الباحث القرآني

﴿إنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ ذَهَبَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ - كَما قالَ الطَّبَرْسِيُّ وعَلَيْهِ جُمْلَةُ الفُقَهاءِ - إلى أنَّها نَزَلَتْ في قُطّاعِ الطَّرِيقِ، والكَلامُ - كَما قالَ الجَصّاصُ - عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ يُحارِبُونَ أوْلِياءَ اللَّهِ تَعالى ورَسُولِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - فَهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ . (p-119)ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أنَّهم لَوْ حارَبُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - لَكانُوا مُرْتَدِّينَ بِإظْهارِ مُحارَبَتِهِ ومُخالَفَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - وقِيلَ: المُرادُ يُحارِبُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - وذِكْرُ اللَّهِ تَعالى لِلتَّمْهِيدِ والتَّنْبِيهِ عَلى رِفْعَةِ مَحَلِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - عِنْدَهُ - عَزَّ وجَلَّ - ومُحارَبَةُ أهْلِ شَرِيعَتِهِ وسالِكِي طَرِيقَتِهِ مِنَ المُسْلِمِينَ مُحارَبَةٌ لَهُ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَيَعُمُّ الحُكْمُ مَن يُحارِبُهم بَعْدَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - ولَوْ بِأعْصارٍ كَثِيرَةٍ، بِطَرِيقِ العِبارَةِ لا بِطَرِيقِ الدَّلالَةِ أوِ القِياسِ كَما يُتَوَهَّمُ؛ لِأنَّ وُرُودَ النَّصِّ لَيْسَ بِطَرِيقِ خِطابِ المُشافَهَةِ حَتّى يَخْتَصَّ بِالمُكَلَّفِينَ حِينَ النُّزُولِ، ويَحْتاجَ في تَعْمِيمِهِ إلى دَلِيلٍ آخَرَ عَلى ما تَحَقَّقَ في الأُصُولِ. وقِيلَ: لَيْسَ هُناكَ مُضافٌ مَحْذُوفٌ، وإنَّما المُرادُ مُحارَبَةُ المُسْلِمِينَ، إلّا أنَّهُ جَعَلَ مُحارَبَتَهم مُحارَبَةَ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ -ورَسُولِهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - تَعْظِيمًا لَهُ وتَرْفِيعًا لِشَأْنِهِمْ، وجَعَلَ ذِكْرَ الرَّسُولِ عَلى هَذا تَمْهِيدًا عَلى تَمْهِيدًا، وفِيهِ ما لا يَخْفى. والحَرْبُ في الأصْلِ السَّلْبُ والأخْذُ، يُقالُ: حَرَبَهُ إذا سَلَبَهُ، والمُرادُ بِهِ ها هُنا قَطْعُ الطَّرِيقِ، وقِيلَ: الهُجُومُ جَهْرَةً بِاللُّصُوصِيَّةِ وإنْ كانَ في مِصْرٍ. ﴿ويَسْعَوْنَ﴾ عَطْفٌ عَلى ( يُحارِبُونَ ) وبِهِ يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ تَعالى: ( في الأرْضِ ) وقِيلَ: بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ( فَسادًا ) وهو إمّا حالٌ مِن فاعِلِ ( يَسْعَوْنَ ) بِتَأْوِيلِهِ بِمُفْسِدِينَ، أوْ ذَوِي فَسادٍ، أوْ لا تَأْوِيلَ قَصْدًا لِلْمُبالَغَةِ كَما قِيلَ، وإمّا مَفْعُولٌ لَهُ أيْ: لِأجْلِ الفَسادِ، وإمّا مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِـ( يَسْعَوْنَ ) لِأنَّهُ في مَعْنى يُفْسِدُونَ، و( فَسادًا ) إمّا مَصْدَرٌ حُذِفَ مِنهُ الزَّوائِدُ أوِ اسْمُ مَصْدَرٍ، وقَوْلُهُ تَعالى: ( إنَّما جَزاءُ ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ المُنْسَبِكُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أنْ يُقَتَّلُوا﴾ أيْ حَدًّا مِن غَيْرِ صَلْبٍ إنْ أفْرَدُوا القَتْلَ، ولا فَرْقَ بَيْنَ أنْ يَكُونَ بِآلَةٍ جارِحَةٍ أوْ لا، والإتْيانُ بِصِيغَةِ التَّفْعِيلِ لِما فِيهِ مِنَ الزِّيادَةِ عَلى القِصاصِ مِن أنَّهُ لِكَوْنِهِ حَقَّ الشَّرْعِ لا يَسْقُطُ بِعَفْوِ الوَلِيِّ، وكَذا التَّصْلِيبُ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿أوْ يُصَلَّبُوا﴾ لِما فِيهِ مِنَ القَتْلِ، أيْ يُصَلَّبُوا مَعَ القَتْلِ إنْ جَمَعُوا بَيْنَ القَتْلِ والأخْذِ، وقِيلَ صِيغَةُ التَّفْعِيلِ في الفِعْلَيْنِ لِلتَّكْثِيرِ، والصَّلْبُ قَبْلَ القَتْلِ، بِأنْ يُصَلَّبُوا أحْياءً، وتُبْعَجُ بُطُونُهم بِرُمْحٍ حَتّى يَمُوتُوا، وأصَحُّ قَوْلَيِ الشّافِعِيِّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - أنَّ الصَّلْبَ ثَلاثًا بَعْدَ القَتْلِ، قِيلَ: إنَّهُ يَوْمٌ واحِدٌ. وقِيلَ: حَتّى يَسِيلَ صَدِيدُهُ، والأوْلى أنْ يَكُونَ عَلى الطَّرِيقِ في مَمَرِّ النّاسِ لِيَكُونَ ذَلِكَ زَجْرًا لِلْغَيْرِ عَنِ الإقْدامِ عَلى مِثْلِ هَذِهِ المَعْصِيَةِ. وفِي ظاهِرِ الرِّوايَةِ أنَّ الإمامَ مُخَيَّرٌ إنْ شاءَ اكْتَفى بِذَلِكَ، وإنَّ شاءَ قَطَعَ أيْدِيَهم وأرْجُلَهم مِن خِلافِ، وقَتَلَهم وصَلَّبَهم. ﴿أوْ تُقَطَّعَ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهم مِن خِلافٍ﴾ أيْ تُقَطَّعُ مُخْتَلِفَةً، بِأنْ تُقَطَّعَ أيْدِيهِمُ اليُمْنى وأرْجُلُهُمُ اليُسْرى، إنِ اقْتَصَرُوا عَلى أخْذِ المالِ مِن مُسْلِمٍ أوْ ذِمِّيٍّ، إذْ لَهُ ما لنا وعَلَيْهِ ما عَلَيْنا، وكانَ في المِقْدارِ، بِحَيْثُ لَوْ قُسِّمَ عَلَيْهِمْ أصابَ كُلًّا مِنهم عَشَرَةُ دَراهِمَ أوْ ما يُساوِيها قِيمَةً، وهَذا في أوَّلِ مَرَّةٍ، فَإنْ عادُوا قُطِّعَ مِنهُمُ الباقِي، وقَطْعُ الأيْدِي لِأخْذِ المالِ، وقَطْعُ الأرْجُلِ لِإخافَةِ الطَّرِيقِ وتَفْوِيتِ أمْنِهِ. ﴿أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ﴾ إنْ لَمْ يَفْعَلُوا غَيْرَ الإخافَةِ والسَّعْيِ لِلْفَسادِ، والمُرادُ بِالنَّفْيِ عِنْدَنا هو الحَبْسُ والسَّجْنُ، والعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ النَّفْيَ بِذَلِكَ المَعْنى؛ لِأنَّ الشَّخْصَ بِهِ يُفارِقُ بَيْتَهُ وأهْلَهُ، وقَدْ قالَ بَعْضُ المَسْجُونِينَ: ؎خَرَجْنا مِنَ الدُّنْيا ونَحْنُ أهْلُها فَلَسْنا مِنَ الأمْواتِ فِيها ولا الأحْيا ؎إذْ جاءَنا السَّجّانُ يَوْمًا لِحاجَةٍ ∗∗∗ عَجِبْنا وقُلْنا: جاءَ هَذا مِنَ الدُّنْيا ويُعَزَّرُونَ أيْضًا لِمُباشَرَتِهِمْ إخافَةَ الطَّرِيقِ، وإزالَةَ أمْنِهِ، وعِنْدَ الشّافِعِيِّ - عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ - المُرادُ بِهِ النَّفْيُ مِن بَلَدٍ (p-120)إلى بَلَدٍ، ولايَزالُ يُطْلَبُ وهو هارِبٌ فَرَقًا إلى أنْ يَتُوبَ ويَرْجِعَ، وبِهِ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، والسُّدِّيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم - وابْنُ جُبَيْرٍ وغَيْرُهُمْ، وإلَيْهِ ذَهَبَ الإمامِيَّةُ. وعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، وابْنِ جُبَيْرٍ في رِوايَةٍ أُخْرى أنَّهُ يُنْفى عَنْ بَلَدِهِ فَقَطْ، وقِيلَ: إلى بَلَدٍ أبْعَدَ، وكانُوا يَنْفُونَهم إلى دَهْلَكَ، وهو بَلَدٌ في أقْصى تِهامَةَ، وناصِعَ وهو بَلَدٌ مِن بِلادِ الحَبَشَةِ. واسْتُدِلَّ لِلْأوَّلِ بِأنَّ المُرادَ بِنَفْيِ قاطِعِ الطَّرِيقِ زَجْرُهُ، ودَفْعُ شَرِّهِ، فَإذا نُفِيَ إلى بَلَدٍ آخَرَ لَمْ يُؤْمَن ذَلِكَ مِنهُ، وإخْراجُهُ مِنَ الدُّنْيا غَيْرُ مُمْكِنٍ، ومِن دارِ الإسْلامِ غَيْرُ جائِزٍ، فَإنْ حُبِسَ في بَلَدٍ آخَرَ فَلا فائِدَةَ فِيهِ، إذْ بِحَبْسِهِ في بَلَدِهِ يَحْصُلُ المَقْصُودُ، وهو أشَدُّ عَلَيْهِ. هَذا، ولَمّا كانَتِ المُحارَبَةُ والفَسادُ عَلى مَراتِبَ مُتَفاوِتَةٍ ووُجُوهٍ شَتّى شُرِعَتْ لِكُلِّ مَرْتَبَةٍ مِن تِلْكَ المَراتِبِ عُقُوبَةٌ مُعَيَّنَةٌ بِطَرِيقٍ - كَما أشَرْنا إلَيْهِ – فَـ( أوْ ) لِلتَّقْسِيمِ واللَّفِّ والنَّشْرِ المُقَدَّرِ عَلى الصَّحِيحِ، وقِيلَ: إنَّها تَخْيِيرِيَّةٌ، والإمامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ هَذِهِ العُقُوباتِ في كُلِّ قاطِعِ طَرِيقٍ، والأوَّلُ عُلِمَ بِالوَحْيِ، وإلّا فَلَيْسَ في اللَّفْظِ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ دُونَ التَّخْيِيرِ، ولِأنَّ في الآيَةِ أجِزْيَةً مُخْتَلِفَةً غِلَظًا وخِفَّةً فَيَجِبُ أنْ تَقَعَ في مُقابَلَةِ جِناياتٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ لِيَكُونَ جَزاءُ كُلِّ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةً مِثْلَها، ولِأنَّهُ لَيْسَ لِلتَّخْيِيرِ في الأغْلَظِ والأهْوَنِ في جِنايَةٍ واحِدَةٍ كَبِيرُ مَعْنًى. والظّاهِرُ أنَّهُ أُوحِيَ إلَيْهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - هَذا التَّنْوِيعُ والتَّفْصِيلُ، ويَشْهَدُ لَهُ ما أخْرَجَهُ الخَرائِطِيُّ في مَكارِمِ الأخْلاقِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ التَّخْيِيرَ أقْرَبُ، وكَوْنُهُ بَيْنَ الأغْلَظِ والأهْوَنِ بِالنَّظَرِ إلى الأشْخاصِ والأزْمِنَةِ، فَإنَّ العُقُوباتِ لِلِانْزِجارِ وإصْلاحِ الخَلْقِ، ورُبَّما يَتَفاوَتُ النّاسُ في الِانْزِجارِ، فَوُكِلَ ذَلِكَ إلى رَأْيِ الإمامِ، وفِيهِ تَأمُّلٌ، فَتَأمَّلْ. ﴿ذَلِكَ﴾ أيْ ما فُصِّلَ مِنَ الأحْكامِ والأجْزِيَةِ، وهو مُبْتَدَأٌ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَهم خِزْيٌ﴾ جُمْلَةٌ مِن خَبَرٍ مُقَدَّمٍ ومُبْتَدَأٍ في مَحَلِّ رَفْعِ خَبَرٍ لِلْمُبْتَدَأِ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿فِي الدُّنْيا﴾ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لِـ( خِزْيٌ ) أوْ مُتَعَلِّقٌ بِهِ عَلى الظَّرْفِيَّةِ، وقِيلَ: ( خِزْيٌ ) خَبَرٌ لِـ( ذَلِكَ ) و( لَهم ) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِن ( خِزْيٌ ) لِأنَّهُ في الأصْلِ صِفَةٌ لَهُ فَلَمّا قُدِّمَ انْتُصِبَ حالًا، و( في الدُّنْيا ) إمّا صِفَةٌ لِـ( خِزْيٌ ) أوْ مُتَعَلِّقٌ بِهِ كَما مَرَّ آنِفًا، والخِزْيُ الذُّلُّ والفَضِيحَةُ. ﴿ولَهم في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ لا يُقادَرُ قَدْرُهُ، وذَلِكَ لِغايَةِ عِظَمِ جِناياتِهِمْ، واقْتُصِرَ في الدُّنْيا عَلى الخِزْيِ مَعَ أنَّ لَهم فِيها عَذابًا أيْضًا، وفي الآخِرَةِ عَلى العَذابِ مَعَ أنَّ لَهم فِيها خِزْيًا أيْضًا؛ لِأنَّ الخِزْيَ في الدُّنْيا أعْظَمُ مِن عَذابِها، والعَذابَ في الآخِرَةِ أشَدُّ مِن خِزْيِها. والآيَةُ أقْوى دَلِيلٍ لِمَن يَقُولُ: إنَّ الحُدُودَ لا تُسْقِطُ العُقُوبَةَ في الآخِرَةِ، والقائِلُونَ بِالإسْقاطِ يَسْتَدِلُّونَ بِقَوْلِهِ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ««مَنِ ارْتَكَبَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ كانَ كَفّارَةً لَهُ»» فَإنَّهُ يَقْتَضِي سُقُوطَ الإثْمِ عَنْهُ، وأنْ لا يُعاقَبَ في الآخِرَةِ، وهو مُشْكِلٌ مَعَ هَذِهِ الآيَةِ، وأجابَ النَّوَوِيُّ بِأنَّ الحَدَّ يُكَفَّرُ بِهِ عَنْهُ حَقُّ اللَّهِ تَعالى، وأمّا حُقُوقُ العِبادِ فَلا، وها هُنا حَقّانِ لِلَّهِ تَعالى والعِبادِ، ونَظَرٌ فِيهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب