الباحث القرآني

﴿إنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسادًا أنْ يُقَتَّلُوا أوْ يُصَلَّبُوا أوْ تُقَطَّعَ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهم مِن خِلافٍ أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ﴾ قالَ أنَسُ بْنُ مالِكٍ، وجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وابْنُ جُبَيْرٍ، وعُرْوَةُ: نَزَلَتْ في عُكْلٍ وعُرَيْنَةَ، وحَدِيثُهُ مَشْهُورٌ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ فِيما رَواهُ عِكْرِمَةُ عَنْهُ: نَزَلَتْ في المُشْرِكِينَ، وبِهِ قالَ: الحَسَنُ وعَطاءٌ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ في رِوايَةٍ والضَّحّاكُ: نَزَلَتْ في قَوْمٍ مِن أهْلِ (p-٤٧٠)الكِتابِ كانَ بَيْنَهم وبَيْنَ الرَّسُولِ عَهْدٌ فَنَقَضُوهُ، وأفْسَدُوا في الدِّينِ. وقِيلَ: نَزَلَتْ في قَوْمِ أبِي بُرْدَةَ هِلالِ بْنِ عامِرٍ قَتَلُوا قَوْمًا مَرُّوا بِهِمْ مِن بَنِي كِنانَةَ يُرِيدُونَ الإسْلامَ، وأخَذُوا أمْوالَهم، وكانَ بَيْنَ الرَّسُولِ، ﷺ، وبَيْنَ أبِي بُرْدَةَ مُوادَعَةٌ أنْ لا يُعِينَ عَلَيْهِ، ولا يُهَيِّجَ مَن أتاهُ مُسْلِمًا فَفَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُهُ ولَمْ يَكُنْ حاضِرًا، والجُمْهُورُ عَلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ لَيْسَتْ ناسِخَةً ولا مَنسُوخَةً. وقِيلَ: نَسَخَتْ ما فَعَلَ النَّبِيُّ، ﷺ، بالعُرَنِيِّينَ مِنَ المُثْلَةِ، ووَقَفَ الحُكْمُ عَلى هَذِهِ الحُدُودِ. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها ظاهِرَةٌ، لَمّا ذَكَرَ في الآيَةِ قَبْلَها تَغْلِيظَ الإثْمِ في قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ نَفْسٍ ولا فَسادٍ في الأرْضِ، أتْبَعَهُ بِبَيانِ الفَسادِ في الأرْضِ الَّذِي يُوجِبُ القَتْلَ ما هو، فَإنَّ بَعْضَ ما يَكُونُ فَسادًا في الأرْضِ لا يُوجِبُ القَتْلَ، ولا خِلافَ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ أنَّ حُكْمَ هَذِهِ الآيَةِ مُتَرَتِّبٌ في المُحارِبِينَ مِن أهْلِ الإسْلامِ؛ ومَذْهَبُ مالِكٍ وجَماعَةٍ: أنَّ المُحارِبَ هو مَن حَمَلَ السِّلاحَ عَلى النّاسِ في مِصْرٍ أوْ بَرِيَّةٍ، فَكادَهم عَنْ أنْفُسِهِمْ وأمْوالِهِمْ دُونَ ثائِرَةٍ، ولا دَخَلٍ ولا عَداوَةٍ. ومَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ وجَماعَةٍ: أنَّ المُحارِبِينَ هم قُطّاعُ الطَّرِيقِ خارِجَ المِصْرِ، وأمّا في المِصْرِ فَيَلْزَمُهُ حَدُّ ما اجْتَرَحَ مِن قَتْلٍ أوْ سَرِقَةٍ أوْ غَصْبٍ ونَحْوِ ذَلِكَ، وأدْنى الحِرابَةِ إخافَةُ الطَّرِيقِ، ثُمَّ أخْذُ المالِ مَعَ الإخافَةِ، ثُمَّ الجَمْعُ بَيْنَ الإخافَةِ وأخْذِ المالِ والقَتْلِ؛ ومُحارَبَةُ اللَّهِ تَعالى غَيْرُ مُمْكِنَةٍ، فَيُحْمَلُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ؛ أيْ: مُحارِبُونَ أوْلِياءَ اللَّهِ ورَسُولِهِ، وإلّا لَزِمَ أنْ يَكُونَ مُحارَبَةُ اللَّهِ ورَسُولِهِ جَمْعًا بَيْنَ الحَقِيقَةِ والمَجازِ. فَإذا جَعَلَ ذَلِكَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أوْ حَمْلًا عَلى قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ انْدَفَعَ ذَلِكَ، وقَوْلُ ابْنُ عَبّاسٍ: المُحارَبَةُ هَنا: الشِّرْكُ، وقَوْلُ عُرْوَةَ: الِارْتِدادُ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَ الجُمْهُورِ، وقَدْ أوْرَدَ ما يُبْطِلُ قَوْلَهُما. وفِي قَوْلِهِ: ﴿يُحارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾؛ تَغْلِيظٌ شَدِيدٌ لِأمْرِ الحِرابَةِ، والسَّعْيُ في الأرْضِ فَسادًا يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى بِمُحارَبَتِهِمْ، أوْ يُضِيفُونَ فَسادًا إلى المُحارَبَةِ؛ وانْتَصَبَ فَسادًا عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أوْ مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ، أوْ مَصْدَرٌ مِن مَعْنى يَسْعَوْنَ في الأرْضِ مَعْناهُ: يُفْسِدُونَ، لَمّا كانَ السَّعْيُ لِلْفَسادِ جُعِلَ فَسادًا؛ أيْ: إفْسادًا. والظّاهِرُ في قَوْلِهِ: العُقُوباتُ الأرْبَعُ؛ أنَّ الإمامَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إيقاعِ ما شاءَ مِنها بِالمُحارِبِ في أيِّ رُتْبَةٍ كانَ المُحارِبُ مِنَ الرُّتَبِ الَّتِي قَدَّمْناها، وبِهِ قالَ: النَّخَعِيُّ والحَسَنُ في رِوايَةٍ، وابْنُ المُسَيَّبِ ومُجاهِدٌ وعَطاءٌ؛ وهو مَذْهَبُ مالِكٍ، وجَماعَةٍ. وقالَ مالِكٌ: أسْتَحْسِنُ أنْ يَأْخُذَ في الَّذِي لَمْ يَقْتُلْ بِأيْسَرِ العِقابِ، ولا سِيَّما إنْ لَمْ يَكُنْ ذا شُرُورٍ مَعْرُوفَةٍ، وأمّا إنْ قَتَلَ فَلا بُدَّ مِن قَتْلِهِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وأبُو مِجْلَزٍ، وقَتادَةُ، والحَسَنُ أيْضًا وجَماعَةٌ: لِكُلِّ رُتْبَةٍ مِنَ الحِرابَةِ رُتْبَةٌ مِنَ العِقابِ، فَمَن قَتَلَ قُتِلَ، ومَن أخَذَ المالَ ولَمْ يَقْتُلْ فالقَطْعُ مِن خِلافٍ، ومَن أخافَ فَقَطْ فالنَّفْيُ، ومَن جَمَعَها قُتِلَ وصُلِبَ. والقائِلُونَ بِهَذا التَّرْتِيبِ اخْتَلَفُوا، فَقالَ: أبُو حَنِيفَةَ، ومُحَمَّدٌ، والشّافِعِيُّ، وجَماعَةٌ، ورُوِيَ عَنْ مالِكٍ: يُصْلَبُ حَيًّا ويُطْعَنُ حَتّى يَمُوتَ. وقالَ جَماعَةٌ: يُقْتَلُ ثُمَّ يُصْلَبُ، نَكالًا لِغَيْرِهِ، وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ. والقَتْلُ إمّا ضَرْبًا بِالسَّيْفِ لِلْعُنُقِ، وقِيلَ: ضَرْبًا بِالسَّيْفِ أوْ طَعْنًا بِالرُّمْحِ أوِ الخِنْجَرِ، ولا يُشْتَرَطُ في قَتْلِهِ مُكافَأةٌ لِمَن قَتَلَ. وقالَ الشّافِعِيُّ: تُعْتَبَرُ فِيهِ المُكافَأةُ في القِصاصِ. ومُدَّةُ الصَّلْبِ: يَوْمٌ أوْ ثَلاثَةُ أيّامٍ، أوْ حَتّى يَسِيلَ صَدِيدُهُ، أوْ مِقْدارُ ما يَسْتَبِينُ صَلْبُهُ. وأمّا القَطْعُ: فاليَدُ اليُمْنى مِنَ الرُّسْغِ، والرِّجْلُ الشِّمالُ مِنَ المِفْصَلِ. ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: أنَّهُ مِنَ الأصابِعِ ويَبْقى الكَفُّ، ومِن نِصْفِ القَدَمِ ويَبْقى العَقِبُ. وهَذا خِلافُ الظّاهِرِ، لِأنَّ الأصابِعَ لا تُسَمّى يَدًا، ونِصْفُ الرِّجْلِ لا يُسَمّى رِجْلًا. وقالَ مالِكٌ: قَلِيلُ المالِ وكَثِيرُهُ سَواءٌ، فَيُقْطَعُ المُحارِبُ إذا أخَذَهُ. وقالَ أصْحابُ الرَّأْيِ والشّافِعِيُّ لا يُقْطَعُ إلّا مَن أخَذَ ما يُقْطَعُ فِيهِ السّارِقُ. وأمّا النَّفْيُ فَقالَ السُّدِّيُّ: هو أنْ يُطالِبَ أبَدًا بِالخَيْلِ والرَّجِلِ حَتّى يُؤْخَذَ فَيُقامَ عَلَيْهِ حَدُّ اللَّهِ ويُخْرَجَ مِن دارِ الإسْلامِ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وأنَسٍ: نَفْيُهُ أنْ يُطْلَبَ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ اللَّيْثِ ومالِكٍ، إلّا أنَّ مالِكًا قالَ: لا يُضْطَرُّ مُسْلِمٌ إلى دُخُولِ دارِ الشِّرْكِ. وقالَ (p-٤٧١)ابْنُ جُبَيْرٍ، وقَتادَةُ، والرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ، والزُّهْرِيُّ، والضَّحّاكُ: النَّفْيُ مِن دارِ الإسْلامِ إلى دارِ الشِّرْكِ. وقالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ وجَماعَةٌ: يُنْفى مِن بَلَدٍ إلى غَيْرِهِ مِمّا هو قاصٍ بَعِيدٌ. وقالَ أبُو الزِّنادِ: كانَ النَّفْيُ قَدِيمًا إلى دَهْلَكٍ وناصِعٍ، وهُما مِن أقْصى اليَمَنِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: دَهْلَكٌ في أقْصى تِهامَةَ، وناصِعٌ مِن بِلادِ الحَبَشَةِ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: النَّفْيُ: السَّجْنُ، وذَلِكَ إخْراجُهُ مِنَ الأرْضِ. قالَ الشّاعِرُ، قالَ ذَلِكَ وهو مَسْجُونٌ: ؎خَرَجْنا مِنَ الدُّنْيا ونَحْنُ مِن أهْلِها فَلَسْنا مِنَ الأمْواتِ فِيها ولا الأحْيا ؎إذا جاءَنا السَّجّانُ يَوْمًا لِحاجَةٍ ∗∗∗ عَجِبْنا وقُلْنا جاءَ هَذا مِنَ الدُّنْيا ؎وتُعْجِبُنا الرُّؤْيا يَحُلُّ حَدِيثَنا ∗∗∗ إذا نَحْنُ أصْبَحَنا الحَدِيثُ عَنِ الرُّؤْيا والظّاهِرُ أنَّ نَفْيَهُ مِنَ الأرْضِ هو إخْراجُهُ مِنَ الأرْضِ الَّتِي حارَبَ فِيها، إنْ كانَتِ الألِفُ واللّامُ لِلْعَهْدِ فَيُنْفى مِن ذَلِكَ العَمَلِ، وإنْ كانَتْ لِلْجِنْسِ فَلا يَزالُ يُطْلَبُ ويُزْعَجُ وهو هارِبٌ فَزِعٌ، إلى أنْ يَلْحَقَ بِغَيْرِ عَمَلِ الإسْلامِ. وصَرِيحُ مَذْهَبِ مالِكٍ أنَّهُ إذا كانَ مَخُوفَ الجانِبِ: غُرِّبَ وسُجِنَ حَيْثُ غُرِّبَ، والتَّشْدِيدُ في أنْ يُقَتَّلُوا أوْ يُصَلَّبُوا أوْ تُقَطَّعَ قِراءَةُ الجُمْهُورِ، وهو لِلتَّكْثِيرِ بِالنِّسْبَةِ إلى الَّذِينَ يُوقِعُ بِهِمُ الفِعْلَ، والتَّخْفِيفُ في ثَلاثَتِها قِراءَةُ الحَسَنِ ومُجاهِدٍ وابْنِ مُحَيْصِنٍ. ﴿ذَلِكَ لَهم خِزْيٌ في الدُّنْيا﴾ أيْ ذَلِكَ الجَزاءُ مِنَ القَطْعِ والقَتْلِ والصَّلْبِ والنَّفْيِ. والخِزْيُ هُنا: الهَوانُ والذُّلُّ والِافْتِضاحُ. والخِزْيُ: الحَياءُ، عَبَّرَ بِهِ عَنِ الِافْتِضاحِ لَمّا كانَ سَبَبًا لَهُ، افْتَضَحَ فاسْتَحْيا. ﴿ولَهم في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ ظاهِرُهُ أنَّ مَعْصِيَةَ الحِرابَةِ مُخالِفَةٌ لِلْمَعاصِي غَيْرَها، إذْ جَمَعَ فِيها بَيْنَ العِقابِ في الدُّنْيا والعِقابِ في الآخِرَةِ تَغْلِيظًا لِذَنْبِ الحِرابَةِ، وهو مُخالِفٌ لِظاهِرِ قَوْلِهِ، ﷺ، في حَدِيثِ عُبادَةَ: «فَمَن أصابَ مِن ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ في الدُّنْيا فَهو كَفّارَةٌ لَهُ» ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلى حَسَبِ التَّوْزِيعِ، فَيَكُونَ الخِزْيُ في الدُّنْيا إنْ عُوقِبَ، والعِقابُ في الآخِرَةِ إنْ سَلِمَ في الدُّنْيا مِنَ العِقابِ، فَتَجْرِيَ مَعْصِيَةُ الحِرابَةِ مَجْرى سائِرِ المَعاصِي؛ وهَذا الوَعِيدُ كَغَيْرِهِ مُقَيَّدٌ بِالمَشِيئَةِ، ولَهُ تَعالى أنْ يَغْفِرَ هَذا الذَّنْبَ، ولَكِنْ في الوَعِيدِ خَوْفٌ عَلى المُتَوَعَّدِ عَلَيْهِ نَفاذَ الوَعِيدِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب