الباحث القرآني

جعل الله عقوبة من أخاف السبيل وقطع الطريق: أن تقطع أطرافه، وتقطع عليه الطرق كلها بالنفي من الأرض، فلا يسير فيها إلا خائفًا. * [فَصْلٌ: تَوْبَةُ المُحارِبِ] وَأمّا اعْتِبارُ تَوْبَةِ المُحارِبِ قَبْلَ القُدْرَةِ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ فَيُقالُ: أيْنَ في نُصُوصِ الشّارِعِ هَذا التَّفْرِيقُ؟ بَلْ نَصَّهُ عَلى اعْتِبارِ تَوْبَةِ المُحارِبِ قَبْلَ القُدْرَةِ عَلَيْهِ إمّا مِن بابِ التَّنْبِيهِ عَلى اعْتِبارِ تَوْبَةِ غَيْرِهِ بِطَرِيقِ الأوْلى؛ فَإنَّهُ إذا دَفَعَتْ تَوْبَتُهُ عَنْهُ حَدَّ حِرابِهِ مَعَ شِدَّةِ ضَرَرِها وتَعَدِّيهِ فَلَأنْ تَدْفَعَ التَّوْبَةَ ما دُونَ حَدِّ الحِرابِ بِطَرِيقِ الأوْلى والأحْرى، وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهم ما قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: ٣٨] وقالَ النَّبِيُّ ﷺ «التّائِبُ مِن الذَّنْبِ كَمَن لا ذَنْبَ لَهُ» واللَّهُ تَعالى جَعَلَ الحُدُودَ عُقُوبَةً لِأرْبابِ الجَرائِمِ، ورَفَعَ العُقُوبَةَ عَنْ التّائِبِ شَرْعًا وقَدَرًا؛ فَلَيْسَ في شَرْعِ اللَّهِ ولا قَدَرِهِ عُقُوبَةُ تائِبٍ ألْبَتَّةَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ أنَسٍ قالَ: «كُنْت مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَجاءَ رَجُلٌ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنِّي أصَبْت حَدًّا فَأقِمْهُ عَلَيَّ، قالَ: ولَمْ يَسْألْهُ عَنْهُ، فَحَضَرَتْ الصَّلاةُ فَصَلّى مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمّا قَضى النَّبِيُّ ﷺ الصَّلاةَ قامَ إلَيْهِ الرَّجُلُ فَأعادَ قَوْلَهُ، قالَ: ألَيْسَ قَدْ صَلَّيْت مَعَنا؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَإنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَك» فَهَذا لَمّا جاءَ تائِبًا بِنَفْسِهِ مِن غَيْرِ أنْ يَطْلُبَ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ، ولَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ الحَدَّ الَّذِي اعْتَرَفَ بِهِ، وهو أحَدُ القَوْلَيْنِ في المَسْألَةِ، وهو إحْدى الرِّوايَتَيْنِ عَنْ أحْمَدَ، وهو الصَّوابُ. فَإنْ قِيلَ: فَماعِزٌ جاءَ تائِبًا والغامِدِيَّةُ جاءَتْ تائِبَةً، وأقامَ عَلَيْهِما الحَدَّ. قِيلَ: لا رَيْبَ أنَّهُما جاءا تائِبَيْنِ، ولا رَيْبَ أنَّ الحَدَّ أُقِيمَ عَلَيْهِما، وبِهِما احْتَجَّ أصْحابُ القَوْلِ الآخَرِ، وسَألْت شَيْخَنا عَنْ ذَلِكَ؛ فَأجابَ بِما مَضْمُونُهُ بِأنَّ الحَدَّ مُطَهِّرٌ، وأنَّ التَّوْبَةَ مُطَهِّرَةٌ، وهُما اخْتارا التَّطْهِيرَ بِالحَدِّ عَلى التَّطْهِيرِ بِمُجَرَّدِ التَّوْبَةِ، وأبَيا إلّا أنْ يُطَهَّرا بِالحَدِّ، فَأجابَهُما النَّبِيُّ ﷺ إلى ذَلِكَ وأرْشَدَ إلى اخْتِيارِ التَّطْهِيرِ بِالتَّوْبَةِ عَلى التَّطْهِيرِ بِالحَدِّ، «فَقالَ في حَقِّ ماعِزٍ: هَلّا تَرَكْتُمُوهُ يَتُوبُ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ» ولَوْ تَعَيَّنَ الحَدُّ بَعْدَ التَّوْبَةِ لَما جازَ تَرْكُهُ، بَلْ الإمامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أنْ يَتْرُكَهُ كَما قالَ لِصاحِبِ الحَدِّ الَّذِي اعْتَرَفَ بِهِ: «اذْهَبْ فَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك» وبَيْنَ أنْ يُقِيمَ كَما أقامَهُ عَلى ماعِزٍ والغامِدِيَّةِ لَمّا اخْتارا إقامَتَهُ وأبَيا إلّا التَّطْهِيرَ بِهِ، ولِذَلِكَ رَدَّهُما النَّبِيُّ ﷺ مِرارًا وهُما يَأْبَيانِ إلّا إقامَتَهُ عَلَيْهِما، وهَذا المَسْلَكُ وسَطُ مَسْلَكِ مَن يَقُولُ: لا تَجُوزُ إقامَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ ألْبَتَّةَ، وبَيْنَ مَسْلَكِ مَن يَقُولُ: لا أثَرَ لِلتَّوْبَةِ في إسْقاطِهِ ألْبَتَّةَ، وإذا تَأمَّلْت السُّنَّةَ رَأيْتها لا تَدُلُّ إلّا عَلى هَذا القَوْلِ الوَسَطِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب