الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إبْراهِيمَ ومَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا ولِلَّهِ عَلى الناسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلا ومَن كَفَرَ فَإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العالَمِينَ﴾ الضَمِيرُ في قَوْلِهِ: "فِيهِ" عائِدٌ عَلى البَيْتِ، وساغَ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِ الآياتِ خارِجَةً (p-٢٩٠)عنهُ، لِأنَّ البَيْتَ إنَّما وُضِعَ بِحَرَمِهِ، وجَمِيعِ فَضائِلِهِ فَهي فِيهِ وإنْ لَمْ تَكُنْ داخِلَ جُدْرانِهِ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "آياتٌ بَيِّناتٌ" بِالجَمْعِ، وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وعُمَرُ وابْنُ عَبّاسٍ: "آيَةٌ بَيِّنَةٌ" عَلى الإفْرادِ قالَ الطَبَرِيُّ: يُرِيدُ عَلامَةً واحِدَةً؛ المَقامَ وحْدَهُ، وحُكِيَ ذَلِكَ عن مُجاهِدٍ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِالآيَةِ اسْمُ الجِنْسِ، فَيَقْرُبُ مِن مَعْنى القِراءَةِ الأُولى.
واخْتَلَفَتْ عِبارَةُ المُفَسِّرِينَ عَنِ الآياتِ البَيِّناتِ؛ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مِنَ الآياتِ المَقامُ، يُرِيدُ الحَجَرَ المَعْرُوفَ والمَشْعَرُ وغَيْرُ ذَلِكَ.
وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ قِراءَتَهُ "آيَةٌ" بِالإفْرادِ إنَّما يُرادُ بِها اسْمُ الجِنْسِ.
وقالَ الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: الآياتُ البَيِّناتُ مَقامُ إبْراهِيمَ، وأنَّ مَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا، وقالَ مُجاهِدٌ: المَقامُ الآيَةُ، وقَوْلُهُ: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا﴾ كَلامٌ آخَرُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَرَفْعُ "مَقامُ" عَلى قَوْلِ الحَسَنِ ومُجاهِدٍ - عَلى البَدَلِ مِن "آياتٌ"، أو عَلى خَبَرِ ابْتِداءٍ تَقْدِيرُهُ: هُنَّ مَقامُ إبْراهِيمَ، وعَلى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ ومَن نَحا نَحْوَهُ- هو مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِداءِ وخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ مُقَدَّمٌ تَقْدِيرُهُ: مِنهُنَّ مَقامُ إبْراهِيمَ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
والمُتَرَجِّحُ عِنْدِي أنَّ المَقامَ وأمْنَ الداخِلِ جُعِلا مِثالًا مِمّا في حَرَمِ اللهِ مِنَ الآياتِ وخُصّا بِالذِكْرِ لِعِظَمِهِما، وأنَّهُما تَقُومُ بِهِما الحُجَّةُ عَلى الكُفّارِ، إذْ هُمُ المُدْرِكُونَ لِهاتَيْنِ الآيَتَيْنِ بِحَواسِّهِمْ. ومِن آياتِ الحَرَمِ والبَيْتِ الَّتِي تَقُومُ بِها الحُجَّةُ عَلى الكُفّارِ أمْرُ الفِيلِ، ورَمْيُ طَيْرِ اللهِ عنهُ بِحِجارَةِ السِجِّيلِ، وذَلِكَ أمْرٌ لَمْ تَخْتَلِفْ كافَّةُ العَرَبِ في نَقْلِهِ وصِحَّتِهِ إلى أنْ أنْزَلَهُ اللهُ في كِتابِهِ. ومِن آياتِهِ كَفُّ الجَبابِرَةِ عنهُ عَلى وجْهِ الدَهْرِ. ومِن آياتِهِ الحَجَرُ الأسْوَدُ وما رُوِيَ فِيهِ أنَّهُ مِنَ الجَنَّةِ، وما أُشْرِبَتْ قُلُوبُ العالَمِ مِن تَعْظِيمِهِ قَبْلَ الإسْلامِ. ومِن آياتِهِ حَجَرُ المَقامِ، وذَلِكَ أنَّهُ قامَ عَلَيْهِ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَلامُ وقْتَ رَفْعِهِ القَواعِدَ مِنَ البَيْتِ لَمّا طالَ البِناءُ، فَكُلَّما عَلا الجِدارُ ارْتَفَعَ الحَجَرُ بِهِ في الهَواءِ، (p-٢٩١)فَما زالَ يَبْنِي وهو قائِمٌ عَلَيْهِ وإسْماعِيلُ يُناوِلُهُ الحِجارَةَ والطِينَ حَتّى أكْمَلَ الجِدارَ، ثُمَّ إنَّ اللهَ تَعالى لَمّا أرادَ إبْقاءَ ذَلِكَ آيَةً لِلْعالَمِينَ لَيَّنَ الحَجَرَ، فَغَرِقَتْ فِيهِ قَدَما إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَلامُ كَأنَّها في طِينٍ، فَذَلِكَ الأثَرُ العَظِيمُ باقٍ في الحَجَرِ إلى اليَوْمِ. وقَدْ نَقَلَتْ كافَّةُ العَرَبِ ذَلِكَ في الجاهِلِيَّةِ عَلى مُرُورِ الأعْصارِ، وقالَ أبُو طالِبٍ:
ومَوْطِئُ إبْراهِيمَ في الصَخْرِ رَطْبَةٌ عَلى قَدَمىَّ حافِيًا غَيْرَ ناعِلِ
فَما حُفِظَ أنَّ أحَدًا مِنَ الناسِ نازَعَ في هَذا القَوْلِ. ومِن آياتِهِ البَيِّناتِ زَمْزَمُ في نَبْعِها لِهاجَرَ بِهَمْزِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَلامُ الأرْضَ بِعَقِبِهِ، وفي حَفْرِ عَبْدِ المُطَّلِبِ لَها آخَرًا بَعْدَ دُثُورِها بِتِلْكَ الرُؤْيا المَشْهُورَةِ، وبِما نَبَعَ مِنَ الماءِ تَحْتَ خُفِّ ناقَتِهِ في سَفَرِهِ، إلى مُنافَرَةِ قُرَيْشٍ ومُخاصَمَتِها في أمْرِ زَمْزَمَ، ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ إسْحاقَ مُسْتَوْعِبًا، ومِن آياتِ البَيْتِ نَفْعُ ماءِ زَمْزَمَ لِما شُرِبَ لَهُ، وأنَّهُ يَعْظُمُ ماؤُها في المَوْسِمِ ويَكْثُرُ كَثْرَةً خارِقَةً لِلْعادَةِ في الآبارِ. ومِن آياتِهِ: الأمَنَةُ الثابِتَةُ فِيهِ عَلى قَدِيمِ الدَهْرِ، وأنَّ العَرَبَ كانَتْ يُغِيرُ بَعْضُها عَلى بَعْضٍ ويُتَخَطَّفُ الناسُ بِالقَتْلِ وأخْذِ الأمْوالِ وأنْواعِ الظُلْمِ إلّا في الحَرَمِ؛ وتَرَكَّبَ عَلى هَذا أمْنُ الحَيَوانِ فِيهِ وسَلامَةُ الشَجَرِ، وذَلِكَ كُلُّهُ لِلْبَرَكَةِ الَّتِي خَصَّهُ اللهُ بِها، والدَعْوَةِ مِنَ الخَلِيلِ عَلَيْهِ السَلامُ في قَوْلِهِ، ﴿اجْعَلْ هَذا بَلَدًا آمِنًا﴾ [البقرة: ١٢٦]،. وإذْعانُ نُفُوسِ العَرَبِ وغَيْرِهِمْ قاطِبَةً لِتَوْقِيرِ هَذِهِ البُقْعَةِ دُونَ ناهٍ ولا زاجِرٍ، آيَةٌ عُظْمى تَقُومُ بِها الحُجَّةُ، وهي الَّتِي فُسِّرَتْ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا﴾. ومِن آياتِهِ كَوْنُهُ بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، والأرْزاقُ مِن كُلِّ قُطْرٍ تَجِيءُ إلَيْهِ عن قُرْبٍ وعن بُعْدٍ. ومِن آياتِهِ، ما ذَكَرَ ابْنُ القاسِمِ العَتَقِيُّ رَحِمَهُ اللهُ، قالَ في النَوادِرِ وغَيْرِها: سَمِعْتُ أنَّ الحَرَمَ يُعْرَفُ بِأنْ لا يَجِيءَ سَيْلٌ مِنَ الحِلِّ فَيَدْخُلُ الحَرَمَ.
(p-٢٩٢)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
-هَذا واللهُ أعْلَمُ- لِأنَّ اللهَ تَعالى جَعَلَهُ رَبْوَةً أو في حُكْمِها لِيَكُونَ أصْوَنَ لَهُ، والحَرَمُ، فِيما حَكى ابْنُ أبِي زَيْدٍ في الحَجِّ الثانِي مِنَ النَوادِرِ -. مِمّا يَلِي المَدِينَةَ نَحْوًا مِن أرْبَعَةِ أمْيالٍ إلى مُنْتَهى التَنْعِيمِ، ومِمّا يَلِي العِراقَ نَحْوُ ثَمانِيَةِ أمْيالٍ إلى مَكانٍ يُقالُ لَهُ المَقْطَعُ، ومِمّا يَلِي عَرَفَةَ تِسْعَةُ أمْيالٍ، ومِمّا يَلِي طَرِيقَ اليَمَنِ سَبْعَةُ أمْيالٍ إلى مَوْضِعٍ يُقالُ لَهُ أضاةُ، ومِمّا يَلِي جَدَّةَ عَشْرَةُ أمْيالٍ إلى مُنْتَهى الحُدَيْبِيَةِ. قالَ مالِكٌ في العُتْبِيَّةِ: والحُدَيْبِيَةُ في الحَرَمِ.
ومِن آياتِهِ فِيما ذَكَرَ مَكِّيٌّ وغَيْرُهُ أنَّ الطَيْرَ لا تَعْلُوهُ، وإنْ عَلاهُ طائِرٌ فَإنَّما ذَلِكَ لِمَرَضٍ بِهِ، فَهو يَسْتَشْفِي بِالبَيْتِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ:
وهَذا كُلُّهُ عِنْدِي ضَعِيفٌ، والطَيْرُ تُعايَنُ تَعْلُوهُ، وقَدْ عَلَتْهُ العُقابُ الَّتِي أخَذَتِ الحَيَّةَ المُشْرِفَةَ عَلى جِدارِهِ، وتِلْكَ كانَتْ مِن آياتِهِ.
ومِن آياتِهِ فِيما ذَكَرَ الناسُ قَدِيمًا وحَدِيثًا، أنَّهُ إذا عَمَّهُ المَطَرُ مِن جَوانِبِهِ الأرْبَعَةِ في العامِ الواحِدِ، أخْصَبَتْ آفاقُ الأرْضِ، وإنْ لَمْ يُصِبْ جانِبًا مِنهُ لَمْ يَخْصَبْ ذَلِكَ الأُفُقُ الَّذِي يَلِيهِ ذَلِكَ العامُ.
واخْتَلَفَ الناسُ في مَقامِ إبْراهِيمَ، فَقالَ الجُمْهُورُ: هو الحَجَرُ المَعْرُوفُ، وقالَ قَوْمٌ: البَيْتُ كُلُّهُ مَقامُ إبْراهِيمَ لِأنَّهُ بَناهُ وقامَ في جَمِيعِ أقْطارِهِ، وقالَ قَوْمٌ مِنَ العُلَماءِ: مَكَّةُ كُلُّها مَقامُ إبْراهِيمَ، وقالَ قَوْمٌ: الحَرَمُ كُلُّهُ مَقامُ إبْراهِيمَ. والضَمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿وَمَن دَخَلَهُ﴾ عائِدٌ عَلى الحَرَمِ في قَوْلِ مَن قالَ: مَقامُ إبْراهِيمَ هو الحَرَمُ، وعائِدٌ عَلى البَيْتِ في قَوْلِ الجُمْهُورِ، إذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ لِغَيْرِهِ، إلّا أنَّ المَعْنى يُفْهَمُ مِنهُ أنَّ مَن دَخَلَ الحَرَمَ فَهو في الأمْنِ، إذِ الحَرَمُ جُزْءٌ مِنَ البَيْتِ، إذْ هو بِسَبَبِهِ وبِحُرْمَتِهِ.
واخْتَلَفَ الناسُ في مَعْنى قَوْلِهِ: "كانَ آمِنًا"؛ فَقالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ وعَطاءٌ ومُجاهِدٌ وغَيْرُهُمْ: هَذِهِ وصْفُ حالٍ كانَتْ في الجاهِلِيَّةِ أنَّ الَّذِي يَجُرُّ جَرِيرَةً ثُمَّ يَدْخُلُ الحَرَمَ فَإنَّهُ كانَ لا يُتَناوَلُ ولا يُطْلَبُ، فَأمّا في الإسْلامِ وأمْنِ جَمِيعِ الأقْطارِ فَإنَّ الحَرَمَ لا يَمْنَعُ مِن حَدٍّ مِن حُدُودِ اللهِ: مَن سَرَقَ فِيهِ قُطِعَ، ومَن زَنى رُجِمَ، ومَن قَتَلَ قُتِلَ. واسْتَحْسَنَ كَثِيرٌ (p-٢٩٣)مِمَّنْ قالَ هَذا القَوْلَ أنْ يَخْرُجَ مَن وجَبَ عَلَيْهِ القَتْلُ إلى الحِلِّ فَيُقْتَلَ هُنالِكَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: مَن أحْدَثَ حَدَثًا ثُمَّ اسْتَجارَ بِالبَيْتِ فَهو آمِنٌ، وإنَّ الأمْرَ في الإسْلامِ عَلى ما كانَ في الجاهِلِيَّةِ، والإسْلامُ زادَ البَيْتَ شَرَفًا وتَوْقِيرًا، فَلا يَعْرِضُ أحَدٌ بِمَكَّةَ لِقاتِلِ ولِيِّهِ، إلّا أنَّهُ يَجِبُ عَلى المُسْلِمِينَ ألّا يُبايِعُوا ذَلِكَ الجانِيَ ولا يُكَلِّمُوهُ ولا يُؤْوُوهُ حَتّى يَتَبَرَّمَ فَيَخْرُجَ مِنَ الحَرَمِ فَيُقامَ عَلَيْهِ الحَدُّ. وقالَ بِمِثْلِ هَذا عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ والشَعْبِيُّ وعَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ والسُدِّيُّ وغَيْرُهُمْ؛ إلّا أنَّ أكْثَرَهم قالُوا هَذا فِيمَن يَقْتُلُ خارِجَ الحَرَمِ ثُمَّ يَعُوذُ بِالحَرَمِ، فَأمّا مَن يَقْتُلُ في الحَرَمِ فَإنَّهُ يُقامُ عَلَيْهِ الحَدُّ في الحَرَمِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ:
وإذا تُؤُمِّلَ أمْرُ هَذا الَّذِي لا يُكَلَّمُ ولا يُبايَعُ، فَلَيْسَ بِآمِنٍ.
وقالَ يَحْيى بْنُ جَعْدَةَ: مَعْنى الآيَةِ: ومَن دَخَلَ البَيْتَ كانَ آمِنًا مِنَ النارِ. وحَكى النَقّاشُ عن بَعْضِ العِبادِ قالَ: كُنْتُ أطُوفُ حَوْلَ الكَعْبَةِ لَيْلًا فَقُلْتُ: يا رَبُّ إنَّكَ قُلْتَ: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كانَ آمِنًا﴾ فَمِن ماذا هو آمِنٌ يا رَبُّ؟ فَسَمِعْتُ مُكَلِّمًا يُكَلِّمُنِي وهو يَقُولُ: مِنَ النارِ، فَنَظَرْتُ وتَأمَّلْتُ فَما كانَ في المَكانِ أحَدٌ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلى الناسِ حِجُّ البَيْتِ﴾.... الآيَةُ، هو فَرْضُ الحَجِّ في كِتابِ اللهِ بِإجْماعٍ. وقالَ مالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ: الحَجُّ كُلُّهُ في كِتابِ اللهِ، فَأمّا الصَلاةُ والزَكاةُ فَهي مِن مُجْمَلِهِ الَّذِي فَسَّرَهُ النَبِيُّ عَلَيْهِ السَلامُ، والحَجُّ مِن دَعائِمِ الإسْلامِ الَّتِي بُنِيَ عَلَيْها حَسَبَ الحَدِيثِ، وشُرُوطُ وُجُوبِهِ خَمْسَةٌ: البُلُوغُ، والعَقْلُ، والحُرِّيَّةُ، والإسْلامُ، واسْتِطاعَةُ السَبِيلِ. والحَجُّ في اللُغَةِ: القَصْدُ، لَكِنَّهُ في بَيْتِ اللهِ مُخَصَّصٌ بِأعْمالٍ وأقْوالٍ.
وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وحَفْصٌ عن عاصِمٍ: "حِجُّ البَيْتِ" بِكَسْرِ الحاءِ، وقَرَأ الباقُونَ: "حَجُّ البَيْتِ" بِفَتْحِها. قالَ سِيبَوَيْهِ: حَجَّ حِجًّا مِثْلُ ذَكَرَ ذِكْرًا، قالَ أبُو عَلِيٍّ: (p-٢٩٤)فَحِجُّ عَلى هَذا مَصْدَرٌ، وقالَ سِيبَوَيْهِ أيْضًا: قالُوا غَزاةً فَأرادُوا عَمَلَ وجْهٍ واحِدٍ كَما قِيلَ حِجَّةٌ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
قَوْلُهُ حِجُّ بِكَسْرِ الحاءِ، يُرِيدُونَ عَمَلَ سَنَةٍ واحِدَةٍ، ولَمْ يَجِيئُوا بِهِ عَلى الأصْلِ لَكِنَّهُ اسْمٌ لَهُ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: قَوْلُهُ: "لَمْ يَجِيئُوا بِهِ عَلى الأصْلِ" يُرِيدُ عَلى الفَتْحِ الَّذِي هو الدُفْعَةُ مِنَ الفِعْلِ، ولَكِنْ كَسَرُوهُ فَجَعَلُوهُ اسْمًا لِهَذا المَعْنى، كَما أنَّ غَزاةً كَذَلِكَ، ولَمْ تَجِئْ فِيهِ الغَزْوَةُ وكانَ القِياسَ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وأكْثَرُ ما التُزِمَ كَسْرُ الحاءِ في قَوْلِهِمْ ذُو الحِجَّةِ، وأمّا قَوْلُهُمْ: حِجَّةُ الوَداعِ ونَحْوُهُ فَإنَّها عَلى الأصْلِ. وقالَ الزَجّاجُ وغَيْرُهُ: الحَجُّ بِفَتْحِ الحاءِ- المَصْدَرُ، وبِكَسْرِها اسْمُ العَمَلِ. وقالَ الطَبَرِيُّ:
هُما لُغَتانِ: الكَسْرُ لُغَةُ نَجْدٍ، والفَتْحُ لُغَةُ أهْلِ العالِيَةِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلا﴾: "مَن" في مَوْضِعِ خَفْضٍ بَدَلٌ مِنَ "الناسِ" وهو بَدَلُ البَعْضِ مِنَ الكُلِّ. وقالَ الكِسائِيُّ وغَيْرُهُ: هي شَرْطٌ في مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ. والجَوابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَعَلَيْهِ الحَجُّ؛ ويَدُلُّ عَلَيْهِ عَطْفُ الشَرْطِ الآخَرِ بَعْدَهُ في قَوْلِهِ: "وَمَن كَفَرَ" وقالَ بَعْضُ البَصْرِيِّينَ: "مَن" رُفِعَ عَلى أنَّهُ فاعِلٌ بِالمَصْدَرِ الَّذِي هو "حِجُّ البَيْتِ" ويَكُونُ المَصْدَرُ مُضافًا إلى المَفْعُولِ.
واخْتَلَفَ الناسُ في حالِ مُسْتَطِيعِ السَبِيلِ كَيْفَ هِيَ؟ فَقالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ وابْنُ عَبّاسٍ وعَطاءٌ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هي حالُ الَّذِي يَجِدُ زادًا وراحِلَةً. ورَوى الطَبَرِيُّ عَنِ الحَسَنِ مِن طَرِيقِ إبْراهِيمَ بْنِ يَزِيدَ الخُوزِيِّ «أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ فَقالَ لَهُ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللهِ ما السَبِيلُ؟ قالَ: "الزادُ والراحِلَةُ".» وأسْنَدَ الطَبَرِيُّ إلى عَلِيِّ بْنِ (p-٢٩٥)أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: « "مَن مَلَكَ زادًا وراحِلَةً فَلَمْ يَحُجَّ فَلا عَلَيْهِ أنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أو نَصْرانِيًّا".» ورَوى عَبْدُ الرَزّاقِ وسُفْيانُ عن إبْراهِيمَ بْنِ يَزِيدَ الخُوزِيِّ عن مُحَمَّدِ بْنِ عَبّادِ بْنِ جَعْفَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: «قامَ رَجُلٌ إلى النَبِيِّ عَلَيْهِ السَلامُ، فَقالَ: ما السَبِيلُ؟ قالَ: "الزادُ والراحِلَةُ".»
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وضَعَّفَ قَوْمٌ هَذا الحَدِيثَ لِأنَّ إبْراهِيمَ بْنَ يَزِيدَ الخُوزِيَّ تَكَلَّمَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ وغَيْرُهُ، والحَدِيثُ مُسْتَغْنٍ عن طَرِيقِ إبْراهِيمَ، وقالَ بَعْضُ البَغْدادِيِّينَ: هَذا الحَدِيثُ مُشِيرٌ إلى أنَّ الحَجَّ لا يَجِبُ مَشْيًا.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
والَّذِي أقُولُ: إنَّ هَذا الحَدِيثَ إنَّما خَرَجَ عَلى الغالِبِ مِن أحْوالِ الناسِ وهو البُعْدُ عن مَكَّةَ واسْتِصْعابُ المَشْيِ عَلى القَدَمِ كَثِيرًا، فَأمّا القَرِيبُ الدارِ فَلا يَدْخُلُ في الحَدِيثِ، لِأنَّ القُرْبَ أغْناهُ عن زادٍ وراحِلَةٍ. وأمّا الَّذِي يَسْتَطِيعُ المَشْيَ مِنَ الأقْطارِ البَعِيدَةِ، فالراحِلَةُ عِنْدَهُ بِالمَعْنى والقُوَّةِ الَّتِي وُهِبَ. وقَدْ ذَكَرَهُ اللهُ تَعالى في قَوْلِهِ "يَأْتُوكَ رِجالًا" وكَذَلِكَ أيْضًا مَعْنى الحَدِيثِ: الزادُ والراحِلَةُ لِمَن لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ في بَدَنِهِ، مِن مَرَضٍ أو خَوْفٍ عَلى أقْسامِهِ أوِ اسْتِحْقاقٍ بِأُجْرَةٍ أو دَيْنٍ وهو يُحاوِلُ الأداءَ، ويَطْمَعُ فِيهِ بِتَصَرُّفِهِ في مالٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، وأمّا العَدِيمُ فَلَهُ أنْ يَحُجَّ إذا تَكَلَّفَ واسْتَطاعَ، فَمَقْصِدُ الحَدِيثِ أنْ يَتَحَدَّدَ مَوْضِعُ الوُجُوبِ عَلى البَعِيدِ الدارِ، وأمّا المُشاةُ وأصْحابُ الأعْذارِ فَكَثِيرٌ مِنهم مَن يَتَكَلَّفُ السَفَرَ وإنْ كانَ الحَجُّ غَيْرَ واجِبٍ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُؤَدِّيهِ ذَلِكَ (p-٢٩٦)التَكَلُّفُ إلى مَوْضِعٍ يَجِبُ فِيهِ الحَجُّ عَلَيْهِ، وهَذِهِ مُبالَغَةٌ في طَلَبِ الأجْرِ ونَيْلِهِ، إنْ شاءَ اللهُ تَعالى.
وذَهَبَتْ فِرْقَةٌ مِنَ العُلَماءِ إلى أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلا﴾ كَلامٌ عامٌّ لا يَتَفَسَّرُ بِزادٍ وراحِلَةٍ ولا غَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ إذا كانَ مُسْتَطِيعًا غَيْرَ شاقٍّ عَلى نَفْسِهِ فَقَدْ وجَبَ عَلَيْهِ الحَجُّ، قالَ ذَلِكَ ابْنُ الزُبَيْرِ والضَحّاكُ. وقالَ الحَسَنُ: مَن وجَدَ شَيْئًا يُبَلِّغُهُ فَقَدِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا. وقالَ عِكْرِمَةُ: اسْتِطاعَةُ السَبِيلِ: الصِحَّةُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مَن مَلَكَ ثَلاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَهو السَبِيلُ إلَيْهِ. وقالَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، في سَماعِ أشْهَبَ مِنَ العُتْبِيَّةِ، وفي كِتابِ مُحَمَّدٍ، وقَدْ قِيلَ لَهُ: أتَقُولُ إنَّ السَبِيلَ الزادُ والراحِلَةُ؟ فَقالَ: لا واللهِ، قَدْ يَجِدُ زادًا وراحِلَةً ولا يَقْدِرُ عَلى مَسِيرٍ، وآخَرُ يَقْدِرُ أنْ يَمْشِيَ راجِلًا، ورُبَّ صَغِيرٍ أجْلَدُ مِن كَبِيرٍ، فَلا صِفَةَ في هَذا أبْيَنُ مِمّا قالَ اللهُ تَعالى.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا أنْبَلُ كَلامٍ؛ وجَمِيعُ ما حُكِيَ عَنِ العُلَماءِ لا يُخالِفُ بَعْضُهُ بَعْضًا، الزادُ والراحِلَةُ عَلى الأغْلَبِ مِن أمْرِ الناسِ في البُعْدِ، وأنَّهم أصِحّاءُ غَيْرُ مُسْتَطِيعِينَ لِلْمَشْيِ عَلى الأقْدامِ، والِاسْتِطاعَةُ- مَتى تَحَصَّلَتْ- عامَّةٌ في ذَلِكَ وغَيْرِهِ، فَإذا فَرَضْنا رَجُلًا مُسْتَطِيعًا لِلسَّفَرِ ماشِيًا مُعْتادًا لِذَلِكَ، وهو مِمَّنْ يَسْألُ الناسَ في إقامَتِهِ ويَعِيشُ مِن خِدْمَتِهِمْ وسُؤالِهِمْ، ووَجَدَ صَحابَةً، فالحَجُّ عَلَيْهِ واجِبٌ دُونَ زادٍ ولا راحِلَةٍ. وهَذِهِ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيها فِقْهُ الحالِ. وكانَ الشافِعِيُّ يَقُولُ: الِاسْتِطاعَةُ عَلى وجْهَيْنِ؛ بِنَفْسِهِ أوَّلًا، فَمَن مَنَعَهُ مَرَضٌ أو عُذْرٌ ولَهُ مالٌ فَعَلَيْهِ أنْ يَجْعَلَ مَن يَحُجُّ عنهُ وهو مُسْتَطِيعٌ لِذَلِكَ.
واخْتَلَفَ الناسُ، هَلْ وُجُوبُ الحَجِّ عَلى الفَوْرِ أو عَلى التَراخِي؟ عَلى قَوْلَيْنِ، ولِمالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ مَسائِلُ تَقْتَضِي القَوْلَيْنِ، قالَ في "المَجْمُوعَةِ" فِيمَن أرادَ الحَجَّ ومَنَعَهُ أبَواهُ: لا يَعْجَلُ عَلَيْهِما في حِجَّةِ الفَرِيضَةِ ولْيَسْتَأْذِنْهُما العامَ والعامَيْنِ، فَهَذا عَلى التَراخِي. وقالَ في كِتابِ ابْنِ المَوّازِ: لا يَحُجُّ أحَدٌ إلّا بِإذْنِ أبَوَيْهِ إلّا الفَرِيضَةَ، فَلْيَخْرُجْ ولْيَدَعْهُما، فَهَذا عَلى الفَوْرِ. وقالَ مالِكٌ في المَرْأةِ يَمُوتُ عنها زَوْجُها فَتُرِيدُ الخُرُوجَ إلى الحَجِّ: لا تَخْرُجُ في أيّامِ عِدَّتِها، قالَ الشَيْخُ أبُو الحَسَنِ اللَخْمِيُّ: فَجَعَلَهُ عَلى التَراخِي.
(p-٢٩٧)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا اسْتِقْراءٌ فِيهِ نَظَرٌ.
واخْتَلَفَ قَوْلُ مالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ فِيمَن يَخْرُجُ إلى الحَجِّ عَلى أنْ يَسْألَ الناسَ جائِيًا وذاهِبًا، مِمَّنْ لَيْسَتْ تِلْكَ عادَتَهُ في إقامَتِهِ، فَرَوى عنهُ ابْنُ وهْبٍ أنَّهُ قالَ: لا بَأْسَ بِذَلِكَ، قِيلَ لَهُ فَإنْ ماتَ في الطَرِيقِ؟ قالَ: حِسابُهُ عَلى اللهِ. ورَوى عنهُ ابْنُ القاسِمِ أنَّهُ قالَ: لا أرى لِلَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ أنْ يَخْرُجُوا إلى الحَجِّ والغَزْوِ ويَسْألُوا وإنِّي لَأكْرَهُ ذَلِكَ، لِقَوْلِ اللهِ سُبْحانَهُ ﴿وَلا عَلى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ﴾ [التوبة: ٩١]. قالَ ابْنُ القاسِمِ: وكَرِهَ مالِكٌ أنْ يَحُجَّ النِساءُ في البَحْرِ لِأنَّها كَشْفَةٌ، وكَرِهَ أنْ يَحُجَّ أحَدٌ في البَحْرِ إلّا مِثْلَ أهْلِ الأنْدَلُسِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مِنهُ بُدًّا، وقالَ في كِتابِ مُحَمَّدٍ وغَيْرِهِ:
قالَ اللهُ تَعالى: ﴿وَأذِّنْ في الناسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالا وعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج: ٢٧] وما أسْمَعُ لِلْبَحْرِ ذِكْرًا.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا تَأْنِيسٌ مِن مالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ لِسُقُوطِ لَفْظَةِ البَحْرِ، ولَيْسَ تَقْتَضِي الآيَةُ سُقُوطَ البَحْرِ، وسَيَأْتِي تَفْسِيرُ ذَلِكَ في مَوْضِعِهِ إنْ شاءَ اللهُ، وقَدْ قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: « "ناسٌ مِن أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ مُلُوكًا عَلى الأسِرَّةِ أو مِثْلَ المُلُوكِ عَلى الأسِرَّةِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذا البَحْرِ الأخْضَرِ غُزاةً في سَبِيلِ اللهِ.".»
ولا فَرْقَ بَيْنَ الغَزْوِ والحَجِّ.
واخْتُلِفَ في حَجِّ النِساءِ ماشِياتٍ مَعَ القُدْرَةِ عَلى ذَلِكَ، فَقالَ في "المُدَوَّنَةِ" في المَرْأةِ تَنْذِرُ مَشْيًا فَتَمْشِي وتَعْجِزُ في بَعْضِ الطَرِيقِ: إنَّها تَعُودُ ثانِيَةً؛ قالَ: والرِجالُ (p-٢٩٨)والنِساءُ في ذَلِكَ سَواءٌ، فَعَلى هَذا يَجِبُ الحَجُّ إذا كانَتْ قادِرَةً عَلى المَشْيِ، لِأنَّ حِجَّةَ الفَرِيضَةِ آكَدُ مِنَ النَذْرِ.
وقالَ في كِتابِ مُحَمَّدٍ: لا أرى عَلى المَرْأةِ الحَجَّ ماشِيَةً وإنْ قَوِيَتْ عَلَيْهِ، لِأنَّ مَشْيَهُنَّ عَوْرَةٌ، إلّا أنْ يَكُونَ المَكانَ القَرِيبَ مِن مَكَّةَ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا يَنْظُرُ بِفِقْهِ الحالِ إلى رائِعَةٍ أو مُتَجالَّةٍ.
ولا حَجَّ عَلى المَرْأةِ إلّا إذا كانَ مَعَها ذُو مَحْرَمٍ، واخْتُلِفَ إذا عَدِمَتْهُ هَلْ يَجِبُ الحَجُّ بِما هو في مَعْناهُ مِن نِساءٍ ثِقاتٍ يُصْطَحَبْنَ في القافِلَةِ، أو رِجالٍ ثِقاتٍ؟ فَقالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ وإبْراهِيمُ النَخْعِيُّ وابْنُ حَنْبَلَ وإسْحاقُ بْنُ راهَوَيْهِ وأبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ: المَحْرَمُ مِنَ السَبِيلِ، ولا حَجَّ عَلَيْها إلّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا وُقُوفٌ مَعَ لَفْظِ الحَدِيثِ.
وقالَ مالِكٌ: تَخْرُجُ مَعَ جَماعَةِ نِساءٍ، وقالَ الشافِعِيُّ: تَخْرُجُ مَعَ حُرَّةٍ ثِقَةٍ مُسْلِمَةٍ، وقالَ ابْنُ سِيرِينَ: تَخْرُجُ مَعَ رَجُلٍ ثِقَةٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، وقالَ الأوزاعِيُّ: تَخْرُجُ مَعَ قَوْمٍ عُدُولٍ، وتَتَّخِذُ سُلَّمًا تَصْعَدُ عَلَيْهِ وتَنْزِلُ، ولا يَقْرَبُها رَجُلٌ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذِهِ الأقْوالُ راعَتْ مَعْنى الحَدِيثِ. وجُمْهُورُ الأُمَّةِ عَلى أنَّ لِلْمَرْأةِ أنْ تَحُجَّ الفَرِيضَةَ وإنْ كَرِهَ زَوْجُها، ولَيْسَ لَهُ مَنعُها. واضْطَرَبَ قَوْلُ الشافِعِيِّ في ذَلِكَ.
واخْتَلَفَ الناسُ في وُجُوبِ الحَجِّ مَعَ وُجُودِ المُكُوسِ والغَرامَةِ؛ فَقالَ سُفْيانُ الثَوْرِيُّ: إذا كانَ المَكْسُ ولَوْ دِرْهَمًا سَقَطَ الفَرْضُ، فَظاهِرُ هَذا أنَّها إذا كانَتْ كَثِيرَةً غَيْرَ مُجْحِفَةٍ لِسَعَةِ الحالِ فَإنَّ الفَرْضَ لا يَسْقُطُ، وعَلى هَذا المَنزَعِ جَماعَةُ أهْلِ العِلْمِ وعَلَيْهِ مَضَتِ الأعْصارُ.
(p-٢٩٩)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذِهِ نُبْذَةٌ مِن فِقْهِ الِاسْتِطاعَةِ، ولَيْسَ هَذا الجَمْعُ بِمَوْضِعٍ لِتَقَصِّي ذَلِكَ، واللهُ المُسْتَعانُ.
والسَبِيلُ: تُذَكَّرُ وتُؤَنَّثُ، والأغْلَبُ والأفْصَحُ التَأْنِيثُ، قالَ اللهُ تَعالى: ﴿تَبْغُونَها عِوَجًا﴾ [آل عمران: ٩٩] وقالَ: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أدْعُو إلى اللهِ﴾ [يوسف: ١٠٨] ؛ ومِنَ التَذْكِيرِ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ مالِكٍ:
قَضى يَوْمَ بَدْرٍ أنْ تُلاقِيَ مَعْشَرًا بَغَوْا، وسَبِيلُ البَغْيِ بِالناسِ جائِزُ
والضَمِيرُ فِي: "إلَيْهِ" عائِدٌ عَلى البَيْتِ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَعُودَ عَلى الحَجِّ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَن كَفَرَ فَإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العالَمِينَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: المَعْنى: مَن زَعَمَ أنَّ الحَجَّ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَيْهِ، وقالَ مِثْلَهُ الضَحّاكُ وعَطاءٌ وعِمْرانُ القَطّانُ والحَسَنُ ومُجاهِدٌ. ورُوِيَ عَنِ النَبِيِّ عَلَيْهِ الصَلاةُ والسَلامُ: «أنَّهُ قَرَأ الآيَةَ، فَقالَ لَهُ رَجُلٌ مِن هُذَيْلٍ: يا رَسُولَ اللهِ مَن تَرَكَهُ كَفَرَ، فَقالَ لَهُ النَبِيُّ ﷺ "مَن تَرَكَهُ لا يَخافُ عُقُوبَتَهُ، ومَن حَجَّهُ لا يَرْجُو ثَوابَهُ فَهو ذَلِكَ".» وقالَ بِمَعْنى هَذا الحَدِيثِ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ أيْضًا. وهَذا والَّذِي قَبْلَهُ يَرْجِعُ إلى كُفْرِ الجَحْدِ والخُرُوجِ عَنِ المِلَّةِ. وقالَ ابْنُ عُمَرَ وجَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ: مَعْنى الآيَةِ: مَن كَفَرَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ، وهَذا قَرِيبٌ مِنَ الأوَّلِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنى الآيَةِ: مَن كَفَرَ بِهَذِهِ الآياتِ الَّتِي في البَيْتِ، وقالَ السُدِّيُّ وجَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ: مَعْنى الآيَةِ: ومَن كَفَرَ بِأنْ وجَدَ ما يَحُجُّ بِهِ ثُمَّ لَمْ يَحُجَّ، قالَ السُدِّيُّ: مَن كانَ بِهَذِهِ الحالِ فَهو كافِرٌ.
(p-٣٠٠)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
فَهَذا كُفْرُ مَعْصِيَةٍ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَلامُ: « "مَن تَرَكَ الصَلاةَ فَقَدْ كَفَرَ"» وقَوْلِهِ: « "لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكم رِقابَ بَعْضٍ"» عَلى أظْهَرِ مُحْتَمَلاتِ هَذا الحَدِيثِ. وبَيِّنٌ أنَّ مَن أنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ بِمالٍ وصِحَّةٍ ولَمْ يَحُجَّ فَقَدْ كَفَرَ النِعْمَةَ.
ومَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿غَنِيٌّ عَنِ العالَمِينَ﴾ الوَعِيدُ لِمَن كَفَرَ. والقَصْدُ بِالكَلامِ: فَإنَّ اللهَ غَنِيٌّ عنهُمْ، ولَكِنْ عَمَّمَ اللَفْظَ لِيَبْرَعَ المَعْنى، ويُنَبِّهَ الفِكْرَ عَلى قُدْرَةِ اللهِ وسُلْطانِهِ واسْتِغْنائِهِ مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ حَتّى لَيْسَ بِهِ افْتِقارٌ إلى شَيْءٍ، لا رَبَّ سِواهُ.
{"ayah":"فِیهِ ءَایَـٰتُۢ بَیِّنَـٰتࣱ مَّقَامُ إِبۡرَ ٰهِیمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنࣰاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَیۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَیۡهِ سَبِیلࣰاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِیٌّ عَنِ ٱلۡعَـٰلَمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق