الباحث القرآني
ثم قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا﴾: (إنما) أداة حصر، والحصر يفيد إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما سواه، فإذا قلت: لا قائم إلا زيد، أثبت القيام لزيد ونفيته عما سواه، إذا قلت: إنما القائم زيد، أثبت القيام لزيد ونفيته عما سواه.
واعلم أن (إنما) يليها المحصور، يعني لا يليها إلا المحصور، كلما جاءت فإن الذي يليها هو الحّصور، إذا قلت: إنما القائم زيد، حصرت القيام في زيد، إنما زيد شجاع، حصرت زيدًا في الشجاعة لأنها أبرز أخلاقه.
﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾: ﴿يُحَارِبُونَ﴾ فعل يدل على المشاركة؛ لأن (فاعَل) تدل دائمًا على المشاركة، وقد لا تدل عليه، قول القائل: سافر زيد، هذه ما فيها مسافرة، يعني: سفر من جانبين، لكن (قاتل) و(شاتم) و(ضارب) وما أشبهها كلها تدل على المشاركة، فالغالب في هذا الفعل أنه دال على المشاركة، فمعنى ﴿يُحَارِبُونَ اللَّهَ﴾ أي يتصدون لحرب الله عز وجل، وبماذا؟ هل المعنى أنهم يحملون السلاح على الله؟ كلا، المعنى أنهم يضادون الله في أمره، فيفعلون ما نهى عنه، ويتركون ما أمر به على وجه الاستكبار والعناد، وهذه محاربة، يحاربون الله ويحاربون الرسول، يحاربون الرسول قد نقول: إنه يمكن أن تشمل الحرب بالسلاح والحرب بالرفض لما دعا إليه، لكن بالنسبة لله عز وجل لا تشمل الحرب بالسلاح؛ لأن هذا غير واقع ولا يمكن أن يقع.
﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا﴾ أي يفسدون في الأرض على وجه الإسراع؛ لقوله: ﴿وَيَسْعَوْنَ﴾، والسعي بمعنى الإسراع، أي أنهم يسرعون إلى الفساد في الأرض، وذلك بزعزعة الأمن والتسلط على الناس وأخذ الأموال وقتل النفوس، ولهذا قال العلماء: إن هذه الآية نزلت في المحاربين الذين هم قطاع الطريق. قطاع الطريق قوم يعرضون للناس في الصحراء على الطرقات، فإذا مر بهم أحد قتلوه وأخذوا ماله أو أخذوا ماله وتركوه أو أخافوه وروعوه، المهم أن جناياتهم تختلف، لكنهم يعرضون للناس ويغصبونهم المال وربما يقتلونهم، وهذا يوجد كثيرًا في البلاد التي تزعزع أمنها.
ومن ذلك أيضًا، من الإفساد في الأرض: السطو على البيوت الآمنة وقتل أهلها أو السرقة منها، أو ما أشبه ذلك مما يكون فيه تحزبات واجتماعات وفرق تؤذي الناس، بخلاف السارق الواحد، هذا له حكم خاص، لكن هؤلاء الذين يتحزبون ويكونون فئات وجماعات مروعة تسطو على الناس في البنيان أو في الصحراء.
﴿أَنْ يُقَتَّلُوا﴾ هذه ﴿أَنْ﴾ وما دخلت عليها خبر أيش؟ خبر ﴿جَزَاءُ﴾، أي جزاءهم التقتيل، وهنا قال: ﴿أَنْ يُقَتَّلُوا﴾ بالتشديد، ولم يقل: أن يقتَلوا، كأنه -والله أعلم- إشارة إلى شناعة قتلهم وإلى تعددهم أيضًا؛ لأنه إذا تعدد المحل أو تعدد الفعل صح أن تأتي الصيغة بما يدل على الكثرة، وهنا إذا قلنا: المراد ﴿يُقَتَّلُوا﴾ إذا كانوا جماعة كثيرة صار هذا لتعدد أيش؟ المحل، يعني: يقتل زيد وعمرو وبكر وخالد، إلى آخره، وإذا قلنا: لشناعة القتل معناه أننا نقتله قتلًا ذريعًا ينزجر به غيره، هذه واحدة.
﴿أَوْ يُصَلَّبُوا﴾ يعني يصلبون، وهل المراد الصلب بعد القتل فيكون جمعًا بين الأمرين؟ أو هو صلب فقط دون قتل؟ ظاهر الآية الكريمة الثاني؛ أن يصلب حتى يفتضح بجنايته ثم بعد ذلك ينظر ولي الأمر فيه بما يراه مناسبًا، لكن المعروف أن الصلب يكون بعد القتل.
﴿أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ﴾ تقطع الأيدي والأرجل من خلاف، فسرها العلماء بأن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، يكون القطع في اليد من مفصل الكف من الذراع ويكون القطع في الرجل من مفصل القدم من العقب؛ لأن الرجل لها قدم ولها عقب، العقب الذي يسمى العرقوب، العرقوب لا يقطع إنما يقطع من مفصل القدم من العرقوب.
﴿أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾ هذا الرابع، ﴿يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾ أي يطردوا منها ويبعدوا عنها. وأل في ﴿الْأَرْضِ﴾ للعهد، أي الأرض التي سعوا فيها فسادًا حتى يكون ذلك أبعد لهم عن مواطن الفساد وأنكأ لهم.
قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ﴾ أي ما ذكر من هذه العقوبة الصارمة ﴿لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا﴾ يعني: ذل وعار ﴿وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٣٣) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾. ﴿لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ فيُجْمَع لهم بين عقوبة الدنيا وعقوبة الآخرة، وذلك لعظم جرمهم وشناعته وبشاعته وعدوانهم على عباد الله.
ثم قال عز وجل: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾: ﴿إِلَّا الَّذِينَ﴾ مستثنى مما سبق، وقوله: ﴿تَابُوا﴾ أي رجعوا إلى الله وكفوا عن سعيهم في الأرض فسادًا وعن محاربة الله ورسوله، وهنا لا بد من أن يمضي مدة نعرف بها صحة توبتهم؛ بأن يضعوا السلاح ويكفوا عن الإيذاء، وأن تظهر عليهم علامة التوبة والصدق.
وقوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ يعني تابوا من ذات أنفسهم فوضعوا السلاح وكفوا عن قطع الطريق.
قال الله تعالى: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي فاغفروا لهم وارحموهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى بمغفرته ورحمته يرفع عنهم العقوبة.
* في هذه الآية الكريمة: بيان عقوبة المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادًا، وقلنا: إن المفسرين قالوا: إنه يراد بذلك من؟ قُطَّاع الطريق الذين يعرضون للناس بالسلاح في الصحراء أو في البنيان.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: شدة محاربة الله ورسوله، وأن الإنسان إذا حارب الله ورسوله فإنه يُخشى عليه، وذلك لعظم العقوبة؛ فإن عظم العقوبة يدل على عظم الجريمة. ومن المحاربين لله ورسوله أَكَلة الربا، كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [البقرة ٢٧٨- ٢٧٩].
* ومن فوائد الآية الكريمة: عظم محاربة الرسول عليه الصلاة والسلام، سواء كان بالسلاح الحسي أو بالسلاح المعنوي، وهو رد دعوته والاستكبار عنه.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله تعالى يريد من عباده أن تطهر الأرض من الفساد، ولذلك عاقب الذين يسعون في الأرض فسادًا بهذه العقوبة العظيمة، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف ٥٦] قال أهل العلم: الفساد في الأرض بعد إصلاحها يعني المعاصي؛ لقوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ [الروم ٤١]، ولكن كما قلنا في الآية التي قبلها: من الفساد في الأرض ما لا يؤدي إلى هذه العقوبة على حسب النصوص.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن عقوبة هؤلاء متنوعة: قتل، صلب، تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، الرابع نفي من الأرض. و(أو) في هذه الآية هل هي للتنويع أو للتخيير؟ في هذا قولان للعلماء؛ منهم من قال: إنها للتخيير وإن للإمام أن يقتل ويصلب، وله أن يعدل إلى تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، وله أن يعدل إلى النفي في الأرض، لكن يجب عليه أن ينظر ما هو أيش؟ ما هو الأصلح؛ لأن كل من خير لمصلحة غيره وجب عليه اتباع الأصلح، وكل من خير لمصلحة نفسه والتيسير عليه فله أن يختار الأيسر، انتبهوا! فعندنا الآن تخيير مصلحة وتخيير تيسير، من خير لمصلحة الغير فهذا أيش؟ تخيير مصلحة، فولي اليتيم مثلًا إذا قيل له: لك أن تبيع ملكه أو تشتري له ملكًا أو ما أشبه ذلك، فهذا التخيير يعتبر تخيير مصلحة لا تشهٍّ وتيسير.
وقوله تعالى في اليمين: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ [المائدة ٨٩] هذا تخيير تيسير وتشهٍّ.
فمن العلماء من قال: إن (أو) هنا للتخيير، وإن الإمام مخير بين هذه العقوبات الأربع، ولكن يجب عليه أن يفعل الأصلح، فإذا كان الأصلح أن يقتلوا أو يصلبوا لأن ذلك أعظم هيبة في قلوب المجرمين؛ وجب عليه أن يقتل ويصلب، وإذا كان المجرمون يرتدعون بدون ذلك فإنه لا يعدل إلى الأعلى في العقوبة؛ لأن هذا كدفع الصائل.
ومنهم من قال: إن (أو) للتنويع وليست للتخيير، وإن هذه العقوبات تختلف بحسب الجرائم، ووزعوها كما يلي: قالوا: من قتل وأخذ المال فإنه يقتل ويصلب، إذا جمع بين الأمرين: قتل الناس وأخذ أموالهم فإنه يقتل ويصلب؛ لأنه فعل جريمتين، فضوعفت عليه العقوبة، ومن قتل ولم يأخذ مالًا فإنه يقتل ولا يصلب، ومن أخذ مالًا ولم يقتل انتقل به إلى العقوبة الثانية، هي الثالثة حسب سياق الآية لكنها الثانية حسب ترتيب العلماء، وهي أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، حتى وإن سرقوا -عند بعض العلماء- وإن سرقوا ما لا يبلغ النصاب، أي نصاب السرقة، مثل أن يكون مع الرجل أقل من نصاب السرقة وخرج عليه هؤلاء القطاع ومعهم السلاح وقالوا: أعطنا ما معك، فأخذوه منه قهرًا وهو لا يبلغ ربع دينار، فإنه تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
وقال بعض العلماء: إنها لا تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إلا إذا أخذوا ما يقطع بمثله السارق، وهو ربع دينار.
بقي علينا النفي من الأرض، النفي من الأرض أن الإمام ينفيه من بقعته التي هو فيها إلى أرض أخرى؛ لأنه إذا تغير عليه المكان والجو ربما يستقيم ويتوب، وقيل: معنى النفي: النفي من الأرض أن يحبس حتى لا يتجول في الأرض التي كان يتجول فيها؛ لأنه إذا حبس في بيت أو في حجرة صدق عليه أنه نفي أيش؟ من الأرض التي كان بالأمس يسير فيها في الهواء الطلق لا يخاف أحدًا.
والصحيح أن المراد بالنفي من الأرض طرده من الأرض، إلا إذا كنا نخشى إن طردناه من أرضه أن يرتكب الجريمة في الأرض الأخرى، فحينئذ ليس له إلا أيش؟ إلا الحبس، ولكن هذا قال العلماء الذين يجعلون (أو) للتنويع، قالوا: هذا فيمن أخاف الطريق ولم يأخذ المال ولم يقتل النفس؛ لأننا إذا نفيناه كفينا الناس شره، وإذا حبسناه على القول الثاني كفينا الناس شره.
أي القولين أولى؟ الثاني أضبط؛ لأن الخيانة مأمونة فيه، والأول أنسب؛ لأن المقصود من الحدود التقويم، تقويم الناس، فإذا كانوا يمكن أن يقوّموا بدون القتل والصلب قُوِّموا، لكن هذا لا تؤمن فيه الخيانة، خيانة من؟ خيانة الإمام، ولي الأمر، فيقول: هذا يستحق القتل والصلب، وتأتيه القضية نفسها في وقت آخر فيقول: هذا لا يستحق القتل والصلب؛ لأن الثاني شريف والأول وضيع، فمن قال بالتحديد وأن هذا لا بد منه بحسب الجريمة فقوله أقرب إلى الصواب من جهة الضبط وأنه لا يمكن أن يتعدى ما حد له، ومن قال بأن (أو) للتخيير وأن الإمام مخير فقوله أولى من حيث إن الحدود أيش؟ لتقويم الخلق، فإذا أمكن التقويم بما هو أقل وجب الاقتصار عليه.
فإن قال قائل: هل وقع مثل هذا في عهد الرسول؟
فالجواب: نعم وقع، قدم أناس من جهينة أو عرينة أو عكل أو من هؤلاء وهؤلاء، قدموا المدينة فاستوخموها وأصيبوا بشيء من حماها، فأمرهم النبي ﷺ أن يلحقوا بإبل الصدقة ويشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا فشربوا من أبوال الإبل وألبانها وزالت عنهم الحمى وصحوا، فبدلوا نعمة الرسول عليه الصلاة والسلام كفرًا، سملوا عيني الراعي، وسملها أن يحمى حديدة مثل المخيط وتكحل بها العين، والعياذ بالله، وهذا تعذيب شنيع، نسأل الله العافية، ثم قتلوا الراعي واستاقوا الإبل، فأرسل النبي ﷺ في إثرهم وجيء بهم بعد أن ارتفع النهار، فأمر بهم ﷺ أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وأن تسمل أعينهم بالمسامير؛ لأنهم فعلوا ذلك في الراعي، والقصاص قصاص واجب، وألقاهم في الحرة يستغيثون ولا يغاثون، حتى إن الواحد منهم يأكل الثرى من العطش، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام تركهم ولم يحسمهم، يعني ما حسم الدماء حتى لا يحصل النزيف، تركوا يرفسون بدمائهم ويستغيثون ولا يغاثون؛ لأن الرحمة تقتضي هكذا، الرحمة بمن؟ بالناس عمومًا، تقتضي هكذا أن نعامل المجرم بما يمنع الإجرام.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن قطاع الطريق يجمع لهم بين العقوبة في الدنيا والآخرة، من أين تؤخذ؟
* طالب: ﴿ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
* الشيخ: ﴿ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ مع أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن من أصيب بشيء من القاذورات، يعني القبائح، وحُد عليها، فإن الحد يكون كفارة، يكون كفارة لذلك الذنب[[متفق عليه؛ البخاري (٣٨٩٢)، ومسلم (١٧٠٩ / ٤١) من حديث عبادة بن الصامت.]]، لكن لعظم جرم هؤلاء لم يكن الحد كفارة لهم، بل كان لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم.
ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات عذاب الآخرة؛ لقوله: ﴿وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾. وهل يؤخذ منها أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا؟ ربما يؤخذ من قوله: ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، ولهذا قال النبي صلى الله عليه على آله وسلم في المتلاعنين؛ قال: «إِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ»[[أخرجه مسلم (١٤٩٣ / ٤) من حديث عبد الله بن عمر.]].
ثم قال الله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾.
* يستفاد منها: أن هؤلاء المجرمين مع عظم جرمهم إذا تابوا قبل القدرة سقط عنهم الحد، ويؤخذ سقوط الحد من قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، يعني فإذا علمتم ذلك فاغفروا لهم. وهل هذا على إطلاقه؟ بمعنى أنه يعفى عنهم حتى فيما يتعلق بحقوق الآدميين من نفس أو جرح أو عضو أو مال، أو هو خاص بحقوق الله؟ الثاني هو المتعين؛ لأن حقوق الآدميين لا بد من وفائها، وعلى هذا فإذا كان هؤلاء الذين تابوا ووضعوا السلاح وظهر صدقهم قد قتلوا أحدًا هل نقتلهم أو لا؟
الجواب: إذا طلب أولياء المقتول أن يقتلوا قتلوا؛ لأن حق الآدمي لا يسقط، لكن لو لم يتوبوا وأتينا بهم ثم قال أولياء المقتولين: نحن قد عفونا هل يسقط؟
لا؛ لأنه حد، فالقتل حتم إذا كانوا لم يتوبوا؛ لأنه حد، أما إذا تابوا انتقل الحد إلى حق آدمي، إذا عفوا فلا بأس.
وهل يلحق بذلك سائر الحدود؛ كحد الزنا والسرقة وما أشبه ذلك؟
الجواب: نعم يلحق به؛ لأن التوبة إذا أسقطت هذا الحد العظيم في الجرم العظيم؛ فما دونه من باب أولى، فالسارق مثلًا إذا تاب إلى الله وأتى بالمال المسروق ورده إلى صاحبه فإننا لا نقطع يده؛ لأنه تاب إلى الله قبل أن نقدر عليه.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنهم إذا تابوا بعد القدرة فإنها لا تقبل توبته، واضح؟ لا تقبل توبته.
وهنا يرد علينا إشكال، وهو ما جرى في قصة أسامة بن زيد رضي الله عنه حين لحق المشرك، فلما أدركه قال: لا إله إلا الله، فقتله أسامة، والذي يظهر أن هذا المشرك قال: لا إله إلا الله تعوذًا من القتل، فلما جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وأخبره الخبر قال: «قَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٢٦٩)، ومسلم (٩٦ / ١٥٩) من حديث أسامة بن زيد.]]. قال: نعم يا رسول الله قتلته، لكنه قالها تعوذًا، خاف من القتل؛ لأنه لو كان صادقًا لأسلم قبل أن يهدد بقتل، فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يردد: «أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟ فَمَاذَا تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟»[[أخرجه مسلم (٩٧ / ١٥٩) من حديث جندب بن عبد الله.]]. حتى تمنى أسامة أنه لم يكن أسلم من قبل؛ لأنه إذا فعل هذا وهو مشرك ثم تاب تاب الله عليه ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال ٣٨]، فكيف نقول في هؤلاء إذا تابوا: إنه يسقط عنهم الحد؟
* طالب: لا يسقط.
* الشيخ: نعم، إذا تابوا بعد القدرة فإنه لا يسقط، نقول: لأن هذا حد وليس قتلًا للردة، والحد قد فعلوا ما يوجبه، والردة الذي يوجبها هو الشرك، وقد زال بالإسلام، فلا يرد على هذا لا في المحاربين ولا في غيرهم من ذوي الحدود.
* طالب: شيخ، أحسن الله إليك، بعض البلاد التي يتم فيها الشغب يقوم النظام والحاكم بإنشاء بعض القوانين حتى يرجعوا أولئك المحاربون؛ بأن يكون مثلا قانون العفو العام؛ أن يكون حتى من قتلوا وسرقوا ونهبوا كل ما يفعلونه فإنه يعفى عنهم إذا وضعوا السلاح، فهل (...) الحد أن يكف شرهم؟
* الشيخ: هذا إنما نجوزه إذا دعت الحاجة إليه؛ بأن كنا لا نقدر عليهم فيكون جائزًا.
* طالب: ذكرنا يا شيخ في أول القصة أن من الفوائد أن كل الميت عورة، فإذا قال قائل: إنما يلزمكم من هذا أن تقولوا: إن المغسل لا يرى شيئا من الميت (...)؟
* الشيخ: هذه حاجة، ولذلك نقول: إن الأفضل ألا يمس سائره إلا بخرقة، لكن في العورة المغلظة لا بد أن تكون مستورة.
* الطالب: الرؤية؟
* الشيخ: الرؤية كما قلت حاجة، كما قلنا، مع أن أنا قلت: العورة بالنسبة إلى وجوب تعميم الكفن له، أفهمت؟ ليس بالنسبة للنظر، ولهذا قبّل أبو بكر النبي ﷺ بعد موته[[أخرجه البخاري (١٢٤١) من حديث عائشة. ]]، مع أنه لا حاجة لذلك، إنما هو شوقًا إليه.
* طالب: (...) الإنسان تاب قبل القدرة عليه (...).
* الشيخ: إذا تاب قبل القدرة عليه، كل الحدود، فإننا نرفع عنه الحد.
* طالب: شيخ، أحسن الله إليك، لما كنا نتعلم بعض اللغات غير العربية أنكر علينا بعض الإخوان وقال: الكفاية قائمة وأنتم على ثغر أكبر، الكفاية قائمة هذا الأمر يعني سده هذا الثغر مسدود، فما هو توجيهكم لطالب العلم هل يقتطع من وقته جزءًا يتعلم فيه باقي اللغات هذه؟
* الشيخ: هذا إذا كان الإنسان داعية يعرف من نفسه أنه ذو دعوة قوية وعنده بيان، عنده إقناع، أما أي واحد يقول: ربما أكون، فهذه لا يشتغل بها عما هو أهم، لكن مع ذلك أنا أتمنى أني أعرف اللغة الانجليزية لأنها فات الأوان.
* الطالب: معنا من الإخوان ما شاء الله من يجيد ست لغات وسبعا.
* الشيخ: أنت؟
* الطالب: معنا موجود هنا في الحلقة.
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٣٦) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ [المائدة ٣٥ - ٣٧].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾، هذه الآية لم نمر على فوائدها، أليس كذلك؟
* طالب: مررنا.
* الشيخ: مررنا كلها؟
* الطالب: نعم
* طلبة: (...).
* طالب: بل كلها يا شيخ، أخذنا فوائد الآية (...) ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ أخذنا فائدتين.
* الشيخ: ذكرنا الخلاف في قوله: ﴿أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا﴾ إلى آخره؟
* طلبة: نعم.
* الشيخ: ذكرنا القول بأنه إذا كانت للتنويع؟ نعم.
* طلبة: نعم.
* الشيخ: إذا كانت للتنويع ماذا ذكرنا فيها؟
* طالب: أن عقوبة هؤلاء متنوعة، و(أو) في هذه الآية هل هي للتنويع أم للتخيير؟ قولان، فعلى القول بالتخيير فللإمام أن يقتل أو يصلب، ولكن لا بد أن يتبع الأصلح.
* الشيخ: أو يصلب إلى آخره.
* الطالب: إلى آخره، ومنهم من قال: إنها للتنويع، وإن العقوبة تختلف بحسب الجرائم، فمن قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن قتل ولم يأخذ مالًا يقتل ولا يصلب ومن أخذ مالًا ولم يقتل تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، حتى إن بعض علمائنا قال: حتى لو نهبوا قهرًا أقل من النصاب.
* طالب: مستوفاة.
* الشيخ: استوفيتها كلها، لكن هل ذكرنا متى يكون الصلب هل هو قبل القتل ولّا بعده؟
* طلبة: ذكرناه.
* الشيخ: ذكرناها.
* طالب: لم نذكر الخلاف.
* الشيخ: المهم أننا ذكرنا أنهم يصلبون بعد القتل أو قبل؟
* طلبة: بعد.
* الشيخ: بعد القتل. فيه رأي ثانٍ يصلبون قبل القتل، وفيه رأي ثالث أيضًا أن الصلب عقوبة منفردة، قتل، صلب، تقطيع، نفي، يعني ليست مركبة مع القتل، وهذا القول هو ظاهر الآية ﴿أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾، فيكون الصلب غير القتل، لكنهم أوردوا على هذا الرأي أنه كيف يبدأ بالأشد ثم بالأخف، فيقال: هذا لا مانع منه، القتل أشد، ثم الصلب بدون قتل، ثم تقطيع اليد والرجل، والذين قالوا: إنه يصلب قالوا: يترك حتى يموت، وبعضهم قال: بل يطعن بالحربة حتى يموت، ويكون الأول قتل بلا صلب. المهم الآن انتهينا من فوائدها؟ طيب. هل ذكرنا أنه يلحق بها بقية الحدود؟ يقاس عليها بقية الحدود؟
* طلبة: نعم.
{"ayahs_start":33,"ayahs":["إِنَّمَا جَزَ ٰۤؤُا۟ ٱلَّذِینَ یُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَیَسۡعَوۡنَ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن یُقَتَّلُوۤا۟ أَوۡ یُصَلَّبُوۤا۟ أَوۡ تُقَطَّعَ أَیۡدِیهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَـٰفٍ أَوۡ یُنفَوۡا۟ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَ ٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡیࣱ فِی ٱلدُّنۡیَاۖ وَلَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِیمٌ","إِلَّا ٱلَّذِینَ تَابُوا۟ مِن قَبۡلِ أَن تَقۡدِرُوا۟ عَلَیۡهِمۡۖ فَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"],"ayah":"إِنَّمَا جَزَ ٰۤؤُا۟ ٱلَّذِینَ یُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَیَسۡعَوۡنَ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن یُقَتَّلُوۤا۟ أَوۡ یُصَلَّبُوۤا۟ أَوۡ تُقَطَّعَ أَیۡدِیهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَـٰفٍ أَوۡ یُنفَوۡا۟ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ ذَ ٰلِكَ لَهُمۡ خِزۡیࣱ فِی ٱلدُّنۡیَاۖ وَلَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ عَذَابٌ عَظِیمٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق