الباحث القرآني
قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -:
﴿إنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسادًا أنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبُوا أو تُقَطَّعَ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهم مِن خِلافٍ أو يُنْفَوْا مِن الأرْضِ ذَلِكَ لَهم خِزْيٌ في الدُنْيا ولَهم في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ ﴿إلا الَّذِينَ تابُوا مِن قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فاعْلَمُوا أنْ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
اِقْتَضى المَعْنى في هَذِهِ الآيَةِ كَوْنَ "إنَّما" حاصِرَةً الحَصْرَ التامَّ؛ واخْتَلَفَ الناسُ في سَبَبِ هَذِهِ الآيَةِ؛ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ؛ والضَحّاكِ أنَّها نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْمٍ مِن أهْلِ الكِتابِ؛ كانَ بَيْنَهم وبَيْنَ رَسُولِ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - عَهْدٌ؛ فَنَقَضُوا العَهْدَ؛ وقَطَعُوا السَبِيلَ؛ وأفْسَدُوا في الأرْضِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ويُشْبِهُ أنْ تَكُونَ نازِلَةَ بَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ هَمُّوا بِقَتْلِ النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ وقالَ عِكْرِمَةُ ؛ والحَسَنُ: نَزَلَتِ الآيَةُ في المُشْرِكِينَ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وفي هَذا ضَعْفٌ؛ لِأنَّ تَوْبَةَ المُشْرِكِ نافِعَةٌ بَعْدَ القُدْرَةِ عَلَيْهِ؛ وعَلى كُلِّ حالٍ؛ وقالَ أنَسُ بْنُ مالِكٍ ؛ وجَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ ؛ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ؛ وعُرْوَةُ بْنُ الزُبَيْرِ ؛ وعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ ؛ وغَيْرُهُمْ: إنَّ الآيَةَ «نَزَلَتْ في قَوْمٍ مِن عُكْلٍ وعُرَيْنَةَ؛ قَدِمُوا عَلى (p-١٥٤)النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ فَأسْلَمُوا؛ ثُمَّ إنَّهم مَرِضُوا؛ واسْتَوْخَمُوا المَدِينَةَ؛ فَأمَرَهُمُ النَبِيُّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - أنْ يَكُونُوا في لِقاحِ الصَدَقَةِ؛ وقالَ: "اِشْرَبُوا مِن ألْبانِها؛ وأبْوالِها"؛ فَخَرَجُوا فِيها؛ فَلَمّا صَحَوْا قَتَلُوا الرِعاءَ؛ واسْتاقُوا الإبِلَ؛ فَجاءَ الصَرِيخُ فَأخْبَرَ بِذَلِكَ النَبِيَّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -. فَأمَرَ فَنُودِيَ في الناسِ: يا خَيْلَ اللهِ ارْكَبِي؛ فَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - عَلى أثَرِهِمْ؛ فَأُخِذُوا؛ وقالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ: فَبَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - في نَفَرٍ مِنَ المُسْلِمِينَ؛ حَتّى إذا أدْرَكْناهُمْ؛ وقَدْ أشْرَفُوا عَلى دِيارِهِمْ؛ فَجِئْنا بِهِمُ النَبِيَّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -؛ قالَ جَمِيعُ الرُواةِ: فَقَطَعَ رَسُولُ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - أيْدِيَهُمْ؛ وأرْجُلَهم مِن خِلافٍ؛ وسَمَّرَ أعْيُنَهم - ويُرْوى: وسَمَلَ -؛ وتَرَكَهم في جانِبِ الحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ؛ فَلا يُسْقَوْنَ؛ وفي حَدِيثِ جَرِيرٍ: فَكانُوا يَقُولُونَ: اَلْماءَ؛ ويَقُولُ رَسُولُ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: "اَلنّارَ".»
وفِي بَعْضِ الرِواياتِ عن أنَسٍ أنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - أحْرَقَهم بِالنارِ بَعْدَما قَتَلَهُمْ؛ قالَ أبُو قُلابَةَ: هَؤُلاءِ كَفَرُوا؛ وقَتَلُوا؛ وأخَذُوا الأمْوالَ؛ وحارَبُوا اللهَ ورَسُولَهُ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
وحَكى الطَبَرِيُّ عن بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَسَخَتْ فِعْلَ النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - بِالعُرَنِيِّينَ؛ ووَقَفَتِ الأمْرَ عَلى هَذِهِ الحُدُودِ؛ وقالَ بَعْضُهُمْ: وجَعَلَها اللهُ عِتابًا لِنَبِيِّهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - عَلى سَمْلِ الأعْيُنِ؛ وحُكِيَ عن جَماعَةٍ مِن أهْلِ العِلْمِ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ لَيْسَتْ بِناسِخَةٍ لِذَلِكَ الفِعْلِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ وقَعَ في المُرْتَدِّينَ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: لا سِيَّما وفي بَعْضِ الطُرُقِ أنَّهم سَمَلُوا أعْيُنَ الرُعاةِ؛ قالُوا: وهَذِهِ الآيَةُ هي في المُحارِبِ المُؤْمِنِ؛ وحَكى الطَبَرِيُّ عَنِ السُدِّيِّ أنَّ النَبِيَّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - لَمْ يَسْمِلْ أعْيُنَ العُرَنِيِّينَ؛ وإنَّما أرادَ ذَلِكَ فَنَزَلَتِ الآيَةُ ناهِيَةً عن ذَلِكَ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهَذا قَوْلٌ ضَعِيفٌ تُخالِفُهُ الرِواياتُ المُتَظاهِرَةُ.
(p-١٥٥)وَلا خِلافَ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ أنَّ حُكْمَ هَذِهِ الآيَةِ مُتَرَتِّبٌ في المُحارِبِينَ مِن أهْلِ الإسْلامِ؛ واخْتَلَفُوا فِيمَن هو الَّذِي يَسْتَحِقُّ اسْمَ الحِرابَةِ؛ فَقالَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: اَلْمُحارِبُ عِنْدَنا مَن حَمَلَ عَلى الناسِ السِلاحَ في مِصْرٍ؛ أو بَرِّيَّةٍ؛ فَكابَرَهم عن أنْفُسِهِمْ؛ وأمْوالِهِمْ؛ دُونَ نائِرَةٍ ولا دَخْلٍ ولا عَداوَةٍ؛ وقالَ هَذا القَوْلَ جَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ؛ وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ؛ وجَماعَةٌ مِن أهْلِ العِلْمِ: لا يَكُونُ المُحارِبُ إلّا القاطِعَ عَلى الناسِ في خارِجِ الأمْصارِ؛ فَأمّا في المِصْرِ فَلا.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: يُرِيدُونَ أنَّ القاطِعَ في المِصْرِ يَلْزَمُهُ حَدُّ ما اجْتَرَحَ مِن قَتْلٍ؛ أو سَرِقَةٍ؛ أو غَصْبٍ؛ ونَحْوِ ذَلِكَ؛ والحِرابَةُ رُتَبٌ؛ أدْناها إخافَةُ الطَرِيقِ فَقَطْ؛ لَكِنَّها تُوجِبُ صِفَةَ الحِرابَةِ؛ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أنْ يَأْخُذَ المالَ مَعَ الإخافَةِ؛ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أنْ يَقْتُلَ مَعَ الإخافَةِ؛ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أنْ يَجْمَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ؛ فَقالَ مالِكٌ - رَحِمَهُ اللهُ - وجَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ: في أيِّ رُتْبَةٍ كانَ المُحارِبُ مِن هَذِهِ الرُتَبِ فالإمامُ مُخَيَّرٌ فِيهِ؛ في أنْ يُعاقِبَهُ بِما رَأى مِن هَذِهِ العُقُوباتِ؛ واسْتُحْسِنَ أنْ يَأْخُذَ في الَّذِي لَمْ يَقْتُلْ بِأيْسَرِ العُقُوباتِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: لا سِيَّما إنْ كانَتْ زَلَّةً؛ ولَمْ يَكُنْ صاحِبَ شُرُورٍ مَعْرُوفَةٍ؛ وأمّا إنْ قَتَلَ فَلا بُدَّ مِن قَتْلِهِ؛ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُما -؛ والحَسَنُ ؛ وأبُو مِجْلَزٍ؛ وقَتادَةُ ؛ وغَيْرُهم مِنَ العُلَماءِ: بَلْ لِكُلِّ رُتْبَةٍ مِنَ الحِرابَةِ رُتْبَةٌ مِنَ العِقابِ؛ فَمَن أخافَ الطُرُقَ فَقَطْ؛ فَعُقُوبَتُهُ النَفْيُ؛ ومَن أخَذَ المالَ ولَمْ يَقْتُلْ؛ فَعُقُوبَتُهُ القَطْعُ مِن خِلافٍ؛ ومَن قَتَلَ دُونَ أخْذٍ مالٍ؛ فَعُقُوبَتُهُ القَتْلُ؛ ومَن جَمَعَ الكُلَّ قُتِلَ؛ وصُلِبَ؛ وحُجَّةُ هَذا القَوْلِ أنَّ الحِرابَةَ لا تَخْرُجُ عَنِ الإيمانِ؛ ودَمُ المُؤْمِنِ حَرامٌ؛ إلّا بِإحْدى ثَلاثٍ: اِرْتِدادٍ؛ أو زِنًا بَعْدَ إحْصانٍ؛ أو قَتْلِ نَفْسٍ؛ فالمُحارِبُ إذا لَمْ يَقْتُلْ فَلا سَبِيلَ إلى قَتْلِهِ؛ وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ؛ والحَسَنِ أيْضًا؛ وسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ ؛ وغَيْرِهِمْ مِثْلَ قَوْلِ مالِكٍ: إنَّ الإمامَ مُخَيَّرٌ؛ ومِن حُجَّةِ هَذا القَوْلِ أنَّ ما كانَ في القُرْآنِ "أو.. أو"؛ فَإنَّهُ لِلتَّخْيِيرِ؛ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَفِدْيَةٌ مِن صِيامٍ (p-١٥٦)أو صَدَقَةٍ أو نُسُكٍ﴾ [البقرة: ١٩٦] ؛ وكَآيَةِ كَفّارَةِ اليَمِينِ؛ وآيَةِ جَزاءِ الصَيْدِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ورَجَّحَ الطَبَرِيُّ القَوْلَ الآخَرَ؛ وهو أحْوَطُ لِلْمُفْتِي؛ ولِدَمِ المُحارِبِ؛ وقَوْلُ مالِكٍ أسَدُّ لِلذَّرِيعَةِ؛ وأحْفَظُ لِلنّاسِ والطُرُقِ؛ والمُخِيفُ في حُكْمِ القاتِلِ؛ ومَعَ ذَلِكَ فَمالِكٌ يَرى فِيهِ الأخْذَ بِأيْسَرِ العُقُوباتِ اسْتِحْسانًا؛ وذَكَرَ الطَبَرِيُّ عن أنَسِ بْنِ مالِكٍ أنَّهُ قالَ: «سَألَ رَسُولُ اللهِ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَلامُ - عَنِ الحُكْمِ في المُحارِبِ؛ فَقالَ: "مَن أخافَ السَبِيلَ؛ وأخَذَ المالَ؛ فاقْطَعْ يَدَهُ لِلْأخْذِ؛ ورِجْلَهُ لِلْإخافَةِ؛ ومَن قَتَلَ فاقْتُلْهُ؛ ومَن جَمَعَ ذَلِكَ فاصْلُبْهُ".»
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وبَقِيَ النَفْيُ لِلْمُخِيفِ فَقَطْ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُحارِبُونَ اللهَ﴾ ؛ تَغْلِيظٌ؛ جَعَلَ ارْتِكابَ نَهْيِهِ مُحارَبَةً؛ وقِيلَ: اَلتَّقْدِيرُ: يُحارِبُونَ عِبادَ اللهِ؛ فَفي الكَلامِ حَذْفُ مُضافٍ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسادًا﴾ ؛ تَبْيِينٌ لِلْحِرابَةِ؛ أيْ: "وَيَسْعَوْنَ بِحِرابَتِهِمْ"؛ ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: "وَيَسْعَوْنَ فَسادًا مُنْضافًا إلى الحِرابَةِ"؛ والرابِطُ إلى هَذِهِ الحُدُودِ إنَّما هو الحِرابَةُ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبُوا أو تُقَطَّعَ﴾ ؛ بِالتَثْقِيلِ في هَذِهِ الأفْعالِ؛ لِلْمُبالَغَةِ والتَكْثِيرِ؛ والتَكْثِيرُ هُنا إنَّما هو مِن جِهَةِ عَدَدِ الَّذِينَ يُوقَعُ بِهِمْ؛ كالتَذْبِيحِ في بَنِي إسْرائِيلَ؛ في قِراءَةِ مَن ثَقَّلَ: "يُذَبِّحُونَ"؛ وقَرَأ الحَسَنُ؛ ومُجاهِدٌ ؛ وابْنُ مُحَيْصِنٍ: "يُقْتَلُوا"؛ و"يُصْلَبُوا"؛ و"تُقْطَعَ"؛ بِالتَخْفِيفِ في الأفْعالِ الثَلاثَةِ.
وأمّا قَتْلُ المُحارِبِ فَبِالسَيْفِ؛ ضَرْبَةَ العُنُقِ؛ وأمّا صَلْبُهُ فَجُمْهُورٌ مِنَ العُلَماءِ عَلى أنَّهُ يَصْلَبُ حَيًّا؛ ويُقْتَلُ بِالطَعْنِ عَلى الخَشَبَةِ؛ ورُوِيَ هَذا عن مالِكٍ ؛ وهو الأظْهَرُ مِنَ الآيَةِ؛ وهو الأنْكى في النَكالِ؛ وأمّا القَطْعُ فاليَدُ اليُمْنى مِنَ الرُسْغِ؛ والرِجْلُ الشِمالُ (p-١٥٧)مِنَ المَفْصِلِ.
ورُوِيَ عن عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُ - أنَّهُ كانَ يَقْطَعُ اليَدَ مِنَ الأصابِعِ؛ ويُبْقِي الكَفَّ؛ والرِجْلَ مِن نِصْفِ القَدَمِ؛ ويُبْقِي العَقِبَ.
واخْتَلَفَ العُلَماءُ في النَفْيِ؛ فَقالَ السُدِّيُّ: هو أنْ يُطْلَبَ أبَدًا بِالخَيْلِ والرَجِلِ حَتّى يُؤْخَذَ؛ فَيُقامَ عَلَيْهِ حَدُّ اللهِ ؛ ويُخْرَجَ مِن دارِ الإسْلامِ.
ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُما - أنَّهُ قالَ: نَفْيُهُ أنْ يُطْلَبَ؛ وقالَهُ أنَسُ بْنُ مالِكٍ ؛ ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ اللَيْثِ ؛ ومالِكِ بْنِ أنَسٍ ؛ غَيْرَ أنَّ مالِكًا قالَ: لا يَضْطَرُّ مُسْلِمٌ إلى دُخُولِ دارِ الشِرْكِ؛ وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: اَلنَّفْيُ مِن دارِ الإسْلامِ إلى دارِ الشِرْكِ؛ وقالَتْ طائِفَةٌ مِنَ العُلَماءِ - مِنهم عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ -: اَلنَّفْيُ في المُحارِبِينَ أنْ يُنْفَوْا مِن بَلَدٍ إلى غَيْرِهِ؛ مِمّا هو قاصٍ بَعِيدٌ؛ وقالَ الشافِعِيُّ: يَنْفِيهِ مِن عَمَلِهِ؛ وقالَ أبُو الزِنادِ: كانَ النَفْيُ قَدِيمًا إلى دَهْلَكَ؛ وباضِعَ؛ وهُما مِن أقْصى اليَمَنِ؛ وقالَ أبُو حَنِيفَةَ ؛ وأصْحابُهُ؛ وجَماعَةٌ: اَلنَّفْيُ في المُحارِبِينَ السِجْنُ؛ فَذَلِكَ إخْراجُهم مِنَ الأرْضِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: والظاهِرُ أنَّ الأرْضِ في هَذِهِ الآيَةِ هي أرْضُ النازِلَةِ؛ وقَدْ جُنِّبَ الناسُ قَدِيمًا الأرْضَ الَّتِي أصابُوا فِيها الذُنُوبَ؛ ومِنهُ حَدِيثُ الَّذِي ناءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَ الأرْضِ المُقَدَّسَةِ؛ ويَنْبَغِي لِلْإمامِ إنْ كانَ هَذا المُحارِبُ المَنفِيُّ مَخُوفَ الجانِبِ يُظَنُّ أنَّهُ يَعُودُ إلى حَرافَةٍ وإفْسادٍ أنْ يَسْجِنَهُ في البَلَدِ الَّذِي يُغَرَّبُ إلَيْهِ؛ وإنْ كانَ غَيْرَ مَخُوفِ الجانِبِ؛ تُرِكَ مُسْرَحًا؛ وهَذا هو صَرِيحُ مَذْهَبِ مالِكٍ: أنْ يُغَرَّبَ ويُسْجَنَ حَيْثُ يُغَرَّبُ؛ وهَذا هو الأغْلَبُ في أنَّهُ مَخُوفٌ؛ ورَجَّحَهُ الطَبَرِيُّ ؛ وهو الراجِحُ لِأنَّ نَفْيَهُ مِن أرْضِ النازِلَةِ أوِ الإسْلامِ هو نَصُّ الآيَةِ؛ وسَجْنُهُ بَعْدُ بِحَسَبِ الخَوْفِ مِنهُ؛ فَإذا تابَ وفَهِمَ حالَهُ سُرِّحَ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ لَهم خِزْيٌ﴾ ؛ إشارَةٌ إلى هَذِهِ الحُدُودِ الَّتِي تُوقِعُ بِهِمْ؛ وغَلَّظَ اللهُ الوَعِيدَ في ذَنْبِ الحِرابَةِ بِأنْ أخْبَرَ أنَّ لَهم في الآخِرَةِ عَذابًا عَظِيمًا؛ مَعَ العُقُوبَةِ في الدُنْيا؛ وهَذا خارِجٌ عَنِ المَعاصِي الَّتِي في حَدِيثِ عُبادَةَ بْنِ الصامِتِ ؛ في قَوْلِ النَبِيِّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: « "فَمَن أصابَ مِن ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فَهو لَهُ كَفّارَةٌ".»
(p-١٥٨)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الخِزْيُ لِمَن عُوقِبَ؛ وعَذابُ الآخِرَةِ لِمَن سَلِمَ في الدُنْيا؛ ويُجْرى هَذا الذَنْبُ مُجْرى غَيْرِهِ؛ وهَذا الوَعِيدُ مَشْرُوطُ الإنْفاذِ بِالمَشِيئَةِ؛ أما إنَّ الخَوْفَ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ الوَعِيدِ؛ وعِظَمِ الذَنْبِ؛ والخِزْيُ في هَذِهِ الآيَةِ: اَلْفَضِيحَةُ؛ والذُلُّ؛ والمَقْتُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا الَّذِينَ تابُوا مِن قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ ؛ اِسْتَثْنى - عَزَّ وجَلَّ - التائِبَ قَبْلَ أنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ؛ وأخْبَرَ بِسُقُوطِ حُقُوقِ اللهِ عنهُ؛ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاعْلَمُوا أنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ؛ واخْتَلَفَ الناسُ في مَعْنى الآيَةِ؛ فَقالَ قَتادَةُ ؛ والزُهْرِيُّ في كِتابِ "اَلْأشْرافُ": ذَلِكَ لِأهْلِ الشِرْكِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: مِن حَيْثُ رَأيا الوَعِيدَ بَعْدَ العِقابِ؛ وهَذا ضَعِيفٌ؛ والعُلَماءُ عَلى أنَّ الآيَةَ في المُؤْمِنِينَ؛ وأنَّ المُحارِبَ إذا تابَ قَبْلَ القُدْرَةِ عَلَيْهِ فَقَدْ سَقَطَ عنهُ حُكْمُ الحِرابَةِ؛ ولا نَظَرَ لِلْإمامِ فِيهِ؛ إلّا كَما يَنْظُرُ في سائِرِ المُسْلِمِينَ؛ فَإنْ طَلَبَهُ أحَدٌ بِدَمٍ نَظَرَ فِيهِ؛ وأقادَ مِنهُ؛ إذا كانَ الطالِبُ ولِيًّا؛ وكَذَلِكَ يُتْبَعُ بِما وُجِدَ عِنْدَهُ مِن مالِ الغَيْرِ؛ وبِقِيمَةِ ما اسْتَهْلَكَ مِنَ الأمْوالِ؛ هَذا قَوْلُ مالِكٍ ؛ والشافِعِيِّ ؛ وأصْحابِ الرَأْيِ؛ ذَكَرَهُ ابْنُ المُنْذِرِ ؛ وقالَ قَوْمٌ مِنَ الصَحابَةِ؛ والتابِعِينَ: إنَّهُ لا يُطْلَبُ مِنَ المالِ إلّا بِما وُجِدَ عِنْدَهُ بِعَيْنِهِ؛ وأمّا ما اسْتَهْلَكَ فَلا يُطْلَبُ بِهِ.
وذَكَرَ الطَبَرِيُّ ذَلِكَ عن مالِكٍ ؛ مِن رِوايَةِ الوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عنهُ؛ وهو الظاهِرُ مِن فِعْلِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُ - بِحارِثَةَ بْنِ بَدْرٍ الغُدّانِيِّ؛ فَإنَّهُ كانَ مُحارِبًا؛ ثُمَّ تابَ قَبْلَ القُدْرَةِ عَلَيْهِ؛ فَكَتَبَ لَهُ بِسُقُوطِ الأمْوالِ؛ والدَمِ؛ كِتابًا مَنشُورًا؛ وحَكى الطَبَرِيُّ عن عُرْوَةَ بْنِ الزُبَيْرِ أنَّهُ قالَ: لا تُقْبَلُ تَوْبَةُ المُحارِبِ؛ ولَوْ قُبِلَتْ لاجْتَرَؤُوا؛ وكانَ فَسادٌ كَثِيرٌ؛ ولَكِنْ لَوْ فَرَّ إلى العَدُوِّ؛ ثُمَّ جاءَ تائِبًا لَمْ أرَ عَلَيْهِ عُقُوبَةً.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: لا أدْرِي؛ هَلْ أرادَ ارْتَدَّ أمْ لا؛ وقالَ الأوزاعِيُّ نَحْوَهُ؛ إلّا أنَّهُ قالَ: إذا لَحِقَ بِدارِ الحَرْبِ؛ فارْتَدَّ عَنِ الإسْلامِ؛ أو بَقِيَ عَلَيْهِ؛ ثُمَّ جاءَ تائِبًا مِن قَبْلِ أنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ؛ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ.
(p-١٥٩)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: والصَحِيحُ مِن هَذا كُلِّهِ مَذْهَبُ الفُقَهاءِ الَّذِي قَرَّرْتُهُ آنِفًا؛ أنَّ حُكْمَ الحِرابَةِ يَسْقُطُ؛ ويَبْقى كَسائِرِ المُسْلِمِينَ؛ واخْتُلِفَ إذا كانَ المالُ أقَلَّ مِمّا يُقْطَعُ فِيهِ السارِقُ؛ فَقالَ مالِكٌ: ذَلِكَ كالكَثِيرِ؛ وقالَ الشافِعِيُّ وأصْحابُ الرَأْيِ: لا يُقْطَعُ مِنَ المُحارِبِينَ إلّا مَن أخَذَ ما يُقْطَعُ فِيهِ السارِقُ.
{"ayahs_start":33,"ayahs":["إِنَّمَا جَزَ ٰۤؤُا۟ ٱلَّذِینَ یُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَیَسۡعَوۡنَ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن یُقَتَّلُوۤا۟ أَوۡ یُصَلَّبُوۤا۟ أَوۡ تُقَطَّعَ أَیۡدِیهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَـٰفٍ أَوۡ یُنفَوۡا۟ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَ ٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡیࣱ فِی ٱلدُّنۡیَاۖ وَلَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِیمٌ","إِلَّا ٱلَّذِینَ تَابُوا۟ مِن قَبۡلِ أَن تَقۡدِرُوا۟ عَلَیۡهِمۡۖ فَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"],"ayah":"إِنَّمَا جَزَ ٰۤؤُا۟ ٱلَّذِینَ یُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَیَسۡعَوۡنَ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن یُقَتَّلُوۤا۟ أَوۡ یُصَلَّبُوۤا۟ أَوۡ تُقَطَّعَ أَیۡدِیهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَـٰفٍ أَوۡ یُنفَوۡا۟ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَ ٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡیࣱ فِی ٱلدُّنۡیَاۖ وَلَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِیمٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق