الباحث القرآني

ثُمَّ فَسَّرَ الهُدى بِقَوْلِهِ: ﴿فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ﴾؛ وقَوْلِهِ: ﴿مَقامُ إبْراهِيمَ﴾؛ أيْ: أثَرُ قَدَمِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - في الحَجَرِ؛ حَيْثُ قامَ لِتَغْسِلَ كَنَّتُهُ رَأْسَهُ الشَّرِيفَ؛ أعْرَبَهُ أبُو حَيّانَ بَدَلًا؛ أوْ عَطْفَ بَيانٍ مِنَ المَوْصُولِ الَّذِي هو خَبَرُ ”إنَّ“؛ في قَوْلِهِ: ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ [آل عمران: ٩٦]؛ فَكَأنَّهُ قِيلَ: ”إنَّ أوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَمَقامُ إبْراهِيمَ“؛ وأعْرَبَهُ غَيْرُهُ بَدَلَ بَعْضٍ مِن قَوْلِهِ: ”آياتٌ“؛ وهو وحْدَهُ آياتٌ؛ لِعِظَمِهِ؛ ولِتَعَدُّدِ ما فِيهِ مِن تَأْثِيرِ القَدَمِ؛ وحِفْظِهِ (p-٨)إلى هَذا الزَّمانِ؛ مَعَ كَوْنِهِ مَنقُولًا؛ وتَذْكِيرِهِ بِجَمِيعِ قَضايا إبْراهِيمَ؛ وإسْماعِيلَ - عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ. ولَمّا كانَ أمْنُ أهْلِهِ في بِلادِ النَّهْبِ والغاراتِ الَّتِي لَيْسَ بِها حاكِمٌ يُفْزَعُ إلَيْهِ؛ ولا رَئِيسٌ يُعَوَّلُ في ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ مِن أدَلِّ الآياتِ؛ قالَ - سُبْحانَهُ وتَعالى -: ﴿ومَن دَخَلَهُ﴾؛ أيْ: فَضْلًا عَنْ أهْلِهِ؛ ﴿كانَ آمِنًا﴾؛ أيْ: عَرِيقًا في الأمْنِ؛ أوْ: ”فَأمِّنُوهُ بِأمانِ اللَّهِ“؛ وتَحْوِيلُ العِبارَةِ عَنْ ”وأمِنَ داخِلُهُ“؛ لِأنَّ هَذا أدَلُّ عَلى المُرادِ مِن تَمَكُّنِ الأمْنِ؛ وفِيهِ بِشارَةٌ بِدُخُولِ الجَنَّةِ. ولَمّا أوْضَحَ - سُبْحانَهُ وتَعالى - بَراءَتَهم مِن إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - لِمُخالَفَتِهِمْ إيّاهُ بَعْدَ دَعْواهم - بُهْتانًا - أنَّهُ عَلى دِينِهِمْ؛ وكانَتِ المُخالَفَةُ في الواجِبِ أدَلَّ؛ قالَ - سُبْحانَهُ وتَعالى -: ﴿ولِلَّهِ﴾؛ أيْ: المَلِكِ الَّذِي لَهُ الأمْرُ كُلُّهُ؛ ﴿عَلى النّاسِ﴾؛ أيْ: عامَّةً؛ فَأظْهَرَ في مَوْضِعِ الإضْمارِ؛ دَلالَةً عَلى الإحاطَةِ والشُّمُولِ - كَما سَيَأْتِي بَيانُ ذَلِكَ إنْ شاءَ اللَّهُ (تَعالى)؛ عَنِ الأُسْتاذِ أبِي الحَسَنِ الحَرالِّيِّ في ﴿اسْتَطْعَما أهْلَها﴾ [الكهف: ٧٧]؛ في ”الكَهْفِ“؛ (p-٩)وذَلِكَ لِئَلّا يُدَّعى خُصُوصَةٌ بِالعَرَبِ؛ أوْ غَيْرِهِمْ؛ ﴿حِجُّ البَيْتِ﴾؛ أيْ: زِيارَتُهُ زِيارَةً عَظِيمَةً؛ وأظْهَرَ أيْضًا تَنْصِيصًا عَلَيْهِ؛ وتَنْوِيهًا بِذِكْرِهِ؛ تَفْخِيمًا لِقَدْرِهِ؛ وعَبَّرَ هُنا بِالبَيْتِ؛ لِأنَّهُ في الزِّيارَةِ؛ وعادَةُ العَرَبِ زِيارَةُ مَعاهِدِ الأحْبابِ؛ وأطْلالِهِمْ؛ وأماكِنِهِمْ؛ وحِلالَهُمْ؛ وأعْظَمُ ما يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الزِّيارَةِ عِنْدَهُمُ الحَجُّ؛ ثُمَّ ”مَن“؛ بِالتَّخْفِيفِ؛ بِقَوْلِهِ - مُبْدَلًا مِن ”النّاسِ“؛ تَأْكِيدًا بِالإيضاحِ بَعْدَ الإبْهامِ؛ وحَمْلًا عَلى الشُّكْرِ بِالتَّخْفِيفِ بَعْدَ التَّشْدِيدِ؛ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ البَلاغَةِ: ﴿مَنِ اسْتَطاعَ﴾؛ أيْ: مِنهُمْ؛ ﴿إلَيْهِ سَبِيلا﴾؛ فَمَن حَجَّهُ كانَ مُؤْمِنًا. ولَمّا كانَ مِنَ الواضِحِ أنَّ التَّقْدِيرَ: ”ومَن لَمْ يَحُجَّهُ؛ مَعَ الِاسْتِطاعَةِ؛ كَفَرَ بِالنِّعْمَةِ؛ إنْ كانَ مُعْتَرِفًا بِالوُجُوبِ؛ وبِالمُرُوقِ مِنَ الدِّينِ إنْ جَحَدَ“؛ عُطِفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿ومَن كَفَرَ﴾؛ أيْ: بِالنِّعْمَةِ؛ أوْ بِالدِّينِ؛ ﴿فَإنَّ اللَّهَ﴾؛ أيْ: المَلِكَ الأعْلى؛ ﴿غَنِيٌّ﴾؛ ولَمّا كانَ غِناهُ مُطْلَقًا؛ دَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ - مَوْضِعَ ”عَنْهُ“ -: ﴿عَنِ العالَمِينَ﴾؛ أيْ: طائِعِهِمْ؛ وعاصِيهِمْ؛ صامِتِهِمْ وناطِقِهِمْ؛ رَطْبِهِمْ؛ ويابِسِهِمْ؛ فَوَضَحَ بِهَذِهِ الآيَةِ وما شاكَلَها أنَّهم لَيْسُوا عَلى دِينِهِ؛ كَما وضَحَ بِما تَقَدَّمَ أنَّهُ لَيْسَ عَلى دِينِهِمْ؛ فَثَبَتَتْ بِذَلِكَ بَراءَتُهُ مِنهُمْ؛ (p-١٠)والآيَةُ مِنَ الِاحْتِباكِ؛ لِأنَّ إثْباتَ فَرْضِهِ أوَّلًا يَدُلُّ عَلى كُفْرِ مَن أباهُ؛ وإثْباتَ ”ومَن كَفَرَ“؛ ثانِيًا؛ يَدُلُّ عَلى إيمانِ مَن حَجَّهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب