الباحث القرآني
فيه خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً الْأُولَى: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي سَبَبِ] نُزُولِ [[[من ك.]] هَذِهِ الْآيَةِ، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْعُرَنِيِّينَ، رَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِأَبِي دَاوُدَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ قَوْمًا مِنْ عُكْلَ [[عكل (بضم العين المهملة وسكون الكاف): قبيلة مشهورة.]] - أَوْ قَالَ مِنْ عُرَيْنَةَ- قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَاجْتَوَوْا [[أي أصابهم الجوى وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول، وذلك إذا لم يوافقهم هواؤها واستوخموها.
(النهاية) لابن الأثير.]] الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِلِقَاحٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ ﷺ وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ ﷺ خَبَرُهُمْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَأَرْسَلَ فِي آثارهم، فلما ارتفع النهار حتى جئ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَسَمَرَ [[سمر عين فلان: سملها (فقأها).]] أَعْيُنَهُمْ وَأُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ [[الحرة (بفتح الحاء وتشديد الراء): أرض خارج المدينة ذات حجارة سود.]] يَسْتَسْقُونَ فَلَا يُسْقَوْنَ. قَالَ أَبُو قِلَابَةَ: فَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَأَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ وَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَمَا حَسَمَهُمْ [[حسم العرق: قطعه ثم كواه لئلا يسيل دمه.]]، وَفِي رِوَايَةٍ: فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي طَلَبِهِمْ قَافَةً [[القافة (جمع (قائف) وهو الذي يتبع الأثر.]] فَأُتِيَ بِهِمْ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي ذَلِكَ: "إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً" الْآيَةَ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ أَنَسٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمْ يَكْدِمُ [[كدمه: عضه بأدنى فمه.]] الْأَرْضَ بِفِيهِ عَطَشًا حَتَّى مَاتُوا. وَفِي الْبُخَارِيِّ قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي حديثه: فَبَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى أَدْرَكْنَاهُمْ وَقَدْ أَشْرَفُوا [[في وو ا: وقد أشرفنا.]] عَلَى بِلَادِهِمْ، فَجِئْنَا بِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. قَالَ جَرِيرٌ: فَكَانُوا يَقُولُونَ الْمَاءَ، وَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (النَّارُ). وَقَدْ حَكَى أَهْلُ التَّوَارِيخِ وَالسِّيَرِ: أَنَّهُمْ قَطَعُوا يَدَيِ الرَّاعِيَ وَرِجْلَيْهِ، وَغَرَزُوا الشَّوْكَ فِي عَيْنَيْهِ حَتَّى مَاتَ، وَأُدْخِلَ الْمَدِينَةَ مَيِّتًا. وَكَانَ اسْمُهُ يَسَارَ وَكَانَ نُوبِيًّا. وَكَانَ هَذَا الْفِعْلُ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ. وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أحرقهم بالنار بعد ما قَتَلَهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ: أَنَّهَاِ نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَهْدٌ فَنَقَضُوا الْعَهْدَ وَقَطَعُوا السَّبِيلَ وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ. وَفِي مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" إِلَى قَوْلِهِ: "غَفُورٌ رَحِيمٌ" نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُشْرِكِينَ فَمَنْ أُخِذَ [[في مصنف أبي داود: تاب، بدل: أخذ.]] مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ الَّذِي أَصَابَهُ. وَمِمَّنْ قَالَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ يَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [[راجع ج ٧ ص ٤٠١.]]] الأنفال: ٣٨] وقوله عليه] الصلاة و [[[من ج.]] السلام: (الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِنُصُوصِ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: الْآيَةُ نَزَلَتْ فِيمَنْ خَرَجَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْطَعُ السَّبِيلَ وَيَسْعَى فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: قَوْلُ مَالِكٍ صَحِيحٌ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ مُحْتَجًّا لِهَذَا الْقَوْلِ: وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَيْرِ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: "إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ" وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ إِذَا وَقَعُوا فِي أَيْدِينَا فَأَسْلَمُوا أَنَّ دِمَاءَهُمْ تُحَرَّمُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخَتْ فَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْعُرَنِيِّينَ، فَوَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى هَذِهِ الْحُدُودِ. وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْحُدُودُ، يَعْنِي حَدِيثَ أَنَسٍ، ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمِ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِوَفْدِ عُرَيْنَةَ نُسِخَ، [[من ك وهو الصواب، وفي هـ وج وا وز ول: لم يجز.]] إِذْ لَا يَجُوزُ التَّمْثِيلُ بِالْمُرْتَدِّ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: إِنَّ رسول الله ﷺ لما قَطَعَ الَّذِينَ سَرَقُوا لِقَاحَهُ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ بِالنَّارِ عَاتَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ "إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا" الْآيَةَ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. قَالَ أَبُو الزِّنَادِ: فَلَمَّا وُعِظَ وَنُهِيَ عَنِ الْمُثْلَةِ لَمْ يَعُدْ. وَحُكِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ بِنَاسِخَةٍ لِذَلِكَ الْفِعْلِ، لان ذلك وقع في مرتدين، لَا سِيَّمَا وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَكِتَابِ النَّسَائِيِّ وَغَيْرِهِمَا قَالَ: إِنَّمَا سَمَلَ] النَّبِيُّ ﷺ [[[من ج وك وهـ.]] أَعْيُنَ أُولَئِكَ لِأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرُّعَاةِ، فَكَانَ هَذَا قِصَاصًا، وَهَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُحَارِبِ الْمُؤْمِنِ. قُلْتُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ" وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُمْ فِي زَوَالِ الْعُقُوبَةِ عَنْهُمْ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ كَمَا تَسْقُطُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ. وَالْمُرْتَدُّ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ- دُونَ الْمُحَارَبَةِ- وَلَا يُنْفَى وَلَا تُقْطَعُ يَدُهُ وَلَا رِجْلُهُ وَلَا يُخَلَّى سَبِيلُهُ بَلْ يُقْتَلُ إِنْ لَمْ يُسْلِمْ، وَلَا يُصْلَبُ أَيْضًا، فَدَلَّ أَنَّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مَا عُنِيَ بِهِ الْمُرْتَدُّ. وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: ٣٨]. وَقَالَ فِي الْمُحَارِبِينَ: "إِلَّا الَّذِينَ تابُوا" الْآيَةَ، وَهَذَا بَيِّنٌ. وَعَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ لَا إِشْكَالَ وَلَا لَوْمَ وَلَا عِتَابَ إِذْ هُوَ مُقْتَضَى الْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ﴾[[راجع ج ٢ ص ٣٥٤.]] [البقرة: ١٩٤] فَمَثَّلُوا فَمُثِّلَ بِهِمْ، إِلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْعِتَابُ إِنْ صَحَّ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْقَتْلِ، وَذَلِكَ تَكْحِيلُهُمْ بِمَسَامِيرَ مُحْمَاةٍ وَتَرْكُهُمْ عَطَاشَى حَتَّى مَاتُوا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَسْمُلْ أَعْيُنَ الْعُرَنِيِّينَ وَإِنَّمَا أَرَادَ ذَلِكَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ نَاهِيَةً عَنْ ذَلِكَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا، فَإِنَّ الْأَخْبَارَ الثَّابِتَةَ وَرَدَتْ بِالسَّمْلِ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: فَأَمَرَ بِمَسَامِيرَ فَأُحْمِيَتْ فَكَحَلَهُمْ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَرَتِّبٌ فِي الْمُحَارِبِينَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي الْمُرْتَدِّينَ أَوْ الْيَهُودِ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ" اسْتِعَارَةٌ وَمَجَازٌ، إِذِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يُحَارَبُ وَلَا يُغَالَبُ لِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَلِمَا وَجَبَ لَهُ مِنَ التَّنْزِيهِ عَنِ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ. وَالْمَعْنَى: يُحَارِبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، فَعَبَّرَ بِنَفْسِهِ الْعَزِيزَةِ عَنْ أَوْلِيَائِهِ إِكْبَارًا لِإِذَايَتِهِمْ، كَمَا عَبَّرَ بِنَفْسِهِ عَنِ الْفُقَرَاءِ الضُّعَفَاءِ فِي قَوْلِهِ: "مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً"] البقرة: ٢٤٥] حَثًّا عَلَى الِاسْتِعْطَافِ عَلَيْهِمْ، وَمِثْلُهُ فِي صَحِيحِ السُّنَّةِ (اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي). الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وقد تقدم في "البقرة" [[راجع ج ٣ ص ٢٤٠.]].
الثَّانِيَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْمُحَارَبَةِ، فَقَالَ مَالِكٌ: الْمُحَارِبُ عِنْدَنَا مَنْ حَمَلَ عَلَى النَّاسِ فِي مِصْرَ أَوْ فِي بَرِّيَّةٍ وَكَابَرَهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ دُونَ نَائِرَةٍ [[نارت نائرة في الناس: هاجت هائجة.]] وَلَا ذَحْلَ [[الذحل: الثأر.]] وَلَا عَدَاوَةَ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: اخْتُلِفَ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَأَثْبَتَ الْمُحَارَبَةَ فِي الْمِصْرِ مَرَّةً وَنَفَى ذَلِكَ مَرَّةً، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: حُكْمُ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ أَوْ فِي الْمَنَازِلِ وَالطُّرُقِ وَدِيَارِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَالْقُرَى سَوَاءٌ وَحُدُودُهُمْ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: كَذَلِكَ هُوَ لِأَنَّ كُلًّا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُحَارَبَةِ، وَالْكِتَابُ عَلَى الْعُمُومِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ جُمْلَةِ الْآيَةِ قَوْمًا بِغَيْرِ حُجَّةٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا تَكُونُ الْمُحَارَبَةُ فِي الْمِصْرِ إِنَّمَا تَكُونُ خَارِجًا عَنِ الْمِصْرِ، هَذَا قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَالنُّعْمَانِ. وَالْمُغْتَالُ كَالْمُحَارِبِ وَهُوَ الَّذِي يَحْتَالُ فِي قَتْلِ إِنْسَانٍ عَلَى أَخْذِ مَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِرِ السِّلَاحَ لَكِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ أَوْ صَحِبَهُ فِي سَفَرٍ فَأَطْعَمَهُ سُمًّا فَقَتَلَهُ فَيُقْتَلُ حَدًّا لَا قَوَدًا. الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الْمُحَارِبِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُقَامُ عَلَيْهِ بِقَدْرِ فِعْلِهِ، فَمَنْ أَخَافَ السَّبِيلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ ثُمَّ صُلِبَ، فَإِذَا قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ قُتِلَ، وَإِنْ هُوَ لَمْ يَأْخُذِ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ نُفِيَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ وَالنَّخَعِيِّ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ صُلِبَ وَقُتِلَ عَلَى الْخَشَبَةِ، قَالَ اللَّيْثُ: بِالْحَرْبَةِ مَصْلُوبًا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِذَا قَتَلَ قُتِلَ، وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ فَالسُّلْطَانُ مُخَيَّرٌ فِيهِ، إِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْطَعْ وَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ [[في ك: لم يقطع وصلبه.]]، قَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْقَتْلُ يَأْتِي عَلَى كُلِّ شي. وَنَحْوَهُ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا أَخَذَ الْمَالَ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى وَحُسِمَتْ، ثُمَّ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى وَحُسِمَتْ وَخُلِّيَ، لِأَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ زَادَتْ عَلَى السَّرِقَةِ بِالْحِرَابَةِ، وَإِذَا قَتَلَ قُتِلَ، وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ قُتِلَ وَصُلِبَ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يُصْلَبُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، قَالَ: وَإِنْ حَضَرَ وَكَثَّرَ وَهِيبَ وَكَانَ رِدْءًا لِلْعَدُوِّ حُبِسَ. وَقَالَ أَحْمَدُ: إِنْ قَتَلَ قُتِلَ، وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصْلَبَ قَبْلَ الْقَتْلِ فَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَكْرَهُ أَنْ يُقْتَلَ مَصْلُوبًا لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْمُثْلَةِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ وَالنَّخَعِيِّ كُلِّهِمْ قَالَ: الْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْمُحَارِبِينَ، يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ بِأَيِ الْأَحْكَامِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ أَوِ الْقَطْعِ أَوِ النَّفْيِ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ "أَوْ" فَصَاحِبْهُ بِالْخِيَارِ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْعَرُ [[في ج وك: أسعد.]] بِظَاهِرِ الْآيَةِ، فَإِنَّ أَهْلَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ "أَوْ" لِلتَّرْتِيبِ- وَإِنِ اخْتَلَفُوا- فَإِنَّكَ تَجِدُ أَقْوَالَهُمْ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ عَلَيْهِ حَدَّيْنِ فَيَقُولُونَ: يُقْتَلُ وَيُصْلَبُ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: يُصْلَبُ وَيُقْتَلُ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: تُقْطَعُ يَدُهُ وَرِجْلُهُ وَيُنْفَى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْآيَةُ وَلَا مَعْنَى "أَوْ" فِي اللُّغَةِ، قَالَ النَّحَّاسُ. وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْحُكْمِ فِي الْمُحَارِبِ فَقَالَ: "مَنْ أَخَافَ السَّبِيلَ واخذ المال فأقطع به لِلْأَخْذِ وَرِجْلَهُ لِلْإِخَافَةِ وَمَنْ قَتَلَ فَاقْتُلْهُ وَمَنْ جَمَعَ ذَلِكَ فَاصْلُبْهُ". قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَبَقِيَ النَّفْيُ لِلْمُخِيفِ فَقَطْ وَالْمُخِيفُ فِي حُكْمِ الْقَاتِلِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَمَالِكٌ يَرَى فِيهِ الْأَخْذَ بِأَيْسَرَ] العذاب و [[[من ك.]] وَالْعِقَابِ اسْتِحْسَانًا. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ أَنْ يُطْلَبَ أَبَدًا بِالْخَيْلِ وَالرِّجْلِ حَتَّى يُؤْخَذَ فَيُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ اللَّهِ، أَوْ يَخْرُجُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ هَرَبًا مِمَّنْ يَطْلُبُهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالزُّهْرِيِّ. حَكَاهُ الرُّمَّانِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَحُكِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ يُخْرَجُونَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَيُطْلَبُونَ لِتُقَامَ عَلَيْهِمُ الحدود، وقاله اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالزُّهْرِيُّ أَيْضًا. وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا: يُنْفَى مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي أَحْدَثَ فِيهِ هَذَا إِلَى غَيْرِهِ وَيُحْبَسُ فِيهِ كَالزَّانِي. وَقَالَ] مالك أيضا و [[[من ك.]] الكوفيون: نَفْيُهُمْ سَجْنُهُمْ فَيُنْفَى مِنْ سَعَةِ الدُّنْيَا إِلَى ضِيقِهَا، فَصَارَ كَأَنَّهُ إِذَا سُجِنَ فَقَدْ نُفِيَ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا مِنْ مَوْضِعِ اسْتِقْرَارِهِ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ بَعْضِ أَهْلِ السُّجُونِ فِي ذَلِكَ:
خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنَ أَهْلِهَا ... فَلَسْنَا مِنَ الأموات فيها ولا الأحياء
إِذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ ... عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا
حَكَى مَكْحُولٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوَّلُ مَنْ حَبَسَ فِي السُّجُونِ وَقَالَ: أَحْبِسُهُ حَتَّى أَعْلَمَ مِنْهُ التَّوْبَةَ، وَلَا أَنْفِيَهُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ فَيُؤْذِيهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَرْضَ فِي الْآيَةِ هِيَ أَرْضُ النَّازِلَةِ وَقَدْ تَجَنَّبَ النَّاسُ قَدِيمًا الْأَرْضَ الَّتِي أَصَابُوا فِيهَا الذُّنُوبَ، وَمِنْهُ الحديث [[هو حديث الذي قتل تسعا وتسعين نفسا. وناء بمعنى نهض، ويحتمل أنه بمعنى بعد (النهاية لابن الأثير).]] (الذي ناء بصدره ونحو الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ). وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إِنْ كَانَ هَذَا الْمُحَارِبُ مَخُوفَ الْجَانِبِ يَظُنُّ أَنَّهُ يَعُودُ إِلَى حِرَابَةٍ أَوْ إِفْسَادٍ أَنْ يَسْجُنَهُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي يُغَرَّبُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَخُوفِ الْجَانِبِ] فَظَنَّ أَنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى جِنَايَةٍ [[[من ك.]] سرح، فال ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا صَرِيحُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنْ يُغَرَّبَ وَيُسْجَنَ حَيْثُ يُغَرَّبُ، وَهَذَا عَلَى الْأَغْلَبِ فِي أَنَّهُ مَخُوفٌ، وَرَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ وَهُوَ الْوَاضِحُ [[من ك. وفي ج، هه، ز: الراجح.]]، لِأَنَّ نَفْيَهُ مِنْ أَرْضِ النَّازِلَةِ هُوَ نَصُّ الْآيَةِ، وَسَجْنُهُ بَعْدُ بِحَسَبِ الْخَوْفِ مِنْهُ، فَإِنْ تَابَ وَفُهِمَتْ حَالُهُ سُرِّحَ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾ النَّفْيُ أَصْلُهُ الْإِهْلَاكُ، وَمِنْهُ الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ، فَالنَّفْيُ الْإِهْلَاكُ بِالْإِعْدَامِ، وَمِنْهُ النفاية لردئ الْمَتَاعِ، وَمِنْهُ النَّفِيُّ لِمَا تَطَايَرَ مِنَ الْمَاءِ عَنِ الدَّلْوِ. قَالَ الرَّاجِزُ [[هو الأخيل.]]:
كَأَنَّ مَتْنَيْهِ [[جاء في (اللسان) مادة نفى أن الصحيح (كأن متني) لان بعده (من طول إشرافي على الطوى). ومتنا الظهر مكتنفا الصلب عن يمين وشمال من عصب ولحم. والصفي (بضم الصاد وكسرها) جمع صفا مقصور، وصفا جمع صفاة وهي الحجر؟ الصلد الضخم الذي لا ينبت شيئا. وفسر بأنه شبه الماء وقد وقع على ظهر المستقى بذرق الطائر على الصفي.]] مِنَ النَّفِيِّ ... مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ
السَّادِسَةُ- قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ: وَلَا يُرَاعَى الْمَالُ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْمُحَارِبُ نِصَابًا كَمَا يُرَاعَى فِي السَّارِقِ. وَقَدْ قِيلَ: يُرَاعَى فِي ذَلِكَ النِّصَابُ رُبُعُ دينار، قال ابن العربي قال الشافعي وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يُقْطَعُ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ إِلَّا مَنْ أَخَذَ قَدْرَ مَا تُقْطَعُ فِيهِ يَدُ السَّارِقِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَقَّتَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ، وَلَمْ يُوَقِّتْ فِي الْحِرَابَةِ شَيْئًا، بَلْ ذَكَرَ جَزَاءَ الْمُحَارِبِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ تَوْفِيَةَ الْجَزَاءِ لَهُمْ عَلَى الْمُحَارَبَةِ عَنْ حَبَّةٍ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا قِيَاسُ أَصْلٍ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَقِيَاسُ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى وَالْأَدْنَى بِالْأَسْفَلِ وَذَلِكَ عَكْسُ الْقِيَاسِ. وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَاسَ الْمُحَارِبُ عَلَى السَّارِقِ وَهُوَ يَطْلُبُ خَطْفَ الْمَالِ فَإِنْ شَعَرَ بِهِ فَرَّ، حَتَّى إِنَّ السَّارِقَ إِذَا دَخَلَ بِالسِّلَاحِ يَطْلُبُ المال فإن منع منه أو صبح عليه وحارب عليه فهو محارب يحكم عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ: كُنْتُ فِي أَيَّامِ حُكْمِي بَيْنَ النَّاسِ إِذَا جَاءَنِي أَحَدٌ بِسَارِقٍ، وَقَدْ دَخَلَ الدَّارَ بِسِكِّينٍ يَحْبِسُهُ عَلَى قَلْبِ صَاحِبِ الدَّارِ وَهُوَ نَائِمٌ، وَأَصْحَابُهُ يَأْخُذُونَ مَالَ الرَّجُلِ، حَكَمْتُ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِينَ، فَافْهَمُوا هَذَا مِنْ أَصْلِ الدِّينِ، وَارْتَفِعُوا إِلَى يَفَاعِ الْعِلْمِ عَنْ حَضِيضِ الْجَاهِلِينَ. قُلْتُ: الْيَفَعُ [[اليفع بمعنى اليفاع.]] أَعْلَى الْجَبَلِ وَمِنْهُ غُلَامٌ يَفَعَةٌ إِذَا ارْتَفَعَ إِلَى الْبُلُوغِ، وَالْحَضِيضُ الْحُفْرَةُ فِي أَسْفَلِ الْوَادِي، كَذَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ. السَّابِعَةُ- وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْحِرَابَةَ يُقْتَلُ فِيهَا مَنْ قَتَلَ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَقْتُولُ مُكَافِئًا لِلْقَاتِلِ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهَا تُعْتَبَرُ الْمُكَافَأَةُ لِأَنَّهُ قَتْلٌ فَاعْتُبِرَ فِيهِ الْمُكَافَأَةُ كَالْقِصَاصِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْقَتْلَ هُنَا لَيْسَ عَلَى مُجَرَّدِ الْقَتْلِ وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْفَسَادِ الْعَامِّ مِنَ التَّخْوِيفِ وَسَلْبِ الْمَالِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا" فَأَمَرَ تَعَالَى بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْمُحَارِبِ إِذَا جَمَعَ شَيْئَيْنِ مُحَارَبَةً وَسَعْيًا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، وَلَمْ يَخُصَّ شَرِيفًا مِنْ وضيع، ولا رفيعا من دنئ. الثَّامِنَةُ- وَإِذَا خَرَجَ الْمُحَارِبُونَ فَاقْتَتَلُوا مَعَ الْقَافِلَةِ فَقَتَلَ بَعْضُ الْمُحَارِبِينَ وَلَمْ يَقْتُلْ بَعْضٌ قُتِلَ الْجَمِيعُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُقْتَلُ إِلَّا مَنْ قَتَلَ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ، فَإِنَّ مَنْ حَضَرَ الْوَقِيعَةَ شُرَكَاءٌ فِي الْغَنِيمَةِ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ جَمِيعُهُمْ، وَقَدِ اتُّفِقَ مَعَنَا عَلَى قَتْلِ الرِّدْءِ وَهُوَ الطَّلِيعَةُ، فَالْمُحَارِبُ أَوْلَى. التَّاسِعَةُ- وَإِذَا أَخَافَ الْمُحَارِبُونَ السَّبِيلَ وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ قِتَالُهُمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْعُوَهُمْ، وَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ التَّعَاوُنُ عَلَى قِتَالِهِمْ وَكَفِّهِمْ عَنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنِ انْهَزَمُوا لَمْ يَتْبَعْ مِنْهُمْ مُدْبِرًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَتَلَ وَأَخَذَ مَالًا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ أُتْبِعَ لِيُؤْخَذَ وَيُقَامَ عَلَيْهِ ما وجب لجنايته، ولا يدفف [[دفف على الجريح أجهز عليه.]] مِنْهُمْ عَلَى جَرِيحٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَتَلَ، فَإِنْ أَخَذُوا وَوُجِدَ فِي أَيْدِيهِمْ مَالٌ لِأَحَدٍ بِعَيْنِهِ رُدَّ إِلَيْهِ أَوْ إِلَى وَرَثَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ صَاحِبٌ جُعِلَ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَمَا أَتْلَفُوهُ مِنْ مَالٍ لِأَحَدٍ غَرِمُوهُ، وَلَا دِيَةَ لِمَنْ قَتَلُوا إِذَا قُدِرَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّوْبَةِ، فَإِنْ تَابُوا وَجَاءُوا تَائِبِينَ وَهِيَ: الْعَاشِرَةُ- لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ، وَسَقَطَ عَنْهُمْ مَا كَانَ حَدًّا لِلَّهِ وَأُخِذُوا بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَاقْتُصَّ مِنْهُمْ مِنَ النَّفْسِ وَالْجِرَاحِ، وَكَانَ عَلَيْهِمْ مَا أَتْلَفُوهُ مِنْ مَالٍ وَدَمٍ لِأَوْلِيَائِهِ فِي ذَلِكَ، وَيَجُوزُ لَهُمُ الْعَفْوُ وَالْهِبَةُ كَسَائِرِ الْجُنَاةِ مِنْ غَيْرِ الْمُحَارِبِينَ، هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ. وَإِنَّمَا أُخِذَ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَضَمِنُوا قِيَمَةَ مَا اسْتَهْلَكُوا، لِأَنَّ ذَلِكَ غَصْبٌ فَلَا يَجُوزُ مِلْكُهُ لَهُمْ، وَيُصْرَفُ إِلَى أَرْبَابِهِ أَوْ يُوقِفُهُ الْإِمَامُ عِنْدَهُ حَتَّى يَعْلَمَ صَاحِبُهُ. وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: لَا يُطْلَبُ مِنَ الْمَالِ إِلَّا بِمَا وُجِدَ عِنْدَهُ، وَأَمَّا مَا اسْتَهْلَكَهُ فلا يطلب بِهِ، وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ فِعْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِحَارِثَةَ بْنِ بَدْرٍ الْغُدَانِيِّ فَإِنَّهُ كَانَ مُحَارِبًا ثُمَّ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ لَهُ بِسُقُوطِ الْأَمْوَالِ وَالدَّمِ عَنْهُ كِتَابًا مَنْشُورًا، قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُحَارِبِ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ، هَلْ يُتْبَعُ دَيْنًا بِمَا أَخَذَ، أَوْ يُسْقَطُ عَنْهُ كَمَا يُسْقَطُ عَنِ السَّارِقِ؟ وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِي ذَلِكَ سواء.
الحادية عشرة- وجمع أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ السُّلْطَانَ وَلِيُّ مَنْ حَارَبَ، فَإِنْ قَتَلَ مُحَارِبٌ أَخَا امْرِئٍ أَوْ أَبَاهُ فِي حَالِ الْمُحَارَبَةِ، فَلَيْسَ إِلَى طَالِبِ الدم من أمر المحارب شي، وَلَا يَجُوزُ عَفْوُ وَلِيِّ الدَّمِ، وَالْقَائِمُ بِذَلِكَ الْإِمَامُ، جَعَلُوا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى. قُلْتُ: فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنْ أَحْكَامِ الْمُحَارِبِينَ جَمَعْنَا غُرَرَهَا، وَاجْتَلَبْنَا دُرَرَهَا، وَمِنْ أَغْرَبِ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا وَهِيَ: الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- وتفسير مجاهد لها، قال مجاهد: الْمُرَادُ بِالْمُحَارَبَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الزِّنَى وَالسَّرِقَةُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ أَنَّ السَّارِقَ تُقْطَعُ يَدُهُ، وَأَنَّ الزَّانِيَ يُجْلَدُ وَيُغَرَّبُ إِنْ كَانَ بِكْرًا، وَيُرْجَمُ إِنْ كَانَ ثَيِّبًا مُحْصَنًا. وَأَحْكَامُ الْمُحَارِبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُخَالِفٌ لِذَلِكَ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يُرِيدَ إِخَافَةَ الطَّرِيقِ بِإِظْهَارِ السِّلَاحِ قَصْدًا لِلْغَلَبَةِ عَلَى الْفُرُوجِ، فَهَذَا أَفْحَشُ الْمُحَارَبَةِ، وَأَقْبَحُ مِنْ أَخْذِ الْأَمْوَالِ وَقَدْ دَخَلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً". الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَيُنَاشَدُ اللِّصُّ بِاللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ كَفَّ تُرِكَ وَإِنْ أَبَى قُوتِلَ، فَإِنْ أَنْتَ قَتَلْتَهُ فَشَرُّ قَتِيلٍ وَدَمُهُ هَدَرٌ. رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عُدِيَ عَلَى مَالِي؟ قَالَ: (فَانْشُدْ بِاللَّهِ) قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ. قَالَ: (فَانْشُدْ بِاللَّهِ) قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ قَالَ: (فَانْشُدْ بِاللَّهِ) قَالَ: فَإِنْ أَبَوْا عَلَيَّ قَالَ: (فَقَاتِلْ فَإِنْ قُتِلْتَ فَفِي الْجَنَّةِ وَإِنْ قَتَلْتَ فَفِي النَّارِ) وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ- وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْمُنَاشَدَةِ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: (فَلَا تُعْطِهِ مَالَكَ) قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: (فَقَاتِلْهُ) قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: (فَأَنْتَ شَهِيدٌ) قَالَ: فَإِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: (هُوَ فِي النَّارِ). قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَرُوِّينَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ رَأَوْا قِتَالَ اللُّصُوصِ وَدَفْعَهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، هَذَا مَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالنُّعْمَانِ، وَبِهَذَا يَقُولُ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُقَاتِلَ عَنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ إِذَا أُرِيدَ ظُلْمًا، لِلْأَخْبَارِ الَّتِي جَاءَتْ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ لَمْ يَخُصَّ وَقْتًا دُونَ وَقْتٍ، وَلَا حَالًا دُونَ حَالٍ إِلَّا السُّلْطَانَ، فَإِنَّ جَمَاعَةَ أَهْلِ الْحَدِيثِ كَالْمُجْتَمِعِينَ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَمْنَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ إِلَّا بِالْخُرُوجِ عَلَى السُّلْطَانِ وَمُحَارَبَتِهِ أَنَّهُ لَا يُحَارِبُهُ وَلَا يَخْرُجُ عَلَيْهِ، لِلْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْهُمْ، مِنَ الْجَوْرِ وَالظُّلْمِ، وَتَرْكِ قِتَالِهِمْ وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ مَا أَقَامُوا الصَّلَاةَ. قُلْتُ: وَقَدِ اخْتَلَفَ مَذْهَبُنَا إِذَا طَلَبَ الشَّيْءَ الْخَفِيفَ كَالثَّوْبِ وَالطَّعَامِ هَلْ يُعْطُونَهُ أَوْ يُقَاتِلُونَ؟ وَهَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ هَلِ الْأَمْرُ بِقِتَالِهِمْ لِأَنَّهُ تَغْيِيرُ مُنْكَرٍ أَوْ هُوَ مِنْ بَابِ دَفْعِ الضَّرَرِ؟ وَعَلَى هَذَا أَيْضًا يَنْبَنِي الْخِلَافُ فِي دَعْوَتِهِمْ قَبْلَ الْقِتَالِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا﴾ لِشَنَاعَةِ الْمُحَارَبَةِ وَعِظَمِ ضَرَرِهَا، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْمُحَارَبَةُ عَظِيمَةَ الضَّرَرِ، لِأَنَّ فِيهَا سَدَّ سَبِيلِ الْكَسْبِ عَلَى النَّاسِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمَكَاسِبِ وَأَعْظَمَهَا التِّجَارَاتُ، وَرُكْنَهَا وَعِمَادَهَا الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: "وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ" [[راجع ج ١٩ ص ٥٠.]]] المزمل: ٢٠] فَإِذَا أُخِيفَ الطَّرِيقُ انْقَطَعَ النَّاسُ عَنِ السَّفَرِ، وَاحْتَاجُوا إِلَى لُزُومِ الْبُيُوتِ، فَانْسَدَّ بَابُ التِّجَارَةِ عَلَيْهِمْ، وَانْقَطَعَتْ أَكْسَابُهُمْ، فَشَرَعَ اللَّهُ عَلَى قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الْحُدُودَ الْمُغَلَّظَةَ، وَذَلِكَ الْخِزْيُ فِي الدُّنْيَا رَدْعًا لَهُمْ عَنْ سُوءِ فِعْلِهِمْ، وَفَتْحًا لِبَابِ التِّجَارَةِ الَّتِي أَبَاحَهَا لِعِبَادِهِ لِمَنْ أَرَادَهَا مِنْهُمْ، وَوَعَدَ فِيهَا بِالْعَذَابِ الْعَظِيمِ فِي الْآخِرَةِ. وَتَكُونُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ خَارِجَةً عَنِ الْمَعَاصِي، وَمُسْتَثْنَاةً مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: (فَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ [لَهُ] [[الزيادة عن ابن عطية.]] (كَفَّارَةٌ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْخِزْيُ لِمَنْ عُوقِبَ، وَعَذَابُ الْآخِرَةِ لِمَنْ سَلِمَ فِي الدُّنْيَا، وَيَجْرِي هَذَا الذَّنْبُ مَجْرَى غَيْرِهِ. وَلَا خُلُودَ لِمُؤْمِنٍ فِي النَّارِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَلَكِنْ يَعْظُمُ عِقَابُهُ لِعِظَمِ الذَّنْبِ، ثُمَّ يُخْرَجُ إِمَّا بِالشَّفَاعَةِ وَإِمَّا بِالْقَبْضَةِ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مشروط الإنفاذ بالمشيئة كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ" [[راجع ج ٥ ص ٣٨٥.]]] النساء: ١١٦] أَمَّا إِنَّ الْخَوْفَ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ الْوَعِيدِ وَكِبَرِ الْمَعْصِيَةِ [[كذا في الأصل وفي تفسير ابن عطية. والذي في البحر: (وهذا الوعيد كغيره مقيد بالمشيئة، وله تعالى أن يغفر هذا الذنب ولكن في الوعيد خوف على المتوعد عليه نفاذ الوعيد) وهو أوضح.]]. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ استثنى عز وجل التَّائِبِينَ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِمْ، وَأَخْبَرَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: "فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ". أَمَّا الْقِصَاصُ وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَلَا تَسْقُطُ. وَمَنْ تَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ فَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَنْفَعُ، وَتُقَامُ الْحُدُودُ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ إِنَّهُ يَسْقُطُ كُلُّ حَدٍّ بِالتَّوْبَةِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْآدَمِيِّ قِصَاصًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُشْرِكَ إِذَا تَابَ وَآمَنَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهُ الْحُدُودُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ إِنْ آمَنَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لَمْ يُقْتَلْ أَيْضًا بِالْإِجْمَاعِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا لَا يُسْقَطُ الْحَدُّ عَنِ الْمُحَارِبِينَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- لِأَنَّهُمْ مُتَّهَمُونَ بِالْكَذِبِ فِي تَوْبَتِهِمْ وَالتَّصَنُّعِ فِيهَا إِذَا نَالَتْهُمْ يَدُ الْإِمَامِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا قُدِرَ عَلَيْهِمْ صَارُوا بِمَعْرِضٍ أَنْ يُنَكَّلَ بِهِمْ فَلَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُمْ، كَالْمُتَلَبِّسِ بِالْعَذَابِ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَنَا، أَوْ مَنْ صَارَ إِلَى حَالِ الْغَرْغَرَةِ فَتَابَ، فَأَمَّا إِذَا تَقَدَّمَتْ تَوْبَتُهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَيْهِمْ، فَلَا تُهْمَةَ وَهِيَ نَافِعَةٌ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ "يُونُسَ" [[راجع ج ٨ ص ٣٨٣.]]، فَأَمَّا الشُّرَّابُ وَالزُّنَاةُ وَالسُّرَّاقُ إِذَا تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَعُرِفَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، ثُمَّ رُفِعُوا إِلَى الْإِمَامِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحُدَّهُمْ، وَإِنْ رُفِعُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا تُبْنَا لَمْ يُتْرَكُوا، وَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَالْمُحَارِبِينَ إِذَا غُلِبُوا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
{"ayahs_start":33,"ayahs":["إِنَّمَا جَزَ ٰۤؤُا۟ ٱلَّذِینَ یُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَیَسۡعَوۡنَ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن یُقَتَّلُوۤا۟ أَوۡ یُصَلَّبُوۤا۟ أَوۡ تُقَطَّعَ أَیۡدِیهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَـٰفٍ أَوۡ یُنفَوۡا۟ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَ ٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡیࣱ فِی ٱلدُّنۡیَاۖ وَلَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِیمٌ","إِلَّا ٱلَّذِینَ تَابُوا۟ مِن قَبۡلِ أَن تَقۡدِرُوا۟ عَلَیۡهِمۡۖ فَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"],"ayah":"إِنَّمَا جَزَ ٰۤؤُا۟ ٱلَّذِینَ یُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَیَسۡعَوۡنَ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن یُقَتَّلُوۤا۟ أَوۡ یُصَلَّبُوۤا۟ أَوۡ تُقَطَّعَ أَیۡدِیهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَـٰفٍ أَوۡ یُنفَوۡا۟ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَ ٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡیࣱ فِی ٱلدُّنۡیَاۖ وَلَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِیمٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق