكْمِ اللَّهِ (تَعالى)؛ وفِيما أمَرَ بِهِ"؛ كَما نَقُولُ: "هَذا مُباحٌ؛ وهَذا مَحْظُورٌ"؛ والمُرادُ بِهِ كَذَلِكَ: "فِي حُكْمِ اللَّهِ (تَعالى) وما أمَرَ بِهِ عِبادَهُ"؛ ولَيْسَ المُرادُ أنَّ مُبِيحًا يَسْتَبِيحُهُ؛ ولا أنَّ مُعْتَقِدًا لِلْحَظْرِ يَحْظُرُهُ؛ وإنَّما هو بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ في المُباحِ: "اِفْعَلْهُ عَلى أنْ لا تَبِعَةَ عَلَيْكَ فِيهِ؛ ولا ثَوابَ"؛ وفي المَحْظُورِ: "لا تَفْعَلْهُ؛ فَإنَّكَ تَسْتَحِقُّ العِقابَ بِهِ"؛ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ومَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا﴾؛ هو أمْرٌ لَنا بِإيمانِهِ؛ وحَظْرِ دَمِهِ؛ ألا تَرى إلى قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولا تُقاتِلُوهم عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكم فِيهِ فَإنْ قاتَلُوكم فاقْتُلُوهُمْ﴾ [البقرة: ١٩١] ؟ فَأخْبَرَ بِجَوازِ وُقُوعِ القَتْلِ فِيهِ؛ وأمَرَنا بِقَتْلِ المُشْرِكِينَ فِيهِ إذا قاتَلُونا؛ ولَوْ كانَ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ومَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا﴾؛ خَبَرًا لَما جازَ ألّا يُوجَدَ مُخْبَرُهُ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿ومَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا﴾؛ هو أمْرٌ لَنا بِإيمانِهِ؛ ونَهْيٌ لَنا عَنْ قَتْلِهِ؛ ثُمَّ لا يَخْلُو ذَلِكَ مِن أنْ يَكُونَ أمْرًا لَنا بِأنْ نُؤَمِّنَهُ مِنَ الظُّلْمِ؛ والقَتْلِ الَّذِي لا يُسْتَحَقُّ؛ أوْ أنْ نُؤَمِّنَهُ مِن قَتْلٍ قَدِ اسْتَحَقَّهُ بِجِنايَتِهِ؛ فَلَمّا كانَ حَمْلُهُ عَلى الإيمانِ مِن قَتْلٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ؛ بَلْ عَلى وجْهِ الظُّلْمِ؛ تَسْقُطُ فائِدَةُ تَخْصِيصِ الحَرَمِ بِهِ؛ لِأنَّ الحَرَمَ وغَيْرَهُ في ذَلِكَ سَواءٌ؛ إذْ كانَ عَلَيْنا إيمانُ كُلِّ أحَدٍ مِن ظُلْمٍ يَقَعُ بِهِ مِن قِبَلِنا؛ أوْ مِن قِبَلِ غَيْرِنا؛ إذا أمْكَنَنا ذَلِكَ؛ عَلِمْنا أنَّ المُرادَ الأمْرُ بِالإيمانِ مِن قَتْلٍ مُسْتَحَقٍّ؛ فَظاهِرُهُ يَقْتَضِي أنْ نُؤَمِّنَهُ مِنَ المُسْتَحَقِّ مِن ذَلِكَ بِجِنايَتِهِ في الحَرَمِ؛ وفي غَيْرِهِ؛ إلّا أنَّ الدَّلالَةَ قَدْ قامَتْ مِنَ اتِّفاقِ أهْلِ العِلْمِ عَلى أنَّهُ إذا قَتَلَ في الحَرَمِ قُتِلَ؛ قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿ولا تُقاتِلُوهم عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكم فِيهِ فَإنْ قاتَلُوكم فاقْتُلُوهُمْ﴾ [البقرة: ١٩١]؛ فَفَرَّقَ بَيْنَ الجانِي في الحَرَمِ؛ وبَيْنَ الجانِي في غَيْرِهِ إذا لَجَأ إلَيْهِ.
وقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ فِيمَن جَنى في غَيْرِ الحَرَمِ؛ ثُمَّ لاذَ إلَيْهِ؛ فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ؛ وأبُو يُوسُفَ؛ ومُحَمَّدٌ؛ وزُفَرُ؛ والحَسَنُ بْنُ زِيادٍ: "إذا قَتَلَ في غَيْرِ الحَرَمِ ثُمَّ دَخَلَ الحَرَمَ (p-٣٠٥)لَمْ يُقْتَصَّ مِنهُ؛ ما دامَ فِيهِ؛ ولَكِنَّهُ لا يُبايَعُ ولا يُؤاكَلُ؛ إلى أنْ يَخْرُجَ مِنَ الحَرَمِ؛ فَيُقْتَصَّ مِنهُ؛ وإنْ قَتَلَ في الحَرَمِ قُتِلَ؛ وإنْ كانَتْ جِنايَتُهُ فِيما دُونَ النَّفْسِ في غَيْرِ الحَرَمِ؛ ثُمَّ دَخَلَ الحَرَمَ اقْتُصَّ مِنهُ"؛ وقالَ مالِكٌ؛ والشّافِعِيُّ: "يُقْتَصُّ مِنهُ في الحَرَمِ ذَلِكَ كُلُّهُ".
قالَ أبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ؛ وابْنِ عُمَرَ؛ وعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ؛ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ؛ وعَطاءٍ؛ وطاوُسٍ؛ والشَّعْبِيِّ - فِيمَن قَتَلَ ثُمَّ لَجَأ إلى الحَرَمِ - أنَّهُ لا يُقْتَلُ؛ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: "ولَكِنَّهُ لا يُجالَسُ؛ ولا يُؤْوى؛ ولا يُبايَعُ؛ حَتّى يَخْرُجَ مِنَ الحَرَمِ؛ فَيُقْتَلَ"؛ وإنْ فَعَلَ ذَلِكَ في الحَرَمِ أُقِيمَ عَلَيْهِ؛ ورَوى قَتادَةُ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قالَ: "لا يَمْنَعُ الحَرَمُ مَن أصابَ فِيهِ أوْ في غَيْرِهِ أنْ يُقامَ عَلَيْهِ"؛ قالَ: "وكانَ الحَسَنُ يَقُولُ: ﴿ومَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا﴾؛ كانَ هَذا في الجاهِلِيَّةِ؛ لَوْ أنَّ رَجُلًا جَرَّ كُلَّ جَرِيرَةٍ؛ ثُمَّ لَجَأ إلى الحَرَمِ؛ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُ حَتّى يَخْرُجَ مِنَ الحَرَمِ؛ فَأمّا الإسْلامُ فَلَمْ يَزِدْهُ إلّا شِدَّةً؛ مَن أصابَ الحَدَّ في غَيْرِهِ ثُمَّ لَجَأ إلَيْهِ أُقِيمَ عَلَيْهِ الحَدُّ"؛ ورَوى هِشامٌ عَنِ الحَسَنِ؛ وعَطاءٍ؛ قالا: "إذا أصابَ حَدًّا في غَيْرِ الحَرَمِ؛ ثُمَّ لَجَأ إلى الحَرَمِ؛ أُخْرِجَ عَنِ الحَرَمِ حَتّى يُقامَ عَلَيْهِ"؛ وعَنْ مُجاهِدٍ مِثْلُهُ؛ وهَذا يَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ أنْ يُضْطَرَّ إلى الخُرُوجِ بِتَرْكِ مُجالَسَتِهِ؛ وإيوائِهِ؛ ومُبايَعَتِهِ؛ ومُشاراتِهِ؛ وقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطاءٍ مُفَسَّرًا؛ فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ ما رُوِيَ عَنْهُ وعَنِ الحَسَنِ في إخْراجِهِ مِنَ الحَرَمِ عَلى هَذا الوَجْهِ.
وقَدْ ذَكَرْنا دَلالَةَ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولا تُقاتِلُوهم عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكم فِيهِ﴾ [البقرة: ١٩١]؛ عَلى مِثْلِ ما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ومَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا﴾؛ في مَوْضِعِهِ؛ وبَيَّنّا وجْهَ دَلالَةِ ذَلِكَ عَلى أنَّ دُخُولَ الحَرَمِ يَحْظُرُ قَتْلَ مَن لَجَأ إلَيْهِ؛ إذا لَمْ تَكُنْ جِنايَتُهُ في الحَرَمِ؛ وأمّا ما ذَكَرْنا مِن قَوْلِ السَّلَفِ فِيهِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ اتِّفاقٌ مِنهم عَلى حَظْرِ قَتْلِ مَن قَتَلَ في غَيْرِ الحَرَمِ؛ ثُمَّ لَجَأ إلَيْهِ؛ لِأنَّ الحَسَنَ رُوِيَ عَنْهُ فِيهِ قَوْلانِ مُتَضادّانِ؛ أحَدُهُما رِوايَةُ قَتادَةَ عَنْهُ أنَّهُ يُقْتَلُ؛ والآخَرُ رِوايَةُ هِشامِ بْنِ حَسّانٍ في أنَّهُ لا يُقْتَلُ في الحَرَمِ؛ ولَكِنَّهُ يُخْرَجُ مِنهُ؛ فَيُقْتَلُ؛ وقَدْ بَيَّنّا أنَّهُ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: "يُخْرَجُ فَيُقْتَلُ"؛ أنَّهُ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ في تَرْكِ المُبايَعَةِ؛ والمُشاراةِ؛ والأكْلِ؛ والشُّرْبِ؛ حَتّى يَضْطَرَّ إلى الخُرُوجِ؛ فَلَمْ يُحَصَّلْ لِلْحَسَنِ في هَذا قَوْلٌ؛ لِتَضادِّ الرِّوايَتَيْنِ؛ وبَقِيَ قَوْلُ الآخَرِينَ مِنَ الصَّحابَةِ؛ والتّابِعِينَ؛ في مَنعِ القِصاصِ في الحَرَمِ بِجِنايَةٍ كانَتْ مِنهُ في غَيْرِ الحَرَمِ؛ ولَمْ يَخْتَلِفِ السَّلَفُ؛ ومَن بَعْدَهم مِنَ الفُقَهاءِ أنَّهُ إذا جَنى في الحَرَمِ كانَ مَأْخُوذًا بِجِنايَتِهِ؛ يُقامُ عَلَيْهِ ما يَسْتَحِقُّهُ مِن قَتْلٍ؛ أوْ غَيْرِهِ.
فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾ [البقرة: ١٧٨]؛ وقَوْلُهُ: ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: ٤٥]؛ وقَوْلُهُ: ﴿ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا﴾ [الإسراء: ٣٣]؛ يُوجِبُ (p-٣٠٦)عُمُومُهُ القِصاصَ في الحَرَمِ عَلى مَن جَنى فِيهِ؛ أوْ في غَيْرِهِ؛ قِيلَ لَهُ: قَدْ دَلَّلْنا عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ومَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا﴾؛ قَدِ اقْتَضى وُقُوعَ الأمْنِ مِنَ القَتْلِ بِجِنايَةٍ كانَتْ مِنهُ في غَيْرِهِ؛ وقَوْلُهُ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ﴾ [البقرة: ١٧٨]؛ وسائِرُ الآيِ المُوجِبَةِ لِلْقِصاصِ؛ مُرَتَّبٌ عَلى ما ذَكَرْنا مِنَ الأمْنِ بِدُخُولِ الحَرَمِ؛ ويَكُونُ ذَلِكَ مَخْصُوصًا مِن آيِ القِصاصِ؛ وأيْضًا فَإنَّ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ﴾ [البقرة: ١٧٨]؛ وارِدٌ في إيجابِ القِصاصِ؛ لا في حُكْمِ الحَرَمِ؛ وقَوْلَهُ: ﴿ومَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا﴾؛ وارِدٌ في حُكْمِ الحَرَمِ؛ ووُقُوعِ الأمْنِ لِمَن لَجَأ إلَيْهِ؛ فَيُجْرى كُلُّ واحِدٍ مِنهُما عَلى بابِهِ؛ ويُسْتَعْمَلُ فِيما ورَدَ فِيهِ؛ ولا يُعْتَرَضُ بِآيِ القِصاصِ عَلى حُكْمِ الحَرَمِ؛ ومِن جِهَةٍ أُخْرى؛ أنَّ إيجابَ القِصاصِ - لا مَحالَةَ - مُنْعَدِمٌ لِإيجابِ أمانِهِ بِالحَرَمِ؛ لِأنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ القِصاصُ واجِبًا قَبْلَ ذَلِكَ اسْتَحالَ أنْ يُقالَ: هو آمِنٌ مِمّا لَمْ يَجْنِ؛ ولَمْ يُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الحُكْمَ بِأمْنِهِ بِدُخُولِ الحَرَمِ مُتَأخِّرٌ عَنْ إيجابِ القِصاصِ؛ ومِن جِهَةِ الأثَرِ حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ؛ وأبِي شُرَيْحٍ الكَعْبِيِّ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «"إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ؛ ولَمْ تَحِلَّ لِأحَدٍ قَبْلِي؛ ولا لِأحَدٍ بَعْدِي؛ وإنَّما أُحِلَّتْ لِي ساعَةً مِن نَهارٍ"؛» فَظاهِرُ ذَلِكَ يَقْتَضِي حَظْرَ قَتْلِ اللّاجِئِ إلَيْهِ؛ والجانِي فِيهِ؛ إلّا أنَّ الجانِيَ فِيهِ لا خِلافَ فِيهِ أنَّهُ يُؤْخَذُ بِجِنايَتِهِ؛ فَبَقِيَ حُكْمُ اللَّفْظِ في الجانِي إذا لَجَأ إلَيْهِ؛ ورَوى حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حَبِيبٍ المُعَلِّمِ؛ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ؛ عَنْ أبِيهِ؛ عَنْ جَدِّهِ؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «"إنَّ أعْتى النّاسِ عَلى اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ - رَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قاتِلِهِ؛ أوْ قَتَلَ في الحَرَمِ؛ أوْ قَتَلَ بِذَحْلِ الجاهِلِيَّةِ"؛» وهَذا أيْضًا يَحْظُرُ عُمُومُهُ قَتْلَ كُلِّ مَن كانَ فِيهِ؛ فَلا يُخَصُّ مِنهُ شَيْءٌ إلّا بِدَلالَةٍ؛ وأمّا ما دُونَ النَّفْسِ فَإنَّهُ يُؤْخَذُ بِهِ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَجَأ إلى الحَرَمِ؛ حُبِسَ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: «"لَيُّ الواجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ؛ وعُقُوبَتَهُ"؛» والحَبْسُ في الدَّيْنِ عُقُوبَةٌ؛ فَجُعِلَ الحَبْسُ عُقُوبَةً؛ وهو فِيما دُونَ النَّفْسِ؛ فَكُلُّ حَقٍّ وجَبَ فِيما دُونَ النَّفْسِ أُخِذَ بِهِ؛ وإنْ لَجَأ إلى الحَرَمِ؛ قِياسًا عَلى الحَبْسِ في الدَّيْنِ.
وأيْضًا لا خِلافَ بَيْنَ الفُقَهاءِ أنَّهُ مَأْخُوذٌ بِما يَجِبُ عَلَيْهِ؛ فِيما دُونَ النَّفْسِ؛ وكَذَلِكَ لا خِلافَ أنَّ الجانِيَ في الحَرَمِ مَأْخُوذٌ بِجِنايَتِهِ في النَّفْسِ؛ وما دُونَها؛ ولا خِلافَ أيْضًا أنَّهُ إذا جَنى في غَيْرِ الحَرَمِ ثُمَّ دَخَلَ الحَرَمَ أنَّهُ إذا لَمْ يَجِبْ قَتْلُهُ في الحَرَمِ أنَّهُ لا يُبايَعُ؛ ولا يُشارى؛ ولا يُؤْوى؛ حَتّى يَخْرُجَ؛ ولَمّا ثَبَتَ عِنْدَنا أنَّهُ لا يُقْتَلُ؛ وجَبَ اسْتِعْمالُ الحُكْمِ الآخَرِ فِيهِ في تَرْكِ مُشاراتِهِ؛ ومُبايَعَتِهِ؛ وإيوائِهِ؛ فَهَذِهِ الوُجُوهُ كُلُّها لا خِلافَ فِيها؛ وإنَّما الخِلافُ فِيمَن جَنى في غَيْرِ الحَرَمِ؛ ثُمَّ لَجَأ إلى الحَرَمِ؛ وقَدْ دَلَّلْنا عَلَيْهِ؛ وما عَدا ذَلِكَ فَهو مَحْمُولٌ عَلى ما حَصَلَ عَلَيْهِ الِاتِّفاقُ؛ (p-٣٠٧)وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسِ بْنِ كامِلٍ قالَ: حَدَّثَنا يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدٍ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الوَلِيدِ؛ عَنْ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ؛ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ؛ عَنْ جابِرٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «"لا يَسْكُنُ مَكَّةَ سافِكُ دَمٍ؛ ولا آكِلُ رِبًا؛ ولا مَشّاءٌ بِنَمِيمَةٍ"؛» وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ القاتِلَ إذا دَخَلَ الحَرَمَ لَمْ يُؤْوَ؛ ولَمْ يُجالَسْ؛ ولَمْ يُبايَعْ؛ ولَمْ يُشارَ؛ ولَمْ يُطْعَمْ؛ ولَمْ يُسْقَ؛ حَتّى يَخْرُجَ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: «"لا يَسْكُنُ مَكَّةَ سافِكُ دَمٍ"؛» وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ الحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الجَبّارِ قالَ: حَدَّثَنا داوُدُ بْنُ عَمْرٍو قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ؛ عَنْ إبْراهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ طاوُسٍ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: "إذا دَخَلَ القاتِلُ الحَرَمَ لَمْ يُجالَسْ؛ ولَمْ يُبايَعْ؛ ولَمْ يُؤْوَ؛ واتَّبَعَهُ طالِبُهُ؛ يَقُولُ لَهُ: اِتَّقِ اللَّهَ في دَمِ فُلانٍ؛ واخْرُجْ مِنَ الحَرَمِ".
ونَظِيرُ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ومَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا﴾؛ قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا ويُتَخَطَّفُ النّاسُ مِن حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٦٧]؛ وقَوْلُهُ: ﴿أوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهم حَرَمًا آمِنًا﴾ [القصص: ٥٧]؛ وقَوْلُهُ: ﴿وإذْ جَعَلْنا البَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وأمْنًا﴾ [البقرة: ١٢٥]؛ فَهَذِهِ الآيُ مُتَقارِبَةُ المَعانِي في الدَّلالَةِ عَلى حَظْرِ قَتْلِ مَن لَجَأ إلَيْهِ؛ وإنْ كانَ مُسْتَحِقًّا لِلْقَتْلِ قَبْلَ دُخُولِهِ؛ ولَمّا عَبَّرَ تارَةً بِذِكْرِ البَيْتِ؛ وتارَةً بِذِكْرِ الحَرَمِ؛ دَلَّ عَلى أنَّ الحَرَمَ في حُكْمِ البَيْتِ في بابِ الأمْنِ؛ ومَنعِ قَتْلِ مَن لَجَأ إلَيْهِ؛ ولَمّا لَمْ يَخْتَلِفُوا أنَّهُ لا يُقْتَلُ مَن لَجَأ إلى البَيْتِ؛ لِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) وصَفَهُ بِالأمْنِ فِيهِ؛ وجَبَ مِثْلُهُ في الحَرَمِ فِيمَن لَجَأ إلَيْهِ.
فَإنْ قِيلَ: مَن قَتَلَ في البَيْتِ لَمْ يُقْتَلْ فِيهِ؛ ومَن قَتَلَ في الحَرَمِ قُتِلَ فِيهِ؛ فَلَيْسَ الحَرَمُ كالبَيْتِ؛ قِيلَ لَهُ: لَمّا جَعَلَ اللَّهُ حُكْمَ الحَرَمِ حُكْمَ البَيْتِ فِيما عَظُمَ مِن حُرْمَتِهِ؛ وعَبَّرَ تارَةً بِذِكْرِ البَيْتِ؛ وتارَةً بِذِكْرِ الحَرَمِ؛ اقْتَضى ذَلِكَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُما؛ إلّا فِيما قامَ دَلِيلُ تَخْصِيصِهِ؛ وقَدْ قامَتِ الدَّلالَةُ في حَظْرِ القَتْلِ في البَيْتِ؛ فَخَصَّصْناهُ؛ وبَقِيَ حُكْمُ الحَرَمِ عَلى ما اقْتَضاهُ ظاهِرُ القُرْآنِ؛ مِن إيجابِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُما؛ واللَّهُ (تَعالى) أعْلَمُ.
* * *
بابُ فَرْضِ الحَجِّ
قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلا﴾؛
قالَ أبُو بَكْرٍ: هَذا ظاهِرٌ في إيجابِ فَرْضِ الحَجِّ؛ عَلى شَرِيطَةِ وُجُودِ السَّبِيلِ إلَيْهِ؛ والَّذِي يَقْتَضِيهِ مِن حُكْمِ السَّبِيلِ أنَّ كُلَّ مَن أمْكَنَهُ الوُصُولُ إلى الحَجِّ لَزِمَهُ ذَلِكَ؛ إذْ كانَتِ اسْتِطاعَةُ السَّبِيلِ إلَيْهِ هي إمْكانَ الوُصُولِ إلَيْهِ؛ كَقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِن سَبِيلٍ﴾ [غافر: ١١]؛ يَعْنِي: "مِن وُصُولٍ"؛ و﴿هَلْ إلى مَرَدٍّ مِن سَبِيلٍ﴾ [الشورى: ٤٤]؛ يَعْنِي: "مِن وُصُولٍ"؛ وقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ مِن شَرْطِ اسْتِطاعَةِ السَّبِيلِ إلَيْهِ وُجُودَ الزّادِ والرّاحِلَةِ؛ ورَوى أبُو إسْحاقَ عَنِ الحارِثِ؛ عَنْ عَلِيٍّ؛ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «"مَن مَلَكَ (p-٣٠٨)زادًا؛ وراحِلَةً تُبَلِّغُهُ بَيْتَ اللَّهِ؛ ولَمْ يَحُجَّ؛ فَلا عَلَيْهِ أنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أوْ نَصْرانِيًّا"؛» وذَلِكَ أنَّ اللَّهَ (تَعالى) يَقُولُ في كِتابِهِ: ﴿ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلا﴾؛ ورَوى إبْراهِيمُ بْنُ يَزِيدَ الخُوزِيُّ؛ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبّادٍ؛ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ قَوْلِهِ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلا﴾؛ قالَ: "اَلسَّبِيلُ إلى الحَجِّ الزّادُ والرّاحِلَةُ"؛» ورَوى يُونُسُ عَنِ الحَسَنِ: «لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ﴾؛ اَلْآيَةَ؛ قالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ ما السَّبِيلُ؟ قالَ: "زادٌ؛ وراحِلَةٌ"؛» ورَوى عَطاءٌ الخُراسانِيُّ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: "اَلسَّبِيلُ: اَلزّادُ والرّاحِلَةُ؛ ولَمْ يَحُلْ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ أحَدٌ"؛ وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "هُوَ الزّادُ والرّاحِلَةُ".
قالَ أبُو بَكْرٍ: فَوُجُودُ الزّادِ والرّاحِلَةِ مِنَ السَّبِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ (تَعالى)؛ ومِن شَرائِطِ وُجُوبِ الحَجِّ؛ ولَيْسَتْ الِاسْتِطاعَةُ مَقْصُورَةً عَلى ذَلِكَ؛ لِأنَّ المَرِيضَ الخائِفَ؛ والشَّيْخَ الَّذِي لا يَثْبُتُ عَلى الرّاحِلَةِ؛ والزَّمْنى؛ وكُلَّ مَن تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الوُصُولُ إلَيْهِ؛ فَهو غَيْرُ مُسْتَطِيعِ السَّبِيلِ إلى الحَجِّ؛ وإنْ كانَ واجِدًا لِلزّادِ؛ والرّاحِلَةِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ عَنْ الِاسْتِطاعَةِ: "اَلزّادُ والرّاحِلَةُ"؛ أنَّ ذَلِكَ جَمِيعُ شَرائِطِ الِاسْتِطاعَةِ؛ وإنَّما أفادَ ذَلِكَ بُطْلانَ قَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّ مَن أمْكَنَهُ المَشْيُ إلى بَيْتِ اللَّهِ (تَعالى)؛ ولَمْ يَجِدْ زادًا وراحِلَةً؛ فَعَلَيْهِ الحَجُّ؛ فَبَيَّنَ ﷺ أنَّ لُزُومَ فَرْضِ الحَجِّ مَخْصُوصٌ بِالرُّكُوبِ؛ دُونَ المَشْيِ؛ وأنَّ مَن لا يُمْكِنُهُ الوُصُولُ إلَيْهِ إلّا بِالمَشْيِ الَّذِي يَشُقُّ ويَعْسُرُ؛ فَلا حَجَّ عَلَيْهِ.
فَإنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي ألّا يَلْزَمَ فَرْضُ الحَجِّ إلّا مَن كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَكَّةَ مَسافَةُ ساعَةٍ؛ إذا لَمْ يَجِدْ زادًا وراحِلَةً؛ وأمْكَنَهُ المَشْيُ؛ قِيلَ لَهُ: إذا لَمْ يَلْحَقْهُ في المَشْيِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ فَهَذا أيْسَرُ أمْرًا مِنَ الواجِدِ لِلزّادِ؛ والرّاحِلَةِ؛ إذا بَعُدَ وطَنُهُ مِن مَكَّةَ؛ ومَعْلُومٌ أنَّ شَرْطَ الزّادِ والرّاحِلَةِ إنَّما هو لِئَلّا يَشُقَّ عَلَيْهِ؛ ويَنالَهُ ما يَضُرُّهُ مِنَ المَشْيِ؛ فَإذا كانَ مِن أهْلِ مَكَّةَ؛ وما قَرُبَ مِنها؛ مِمَّنْ لا يَشُقُّ عَلَيْهِ المَشْيُ في ساعَةٍ مِن نَهارٍ؛ فَهَذا مُسْتَطِيعٌ لِلسَّبِيلِ بِلا مَشَقَّةٍ؛ وإذا كانَ لا يَصِلُ إلى البَيْتِ إلّا بِالمَشَقَّةِ الشَّدِيدَةِ فَهو الَّذِي خَفَّفَ اللَّهُ (تَعالى) عَنْهُ؛ ولَمْ يُلْزِمْهُ الفَرْضَ إلّا عَلى الشَّرْطِ المَذْكُورِ بِبَيانِ النَّبِيِّ ﷺ.
قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨]؛ يَعْنِي: "مِن ضِيقٍ"؛ وعِنْدَنا أنَّ وُجُودَ المَحْرَمِ لِلْمَرْأةِ مِن شَرائِطِ الحَجِّ؛ لِما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «"لا يَحِلُّ لِامْرَأةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ أنْ تُسافِرَ سَفَرًا فَوْقَ ثَلاثٍ إلّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ؛ أوْ زَوْجٍ"؛» ورَوى عَمْرُو بْنُ دِينارٍ؛ عَنْ أبِي مَعْبَدٍ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «خَطَبَ النَّبِيُّ ﷺ فَقالَ: "لا تُسافِرِ امْرَأةٌ إلّا ومَعَها ذُو مَحْرَمٍ"؛ فَقالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنِّي (p-٣٠٩)قَدِ اكْتُتِبْتُ في غَزْوَةِ كَذا؛ وقَدْ أرادَتِ امْرَأتِي أنْ تَحُجَّ؛ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "اُحْجُجْ مَعَ امْرَأتِكَ"؛» وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: "لا تُسافِرِ امْرَأةٌ إلّا ومَعَها ذُو مَحْرَمٍ"؛ قَدِ انْتَظَمَ المَرْأةَ إذا أرادَتِ الحَجَّ مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ؛ أحَدُها أنَّ السّائِلَ عَقَلَ مِنهُ ذَلِكَ؛ ولِذَلِكَ سَألَهُ عَنِ امْرَأتِهِ وهي تُرِيدُ الحَجَّ؛ ولَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ فَدَلَّ عَلى أنَّ مُرادَهُ ﷺ عامٌّ في الحَجِّ؛ وغَيْرِهِ مِنَ الأسْفارِ؛ والثّانِي: قَوْلُهُ: "اُحْجُجْ مَعَ امْرَأتِكَ"؛ وفي ذَلِكَ إخْبارٌ مِنهُ بِإرادَةِ سَفَرِ الحَجِّ؛ في قَوْلِهِ: "لا تُسافِرِ امْرَأةٌ إلّا ومَعَها ذُو مَحْرَمٍ"؛ والثّالِثُ أمْرُهُ إيّاهُ بِتَرْكِ الغَزْوِ لِلْحَجِّ مَعَ امْرَأتِهِ؛ ولَوْ جازَ لَها الحَجُّ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ؛ أوْ زَوْجٍ؛ لَما أمَرَهُ بِتَرْكِ الغَزْوِ - وهو فَرْضٌ - لِلتَّطَوُّعِ؛ وفي هَذا دَلِيلٌ أيْضًا عَلى أنَّ حَجَّ المَرْأةِ كانَ فَرْضًا؛ ولَمْ يَكُنْ تَطَوُّعًا؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ تَطَوُّعًا لَما أمَرَهُ بِتَرْكِ الغَزْوِ الَّذِي هو فَرْضٌ لِتَطَوُّعِ المَرْأةِ؛ ومِن وجْهٍ آخَرَ؛ وهو أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَسْألْهُ عَنْ حَجِّ المَرْأةِ: "أفَرْضٌ هو أمْ نَفْلٌ؟"؛ وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى تَساوِي حُكْمِهِما في امْتِناعِ خُرُوجِها بِغَيْرِ مَحْرَمٍ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ وُجُودَ المَحْرَمِ لِلْمَرْأةِ مِن شَرائِطِ الِاسْتِطاعَةِ؛ ولا خِلافَ أنَّ مِن شَرْطِ اسْتِطاعَتِها ألّا تَكُونَ مُعْتَدَّةً؛ لِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلا أنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ﴾ [الطلاق: ١]؛ فَلَمّا كانَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا في الِاسْتِطاعَةِ؛ وجَبَ أنْ يَكُونَ نَهْيُهُ لِلْمَرْأةِ أنْ تُسافِرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ مُعْتَبَرًا فِيها؛ ومِن شَرائِطِهِ ما ذَكَرْنا مِن إمْكانِ ثُبُوتِهِ عَلى الرّاحِلَةِ؛ وذَلِكَ لِما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا مُوسى بْنُ الحَسَنِ بْنِ أبِي عَبّادٍ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ قالَ: حَدَّثَنا الأوْزاعِيُّ؛ عَنِ الزُّهْرِيِّ؛ عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ يَسارٍ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ «أنَّ امْرَأةً مِن خَثْعَمَ سَألَتِ النَّبِيَّ ﷺ في حَجَّةِ الوَداعِ فَقالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ في الحَجِّ عَلى عِبادِهِ أدْرَكَتْ أبِي شَيْخًا كَبِيرًا؛ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يَسْتَمْسِكَ عَلى الرّاحِلَةِ؛ أفَأحُجُّ عَنْهُ؟ قالَ: "نَعَمْ؛ حُجِّي عَنْ أبِيكِ"؛» فَأجازَ ﷺ لِلْمَرْأةِ أنَّ تَحُجَّ عَنْ أبِيها؛ ولَمْ يُلْزِمِ الرَّجُلَ الحَجَّ بِنَفْسِهِ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ مِن شَرْطِ الِاسْتِطاعَةِ إمْكانَ الوُصُولِ إلى الحَجِّ؛ وهَؤُلاءِ - وإنْ لَمْ يَلْزَمْهُمُ الحَجُّ بِأنْفُسِهِمْ إذا كانُوا واجِدِينَ لِلزّادِ والرّاحِلَةِ - فَإنَّ عَلَيْهِمْ أنْ يُحِجُّوا غَيْرَهم عَنْهُمْ؛ أعْنِي المَرِيضَ؛ والزَّمِنَ؛ والمَرْأةَ؛ إذا حَضَرَتْهُمُ الوَفاةُ فَعَلَيْهِمْ أنْ يُوصُوا بِالحَجِّ؛ وذَلِكَ أنَّ وُجُودَ ما يُمْكِنُ بِهِ الوُصُولُ إلى الحَجِّ في مِلْكِهِمْ يُلْزِمُهم فَرْضَ الحَجِّ في أمْوالِهِمْ؛ إذا لَمْ يُمْكِنْهم فِعْلُهُ بِأنْفُسِهِمْ؛ لِأنَّ فَرْضَ الحَجِّ يَتَعَلَّقُ بِمَعْنَيَيْنِ؛ أحَدُهُما: بِوُجُودِ الزّادِ والرّاحِلَةِ؛ وإمْكانِ فِعْلِهِ بِنَفْسِهِ؛ فَعَلى مَن كانَتْ هَذِهِ صِفَتَهُ الخُرُوجُ؛ والمَعْنى الآخَرُ أنْ يَتَعَذَّرَ فِعْلُهُ بِنَفْسِهِ لِمَرَضٍ؛ أوْ كِبَرِ سِنٍّ؛ أوْ زَمانَةٍ؛ أوْ (p-٣١٠)لِأنَّها امْرَأةٌ لا مَحْرَمَ لَها؛ ولا زَوْجَ يَخْرُجُ مَعَها؛ فَهَؤُلاءِ يَلْزَمُهُمُ الحَجُّ بِأمْوالِهِمْ عِنْدَ الإياسِ؛ والعَجْزِ عَنْ فِعْلِهِ بِأنْفُسِهِمْ؛ فَإذا أحَجَّ المَرِيضُ أوِ المَرْأةُ عَنْ أنْفُسِهِما؛ ثُمَّ لَمْ يَبْرَإ المَرِيضُ؛ ولَمْ تَجِدِ المَرْأةُ مَحْرَمًا؛ حَتّى ماتا؛ أجَزْأهُما؛ وإنْ بَرِئَ المَرِيضُ؛ ووَجَدَتِ المَرْأةُ مَحْرَمًا؛ لَمْ يُجْزِهِما؛ وقَوْلُ الخَثْعَمِيَّةِ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إنَّ أبِي أدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ في الحَجِّ وهو شَيْخٌ كَبِيرٌ؛ لا يَسْتَمْسِكُ عَلى الرّاحِلَةِ؛ وأمْرُ النَّبِيِّ ﷺ إيّاها بِالحَجِّ عَنْهُ؛ يَدُلُّ عَلى أنَّ فَرْضَ الحَجِّ قَدْ لَزِمَهُ في مالِهِ؛ وإنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلى الرّاحِلَةِ؛ لِأنَّها أخْبَرَتْهُ أنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ (تَعالى) أدْرَكَتْهُ وهو شَيْخٌ كَبِيرٌ؛ فَلَمْ يُنْكِرِ النَّبِيُّ ﷺ قَوْلَها ذَلِكَ؛ فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ فَرْضَ الحَجِّ قَدْ لَزِمَهُ في مالِهِ؛ وأمْرُ النَّبِيِّ ﷺ إيّاها بِفِعْلِ الحَجِّ؛ الَّذِي أخْبَرَتْ أنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ؛ يَدُلُّ عَلى لُزُومِهِ أيْضًا.
وقَدِ اخْتُلِفَ في حَجِّ الفَقِيرِ؛ فَقالَ أصْحابُنا؛ والشّافِعِيُّ: "لا حَجَّ عَلَيْهِ؛ وإنْ حَجَّ أجْزَأهُ مِن حَجَّةِ الإسْلامِ"؛ وحُكِيَ عَنْ مالِكٍ أنَّ عَلَيْهِ الحَجَّ إذا أمْكَنَهُ المَشْيُ؛ ورُوِيَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ؛ والحَسَنِ أنَّ الِاسْتِطاعَةَ ما تُبَلِّغُهُ؛ كائِنًا ما كانَ؛ وقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ عَنْ الِاسْتِطاعَةَ: "اَلزّادُ والرّاحِلَةُ"؛ يَدُلُّ عَلى أنْ لا حَجَّ عَلَيْهِ؛ فَإنْ هو وصَلَ إلى البَيْتِ مَشْيًا فَقَدْ صارَ بِحُصُولِهِ هُناكَ مُسْتَطِيعًا؛ بِمَنزِلَةِ أهْلِ مَكَّةَ؛ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّ شَرْطَ الزّادِ والرّاحِلَةِ إنَّما هو لِمَن بَعُدَ مِن مَكَّةَ؛ فَإذا حَصَلَ هُناكَ فَقَدِ اسْتَغْنى عَنِ الزّادِ والرّاحِلَةِ لِلْوُصُولِ إلَيْهِ؛ فَيَلْزَمُهُ الحَجُّ حِينَئِذٍ؛ فَإذا فَعَلَهُ كانَ فاعِلًا فَرْضًا؛ واخْتُلِفَ في العَبْدِ إذا حَجَّ؛ هَلْ يُجْزِيهِ مِن حَجَّةِ الإسْلامِ؛ فَقالَ أصْحابُنا: "لا يُجْزِيهِ"؛ وقالَ الشّافِعِيُّ: "يُجْزِيهِ"؛ والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ قَوْلِنا ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا إبْراهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: حَدَّثَنا مُسْلِمُ بْنُ إبْراهِيمَ قالَ: حَدَّثَنا هِلالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ؛ مَوْلى رَبِيعَةَ بْنِ سُلَيْمٍ؛ قالَ: حَدَّثَنا أبُو إسْحاقَ عَنِ الحارِثِ؛ عَنْ عَلِيٍّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «"مَن مَلَكَ زادًا وراحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلى بَيْتِ اللَّهِ؛ ثُمَّ لَمْ يَحُجَّ فَلا عَلَيْهِ أنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا؛ أوْ نَصْرانِيًّا"؛» وذَلِكَ أنَّ اللَّهَ (تَعالى) يَقُولُ: ﴿ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلا ومَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العالَمِينَ﴾؛ فَأخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أنَّ شَرْطَ لُزُومِ الحَجِّ مِلْكُ الزّادِ والرّاحِلَةِ؛ والعَبْدُ لا يَمْلِكُ شَيْئًا؛ فَلَيْسَ هو إذًا مِن أهْلِ الخِطابِ بِالحَجِّ؛ وسائِرُ الأخْبارِ المَرْوِيَّةِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في الِاسْتِطاعَةِ أنَّها الزّادُ والرّاحِلَةُ؛ هي عَلى مِلْكِهِما؛ عَلى ما بُيِّنَ في حَدِيثِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ وأيْضًا فَمَعْلُومٌ مِن مُرادِ النَّبِيِّ ﷺ في شَرْطِهِ الزّادَ والرّاحِلَةَ أنْ يَكُونا مِلْكًا لِلْمُسْتَطِيعِ؛ وأنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ زادًا وراحِلَةً في مِلْكِ غَيْرِهِ؛ وإذا كانَ العَبْدُ لا يَمْلِكُ بِحالٍ؛ لَمْ يَكُنْ مِن أهْلِ الخِطابِ بِالحَجِّ؛ فَلَمْ يُجْزِهِ حَجُّهُ؛ فَإنْ قِيلَ: (p-٣١١)لَيْسَ الفَقِيرُ مِن أهْلِ الخِطابِ بِالحَجِّ؛ لِعَدَمِ مِلْكِ الزّادِ والرّاحِلَةِ؛ ولَوْ حَجَّ جازَ حَجُّهُ؛ كَذَلِكَ العَبْدُ؛ قِيلَ لَهُ: إنَّ الفَقِيرَ مِن أهْلِ الخِطابِ؛ لِأنَّهُ مِمَّنْ يَمْلِكُ؛ والعَبْدُ مِمَّنْ لا يَمْلِكُ؛ وإنَّما سَقَطَ الفَرْضُ عَنِ الفَقِيرِ لِأنَّهُ غَيْرُ واجِدٍ؛ لا لِأنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَمْلِكُ؛ فَإذا وصَلَ إلى مَكَّةَ فَقَدِ اسْتَغْنى عَنِ الزّادِ والرّاحِلَةِ؛ وصارَ بِمَنزِلَةِ سائِرِ الواجِدِينَ الواصِلِينَ إلَيْها بِالزّادِ والرّاحِلَةِ؛ والعَبْدُ إنَّما سَقَطَ عَنْهُ الخِطابُ بِهِ؛ لا لِأنَّهُ لا يَجِدُ؛ لَكِنْ لِأنَّهُ لا يَمْلِكُ؛ وإنْ مَلَكَ فَلَمْ يَدْخُلْ في خِطابِ الحَجِّ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ؛ وصارَ مِن هَذا الوَجْهِ بِمَنزِلَةِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَمْ يُخاطَبْ بِالحَجِّ؛ لا لِأنَّهُ لا يَجِدُ؛ ولَكِنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِ الخِطابِ بِالحَجِّ لِأنَّ مِن شَرْطِ الخِطابِ بِهِ أنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ؛ كَما أنَّ مِن شَرْطِهِ أنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَصِحُّ خِطابُهُ بِهِ؛ وأيْضًا فَإنَّ العَبْدَ لا يَمْلِكُ مَنافِعَهُ؛ ولِلْمَوْلى مَنعُهُ مِنَ الحَجِّ بِالِاتِّفاقِ؛ ومَنافِعُ العَبْدِ هي مِلْكٌ لِلْمَوْلى؛ فَإذا فَعَلَ بِها الحَجَّ صارَ كَحَجٍّ فَعَلَهُ المَوْلى؛ فَلا يُجْزِيهِ مِن حَجَّةِ الإسْلامِ؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ - أنَّ العَبْدَ لا يَمْلِكُ مَنافِعَهُ - أنَّ المَوْلى هو المُسْتَحِقُّ لِأبْدالِها إذا صارَتْ مالًا؛ وأنَّ لَهُ أنْ يَسْتَخْدِمَهُ؛ ويَمْنَعَهُ مِنَ الحَجِّ؛ فَإذا أذِنَ لَهُ فِيهِ صارَ مُعِيرًا لَهُ مِلْكَ المَنافِعِ؛ فَهي مُتْلَفَةٌ عَلى مِلْكِ المَوْلى؛ فَلا يُجْزِئُ العَبْدَ؛ ولَيْسَ كَذَلِكَ الفَقِيرُ؛ لِأنَّهُ يَمْلِكُ مَنافِعَ نَفْسِهِ؛ وإذا فَعَلَ بِها الحَجَّ أجْزَأهُ؛ لِأنَّهُ قَدْ صارَ مِن أهْلِ الِاسْتِطاعَةِ.
فَإنْ قِيلَ: لِلْمَوْلى مَنعُ العَبْدِ مِنَ الجُمُعَةِ؛ ولَيْسَ العَبْدُ مِن أهْلِ الخِطابِ بِها؛ ولَيْسَ عَلَيْهِ فَرْضُها؛ ولَوْ حَضَرَها وصَلّاها أجْزَأتْهُ؛ فَهَلّا كانَ الحَجُّ كَذَلِكَ؟ قِيلَ لَهُ: إنَّ فَرْضَ الظُّهْرِ قائِمٌ عَلى العَبْدِ؛ لَيْسَ لِلْمَوْلى مَنعُهُ مِنهُ؛ فَمَتى فَعَلَ الجُمُعَةَ فَقَدْ أسْقَطَ بِها فَرْضَ الظُّهْرِ الَّذِي كانَ العَبْدُ يَمْلِكُ فِعْلَهُ مِن غَيْرِ إذْنِ المَوْلى؛ فَصارَ كَفاعِلِ الظُّهْرِ؛ فَلِذَلِكَ أجْزَأهُ؛ ولَمْ يَكُنْ عَلى العَبْدِ فَرْضٌ آخَرُ يَمْلِكُ فِعْلَهُ فَأُسْقِطَ بِفِعْلِ الحَجِّ؛ حَتّى نَحْكُمَ بِجَوازِهِ؛ ونَجْعَلَهُ في حُكْمِ ما هو مالِكُهُ؛ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفا؛ وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في حَجِّ العَبْدِ - ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا بِشْرُ بْنُ مُوسى قالَ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ إسْحاقَ قالَ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ أيُّوبَ؛ عَنْ حَرامِ بْنِ عُثْمانَ؛ عَنِ ابْنَيْ جابِرٍ؛ عَنْ أبِيهِما قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «"لَوْ أنَّ صَبِيًّا حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ؛ ثُمَّ بَلَغَ؛ لَكانَتْ عَلَيْهِ حَجَّةٌ؛ إنِ اسْتَطاعَ إلَيْها سَبِيلًا؛ ولَوْ أنَّ أعْرابِيًّا حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ؛ ثُمَّ هاجَرَ؛ لَكانَتْ عَلَيْهِ حَجَّةٌ؛ إنِ اسْتَطاعَ إلَيْها سَبِيلًا؛ ولَوْ أنَّ مَمْلُوكًا حَجَّ عَشْرَ حِجَجٍ؛ ثُمَّ أُعْتِقَ؛ لَكانَتْ عَلَيْهِ حَجَّةٌ؛ إنِ اسْتَطاعَ إلَيْها سَبِيلًا"؛» وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا مُوسى بْنُ الحَسَنِ بْنِ أبِي عَبّادٍ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ المِنهالِ قالَ: حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قالَ: حَدَّثَنا شُعْبَةُ؛ عَنِ الأعْمَشِ؛ عَنْ أبِي ظَبْيانَ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ (p-٣١٢)رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «"أيُّما صَبِيٍّ حَجَّ؛ ثُمَّ أدْرَكَ الحُلُمَ؛ فَعَلَيْهِ أنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرى؛ وأيُّما أعْرابِيٍّ حَجَّ؛ ثُمَّ هاجَرَ؛ فَعَلَيْهِ أنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرى؛ وأيُّما عَبْدٍ حَجَّ؛ ثُمَّ أُعْتِقَ؛ فَعَلَيْهِ أنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرى"؛» فَأوْجَبَ النَّبِيُّ ﷺ عَلى العَبْدِ أنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرى؛ ولَمْ يَعْتَدَّ لَهُ بِالحَجَّةِ الَّتِي فَعَلَها في حالِ الرِّقِّ؛ وجَعَلَهُ بِمَنزِلَةِ الصَّبِيِّ.
فَإنْ قِيلَ: فَقَدْ قالَ مِثْلَهُ في الأعْرابِيِّ؛ وهو مَعَ ذَلِكَ يُجْزِيهِ الحَجَّةُ المَفْعُولَةُ قَبْلَ الهِجْرَةِ؛ قِيلَ لَهُ: كَذَلِكَ كانَ حُكْمُ الأعْرابِيِّ في حالِ ما كانَتِ الهِجْرَةُ فَرْضًا؛ لِأنَّهُ يَمْتَنِعُ أنْ يَقُولَ ذَلِكَ بَعْدَ نَسْخِ فَرْضِ الهِجْرَةِ؛ فَلَمّا قالَ ﷺ: «"لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ"؛» نَسَخَ الحُكْمَ المُتَعَلِّقَ بِهِ؛ مِن وُجُوبِ إعادَةِ الحَجِّ بَعْدَ الهِجْرَةِ؛ إذْ لا هِجْرَةَ هُناكَ واجِبَةٌ؛ وقَدْ رُوِيَ نَحْوُ قَوْلِنا في حَجِّ العَبْدِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ؛ والحَسَنِ؛ وعَطاءٍ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: والَّذِي يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ﴾؛ حَجَّةٌ واحِدَةٌ؛ إذْ لَيْسَ فِيهِ ما يُوجِبُ تَكْرارًا؛ فَمَتى فَعَلَ الحَجَّ فَقَدْ قَضى عُهْدَةَ الآيَةِ؛ وقَدْ أكَّدَ ذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ بِما حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قالَ: حَدَّثَنا أبُو داوُدَ قالَ: حَدَّثَنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ؛ وعُثْمانُ بْنُ أبِي شَيْبَةَ قالا: حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ هارُونَ؛ عَنْ سُفْيانَ بْنِ حُسَيْنٍ؛ عَنِ الزُّهْرِيِّ؛ عَنْ أبِي سِنانٍ: قالَ أبُو داوُدَ - هو الدُّؤَلِيُّ - عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ «أنَّ الأقْرَعَ بْنَ حابِسٍ سَألَ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ؛ الحَجُّ في كُلِّ سَنَةٍ؛ أوْ مَرَّةً واحِدَةً؛ فَقالَ: "بَلْ مَرَّةً واحِدَةً؛ فَمَن زادَ فَتَطَوُّعٌ».
قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ومَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العالَمِينَ﴾؛ رَوى وكِيعٌ عَنْ فِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ؛ عَنْ نُفَيْعٍ؛ أبِي داوُدَ؛ قالَ: «سَألَ رَجُلٌ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿ومَن كَفَرَ﴾؛ قالَ: "هُوَ إنْ حَجَّ لا يَرْجُو ثَوابَهُ؛ وإنْ حُبِسَ لا يَخافُ عِقابَهُ"؛» ورَوى مُجاهِدٌ مِن قَوْلِهِ مِثْلَهُ؛ وقالَ الحَسَنُ: "مَن كَفَرَ بِالحَجِّ"؛ وقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى بُطْلانِ مَذْهَبِ أهْلِ الجَبْرِ؛ لِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) جَعَلَ مَن وجَدَ زادًا وراحِلَةً مُسْتَطِيعًا لِلْحَجِّ قَبْلَ فِعْلِهِ؛ ومِن مَذْهَبِ هَؤُلاءِ أنَّ مَن لَمْ يَفْعَلِ الحَجَّ لَمْ يَكُنْ مُسْتَطِيعًا لَهُ قَطُّ؛ فَواجِبٌ عَلى مَذْهَبِهِمْ أنْ يَكُونَ مَعْذُورًا غَيْرَ مُلْزَمٍ؛ إذا لَمْ يَحُجَّ؛ إذْ كانَ اللَّهُ (تَعالى) إنَّما ألْزَمَ الحَجَّ مَنِ اسْتَطاعَ؛ وهو لَمْ يَكُنْ مُسْتَطِيعًا قَطُّ؛ إذْ لَمْ يَحُجَّ؛ فَفي نَصِّ التَّنْزِيلِ؛ واتِّفاقِ الأُمَّةِ عَلى لُزُومِ فَرْضِ الحَجِّ - لِمَن كانَ وصْفُهُ ما ذَكَرْنا؛ مِن صِحَّةِ البَدَنِ؛ ووُجُودِ الزّادِ والرّاحِلَةِ - ما يُوجِبُ بُطْلانَ قَوْلِهِمْ.
{"ayah":"فِیهِ ءَایَـٰتُۢ بَیِّنَـٰتࣱ مَّقَامُ إِبۡرَ ٰهِیمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنࣰاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَیۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَیۡهِ سَبِیلࣰاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِیٌّ عَنِ ٱلۡعَـٰلَمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق