الباحث القرآني
قَوْلُهُ: ( مِن أجْلِ ذَلِكَ ) أيْ: مِن أجْلِ ذَلِكَ القاتِلِ وجَرِيرَتِهِ وبِسَبَبِ مَعْصِيَتِهِ، وقالَ الزَّجّاجُ؛ أيْ: مِن جِنايَتِهِ قالَ: يُقالُ: أجَلَ الرَّجُلُ عَلى أهْلِهِ شَرًّا يَأْجُلُ أجْلًا إذا جَنى مِثْلَ أخَذَ يَأْخُذُ أخْذًا. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ ( مِن أجْلِ ) بِكَسْرِ النُّونِ وحَذْفِ الهَمْزَةِ، وهي لُغَةٌ. قالَ في شَرْحِ الدُّرَّةِ: قَرَأ أبُو جَعْفَرٍ مُنْفَرِدًا مِن أجْلِ ذَلِكَ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ مَعَ نَقْلِ حَرَكَتِها إلى النُّونِ قَبْلَها، وقِيلَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ( مِن أجْلِ ذَلِكَ ) مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: ( مِنَ النّادِمِينَ ) فَيَكُونُ الوَقْفُ عَلى قَوْلِهِ: ( مِن أجْلِ ذَلِكَ ) والأوْلى ما قَدَّمْنا، والمَعْنى: أنَّ نَبَأ ابْنَيْ آدَمَ هو الَّذِي تَسَبَّبَ عَنْهُ الكَتْبُ المَذْكُورُ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ، وعَلى هَذا جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ.
وخَصَّ بَنِي إسْرائِيلَ بِالذِّكْرِ؛ لِأنَّ السِّياقَ في تَعْدادِ جِناياتِهِمْ، ولِأنَّهم أوَّلُ أُمَّةٍ نَزَلَ الوَعِيدُ عَلَيْهِمْ في قَتْلِ الأنْفُسِ، ووَقَعَ التَّغْلِيظُ فِيهِمْ إذْ ذاكَ لِكَثْرَةِ سَفْكِهِمْ لِلدِّماءِ وقَتْلِهِمْ لِلْأنْبِياءِ وتَقْدِيمِ الجارِّ والمَجْرُورِ عَلى الفِعْلِ الَّذِي هو مُتَعَلِّقٌ بِهِ أعْنِي ( كَتَبْنا ): يُفِيدُ القَصْرَ؛ أيْ: مِن أجْلِ ذَلِكَ لا مَن غَيْرِهِ، ومَن لِابْتِداءِ الغايَةِ ( أنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا ) واحِدَةً مِن هَذا النُّفُوسِ ( بِغَيْرِ نَفْسٍ ) أيْ بِغَيْرِ نَفْسٍ تُوجِبُ القِصاصَ، فَيَخْرُجُ عَنْ هَذا مَن قَتَلَ نَفْسًا بِنَفْسٍ قِصاصًا.
قَوْلُهُ: ( أوْ فَسادٍ في الأرْضِ ) قَرَأ الجُمْهُورُ بِالجَرِّ عَطْفًا عَلى نَفْسٍ.
وقَرَأ الحَسَنُ بِالنَّصْبِ عَلى تَقْدِيرِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أوَّلُ الكَلامِ تَقْدِيرُهُ: أوْ أحْدَثَ فَسادًا في الأرْضِ، وفي هَذا ضَعْفٌ، ومَعْنى قِراءَةِ الجُمْهُورِ: أنَّ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ سَبَبٍ مِن قِصاصٍ أوْ فَسادٍ في الأرْضِ فَكَأنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعًا.
وقَدْ تَقَرَّرَ أنَّ كُلَّ حُكْمٍ مَشْرُوطٍ يَتَحَقَّقُ أحَدُ شَيْئَيْنِ فَنَقِيضُهُ مَشْرُوطٌ بِانْتِفائِهِما مَعًا، وكُلُّ حُكْمٍ مَشْرُوطٍ بِتَحَقُّقِهِما مَعًا فَنَقِيضُهُ مَشْرُوطٌ بِانْتِفاءِ أحَدِهِما ضَرُورَةَ أنَّ نَقِيضَ كُلِّ شَيْءٍ مَشْرُوطٌ بِنَقِيضِ شَرْطِهِ، وقَدِ اخْتُلِفَ في هَذا الفَسادِ المَذْكُورِ في هَذِهِ الآيَةِ ماذا هو ؟ فَقِيلَ هو الشِّرْكُ، وقِيلَ قَطْعُ الطَّرِيقِ.
وظاهِرُ النَّظْمِ القُرْآنِيِّ أنَّهُ ما يَصْدُقُ عَلَيْهِ أنَّهُ فَسادٌ في الأرْضِ، فالشِّرْكُ (p-٣٦٨)فَسادٌ في الأرْضِ، وقَطْعُ الطَّرِيقِ فَسادٌ في الأرْضِ، وسَفْكُ الدِّماءِ وهَتْكُ الحَرَمِ ونَهْبُ الأمْوالِ فَسادٌ في الأرْضِ، والبَغْيُ عَلى عِبادِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقِّ فَسادٌ في الأرْضِ، وهَدْمُ البُنْيانِ وقَطْعُ الأشْجارِ وتَغْوِيرُ الأنْهارِ فَسادٌ في الأرْضِ، فَعَرَفْتَ بِهَذا أنَّهُ يَصْدُقُ عَلى هَذِهِ الأنْواعِ أنَّها فَسادٌ في الأرْضِ، وهَكَذا الفَسادُ الَّذِي سَيَأْتِي في قَوْلِهِ: ﴿ويَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسادًا﴾ يَصْدُقُ عَلى هَذِهِ الأنْواعِ، وسَيَأْتِي تَمامُ الكَلامِ عَلى مَعْنى الفَسادِ قَرِيبًا، قَوْلُهُ: ﴿فَكَأنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعًا﴾ .
اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في تَحْقِيقِ هَذا التَّشْبِيهِ لِلْقَطْعِ بِأنَّ عِقابَ مَن قَتَلَ النّاسَ جَمِيعًا أشَدُّ مِن عِقابِ مَن قَتَلَ واحِدًا مِنهم، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: المَعْنى مَن قَتَلَ نَبِيًّا أوْ إمامَ عَدْلٍ، فَكَأنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعًا ومَن أحْياهُ بِأنْ شَدَّ عَضُدَهُ ونَصَرَهُ فَكَأنَّما أحْيا النّاسَ جَمِيعًا، أخْرَجَ هَذا عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ، ورُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّهُ قالَ: المَعْنى أنَّ الَّذِي يَقْتُلُ النَّفْسَ المُؤْمِنَةَ مُتَعَمِّدًا جَعَلَ اللَّهُ جَزاءَهُ جَهَنَّمَ وغَضِبَ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ وأعَدَّ لَهُ عَذابًا عَظِيمًا، فَلَوْ قَتَلَ النّاسَ جَمِيعًا لَمْ يَزِدْ عَلى هَذا قالَ: ومَن سَلِمَ مِن قَتْلٍ فَلَمْ يَقْتُلْ أحَدًا فَكَأنَّما أحْيا النّاسَ جَمِيعًا.
وقَدْ أخْرَجَ نَحْوَ هَذا عَنْهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا أنَّهُ قالَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: أوَبَقَ نَفْسَهُ كَما لَوْ قَتَلَ النّاسَ جَمِيعًا، أخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ، ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قالَ: فَكَأنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعًا في الوِزْرِ، وكَأنَّما أحْيا النّاسَ جَمِيعًا في الأجْرِ، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: المَعْنى أنَّ مَن قَتَلَ نَفْسًا فَيَلْزَمُهُ مِنَ القَوْدِ والقِصاصِ ما يَلْزَمُ مَن قَتَلَ النّاسَ جَمِيعًا ( ومَن أحْياها ) أيْ: مَن عَفا عَمَّنْ وجَبَ قَتْلُهُ، حَكاهُ عَنْهُ القُرْطُبِيُّ، وحُكِيَ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ العَفْوُ بَعْدَ المَقْدِرَةِ: يَعْنِي أحْياها.
ورُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّ إحْياءَها: إنْجاؤُها مِن غَرَقٍ أوْ حَرْقٍ أوْ هَدْمٍ أوْ هَلَكَةٍ، حَكاهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ، وقِيلَ: المَعْنى: أنَّ مَن قَتَلَ نَفْسًا فالمُؤْمِنُونَ كُلُّهم خُصَماؤُهُ؛ لِأنَّهُ قَدْ وتَرَ الجَمِيعَ ﴿ومَن أحْياها فَكَأنَّما أحْيا النّاسَ جَمِيعًا﴾ أيْ: وجَبَ عَلى الكُلِّ شُكْرُهُ، وقِيلَ: المَعْنى: أنَّ مَنِ اسْتَحَلَّ واحِدًا فَقَدِ اسْتَحَلَّ الجَمِيعَ؛ لِأنَّهُ أنْكَرَ الشَّرْعَ، وعَلى كُلِّ حالٍ فالإحْياءُ هُنا عِبارَةٌ عَنِ التَّرْكِ والإنْقاذِ مِن هَلَكَةٍ فَهو مَجازٌ؛ إذِ المَعْنى الحَقِيقِيُّ مُخْتَصٌّ بِاللَّهِ عَزَّ وجَلَّ.
والمُرادُ بِهَذا التَّشْبِيهِ في جانِبِ القَتْلِ تَهْوِيلُ أمْرِ القَتْلِ وتَعْظِيمِ أمْرِهِ في النُّفُوسِ حَتّى يَنْزَجِرَ عَنْهُ أهْلُ الجُرْأةِ والجَسارَةِ، وفي جانِبِ الإحْياءِ التَّرْغِيبُ إلى العَفْوِ عَنِ الجُناةِ واسْتِنْقاذِ المُتَوَرِّطِينَ في الهَلَكاتِ، قَوْلُهُ: ﴿ولَقَدْ جاءَتْهم رُسُلُنا بِالبَيِّناتِ﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مُؤَكِّدَةٌ بِاللّامِ المُوطِئَةِ لِلْقَسَمِ مُتَضَمِّنَةٌ لِلْإخْبارِ بِأنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ قَدْ جاءُوا العِبادَ بِما شَرَّعَهُ اللَّهُ لَهم مِنَ الأحْكامِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها أمْرُ القَتْلِ، وثُمَّ في قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنهُمْ﴾ لِلتَّراخِي الرُّتْبِيِّ والِاسْتِبْعادِ العَقْلِيِّ، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ( ذَلِكَ ) إلى ما ذَكَرَ مِمّا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ؛ أيْ: إنَّ كَثِيرًا مِنهم بَعْدَ ذَلِكَ الكَتْبِ ﴿فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ في القَتْلِ.
قَوْلُهُ: ﴿إنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ قَدِ اخْتُلِفَ في النّاسِ في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ، فَذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّها نَزَلَتْ في العُرَنِيِّينَ، وقالَ مالِكٌ والشّافِعِيُّ وأبُو ثَوْرٍ وأصْحابُ الرَّأْيِ: لِأنَّها نَزَلَتْ فِيمَن خَرَجَ مِنَ المُسْلِمِينَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ ويَسْعى في الأرْضِ بِالفَسادِ.
قالَ ابْنُ المُنْذِرِ: قَوْلُ مالِكٍ صَحِيحٌ، قالَ أبُو ثَوْرٍ مُحْتَجًّا لِهَذا القَوْلِ: إنَّ قَوْلَهَ في هَذِهِ الآيَةِ ﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا مِن قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّها نَزَلَتْ في غَيْرِ أهْلِ الشِّرْكِ؛ لِأنَّهم قَدْ أجْمَعُوا عَلى أنَّ أهْلَ الشِّرْكِ إذا وقَعُوا في أيْدِينا فَأسْلَمُوا أنَّ دِماءَهم تَحْرُمُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ في أهْلِ الإسْلامِ. انْتَهى.
وهَكَذا يَدُلُّ عَلى هَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهم ما قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: ٣٨]، وقَوْلُهُ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «الإسْلامُ يَهْدِمُ ما قَبْلَهُ» أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وغَيْرُهُ، وحَكى ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ في تَفْسِيرِهِ عَنْ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ - أعْنِي آيَةَ المُحارِبَةِ - نَسَخَتْ فِعْلَ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ في العُرَنِيِّينَ، ووَقَفَ الأمْرُ عَلى هَذِهِ الحُدُودِ.
ورُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أنَّهُ قالَ: كانَ هَذا قَبْلَ أنْ تَنْزِلَ الحُدُودُ؛ يَعْنِي فِعْلَهُ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بِالعُرَنِيِّينَ، وبِهَذا قالَ جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ، وذَهَبَ جَماعَةٌ آخَرُونَ إلى أنَّ فِعْلَهُ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ بِالعُرَنِيِّينَ مَنسُوخٌ بِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ عَنِ المُثْلَةِ، والقائِلُ بِهَذا مُطالَبٌ بِبَيانِ تَأخُّرِ النّاسِخِ، وسَيَأْتِي سِياقُ الرِّواياتِ الوارِدَةِ في سَبَبِ النُّزُولِ، والحَقُّ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَعُمُّ المُشْرِكَ وغَيْرَهُ لِمَنِ ارْتَكَبَ ما تَضَمَّنَتْهُ، ولا اعْتِبارَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ، بَلِ الِاعْتِبارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، قالَ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِهِ: ولا خِلافَ بَيْنِ أهْلِ العِلْمِ في أنَّ حُكْمَ هَذِهِ الآيَةِ مُتَرَتِّبٌ في المُحارِبِينَ مِن أهْلِ الإسْلامِ وإنْ كانَتْ نَزَلَتْ في المُرْتَدِّينَ أوِ اليَهُودِ انْتَهى.
ومَعْنى قَوْلِهِ: مُتَرَتِّبٌ؛ أيْ: ثابِتٌ، قِيلَ: المُرادُ بِمُحارَبَةِ اللَّهِ المَذْكُورَةِ في الآيَةِ هي مُحارَبَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ ومُحارَبَةُ المُسْلِمِينَ في عَصْرِهِ ومِن بَعْدِ عَصْرِهِ بِطَرِيقِ العِبارَةِ دُونَ الدَّلالَةِ ودُونَ القِياسِ؛ لِأنَّ وُرُودَ النَّصِّ لَيْسَ بِطَرِيقِ خِطابِ المُشافَهَةِ حَتّى يَخْتَصَّ حُكْمُهُ بِالمُكَلَّفِينَ عِنْدَ النُّزُولِ، فَيَحْتاجُ في تَعْمِيمِ الخِطابِ لِغَيْرِهِمْ إلى دَلِيلٍ آخَرَ، وقِيلَ: إنَّها جُعِلَتْ مُحارَبَةُ المُسْلِمِينَ مُحارَبَةً لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ إكْبارًا لِحَرْبِهِمْ وتَعْظِيمًا لِأذِيَّتِهِمْ؛ لِأنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ لا يُحارَبُ ولا يُغالَبُ، والأوْلى أنْ تُفَسَّرَ مُحارَبَةُ اللَّهِ سُبْحانَهُ بِمَعاصِيهِ ومُخالَفَةِ شَرائِعِهِ، ومُحارَبَةُ الرَّسُولِ تُحْمَلُ عَلى مَعْناها الحَقِيقِيِّ، وحُكْمُ أُمَّتِهِ حُكْمُهُ وهم أُسْوَتُهُ.
والسَّعْيُ في الأرْضِ فَسادًا يُطْلَقُ عَلى أنْواعٍ مِنَ الشَّرِّ كَما قَدَّمْنا قَرِيبًا، قالَ ابْنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِهِ: قالَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ مِنهم سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ: إنَّ قَرْضَ الدَّراهِمِ والدَّنانِيرِ مِنَ الإفْسادِ في الأرْضِ، وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿وإذا تَوَلّى سَعى في الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها ويُهْلِكَ الحَرْثَ والنَّسْلَ واللَّهُ لا يُحِبُّ الفَسادَ﴾ [البقرة: ٢٠٥] انْتَهى.
إذا تَقَرَّرَ لَكَ ما قَرَّرْناهُ مِن عُمُومِ الآيَةِ ومِن مَعْنى المُحارَبَةِ والسَّعْيِ في الأرْضِ فَسادًا، فاعْلَمْ أنَّ ذَلِكَ يَصْدُقُ (p-٣٦٩)عَلى كُلِّ مَن وقَعَ مِنهُ ذَلِكَ، سَواءٌ كانَ مُسْلِمًا أوْ كافِرًا، في مِصْرَ وغَيْرِ مِصْرَ، في كُلِّ قَلِيلٍ وكَثِيرٍ، وجَلِيلٍ وحَقِيرٍ، وأنَّ حُكْمَ اللَّهِ في ذَلِكَ هو ما ورَدَ في هَذِهِ الآيَةِ مِنَ القَتْلِ أوِ الصَّلْبِ، أوْ قَطْعِ الأيْدِي والأرْجُلِ مِن خِلافٍ، أوِ النَّفْيِ مِنَ الأرْضِ، ولَكِنْ لا يَكُونُ هَذا حُكْمُ مَن فَعَلَ أيَّ ذَنْبٍ مِنَ الذُّنُوبِ، بَلْ مَن كانَ ذَنْبُهُ هو التَّعَدِّي عَلى دِماءِ العِبادِ وأمْوالِهِمْ فِيما عَدا ما قَدْ ورَدَ لَهُ حُكْمٌ غَيْرُ هَذا الحُكْمِ في كِتابِ اللَّهِ أوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ كالسَّرِقَةِ وما يَجِبُ فِيهِ القِصاصُ، لِأنّا نَعْلَمُ أنَّهُ قَدْ كانَ في زَمَنِهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ مَن تَقَعُ مِنهُ ذُنُوبٌ ومَعاصٍ غَيْرَ ذَلِكَ، ولا يَجْرِي عَلَيْهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ هَذا الحُكْمُ المَذْكُورُ في هَذِهِ الآيَةِ، وبِهَذا تَعْرِفُ ضِعْفَ ما رُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ في تَفْسِيرِ المُحارِبَةِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّها الزِّنا والسَّرِقَةُ، ووَجْهُ ذَلِكَ أنَّ هَذَيْنِ الذَّنْبَيْنِ قَدْ ورَدَ في كِتابِ اللَّهِ وفي سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ لَهُما حُكْمٌ غَيْرُ هَذا الحُكْمِ، وإذا عَرَفْتَ ما هو الظّاهِرُ مِن مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ عَلى مُقْتَضى لُغَةِ العَرَبِ الَّتِي أمَرَنا بِأنْ نُفَسِّرَ كِتابَ اللَّهِ وسُنَّةَ رَسُولِهِ بِها، فَإيّاكَ أنْ تَغْتَرَّ بِشَيْءٍ مِنَ التَّفاصِيلِ المَرْوِيَّةِ، والمَذاهِبِ المَحْكِيَّةِ، إلّا أنْ يَأْتِيَكَ الدَّلِيلُ المُوجِبُ لِتَخْصِيصِ هَذا العُمُومِ أوْ تَقْيِيدِ هَذا المَعْنى المَفْهُومِ مِن لُغَةِ العَرَبِ، فَأنْتَ وذاكَ اعْمَلْ بِهِ وضَعْهُ في مَوْضِعِهِ، وأمّا ما عَداهُ:
؎فَدَعْ عَنْكَ نَهْبًا صِيحَ في حَجَراتِهِ وهاتِ حَدِيثًا ما حَدِيثُ الرَّواحِلِ
عَلى أنّا سَنَذْكُرُ مِن هَذِهِ المَذاهِبِ ما تَسْمَعُهُ، اعْلَمْ أنَّهُ قَدِ اخْتَلَفَ العُلَماءُ فِيمَن يَسْتَحِقُّ اسْمَ المُحارَبَةِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وسَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ ومُجاهِدٌ وعَطاءٌ والحَسَنُ البَصْرِيُّ وإبْراهِيمُ النَّخَعِيُّ والضَّحّاكُ وأبُو ثَوْرٍ: إنَّ مَن شَهَرَ السِّلاحَ في قُبَّةِ الإسْلامِ وأخافَ السَّبِيلَ ثُمَّ ظُفِرَ بِهِ وقُدِرَ عَلَيْهِ فَإمامُ المُسْلِمِينَ فِيهِ بِالخِيارِ؛ إنْ شاءَ قَتَلَهُ، وإنْ شاءَ صَلَبَهُ، وإنْ شاءَ قَطَعَ يَدَهُ ورِجْلَهُ، وبِهَذا قالَ مالِكٌ وصَرَّحَ بِأنَّ المُحارِبَ عِنْدَهُ مَن حَمَلَ عَلى النّاسِ في مِصْرٍ أوْ في بَرِّيَّةٍ أوْ كابَرَهم عَلى أنْفُسِهِمْ وأمْوالِهِمْ دُونَ نائِرَةٍ ولا ذَحْلَ ولا عَداوَةَ.
قالَ ابْنُ المُنْذِرِ: اخْتُلِفَ عَنْ مالِكٍ في هَذِهِ المَسْألَةِ فَأثْبَتَ المُحارِبَةَ في المِصْرِ مَرَّةً ونَفى ذَلِكَ مَرَّةً، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ غَيْرُ ما تَقَدَّمَ فَقالَ في قُطّاعِ الطَّرِيقِ: إذا قَتَلُوا وأخَذُوا المالَ قُتِلُوا وصُلِبُوا، وإذا قَتَلُوا ولَمْ يَأْخُذُوا المالَ قُتِلُوا ولَمْ يُصْلَبُوا، وإذا أخَذُوا المالَ ولَمْ يَقْتُلُوا قُطِعَتْ أيْدِيهم وأرْجُلُهم مِن خِلافٍ، وإذا أخافُوا السَّبِيلَ ولَمْ يَأْخُذُوا مالًا نُفُوا مِنَ الأرْضِ.
ورُوِيَ عَنْ أبِي مِجْلَزٍ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وإبْراهِيمَ النَّخَعِيِّ والحَسَنِ وقَتادَةَ والسُّدِّيِّ وعَطاءٍ عَلى اخْتِلافٍ في الرِّوايَةِ عَنْ بَعْضِهِمْ، وحَكاهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ الجُمْهُورِ، وقالَ أيْضًا: وهَكَذا عَنْ غَيْرِ واحِدٍ مِنَ السَّلَفِ والأئِمَّةِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: إذا قَتَلَ قُتِلَ، وإذا أخَذَ المالَ ولَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ ورِجْلُهُ مِن خِلافٍ، وإذا أخَذَ المالَ وقَتَلَ فالسُّلْطانُ مُخَيَّرٌ فِيهِ: إنْ شاءَ قَطَعَ يَدَيْهِ ورِجْلَيْهِ، وإنْ شاءَ لَمْ يَقْطَعْ وقَتَلَهُ وصَلَبَهُ، وقالَ أبُو يُوسُفَ: القَتْلُ يَأْتِي عَلى كُلِّ شَيْءٍ، ونَحْوُهُ قَوْلُ الأوْزاعِيِّ، وقالَ الشّافِعِيُّ: إذا أخَذَ المالَ قُطِعَتْ يَدُهُ اليُمْنى وحُسِمَتْ، ثُمَّ قُطِعَتْ رِجْلُهُ اليُسْرى وحُسِمَتْ وخُلِّيَ؛ لِأنَّ هَذِهِ الجِنايَةَ زادَتْ عَلى السَّرِقَةِ بِالحَرابَةِ، وإذا قَتَلَ قُتِلَ، وإذا أخَذَ المالَ وقَتَلَ قُتِلَ وصُلِبَ، ورُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: يُصْلَبُ ثَلاثَةَ أيّامٍ، وقالَ أحْمَدُ: إنْ قَتَلَ قُتِلَ، وإنْ أخَذَ المالَ قُطِعَتْ يَدُهُ ورِجْلُهُ كَقَوْلِ الشّافِعِيِّ.
ولا أعْلَمُ لِهَذِهِ التَّفاصِيلِ دَلِيلًا لا مِن كِتابِ اللَّهِ ولا مِن سُنَّةِ رَسُولِهِ إلّا ما رَواهُ ابْنُ جَرِيرٍ في تَفْسِيرِهِ وتَفَرَّدَ بِرِوايَتِهِ فَقالَ: حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنا الوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أبِي حَبِيبٍ: «أنَّ عَبْدَ المَلِكِ بْنَ مَرْوانَ كَتَبَ إلى أنَسِ بْنِ مالِكٍ يَسْألُهُ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ، فَكَتَبَ إلَيْهِ يُخْبِرُهُ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في أُولَئِكَ النَّفَرِ العُرَنِيِّينَ وهم مِن بَجِيلَةَ، قالَ أنَسٌ: فارْتَدُّوا عَنِ الإسْلامِ وقَتَلُوا الرّاعِيَ واسْتاقُوا الإبِلَ وأخافُوا السَّبِيلَ وأصابُوا الفَرْجَ الحَرامَ، قالَ أنَسٌ: فَسَألَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ جِبْرِيلَ عَنِ القَضاءِ فِيمَن حارَبَ، فَقالَ: مَن سَرَقَ وأخافَ الطَّرِيقَ فاقْطَعْ يَدَهُ لِسَرِقَتِهِ ورِجْلَهُ بِإضافَتِهِ، ومَن قَتَلَ فاقْتُلْهُ، ومَن قَتَلَ وأخافَ السَّبِيلَ واسْتَحَلَّ الفَرْجَ الحَرامَ فاصْلُبْهُ»، وهَذا مَعَ ما فِيهِ مِنَ النَّكارَةِ الشَّدِيدَةِ لا يُدْرى كَيْفَ صِحَّتُهُ ؟ قالَ ابْنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِهِ بَعْدَ ذِكْرِهِ لِشَيْءٍ مِنَ التَّفاصِيلِ الَّتِي ذَكَرْناها ما لَفْظُهُ: ويَشْهَدُ لِهَذا التَّفْصِيلِ الحَدِيثُ الَّذِي رَواهُ ابْنُ جَرِيرٍ في تَفْسِيرِهِ إنْ صَحَّ سَنَدُهُ ثُمَّ ذَكَرَهُ.
قَوْلُهُ: ﴿ويَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسادًا﴾ هو إمّا مُنْتَصِبٌ عَلى المَصْدَرِيَّةِ، أوْ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ، أوْ عَلى الحالِ بِالتَّأْوِيلِ؛ أيْ: مُفْسِدِينَ، قَوْلُهُ: ( أوْ يُصَلَّبُوا ) ظاهِرُهُ أنَّهم يُصَلَّبُونَ أحْياءً حَتّى يَمُوتُوا؛ لِأنَّهُ أحَدُ الأنْواعِ الَّتِي خَيَّرَ اللَّهُ بَيْنَها، وقالَ قَوْمٌ: الصَّلْبُ إنَّما يَكُونُ بَعْدَ القَتْلِ، ولا يَجُوزُ أنْ يُصْلَبَ قَبْلَ القَتْلِ فَيُحالُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الصَّلاةِ والأكْلِ والشُّرْبِ، ويُجابُ بِأنَّ هَذِهِ عُقُوبَةٌ شَرَعَها اللَّهُ سُبْحانَهُ في كِتابِهِ لِعِبادِهِ.
قَوْلُهُ: ﴿أوْ تُقَطَّعَ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهم مِن خِلافٍ﴾ ظاهِرُهُ قَطْعُ إحْدى اليَدَيْنِ وإحْدى الرِّجْلَيْنِ مِن خِلافٍ، سَواءٌ كانَتِ المَقْطُوعَةُ مِنَ اليَدَيْنِ هي اليُمْنى أوِ اليُسْرى، وكَذَلِكَ الرِّجْلانِ ولا يُعْتَبَرُ إلّا أنْ يَكُونَ القَطْعُ مِن خِلالِ إمّا يُمْنى اليَدَيْنِ مَعَ يُسْرى الرِّجْلَيْنِ أوْ يُسْرى اليَدَيْنِ مَعَ يُمْنى الرِّجْلَيْنِ، وقِيلَ: المُرادُ بِهَذا قَطْعُ اليَدِ اليُمْنى والرِّجْلِ اليُسْرى فَقَطْ.
قَوْلُهُ: ﴿أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ﴾ اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في مَعْناهُ، فَقالَ السُّدِّيُّ: هو أنْ يُطْلَبَ بِالخَيْلِ والرَّجُلِ حَتّى يُؤْخَذَ فَيُقامُ عَلَيْهِ الحَدُّ أوْ يَخْرُجَ مِن دارِ الإسْلامِ هَرَبًا.
وهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وأنَسٍ ومالِكٍ والحَسَنِ البَصْرِيِّ والسُّدِّيِّ والضَّحّاكِ وقَتادَةَ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ والرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ والزُّهْرِيِّ، حَكاهُ الرُّمّانِيُّ في كِتابِهِ عَنْهم، وحُكِيَ عَنِ الشّافِعِيِّ أنَّهم يُخْرَجُونَ مِن بَلَدٍ إلى بَلَدٍ ويُطْلَبُونَ لِتُقامَ عَلَيْهِمُ الحُدُودُ، وبِهِ قالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، ورُوِيَ عَنْ مالِكٍ أنَّهُ يُنْفى مِنَ البَلَدِ الَّذِي أحْدَثَ فِيهِ إلى غَيْرِهِ ويُحْبَسُ فِيهِ كالزّانِي، ورَجَّحَهُ ابْنُ جَرِيرٍ والقُرْطُبِيُّ، وقالَ الكُوفِيُّونَ: نَفْيُهم سِجْنُهم، فَيُنْفى مِن سِعَةِ الدُّنْيا إلى ضِيقِها، والظّاهِرُ مِنَ الآيَةِ أنَّهُ يُطْرَدُ مِنَ الأرْضِ الَّتِي وقَعَ مِنهُ فِيها ما وقَعَ مِن غَيْرِ سِجْنٍ ولا غَيْرِهِ، والنَّفْيُ قَدْ يَقَعُ بِمَعْنى (p-٣٧٠)الإهْلاكِ، ولَيْسَ هو مُرادًا هُنا.
قَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ لَهم خِزْيٌ في الدُّنْيا﴾ الإشارَةُ إلى ما سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنَ الأحْكامِ، والخِزْيُ: الذُّلُّ والفَضِيحَةُ، قَوْلُهُ: ﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا مِن قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ اسْتَثْنى اللَّهُ سُبْحانَهُ التّائِبِينَ قَبْلَ القُدْرَةِ عَلَيْهِمْ مِن عُمُومِ المُعاقِبِينَ بِالعُقُوباتِ السّابِقَةِ، والظّاهِرُ عَدَمُ الفَرْقِ بَيْنَ الدِّماءِ والأمْوالِ وبَيْنَ غَيْرِها مِنَ الذُّنُوبِ المُوجِبَةِ لِلْعُقُوباتِ المُعَيَّنَةِ المَحْدُودَةِ فَلا يُطالَبُ التّائِبُ قَبْلَ القُدْرَةِ بِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ، وعَلَيْهِ عَمَلُ الصَّحابَةِ.
وذَهَبَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ إلى أنَّهُ لا يَسْقُطُ القِصاصُ وسائِرُ حُقُوقِ الآدَمِيِّينَ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ القُدْرَةِ، والحَقُّ الأوَّلُ، وأمّا التَّوْبَةُ بَعْدَ القُدْرَةِ فَلا تَسْقُطُ بِها العُقُوبَةَ المَذْكُورَةَ في الآيَةِ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُ قَيْدِ ﴿قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ قالَ القُرْطُبِيُّ: وأجْمَعَ أهْلُ العِلْمِ عَلى أنَّ السُّلْطانَ ولِيُّ مَن حارَبَ فَإنْ قَتَلَ مُحارِبٌ أخا امْرِئٍ وأتاهُ في حالِ المُحارَبَةِ، فَلَيْسَ إلى طالِبِ الدَّمِ مِن أمْرِ المُحارَبَةِ شَيْءٌ، ولا يَجُوزُ عَفْوُ ولِيِّ الدَّمِ، وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الضَّحّاكِ في قَوْلِهِ: ﴿مِن أجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إسْرائِيلَ﴾ يَقُولُ: مِن أجْلِ ابْنِ آدَمَ الَّذِي قَتَلَ أخاهُ ظُلْمًا.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قِيلَ لَهُ في هَذِهِ الآيَةِ يَعْنِي قَوْلَهُ: ﴿فَكَأنَّما قَتَلَ النّاسَ جَمِيعًا﴾ أهِيَ لَنا كَما كانَتْ لِبَنِي إسْرائِيلَ ؟ فَقالَ: إي والَّذِي لا إلَهَ غَيْرُهُ. وأخْرَجَ أبُو داوُدَ والنَّسائِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ قالَ: نَزَلَتْ في المُشْرِكِينَ، فَمَن تابَ مِنهم قَبْلَ أنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، ولَيْسَتْ تُحْرِزُ هَذِهِ الآيَةُ الرَّجُلَ المُسْلِمَ مِنَ الحَدِّ إنْ قَتَلَ أوْ أفْسَدَ في الأرْضِ أوْ حارَبَ اللَّهَ ورَسُولَهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ والطَّبَرانِيُّ في الكَبِيرِ عَنْهُ في هَذِهِ الآيَةِ قالَ: كانَ قَوْمٌ مِن أهْلِ الكِتابِ بَيْنَهم وبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ عَهْدٌ ومِيثاقٌ، فَنَقَضُوا العَهْدَ وأفْسَدُوا في الأرْضِ، فَخَيَّرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ فِيهِمْ: إنْ شاءَ قَتَلَ وإنْ شاءَ صَلَبَ وإنْ شاءَ أنْ يَقْطَعَ أيْدِيَهم وأرْجُلَهم مِن خِلافٍ، وأمّا النَّفْيُ فَهو الضَّرْبُ في الأرْضِ، فَإنْ جاءَ تائِبًا فَدَخَلَ في الإسْلامِ قُبِلَ مِنهُ، ولَمْ يُؤْخَذْ بِما سَلَفَ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أبِي وقّاصٍ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في الحَرُورِيَّةِ.
وأخْرَجَ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُما، «عَنْ أنَسٍ أنَّ نَفَرًا مِن عُكْلٍ قَدِمُوا عَلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ فَأسْلَمُوا واجْتَوَوُا المَدِينَةَ، فَأمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ أنْ يَأْتُوا إبِلَ الصَّدَقَةِ، فَيَشْرَبُوا مِن أبْوالِها وألْبانِها، فَقَتَلُوا راعِيَها واسْتاقُوها، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ في طَلَبِهِمْ قافَةً، فَأُتِيَ بِهِمْ فَقَطَّعَ أيْدِيَهم وأرْجُلَهم وسَمَلَ أعْيُنَهم ولِمْ يَحْسِمْهم وتَرَكَهم حَتّى ماتُوا، فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿إنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ﴾ الآيَةَ»، وفي مُسْلِمٍ عَنْ أنَسٍ أنَّهُ قالَ: إنَّما سَمَلَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ أعْيُنَ أُولَئِكَ؛ لِأنَّهم سَمَلُوا أعْيُنَ الرُّعاةِ.
وأخْرَجَ الشّافِعِيُّ في الأُمِّ وعَبْدُ الرَّزّاقِ والفِرْيابِيُّ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في الآيَةِ قالَ: إذا خَرَجَ المُحارِبُ فَأخَذَ المالَ ولَمْ يَقْتُلْ قُطِعَ مِن خِلافٍ، وإذا خَرَجَ فَقَتَلَ ولَمْ يَأْخُذِ المالَ قُتِلَ، وإذا خَرَجَ وأخَذَ المالَ وقَتَلَ قُتِلَ وصُلِبَ، وإذا خَرَجَ فَأخافَ السَّبِيلَ ولَمْ يَأْخُذِ المالَ ولَمْ يَقْتُلْ نُفِيَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ في الآيَةِ قالَ: مَن شَهَرَ السِّلاحَ في قُبَّةِ الإسْلامِ وأفْسَدَ السَّبِيلَ فَظَهَرَ عَلَيْهِ وقَدَرَ، فَإمامُ المُسْلِمِينَ مُخَيَّرٌ فِيهِ: إنْ شاءَ قَتَلَهُ، وإنْ شاءَ صَلَبَهُ، وإنْ شاءَ قَطَعَ يَدَهُ ورِجْلَهُ، قالَ: ﴿أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ﴾ يَهْرُبُوا ويَخْرُجُوا مِن دارِ الإسْلامِ إلى دارِ الحَرْبِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قالَ: نَفْيُهُ أنْ يُطْلَبَ. وأخْرَجَ أيْضًا عَنْ أنَسٍ نَحْوَهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ أبِي الدُّنْيا وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قالَ: كانَ حارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ التَّيْمِيُّ مِن أهْلِ البَصْرَةِ قَدْ أفْسَدَ في الأرْضِ وحارَبَ، فَكَلَّمَ رِجالًا مِن قُرَيْشٍ أنْ يَسْتَأْمِنُوا لَهُ عَلِيًّا فَأبَوْا فَأتى سَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ الهَمْدانِيُّ، فَأتى عَلِيًّا فَقالَ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ ما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسادًا ؟ قالَ: ﴿أنْ يُقَتَّلُوا أوْ يُصَلَّبُوا أوْ تُقَطَّعَ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهم مِن خِلافٍ أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿إلّا الَّذِينَ تابُوا مِن قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ فَقالَ سَعِيدٌ: وإنْ كانَ حارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ، قالَ: وإنْ كانَ حارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ، قالَ: هَذا حارِثَةُ بْنُ بَدْرٍ، قَدْ جاءَ تائِبًا فَهو آمِنٌ، قالَ: نَعَمْ، فَجاءَ بِهِ إلَيْهِ فَبايَعَهُ، وقَبِلَ ذَلِكَ مِنهُ وكَتَبَ لَهُ أمانًا.
{"ayahs_start":32,"ayahs":["مِنۡ أَجۡلِ ذَ ٰلِكَ كَتَبۡنَا عَلَىٰ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفۡسَۢا بِغَیۡرِ نَفۡسٍ أَوۡ فَسَادࣲ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِیعࣰا وَمَنۡ أَحۡیَاهَا فَكَأَنَّمَاۤ أَحۡیَا ٱلنَّاسَ جَمِیعࣰاۚ وَلَقَدۡ جَاۤءَتۡهُمۡ رُسُلُنَا بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِیرࣰا مِّنۡهُم بَعۡدَ ذَ ٰلِكَ فِی ٱلۡأَرۡضِ لَمُسۡرِفُونَ","إِنَّمَا جَزَ ٰۤؤُا۟ ٱلَّذِینَ یُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَیَسۡعَوۡنَ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن یُقَتَّلُوۤا۟ أَوۡ یُصَلَّبُوۤا۟ أَوۡ تُقَطَّعَ أَیۡدِیهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَـٰفٍ أَوۡ یُنفَوۡا۟ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَ ٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡیࣱ فِی ٱلدُّنۡیَاۖ وَلَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِیمٌ","إِلَّا ٱلَّذِینَ تَابُوا۟ مِن قَبۡلِ أَن تَقۡدِرُوا۟ عَلَیۡهِمۡۖ فَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"],"ayah":"إِنَّمَا جَزَ ٰۤؤُا۟ ٱلَّذِینَ یُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَیَسۡعَوۡنَ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن یُقَتَّلُوۤا۟ أَوۡ یُصَلَّبُوۤا۟ أَوۡ تُقَطَّعَ أَیۡدِیهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَـٰفٍ أَوۡ یُنفَوۡا۟ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَ ٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡیࣱ فِی ٱلدُّنۡیَاۖ وَلَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِیمٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق