الباحث القرآني
* بابُ حَدِّ المُحارِبِينَ
قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسادًا﴾ الآيَةَ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُحارِبُونَ اللَّهَ﴾ هو مَجازٌ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ؛ لِأنَّ اللَّهَ يَسْتَحِيلُ أنْ يُحارَبَ؛ وهو يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّهُ سَمّى الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مُمْتَنِعِينَ مُجاهِرِينَ بِإظْهارِ السِّلاحِ وقَطْعِ الطَّرِيقِ مُحارِبِينَ لَمّا كانُوا بِمَنزِلَةِ مَن حارَبَ غَيْرَهُ مِنَ النّاسِ ومانَعَهُ، فَسُمُّوا مُحارِبِينَ تَشْبِيهًا لَهم بِالمُحارِبِينَ مِنَ النّاسِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿ذَلِكَ بِأنَّهم شاقُّوا اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ [الأنفال: ١٣] وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُحادُّونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ [المجادلة: ٥] ومَعْنى المُشاقَّةِ أنْ يَصِيرَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما في شِقٍّ يُبايِنُ صاحِبَهُ ومَعْنى المُحادَّةِ أنْ يَصِيرَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما في حَدٍّ عَلى وجْهِ المُفارَقَةِ وذَلِكَ يَسْتَحِيلُ عَلى اللَّهِ تَعالى؛ إذْ لَيْسَ بِذِي مَكانٍ فَيُشاقُّ أوْ يُحادُّ أوْ تَجُوزُ عَلَيْهِ المُبايَنَةُ والمُفارَقَةُ، ولَكِنَّهُ تَشْبِيهٌ بِالمُعادِيِّينَ إذا صارَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما في شِقٍّ وناحِيَةٍ عَلى وجْهِ المُبايَنَةِ. وذَلِكَ مِنهُ عَلى وجْهِ المُبالَغَةِ في إظْهارِ المُخالَفَةِ والمُبايَنَةِ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُحارِبُونَ اللَّهَ﴾ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونُوا سُمُّوا بِذَلِكَ تَشْبِيهًا بِمُظْهِرِي الخِلافِ عَلى غَيْرِهِمْ ومُحارَبَتِهِمْ إيّاهم مِنَ النّاسِ. وخُصَّتْ هَذِهِ الفِرْقَةُ بِهَذِهِ السِّمَةِ لِخُرُوجِها مُمْتَنِعَةً بِأنْفُسِها لِمُخالَفَةِ أمْرِ اللَّهِ تَعالى وانْتِهاكِ الحَرِيمِ وإظْهارِ السِّلاحِ، ولَمْ يُسَمَّ بِذَلِكَ كُلُّ عاصٍ لِلَّهِ تَعالى؛ إذْ لَيْسَ بِهَذِهِ المَنزِلَةِ في الِامْتِناعِ وإظْهارِ المُغالَبَةِ في أخْذِ الأمْوالِ وقَطْعِ الطَّرِيقِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ الَّذِينَ يُحارِبُونَ أوْلِياءَ اللَّهِ ورَسُولَهُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ﴾ [الأحزاب: ٥٧] والمَعْنى: يُؤْذُونَ أوْلِياءَ اللَّهِ. ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أنَّهم لَوْ حارَبُوا رَسُولَ اللَّهِ لَكانُوا مُرْتَدِّينَ بِإظْهارِ مُحارَبَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . وقَدْ يَصِحُّ إطْلاقُ لَفْظِ المُحارَبَةِ لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ عَلى مَن عَظُمَتْ جَرِيرَتُهُ بِالمُجاهَرَةِ بِالمَعْصِيَةِ وإنْ كانَ مِن أهْلِ المِلَّةِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ ما رَوى زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ عَنْ أبِيهِ، «أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ رَأى مُعاذًا يَبْكِي فَقالَ: ما يُبْكِيكَ ؟ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: اليَسِيرُ مِنَ الرِّياءِ شِرْكٌ ومَن عادى أوْلِياءَ اللَّهِ فَقَدْ بارَزَ اللَّهَ بِالمُحارَبَةِ» فَأطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ المُحارَبَةِ، ولَمْ يَذْكُرِ الرِّدَّةَ؛ ومَن حارَبَ مُسْلِمًا عَلى أخْذِ مالِهِ فَهو مُعادٍ لِأوْلِياءِ اللَّهِ تَعالى مُحارِبٌ لِلَّهِ تَعالى بِذَلِكَ.
ورَوى أسْباطُ عَنِ السُّدِّيِّ عَنْ صُبَيْحٍ مَوْلى أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أرْقَمَ، أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ لِعَلِيٍّ وفاطِمَةَ والحَسَنِ والحُسَيْنِ: «أنا حَرْبٌ لِمَن حارَبْتُمْ سِلْمٌ لِمَن سالَمْتُمْ» فاسْتَحَقَّ مَن حارَبَهُمُ اسْمَ المُحارِبِ لِلَّهِ ورَسُولِهِ. وإنْ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا، فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّ قاطِعَ الطَّرِيقِ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ المُحارِبِ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ ولِرَسُولِهِ. (p-٥٢)ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا ما رَوى أشْعَثُ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ سَعْدِ بْنِ قَيْسٍ: أنَّ حارِثَةَ بْنَ بَدْرٍ حارَبَ اللَّهَ ورَسُولَهُ وسَعى في الأرْضِ فَسادًا وتابَ مِن قَبْلِ أنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلى عامِلِهِ بِالبَصْرَةِ: " إنَّ حارِثَةَ بْنَ بَدْرٍ حارَبَ اللَّهَ ورَسُولَهُ وتابَ مِن قَبْلِ أنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ، فَلا تَعْرِضَنَّ لَهُ إلّا بِخَيْرٍ " فَأطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ المُحارِبِ لِلَّهِ ورَسُولِهِ ولَمْ يَرْتَدَّ وإنَّما قَطَعَ الطَّرِيقَ. فَهَذِهِ الأخْبارُ وما ذَكَرْنا مِن مَعْنى الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ هَذا الِاسْمَ يَلْحَقُ قُطّاعَ الطَّرِيقِ وإنْ لَمْ يَكُونُوا كُفّارًا ولا مُشْرِكِينَ، مَعَ أنَّهُ لا خِلافَ بَيْنَ السَّلَفِ والخَلَفِ مِن فُقَهاءِ الأمْصارِ أنَّ هَذا الحُكْمَ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِأهْلِ الرِّدَّةِ وأنَّهُ فِيمَن قَطَعَ الطَّرِيقَ وإنْ كانَ مِن أهْلِ المِلَّةِ. وحُكِيَ عَنْ بَعْضِ المُتَأخِّرِينَ مِمَّنْ لا يُعْتَدُّ بِهِ أنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالمُرْتَدِّينَ؛ وهو قَوْلٌ ساقِطٌ مَرْدُودٌ مُخالِفٌ لِلْآيَةِ وإجْماعِ السَّلَفِ والخَلَفِ.
ويَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ بِهِ قُطّاعُ الطَّرِيقِ مِن أهْلِ المِلَّةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا الَّذِينَ تابُوا مِن قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ومَعْلُومٌ أنَّ المُرْتَدِّينَ لا يَخْتَلِفُ حُكْمُهم في زَوالِ العُقُوبَةِ عَنْهم بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ القُدْرَةِ كَما تُسْقِطُها عَنْهم قَبْلَ القُدْرَةِ، وقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ تَوْبَتِهِمْ قَبْلَ القُدْرَةِ أوْ بَعْدَها. وأيْضًا فَإنَّ الإسْلامَ لا يُسْقِطُ الحَدَّ عَمَّنْ وجَبَ عَلَيْهِ، فَعَلِمْنا أنَّ المُرادَ قُطّاعُ الطَّرِيقِ مِن أهْلِ المِلَّةِ وأنَّ تَوْبَتَهم مِنَ الفِعْلِ قَبْلَ القُدْرَةِ عَلَيْهِمْ هي المُسْقِطَةُ لِلْحَدِّ عَنْهم.
وأيْضًا فَإنَّ المُرْتَدَّ يَسْتَحِقُّ القَتْلَ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ دُونَ المُحارَبَةِ، والمَذْكُورُ في الآيَةِ مَنِ اسْتَحَقَّ القَتْلَ بِالمُحارَبَةِ، فَعَلِمْنا أنَّهُ لَمْ يُرِدِ المُرْتَدَّ. وأيْضًا ذُكِرَ فِيهِ نَفْيُ مَن لَمْ يَتُبْ قَبْلَ القُدْرَةِ عَلَيْهِ، والمُرْتَدُّ لا يُنْفى، فَعَلِمْنا أنَّ حُكْمَ الآيَةِ جارٍ في أهْلِ المِلَّةِ. وأيْضًا فَإنَّهُ لا خِلافَ أنَّ أحَدًا لا يَسْتَحِقُّ قَطْعَ اليَدِ والرِّجْلِ بِالكُفْرِ، وإنَّ الأسِيرَ مِن أهْلِ الرِّدَّةِ مَتى حَصَلَ في أيْدِينا عُرِضَ عَلَيْهِ الإسْلامُ فَإنْ أسْلَمَ وإلّا قُتِلَ ولا تُقْطَعُ يَدُهُ ولا رِجْلُهُ. وأيْضًا فَإنَّ الآيَةَ أوْجَبَتْ قَطْعَ يَدِ المُحارِبِ ورِجْلِهِ ولَمْ تُوجِبْ مَعَهُ شَيْئًا آخَرَ، ومَعْلُومٌ أنَّ المُرْتَدَّ لا يَجُوزُ أنْ تُقْطَعَ يَدُهُ ورِجْلُهُ ويُخَلّى سَبِيلُهُ بَلْ يُقْتَلُ إنْ لَمْ يُسْلِمْ، واَللَّهُ تَعالى قَدْ أوْجَبَ الِاقْتِصارَ بِهِمْ في حالٍ عَلى قَطْعِ اليَدِ والرِّجْلِ دُونَ غَيْرِهِ. وأيْضًا لَيْسَ مِن حُكْمِ المُرْتَدِّينَ الصَّلْبُ، فَعَلِمْنا أنَّ الآيَةَ في غَيْرِ أهْلِ الرِّدَّةِ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهم ما قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: ٣٨] وقالَ في المُحارِبِينَ: ﴿إلا الَّذِينَ تابُوا مِن قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فَشَرَطَ في زَوالِ الحَدِّ عَنِ المُحارِبِينَ وُجُودَ التَّوْبَةِ مِنهم قَبْلَ القُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، وأسْقَطَ عُقُوبَةَ الكُفْرِ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ القُدْرَةِ وبَعْدَها. فَلَمّا عُلِمَ أنَّهُ لَمْ يُرِدْ (p-٥٣)بِالمُحارِبِينَ أهْلَ الرِّدَّةِ، فَهَذِهِ الوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرْناها كُلَّها دالَّةٌ عَلى بُطْلانِ قَوْلِ مَنِ ادَّعى خُصُوصَ الآيَةِ في المُرْتَدِّينَ.
فَإنْ قالَ قائِلٌ: قَدْ رَوى قَتادَةُ وعَبْدُ العَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ وغَيْرُهُما عَنْ أنَسٍ قالَ: «قَدِمَ عَلى النَّبِيِّ ﷺ أُناسٌ مِن عُرَيْنَةَ فَقالَ لَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لَوْ خَرَجْتُمْ إلى ذَوْدِنا فَشَرِبْتُمْ مِن ألْبانِها وأبْوالِها فَفَعَلُوا، فَلَمّا صَحُّوا قامُوا إلى راعِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَتَلُوهُ ورَجَعُوا كُفّارًا واسْتاقُوا ذَوْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأرْسَلَ في طَلَبِهِمْ، فَأُتِيَ بِهِمْ، فَقَطَّعَ أيْدِيَهم وأرْجُلَهم وسَمَّلَ أعْيُنَهم وتَرَكَهم في الحَرَّةِ حَتّى ماتُوا» .
قِيلَ لَهُ: إنَّ خَبَرَ العُرَنِيِّينَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَذَكَرَ بَعْضُهم عَنْ أنَسٍ نَحْوَ ما ذَكَرْنا، وزادَ فِيهِ: أنَّهُ كانَ سَبَبَ نُزُولِ الآيَةِ.
ورَوى الكَلْبِيُّ عَنْ أبِي صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّها نَزَلَتْ في أصْحابِ أبِي بَرْزَةَ الأسْلَمِيِّ وكانَ مُوادِعًا لِلنَّبِيِّ ﷺ فَقَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلى قَوْمٍ جاءُوا يُرِيدُونَ الإسْلامَ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ.
ورَوى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّها نَزَلَتْ في المُشْرِكِينَ، فَلَمْ يَذْكُرْ مِثْلَ قِصَّةِ العُرَنِيِّينَ ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أنَّها نَزَلَتْ في العُرَنِيِّينَ ولَمْ يَذْكُرْ. رِدَّةً ولا يَخْلُو نُزُولُ الآيَةِ مِن أنْ يَكُونَ في شَأْنِ العُرَنِيِّينَ أوِ المُوادِعِينَ، فَإنْ كانَ نُزُولُها في العُرَنِيِّينَ وأنَّهُمُ ارْتَدُّوا، فَإنَّ نُزُولَها في شَأْنِهِمْ لا يُوجِبُ الِاقْتِصارَ بِها عَلَيْهِمْ؛ لِأنَّهُ لا حُكْمَ لِلسَّبَبِ عِنْدَنا وإنَّما الحُكْمُ عِنْدَنا لِعُمُومِ اللَّفْظِ إلّا أنْ تَقُومَ الدَّلالَةُ عَلى الِاقْتِصارِ بِهِ عَلى السَّبَبِ. وأيْضًا فَإنَّ مَن ذَكَرَ نُزُولَها في شَأْنِ العُرَنِيِّينَ فَإنَّهُ ما ذَكَرَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعْدَ نُزُولِ الآيَةِ شَيْئًا، وإنَّما تَرَكَهم في الحَرَّةِ حَتّى ماتُوا؛ ويَسْتَحِيلُ نُزُولُ الآيَةِ في الأمْرِ بِقَطْعِ مَن قَدْ قُطِعَ وقَتْلِ مَن قُتِلَ؛ لِأنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَعَلِمْنا أنَّهم غَيْرُ مُرادِينَ بِحُكْمِ الآيَةِ ولِأنَّ الآيَةَ عامَّةٌ في سائِرِ مَن يَتَناوَلُهُ الِاسْمُ غَيْرُ مُتَصَوَّرِ الحُكْمِ عَلى المُرْتَدِّينَ وقَدْ رَوى هَمّامٌ عَنْ قَتادَةَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قالَ: " كانَ أمْرُ العُرَنِيِّينَ قَبْلَ أنْ تَنْزِلَ الحُدُودُ " فَأخْبَرَ أنَّهُ كانَ قَبْلَ نُزُولِ الآيَةِ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ سَمَّلَ أعْيُنَهم، وذَلِكَ مَنسُوخٌ بِنَهْيِ النَّبِيِّ ﷺ عَنِ المُثْلَةِ. وأيْضًا لَمّا كانَ نُزُولُ الآيَةِ بَعْدَ قِصَّةِ العُرَنِيِّينَ واقْتُصِرَ فِيها عَلى ما ذُكِرَ ولَمْ يَذْكُرْ سَمْلَ الأعْيُنِ، فَصارَ سَمْلُ الأعْيُنِ مَنسُوخًا بِالآيَةِ لِأنَّهُ لَوْ كانَ حَدًّا مَعَهُ لَذَكَرَهُ؛ وهو مِثْلُ ما رُوِيَ في خَبَرِ عُبادَةَ: «فِي البِكْرِ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وتَغْرِيبُ عامٍ. والثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الجَلْدُ والرَّجْمُ» ثُمَّ أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي فاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ [النور: ٢] فَصارَ الحَدُّ هو ما في الآيَةِ دُونَ غَيْرِهِ، وصارَ النَّفْيُ مَنسُوخًا بِها. ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ الآيَةَ لَمْ تَنْزِلْ في العُرَنِيِّينَ وأنَّها نَزَلَتْ بَعْدَهم أنَّ فِيها ذِكْرَ القَتْلِ والصَّلْبِ ولَيْسَ فِيها ذِكْرُ (p-٥٤)سَمْلِ الأعْيُنِ، وغَيْرُ جائِزٍ أنْ تَكُونَ الآيَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ إجْراءِ الحُكْمِ عَلَيْهِمْ وأنْ يَكُونُوا مُرادِينَ بِها؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَأجْرى النَّبِيُّ ﷺ حُكْمَها عَلَيْهِمْ، فَلَمّا لَمْ يُصْلَبُوا وسَمَلَهم دَلَّ عَلى أنَّ حُكْمَ الآيَةِ لَمْ يَكُنْ ثابِتًا حِينَئِذٍ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ حُكْمَ الآيَةِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلى المُرْتَدِّينَ وأنَّهُ عامٌّ في سائِرِ المُحارِبِينَ.
ذِكْرُ الِاخْتِلافِ في ذَلِكَ
واخْتَلَفَ السَّلَفُ وفُقَهاءُ الأمْصارِ في حُكْمِ الآيَةِ مِن وُجُوهٍ أنا ذاكِرُها، بَعْدَ اتِّفاقِهِمْ عَلى أنَّ حُكْمَ الآيَةِ جارٍ في أهْلِ المِلَّةِ إذا قَطَعُوا الطَّرِيقَ؛ فَرَوى الحَجّاجُ بْنُ أرْطَأةَ عَنْ عَطِيَّةَ العَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسادًا﴾ الآيَةَ، قالَ: " إذا حارَبَ الرَّجُلُ فَقَتَلَ وأخَذَ المالَ قُطِعَتْ يَدُهُ ورِجْلُهُ مِن خِلافٍ وقُتِلَ وصُلِبَ، فَإنْ قَتَلَ ولَمْ يَأْخُذِ المالَ قُتِلَ، وإنْ أخَذَ المالَ ولَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ ورِجْلُهُ مِن خِلافٍ، وإذا لَمْ يَقْتُلْ ولَمْ يَأْخُذِ المالَ نُفِيَ " .
ورَوى أبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمّادٍ عَنْ إبْراهِيمَ في الرَّجُلِ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ ويَأْخُذُ المالَ ويَقْتُلُ أنَّ الإمامَ فِيهِ بِالخِيارِ، إنْ شاءَ قَطَعَ يَدَهُ ورِجْلَهُ مِن خِلافٍ وقَتَلَهُ وصَلَبَهُ، وإنْ شاءَ صَلَبَهُ ولَمْ يَقْطَعْ يَدَهُ ولا رِجْلَهُ، وإنْ شاءَ قَتَلَهُ ولَمْ يَصْلُبْهُ؛ فَإنْ أخَذَ مالًا ولَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ ورِجْلُهُ مِن خِلافٍ، وإنْ لَمْ يَأْخُذْ مالًا ولَمْ يَقْتُلْ عُزِّرَ ونُفِيَ مِنَ الأرْضِ، ونَفْيُهُ حَبْسُهُ؛ وفي رِوايَةٍ أُخْرى: أُوجِعَ عُقُوبَةً وحُبِسَ حَتّى يُحْدِثَ خَيْرًا؛ وهو قَوْلُ الحَسَنِ رِوايَةً وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وحَمّادٍ وقَتادَةَ وعَطاءٍ الخُراسانِيِّ. فَهَذا قَوْلُ السَّلَفِ الَّذِينَ جَعَلُوا حُكْمَ الآيَةِ عَلى التَّرْتِيبِ. وقالَ آخَرُونَ: الإمامُ مُخَيَّرٌ فِيهِمْ إذا خَرَجُوا يُجْرِي عَلَيْهِمْ أيَّ هَذِهِ الأحْكامِ شاءَ وإنْ لَمْ يَقْتُلُوا ولَمْ يَأْخُذُوا مالًا. ومِمَّنْ قالَ ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ ومُجاهِدٌ والحَسَنُ رِوايَةً وعَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وزُفَرُ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ: إذا قَتَلَ المُحارِبُونَ ولَمْ يَعْدُوا ذَلِكَ قُتِلُوا، وإنْ أخَذُوا المالَ ولَمْ يَعْدُوا ذَلِكَ قُطِّعَتْ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهم مِن خِلافٍ، لا خِلافَ بَيْنَ أصْحابِنا في ذَلِكَ، فَإنْ قَتَلُوا وأخَذُوا المالَ فَإنَّ أبا حَنِيفَةَ قالَ: " لِلْإمامِ أرْبَعُ خِياراتٍ: إنْ شاءَ قَطَعَ أيْدِيَهم وأرْجُلَهم وقَتَلَهم، وإنْ شاءَ قَطَعَ أيْدِيَهم وأرْجُلَهم وصَلَبَهم، وإنْ شاءَ صَلَبَهم، وإنْ شاءَ قَتَلَهم وتَرَكَ القَطْعَ " .
وقالَ أبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ: " إذا قَتَلُوا وأخَذُوا المالَ فَإنَّهم يُصْلَبُونَ ويُقْتَلُونَ ولا يُقْطَّعُونَ " . ورُوِيَ عَنْ أبِي يُوسُفَ في " الإمْلاءِ " أنَّهُ قالَ: " إنْ شاءَ قَطَعَ يَدَهُ ورِجْلَهُ وصَلَبَهُ، فَأمّا (p-٥٥)الصَّلْبُ فَلا أُعْفِيهِ مِنهُ " . وقالَ الشّافِعِيُّ في قُطّاعِ الطَّرِيقِ: " إذا قَتَلُوا وأخَذُوا المالَ قُتِلُوا وصُلِبُوا، وإذا قَتَلُوا ولَمْ يَأْخُذُوا المالَ قُتِلُوا ولَمْ يُصْلَبُوا، وإذا أخَذُوا المالَ ولَمْ يَقْتُلُوا قُطِّعَتْ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهم مِن خِلافٍ، وإذا أخافُوا السَّبِيلَ نُفُوا، وإذا هَرَبُوا طُلِبُوا حَتّى يُؤْخَذُوا فَيُقامُ عَلَيْهِمُ الحُدُودُ، إلّا مَن تابَ قَبْلَ أنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ سَقَطَ عَنْهُ الحَدُّ، ولا يَسْقُطُ حُقُوقُ الآدَمِيِّينَ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَسْقُطَ كُلُّ حَقٍّ لِلَّهِ تَعالى بِالتَّوْبَةِ؛ ويُقْطَعُ مَن أخَذَ رُبْعَ دِينارٍ فَصاعِدًا " . وقالَ مالِكٌ: " إذا أخَذَ المُحارِبُ المُخِيفُ لِلسَّبِيلِ فَإنَّ الإمامَ مُخَيَّرٌ في إقامَةِ أيِّ الحُدُودِ الَّتِي أمَرَ اللَّهُ تَعالى بِها قَتَلَ المُحارِبُ أوْ لَمْ يَقْتُلْ، أخَذَ مالًا أوْ لَمْ يَأْخُذْ، الإمامُ مُخَيَّرٌ في ذَلِكَ: إنْ شاءَ قَتَلَهُ، وإنْ شاءَ قَطَعَهُ خِلافًا، وإنْ شاءَ نَفاهُ ونَفْيُهُ حَبْسُهُ حَتّى يُظْهِرَ تَوْبَةً، فَإنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلى المُحارِبِ حَتّى يَأْتِيَهُ تائِبًا وُضِعَ عَنْهُ حَدُّ المُحارَبَةِ القَتْلُ والقَطْعُ والنَّفْيُ وأُخِذَ بِحُقُوقِ النّاسِ " . وقالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: " الَّذِي يَقْتُلُ ويَأْخُذُ المالَ يُصْلَبُ فَيُطْعَنُ بِالحَرْبَةِ حَتّى يَمُوتَ، واَلَّذِي يَقْتُلُ فَإنَّهُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ " .
وقالَ أبُو الزِّنادِ في المُحارِبِينَ: " ما يَصْنَعُ الوالِي فِيهِمْ فَهو صَوابٌ، مِن قَتْلٍ أوْ صَلْبٍ أوْ قَطْعٍ أوْ نَفْيٍ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: الدَّلِيلُ عَلى أنَّ حُكْمَ الآيَةِ عَلى التَّرْتِيبِ الَّذِي ذَكَرْنا، قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ «لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلّا بِإحْدى ثَلاثٍ كُفْرٌ بَعْدَ إيمانٍ، وزِنًا بَعْدَ إحْصانٍ وقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ» فَنَفى ﷺ قَتْلَ مَن خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الوُجُوهِ الثَّلاثَةِ ولَمْ يُخَصِّصْ فِيهِ قاطِعَ الطَّرِيقِ، فانْتَفى بِذَلِكَ قَتْلُ مَن لَمْ يَقْتُلْ مِن قُطّاعِ الطَّرِيقِ وإذا انْتَفى قَتْلُ مَن لَمْ يَقْطَعْ وجَبَ قَطْعُ يَدِهِ ورِجْلِهِ، إذا أخَذَ المالَ، وهَذا لا خِلافَ فِيهِ.
فَإنْ قِيلَ: رَوى إبْراهِيمُ بْنُ طَهْمانَ عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلّا بِإحْدى ثَلاثٍ زِنًا بَعْدَ إحْصانٍ ورَجُلٌ قَتَلَ رَجُلًا فَقُتِلَ بِهِ، ورَجُلٌ خَرَجَ مُحارِبًا لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ فَيُقْتَلُ أوْ يُصْلَبُ أوْ يُنْفى مِنَ الأرْضِ» . قِيلَ لَهُ: قَدْ رُوِيَ هَذا الحَدِيثُ مِن وُجُوهٍ صِحاحٍ ولَمْ يُذْكَرْ فِيهِ قَتْلُ المُحارِبِ رَواهُ عُثْمانُ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ولَمْ يَذْكُرْ فِيهِ قَتْلَ المُحارِبِ.
والصَّحِيحُ مِنها ما لَمْ يُذْكَرْ ذَلِكَ فِيهِ؛ لِأنَّ المُرْتَدَّ لا مَحالَةَ مُسْتَحِقٌّ لِلْقَتْلِ بِالِاتِّفاقِ، وهو أحَدُ الثَّلاثَةِ المَذْكُورِينَ في خَبَرِ هَؤُلاءِ، فَلَمْ يَبْقَ مِنَ الثَّلاثَةِ غَيْرُهم، ويَكُونُ المُحارِبُ إذا لَمْ يُقْتَلْ خارِجًا مِنهم. وإنْ صَحَّ ذِكْرُ المُحارِبِ فِيهِ، فالمَعْنى فِيهِ: إذا قُتِلَ، حَتّى يَكُونَ مُوافِقًا لِلْأخْبارِ الأُخَرِ وتَكُونُ فائِدَتُهُ جَوازَ قَتْلِهِ عَلى وجْهِ الصَّلْبِ.
فَإنْ قِيلَ فَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ: أوْ (p-٥٦)يُنْفى مِنَ الأرْضِ. قِيلَ لَهُ: لا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ مُبْتَدَأٌ قَدْ أُضْمِرَ فِيهِ: إنْ لَمْ يَقْتُلْ.
فَإنْ قِيلَ فَقَدْ يُقْتَلُ الباغِي وإنْ لَمْ يَقْتُلْ، وهو خارِجٌ عَنِ الثَّلاثَةِ المَذْكُورِينَ في الخَبَرِ. قِيلَ لَهُ ظاهِرُ الخَبَرِ يَنْفِي قَتْلَهُ، وإنَّما قَتَلْناهُ بِدَلالَةِ الِاتِّفاقِ وبَقِيَ حُكْمُ الخَبَرِ في نَفْيِ قَتْلِ المُحارِبِ إلّا أنْ يَقْتُلَ عَلى العُمُومِ.
وأيْضًا فَإنَّ الخَبَرَ إنَّما ورَدَ فِيمَنِ اسْتَحَقَّ القَتْلَ بِفِعْلٍ سَبَقَ مِنهُ واسْتَقَرَّ حُكْمُهُ عَلَيْهِ، كالزّانِي المُحْصَنِ والمُرْتَدِّ والقاتِلِ، والباغِي لا يَسْتَحِقُّ القَتْلَ عَلى هَذا الوَجْهِ، وإنَّما يُقْتَلُ عَلى وجْهِ الدَّفْعِ، ألا تَرى أنَّهُ لَوْ قَعَدَ في بَيْتِهِ ولَمْ يُقاتِلْ لَمْ يُقْتَلْ وإنْ كانَ مُعْتَقِدًا لِمَقالَةِ أهْلِ البَغْيِ ؟ فَثَبَتَ بِما وصَفْنا أنَّ حُكْمَ الآيَةِ عَلى التَّرْتِيبِ عَلى الوَجْهِ الَّذِي بَيَّنّا لا عَلى التَّخْيِيرِ. ويَدُلُّ عَلى أنَّ في الآيَةِ ضَمِيرًا ولا تَخْيِيرَ فِيها اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى أنَّهم لَوْ أخَذُوا المالَ ولَمْ يَقْتُلُوا لَمْ يَجُزْ لِلْإمامِ أنْ يَنْفِيَهُ ويَتْرُكَ قَطْعَ يَدِهِ ورِجْلِهِ، وكَذَلِكَ لَوْ قَتَلُوا وأخَذُوا المالَ لَمْ يَجُزْ لِلْإمامِ أنْ يُعْفِيَهُ مِنَ القَتْلِ أوِ الصَّلْبِ. ولَوْ كانَ الأمْرُ عَلى ما قالَ القائِلُونَ بِالتَّخْيِيرِ لَكانَ التَّخَيُّرُ ثابِتًا فِيما إذا أخَذُوا المالَ وقَتَلُوا أوْ أخَذُوا المالَ ولَمْ يَقْتُلُوا، فَلَمّا كانَ ذَلِكَ عَلى ما وصَفْنا ثَبَتَ أنَّ في الآيَةِ ضَمِيرًا وهو أنْ يُقْتَلُوا إنْ قَتَلُوا، أوْ يُصْلَبُوا إنْ قَتَلُوا وأخَذُوا المالَ، أوْ تُقَطَّعَ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهم مِن خِلافٍ إنْ أخَذُوا المالَ ولَمْ يَقْتُلُوا، أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ إنْ خَرَجُوا ولَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِن ذَلِكَ حَتّى ظُفِرَ بِهِمْ.
واحْتَجَّ القائِلُونَ بِالتَّخْيِيرِ بِظاهِرِ الآيَةِ وبِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ في الأرْضِ فَكَأنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: ٣٢] فَدَلَّ عَلى أنَّ الفَسادَ في الأرْضِ بِخُرُوجِهِمْ وامْتِناعِهِمْ وإخافَتِهِمُ السَّبِيلَ وإنْ لَمْ يَقْتُلُوا ولَمْ يَأْخُذُوا مالًا. ولَيْسَ ما ذَكَرُوهُ بِمُوجِبٍ لِلتَّخْيِيرِ مَعَ قِيامِ الدَّلالَةِ عَلى ضَمِيرِ الآيَةِ وتَعَلُّقِ الحُكْمِ بِهِ دُونَ مُقْتَضى ظاهِرِها، وهو ما قَدَّمْنا مِن أنَّها لَوْ كانَتْ مُوجِبَةً لِلتَّخْيِيرِ ولَمْ يَكُنْ فِيها ضَمِيرٌ لَكانَ الخِيارُ باقِيًا إذا قَتَلُوا وأخَذُوا المالَ في العُدُولِ عَنْ قَتْلِهِمْ وقَطْعِهِمْ إلى نَفْيِهِمْ، فَلَمّا ثَبَتَ أنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ العُدُولُ عَنِ القَتْلِ والقَطْعِ في هَذِهِ الحالِ صَحَّ أنَّ مَعْناها أنْ يُقْتَلُوا إنْ قَتَلُوا أوْ يُصْلَبُوا إنْ قَتَلُوا وأخَذُوا المالَ أوْ تُقَطَّعَ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهم مِن خِلافٍ إنْ أخَذُوا المالَ.
فَإنْ قالَ قائِلٌ: إنَّما وجَبَ قَتْلُهم إذا قَتَلُوا وقَطْعُهم إذا أخَذُوا المالَ ولَمْ يَجُزِ العُدُولُ عَنْهُ إلى النَّفْيِ؛ لِأنَّ القَتْلَ عَلى الِانْفِرادِ يُسْتَحَقُّ بِهِ القَتْلُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ مُحارِبًا وأخَذَ المالَ يُسْتَحَقُّ بِهِ القَطْعُ إذا كانَ سارِقًا؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ في هَذِهِ الحالِ العُدُولُ إلى النَّفْيِ وتَرْكُ القَتْلِ أوِ القَطْعِ. قِيلَ لَهُ قَتْلُ المُحارِبِ في هَذِهِ الحالِ وقَطْعُهُ حَدٌّ لَيْسَ عَلى وجْهِ (p-٥٧)القَوَدِ، ألا تَرى أنَّ عَفْوَ الأوْلِياءِ غَيْرُ جائِزٍ فِيهِ ؟ فَثَبَتَ أنَّهُ إنَّما يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ عَلى وجْهِ الحَدِّ؛ لِأنَّهُ قُتِلَ عَلى وجْهِ المُحارَبَةِ، ووَجَبَ قَطْعُهُ لِأخْذِهِ المالَ عَلى وجْهِ المُحارَبَةِ، فَإذا لَمْ يَقْتُلْ ولَمْ يَأْخُذْ مالًا لَمْ يَجُزْ أنْ يُقْتَلَ ولا يُقْطَعَ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ القَتْلُ واجِبًا حَدًّا لَما جازَ العُدُولُ عَنْهُ إلى النَّفْيِ وكَذَلِكَ القَطْعُ، كَما أنَّهم إذا قَتَلُوا وأخَذُوا المالَ لَمْ يَجُزِ العُدُولُ عَنِ القَتْلِ أوِ القَطْعِ إلى النَّفْيِ؛ إذْ كانَ وُجُوبُ ذَلِكَ عَلى وجْهِ الحَدِّ؛ وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّ المُحارِبَ لا يَسْتَحِقُّ القَتْلَ إلّا إذا قَتَلَ ولا القَطْعَ إلّا إذا أخَذَ المالَ.
ويَصْلُحُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا مُبْتَدَأً؛ لِأنَّ القَتْلَ إذا وجَبَ حَدًّا لَمْ يَجُزِ العُدُولُ عَنْهُ إلى غَيْرِهِ، وكَذَلِكَ القَطْعُ كالزّانِي والسّارِقِ؛ فَلَمّا جازَ لِلْإمامِ أنْ يَعْدِلَ عَنْ قَتْلِ المُحارِبِ الَّذِي لَمْ يَقْتُلْ إلى النَّفْيِ عَلِمْنا أنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْقَتْلِ بِنَفْسِ الخُرُوجِ، وكَما لَوْ قَتَلَ لَمْ يَجُزْ أنْ يُعْفى عَنْ قَتْلِهِ، فَلَوْ كانَ يَسْتَحِقُّ القَتْلَ بِنَفْسِ المُحارَبَةِ لَما جازَ أنْ يَعْدِلَ عَنْهُ كَما لَمْ يَجُزْ أنْ يَعْدِلَ عَنْهُ إذا قَتَلَ.
وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسادٍ في الأرْضِ﴾ [المائدة: ٣٢] وتَسْوِيَتُهُ بَيْنَ قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ النَّفْسِ وبَيْنَ الفَسادِ في الأرْضِ، فَإنَّما المُرادُ الفَسادُ في الأرْضِ الَّذِي يَكُونُ مَعَهُ قَتْلٌ أوْ قَتْلُهُ في حالِ إظْهارِ الفَسادِ، فَيُقْتَلُ عَلى وجْهِ الدَّفْعِ؛ ونَحْنُ قَدْ نَقْتُلُ المُحارِبَ الَّذِي لَمْ يَقْتُلْ عَلى وجْهِ الدَّفْعِ، وإنَّما الكَلامُ فِيمَن صارَ في يَدِ الإمامِ قَبْلَ أنْ يَتُوبَ هَلْ يَجُوزُ أنْ يَقْتُلَهُ إذا لَمْ يَقْتُلْ ؟ فَأمّا عَلى وجْهِ الدَّفْعِ فَلا خِلافَ فِيهِ؛ فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أوْ فَسادٍ في الأرْضِ﴾ [المائدة: ٣٢] عَلى هَذا الوَجْهِ؛ لِأنَّ الفَسادَ في الأرْضِ لَوْ كانَ يُسْتَحَقُّ بِهِ القَتْلُ لَما جازَ العُدُولُ عَنْهُ إلى النَّفْيِ، فَلَمّا جازَ عِنْدَ الجَمِيعِ نَفْيُهُ عَلى أنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلْقَتْلِ، فَصَحَّ بِما وصَفْنا قَوْلُ مَن قالَ بِإيجابِ تَرْتِيبِ حُكْمِ الآيَةِ عَلى الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنا.
وأيْضًا فَإنَّ الوُصُولَ إلى القَتْلِ لا يُسْتَحَقُّ بِأخْذِ المالِ ولا القَصْدُ لَهُ، ومَعْلُومٌ أنَّ المُحارِبِينَ إنَّما خَرَجُوا لِأخْذِ المالِ، فَإنْ كانَ القَتْلُ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ لِأخْذِ المالِ في الأُصُولِ فالقَصْدُ لِأخْذِهِ أوْلى أنْ لا يُسْتَحَقَّ بِهِ القَتْلُ عَلى وجْهِ الحَدِّ، فَإذا خَرَجَ المُحارِبُونَ وقَتَلُوا قُتِلُوا حَدًّا لِأجْلِ القَتْلِ.
ولَيْسَ قَتْلُهم هَذا قَوَدًا؛ لِأنَّ القَتْلَ يُسْتَحَقُّ بِهِ القَتْلُ في الأُصُولِ، إلّا أنَّهُ لَمّا قَتَلَهُ عَلى جِهَةِ إظْهارِ الفَسادِ في الأرْضِ تَأكَّدَ حُكْمُهُ بِأنْ أوْجَبَ قَتْلَهُ حَدًّا عَلى أنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعالى لا يَجُوزُ فِيهِ عَفْوُ الأوْلِياءِ؛ فَإنْ أخَذُوا المالَ ولَمْ يَقْتُلُوا قُطِّعَتْ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهم مِن خِلافٍ لِما في الآيَةِ مِن ذِكْرِ ذَلِكَ. وقَطْعُ اليَدِ والرِّجْلِ يُسْتَحَقُّ بِأخْذِ المالِ في الأُصُولِ، ألا تَرى أنَّ السّارِقَ تُقْطَعُ يَدُهُ فَإنْ (p-٥٨)عادَ فَسَرَقَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ ؟ إلّا أنَّهُ غُلِّظَتْ عُقُوبَتُهُ حِينَ كانَ أخْذُهُ لِلْمالِ عَلى وجْهِ الفَسادِ في الأرْضِ، فَإنْ قَتَلَ وأخَذَ فالإمامُ فِيهِ بِالخِيارِ عَلى ما ذَكَرْنا مِنَ اخْتِلافِ أصْحابِنا فِيهِ، فَكانَ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ: لَهُ أنْ يَجْمَعَ عَلَيْهِ قَطْعَ اليَدِ والرِّجْلِ والصَّلْبِ والقَتْلِ، وأخَذَ المالَ عَلى وجْهِ المُحارَبَةِ صارَ جَمِيعُ ذَلِكَ حَدًّا واحِدًا، ألا تَرى أنَّ القَتْلَ في هَذا المَوْضِعِ مُسْتَحَقٌّ عَلى وجْهِ الحَدِّ كالقَطْعِ وأنَّ عَفْوَ الأوْلِياءِ فِيهِ لا يَجُوزُ ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُما جَمِيعًا حَدٌّ واحِدٌ؛ فَلِذَلِكَ كانَ لِلْإمامِ أنْ يَجْمَعَهُما جَمِيعًا ولَهُ أنْ يَقْتُلَهم، فَيَدْخُلُ فِيهِ قَطْعُ اليَدِ والرِّجْلِ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمْ يُؤْخَذْ عَلى الإمامِ التَّرْتِيبُ في التَّبْدِئَةِ بِبَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ فَلَهُ أنْ يَبْدَأ بِالقَتْلِ أوْ بِالقَطْعِ.
فَإنْ قالَ قائِلٌ: هَلّا قَتَلْتَهُ وأسْقَطْتَ القَطْعَ كَمَن سَرَقَ وقَتَلَ أنَّهُ يُقْتَلُ ولا يُقْطَعُ قِيلَ لَهُ: لَمّا بَيَّنّا مِن أنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ حَدٌّ واحِدٌ مُسْتَحَقٌّ بِسَبَبٍ واحِدٍ وهو القَتْلُ وأخْذُ المالِ عَلى وجْهِ المُحارَبَةِ، وأمّا السَّرِقَةُ والقَتْلُ فَكُلُّ واحِدٍ مِنهُما مُسْتَحَقٌّ بِسَبَبٍ غَيْرِ السَّبَبِ الَّذِي بِهِ اسْتُحِقَّ الآخَرُ، وقَدْ أُمِرْنا بِدَرْءِ الحُدُودِ ما اسْتَطَعْنا؛ فَلِذَلِكَ بَدَأْنا بِالقَتْلِ لِنَدْرَأ أحَدَ الحَدَّيْنِ، ولَيْسَ في مَسْألَتِنا دَرْءُ أحَدِ الحَدَّيْنِ وإنَّما هو حَدٌّ واحِدٌ، فَلَمْ يَلْزَمْنا إسْقاطُ بَعْضِهِ وإيجابُ بَعْضٍ.
وهُوَ مُخَيَّرٌ أيْضًا بَيْنَ أنْ يَقْتُلَهُ صَلْبًا وبَيْنَ الِاقْتِصارِ عَلى القَتْلِ دُونَ الصَّلْبِ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنْ يُقَتَّلُوا أوْ يُصَلَّبُوا﴾
وذَكَرَ أبُو جَعْفَرٍ الطَّحاوِيُّ أنَّ الصَّلْبَ المَذْكُورَ في آيَةِ المُحارِبِ هو الصَّلْبُ بَعْدَ القَتْلِ في قَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ. وكانَ أبُو الحَسَنِ الكَرْخِيُّ يَحْكِي عَنْ أبِي يُوسُفَ أنَّهُ يُصْلَبُ ثُمَّ يُقْتَلُ يُبْعَجُ بَطْنُهُ بِرُمْحٍ أوْ غَيْرِهِ فَيُقْتَلُ. وقالَ أبُو الحَسَنِ: هَذا هو الصَّحِيحُ، وصَلْبُهُ بَعْدَ القَتْلِ لا مَعْنى لَهُ؛ لِأنَّ الصَّلْبَ عُقُوبَةٌ وذَلِكَ يَسْتَحِيلُ في المَيِّتِ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُصْلَبَ بَعْدَ القَتْلِ رَدْعًا لِغَيْرِهِ ؟ فَقالَ: لِأنَّ الصَّلْبَ إذا كانَ مَوْضُوعُهُ لِلتَّعْذِيبِ والعُقُوبَةِ لَمْ يَجُزْ إيقاعُهُ إلّا عَلى الوَجْهِ المَوْضُوعِ في الشَّرِيعَةِ.
فَإنْ قالَ قائِلٌ: إذا كانَ اللَّهُ تَعالى إنَّما أوْجَبَ القَتْلَ أوِ الصَّلْبَ عَلى وجْهِ التَّخْيِيرِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ جَمْعُهُما عَلَيْهِ ؟ قِيلَ لَهُ: أرادَ قَتْلًا عَلى غَيْرِ وجْهِ الصَّلْبِ إذا قَتَلَ ولَمْ يَأْخُذِ المالَ، وأرادَ قَتْلًا عَلى وجْهِ الصَّلْبِ إذا قَتَلَ وأخَذَ المالَ، فَغُلِّظَتِ العُقُوبَةُ عَلَيْهِ في صِفَةِ القَتْلِ لِجَمْعِهِ بَيْنَ القَتْلِ وأخْذِ المالِ. ورَوى مُغِيرَةُ عَنْ إبْراهِيمَ قالَ: " يُتْرَكُ المَصْلُوبُ مِنَ المُحارِبِينَ عَلى الخَشَبَةِ يَوْمًا " وقالَ يَحْيى بْنُ آدَمَ: ثَلاثَةَ أيّامٍ " . واخْتُلِفَ في النَّفْيِ، فَقالَ أصْحابُنا: " هو حَبْسُهُ حَيْثُ يَرى الإمامُ " ورُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ إبْراهِيمَ؛ ورُوِيَ عَنْ إبْراهِيمَ رِوايَةٌ أُخْرى، وهو أنَّ نَفْيَهُ طَلَبُهُ. وقالَ مالِكٌ: " يُنْفى إلى بَلَدٍ آخَرَ غَيْرِ (p-٥٩)البَلَدِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ فِيهِ العُقُوبَةَ فَيُحْبَسُ هُناكَ " . وقالَ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ: " هو أنْ يَطْلُبَ الإمامُ الحَدَّ عَلَيْهِ حَتّى يَخْرُجَ عَنْ دارِ الإسْلامِ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: فَأمّا مَن قالَ إنَّهُ يُنْفى عَنْ كُلِّ بَلَدٍ يَدْخُلُهُ؛ فَهو إنَّما يَنْفِيهِ عَنِ البَلَدِ الَّذِي هو فِيهِ والإقامَةُ فِيهِ، وهو حِينَئِذٍ غَيْرُ مَنفِيٍّ مِنَ التَّصَرُّفِ في غَيْرِهِ، فَلا مَعْنى لِذَلِكَ ولا مَعْنى أيْضًا لِحَبْسِهِ في بَلَدٍ غَيْرِ بَلَدِهِ؛ إذِ الحَبْسُ يَسْتَوِي في البَلَدِ الَّذِي أصابَ فِيهِ وفي غَيْرِهِ، فالصَّحِيحُ إذًا حَبْسُهُ في بَلَدِهِ.
وأيْضًا فَلا يَخْلُو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ﴾ مِن أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِ نَفْيُهُ مِن جَمِيعِ الأرْضِ، وذَلِكَ مُحالٌ؛ لِأنَّهُ لا يُمْكِنُ نَفْيُهُ مِن جَمِيعِ الأرْضِ إلّا بِأنْ يُقْتَلَ، ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالنَّفْيِ القَتْلَ؛ لِأنَّهُ قَدْ ذَكَرَ في الآيَةِ القَتْلَ مَعَ النَّفْيِ، أوْ يَكُونُ مُرادُهُ نَفْيَهُ مِنَ الأرْضِ الَّتِي خَرَجَ مِنها مُحارِبًا مِن غَيْرِ حَبْسِهِ؛ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّ المُرادَ بِما ذَكَرَهُ زَجْرُهُ عَنْ إخافَةِ السَّبِيلِ وكَفُّ أذاهُ عَنِ المُسْلِمِينَ، وهو إذا صارَ إلى بَلَدٍ آخَرَ فَكانَ هُناكَ مُخَلّى كانَتْ مَعَرَّتُهُ قائِمَةً عَلى المُسْلِمِينَ إذا كانَ تَصَرُّفُهُ هُناكَ كَتَصَرُّفِهِ في غَيْرِهِ أوْ أنْ يَكُونَ المُرادُ نَفْيَهُ عَنْ دارِ الإسْلامِ، وذَلِكَ مُمْتَنِعٌ أيْضًا؛ لِأنَّهُ لا يَجُوزُ نَفْيُ المُسْلِمِ إلى دارِ الحَرْبِ لِما فِيهِ مِن تَعْرِيضِهِ لِلرِّدَّةِ ومَصِيرِهِ إلى أنْ يَكُونَ حَرْبِيًّا. فَثَبَتَ أنَّ مَعْنى النَّفْيِ هو نَفْيُهُ عَنْ سائِرِ الأرْضِ إلّا مَوْضِعَ حَبْسِهِ الَّذِي لا يُمْكِنُهُ فِيهِ العَبَثُ والفَسادُ.
* * *
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ لَهم خِزْيٌ في الدُّنْيا ولَهم في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ إقامَةَ الحَدِّ عَلَيْهِ لا تَكُونُ كَفّارَةً لِذُنُوبِهِ، لِإخْبارِ اللَّهِ تَعالى بِوَعِيدِهِ في الآخِرَةِ بَعْدَ إقامَةِ الحَدِّ عَلَيْهِمْ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا الَّذِينَ تابُوا مِن قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ اسْتِثْناءٌ لِمَن تابَ مِنهم مِن قَبْلِ القُدْرَةِ عَلَيْهِمْ وإخْراجٌ لَهم مِن جُمْلَةِ مَن أوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الحَدَّ؛ لِأنَّ الِاسْتِثْناءَ إنَّما هو إخْراجُ بَعْضِ ما انْتَظَمَتْهُ الجُمْلَةُ مِنها، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلا آلَ لُوطٍ إنّا لَمُنَجُّوهم أجْمَعِينَ﴾ [الحجر: ٥٩] ﴿إلا امْرَأتَهُ﴾ [الحجر: ٦٠] فَأخْرَجَ آلَ لُوطٍ مِن جُمْلَةِ المُهْلَكِينَ، وأخْرَجَ المَرْأةَ بِالِاسْتِثْناءِ مِن جُمْلَةِ المُنَجِّينَ. وكَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهم أجْمَعُونَ﴾ [الحجر: ٣٠] ﴿إلا إبْلِيسَ﴾ [الحجر: ٣١] فَكانَ إبْلِيسُ خارِجًا مِن جُمْلَةِ السّاجِدِينَ. فَكَذَلِكَ لَمّا اسْتَثْناهم مِن جُمْلَةِ مَن أوْجَبَ عَلَيْهِمُ الحَدَّ إذا تابُوا قَبْلَ القُدْرَةِ عَلَيْهِمْ فَقَدْ نَفى إيجابَ الحَدِّ عَلَيْهِمْ، وقَدْ أكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهم ما قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: ٣٨] عُقِلَ بِذَلِكَ سُقُوطُ عُقُوباتِ الدُّنْيا والآخِرَةِ عَنْهم.
فَإنْ قالَ قائِلٌ: قَدْ قالَ في السَّرِقَةِ: ﴿فَمَن تابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ (p-٦٠)وأصْلَحَ فَإنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: ٣٩] ومَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَتْ تَوْبَةُ السّارِقِ مُسْقِطَةً لِلْحَدِّ عَنْهُ. قِيلَ لَهُ: لِأنَّهُ لَمْ يَسْتَثْنِهِمْ مِن جُمْلَةِ مَن أوْجَبَ عَلَيْهِمُ الحَدَّ، وإنَّما أخْبَرَ أنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَن تابَ مِنهم، وفي آيَةِ المُحارِبِينَ اسْتِثْناءٌ يُوجِبُ إخْراجَهم مِن مُبْتَدَأً مُسْتَغْنِيًا بِنَفْسِهِ عَنْ تَضْمِينِهِ بِغَيْرِهِ، وكُلُّ كَلامٍ اكْتَفى بِنَفْسِهِ لَمْ نَجْعَلْهُ مُضَمَّنًا بِغَيْرِهِ إلّا بِدَلالَةٍ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا الَّذِينَ تابُوا مِن قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ مُفْتَقِرٌ في صِحَّتِهِ إلى ما قَبْلَهُ، فَمِن أجْلِ ذَلِكَ كانَ مُضَمَّنًا بِهِ.
ومَتى سَقَطَ الحَدُّ المَذْكُورُ في الآيَةِ وجَبَتْ حُقُوقُ الآدَمِيِّينَ مِنَ القَتْلِ والجِراحاتِ وضَمانِ الأمْوالِ. وإذا وجَبَ الحَدُّ سَقَطَ ضَمانُ حُقُوقِ الآدَمِيِّينَ في المالِ والنَّفْسِ والجِراحاتِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ وُجُوبَ الحَدِّ بِهَذا الفِعْلِ يُسْقِطُ ما تَعَلَّقَ بِهِ مِن حَقِّ الآدَمِيِّ، كالسّارِقِ إذا سَرَقَ وقُطِعَ لَمْ يَضْمَنِ السَّرِقَةَ، وكالزّانِي إذا وجَبَ عَلَيْهِ الحَدُّ لَمْ يَلْزَمْهُ المَهْرُ، وكالقاتِلِ إذا وجَبَ عَلَيْهِ القَوَدُ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمانُ المالِ؛ كَذَلِكَ المُحارِبُونَ إذا وجَبَ عَلَيْهِمُ الحَدُّ سَقَطَتْ حُقُوقُ الآدَمِيِّينَ، فَإذا سَقَطَ الحَدُّ عَنِ المُحارِبِ وجَبَ ضَمانُ ما تَناوَلَهُ مِن مالٍ أوْ نَفْسٍ، كالسّارِقِ إذا دُرِئَ عَنْهُ الَّذِي يَكُونُ مُحارِبًا فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ: " مَن قَطَعَ الطَّرِيقَ في المِصْرِ لَيْلًا أوْ نَهارًا أوْ بَيْنَ الحِيرَةِ والكُوفَةِ لَيْلًا أوْ نَهارًا فَلا يَكُونُ قاطِعًا لِلطَّرِيقِ إلّا في الصَّحارِي " . وحَكى أصْحابُ " الإمْلاءِ " عَنْ أبِي يُوسُفَ: " أنَّ الأمْصارَ وغَيْرَها سَواءٌ وهُمُ المُحارِبُونَ، يُقامُ حَدُّهم " . ورُوِيَ عَنْ أبِي يُوسُفَ في اللُّصُوصِ الَّذِينَ يَكْبِسُونَ النّاسَ لَيْلًا في دُورِهِمْ في المِصْرِ أنَّهم بِمَنزِلَةِ قُطّاعِ الطَّرِيقِ يُجْرى عَلَيْهِمْ أحْكامُهم. وحُكِيَ عَنْ مالِكٍ أنَّهُ لا يَكُونُ مُحارِبًا حَتّى يَقْطَعَ عَلى ثَلاثَةِ أمْيالٍ مِنَ القَرْيَةِ؛ وذُكِرَ عَنْهُ أيْضًا قالَ: " المُحارَبَةُ أنْ يُقاتِلُوا عَلى طَلَبِ المالِ مِن غَيْرِ نائِرَةٍ " ولَمْ يُفَرِّقْ هاهُنا بَيْنَ المِصْرِ وغَيْرِهِ. وقالَ الشّافِعِيُّ: " قُطّاعُ الطَّرِيقِ الَّذِينَ يَعْرِضُونَ بِالسِّلاحِ لِلْقَوْمِ حَتّى يَغْصِبُوهُمُ المالَ، والصَّحارِي والمِصْرَ واحِدٌ " . وقالَ الثَّوْرِيُّ: " لا يَكُونُ مُحارِبًا بِالكُوفَةِ حَتّى يَكُونَ خارِجًا مِنها " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «لا قَطْعَ عَلى خائِنٍ ولا مُخْتَلِسٍ» فَنَفى صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ القَطْعَ عَنِ المُخْتَلِسِ، والمُخْتَلِسُ هو الَّذِي يَخْتَلِسُ الشَّيْءَ وهو مُمْتَنِعٌ فَوَجَبَ بِذَلِكَ اعْتِبارُ المَنعَةِ مِنَ المُحارِبِينَ وأنَّهم مَتى كانُوا في مَوْضِعٍ لا يُمْكِنُهم أنْ يَمْتَنِعُوا وقَدْ يَلْحَقُ مَن قَصَدُوهُ الغَوْثُ مِن قِبَلِ المُسْلِمِينَ أنْ لا يَكُونُوا مُحارِبِينَ وأنْ يَكُونُوا بِمَنزِلَةِ المُخْتَلِسِ والمُنْتَهِبِ كالرَّجُلِ الواحِدِ إذا فَعَلَ ذَلِكَ في المِصْرِ فَيَكُونُ مُخْتَلِسًا غاصِبًا لا يَجْرِي عَلَيْهِ أحْكامُ قُطّاعِ الطَّرِيقِ، وإذا كانَتْ جَماعَةٌ مُمْتَنِعَةٌ (p-٦١)فِي الصَّحْراءِ فَهَؤُلاءِ يُمْكِنُهم أخْذُ أمْوالِ السّابِلَةِ قَبْلَ أنْ يَلْحَقَهُمُ الغَوْثُ، فَبايَنُوا بِذَلِكَ المُخْتَلِسَ ومَن لَيْسَ لَهُ امْتِناعٌ في أحْكامِهِمْ. ولَوْ وجَبَ أنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ المِصْرِ وغَيْرِهِ لَوَجَبَ اسْتِواءُ حُكْمِ الرَّجُلِ الواحِدِ والجَماعَةِ؛ ومَعْلُومٌ أنَّ الرَّجُلَ الواحِدَ لا يَكُونُ مُحارِبًا في المِصْرِ لِعَدَمِ الِامْتِناعِ مِنهُ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ حُكْمُ الجَماعَةِ في المِصْرِ لِفَقْدِ الِامْتِناعِ مِنهم عَلى أهْلِ المِصْرِ. وأمّا إذا كانُوا في الصَّحْراءِ فَهم مُمْتَنِعُونَ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِمْ إلّا بِالطَّلَبِ والقِتالِ، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ حُكْمُهم وحُكْمُ مَن في المِصْرِ.
فَإنْ قالَ قائِلٌ: إنْ كانَ الِاعْتِبارُ بِما ذَكَرْتَ فَواجِبٌ أنْ يَكُونَ العَشَرَةُ مِنَ اللُّصُوصِ إذا اعْتَرَضُوا قافِلَةً فِيها ألْفُ رَجُلٍ غَيْرُ مُحارِبِينَ؛ إذْ قَدْ يُمْكِنُهُمُ الِامْتِناعُ عَلَيْهِمْ. قِيلَ لَهُ: صارُوا مُحارِبِينَ بِالِامْتِناعِ والخُرُوجِ، سَواءٌ قَصَدُوا القافِلَةَ أوْ لَمْ يَقْصِدُوها، فَلا يَزُولُ عَنْهم هَذا الحُكْمُ بَعْدَ ذَلِكَ بِكَوْنِ القافِلَةِ مُمْتَنِعَةً مِنهم كَما لا يَزُولُ بِكَوْنِ أهْلِ الأمْصارِ مُمْتَنِعِينَ مِنهم. وأجْرى أبُو يُوسُفَ عَلى اللُّصُوصِ في المِصْرِ حُكْمَ المُحارِبِينَ لِامْتِناعِهِمْ والخُرُوجُ عَلى وجْهِ المُحارَبَةِ لِأخْذِ المالِ فَلا يَخْتَلِفُ حُكْمُهم بِالمِصْرِ وغَيْرِهِ، كَما أنَّ سائِرَ ما يُوجِبُ الحَدَّ مِنَ الزِّنا والسَّرِقَةِ والقَذْفِ والقَتْلِ لا يَخْتَلِفُ أحْكامُ فاعِلِيها بِالمِصْرِ وغَيْرِهِ.
* * *
واعْتَبَرَ أصْحابُنا في إيجابِ قَطْعِ المُحارِبِ مِقْدارَ المالِ المَأْخُوذِ، بِأنْ يُصِيبَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم عَشَرَةَ دَراهِمَ. واعْتَبَرَ الشّافِعِيُّ رُبْعَ دِينارٍ كَما اعْتَبَرَهُ في قَطْعِ السّارِقِ، ولَمْ يَعْتَبِرْهُ مالِكٌ؛ لِأنَّهُ يَرى إجْراءَ الحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِالخُرُوجِ قَبْلَ أخْذِ المالِ.
* * *
وقالَ أصْحابُنا: إذا كانَ الَّذِي ولِيَ القَتْلَ وأخَذَ المالَ بَعْضُهم كانَ حُكْمُ جَمِيعِهِمْ حُكْمَ المُحارِبِينَ يَجْرِي الحُكْمُ عَلَيْهِمْ؛ وذَلِكَ لِأنَّ حُكْمَ المُحارَبَةِ والمَنعَةِ لَمْ يَحْصُلْ إلّا بِاجْتِماعِهِمْ جَمِيعًا، فَلَمّا كانَ السَّبَبُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ المُحارَبَةِ وهو المَنعَةُ حَصَلَ بِاجْتِماعِهِمْ جَمِيعًا وجَبَ أنْ لا يَخْتَلِفَ حُكْمُ مَن ولِيَ القَتْلَ مِنهم ومَن كانَ عَوْنًا أوْ ظَهِيرًا؛ والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ الجَيْشَ إذا غَنِمُوا مِن أهْلِ الحَرْبِ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ حُكْمُ مَن ولِيَ القِتالَ مِنهم ومَن كانَ مِنهم رِدْءًا وظَهِيرًا، ولِذَلِكَ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ مَن قَتَلَ بِعَصًا أوْ بِسَيْفٍ؛ إذْ كانَ مَن لَمْ يَلِ القِتالَ يَجْرِي عَلَيْهِ الحُكْمُ.
{"ayahs_start":33,"ayahs":["إِنَّمَا جَزَ ٰۤؤُا۟ ٱلَّذِینَ یُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَیَسۡعَوۡنَ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن یُقَتَّلُوۤا۟ أَوۡ یُصَلَّبُوۤا۟ أَوۡ تُقَطَّعَ أَیۡدِیهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَـٰفٍ أَوۡ یُنفَوۡا۟ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَ ٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡیࣱ فِی ٱلدُّنۡیَاۖ وَلَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِیمٌ","إِلَّا ٱلَّذِینَ تَابُوا۟ مِن قَبۡلِ أَن تَقۡدِرُوا۟ عَلَیۡهِمۡۖ فَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"],"ayah":"إِنَّمَا جَزَ ٰۤؤُا۟ ٱلَّذِینَ یُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَیَسۡعَوۡنَ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن یُقَتَّلُوۤا۟ أَوۡ یُصَلَّبُوۤا۟ أَوۡ تُقَطَّعَ أَیۡدِیهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَـٰفٍ أَوۡ یُنفَوۡا۟ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَ ٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡیࣱ فِی ٱلدُّنۡیَاۖ وَلَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِیمٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق