الباحث القرآني
فالرب تعالى كان يعلم ما في قلب إبليس من الكفر والكبر والحسد ما لا يعلمه الملائكة. فلما أمرهم بالسجود ظهر ما في قلوب الملائكة من الطاعة والمحبة، والخشية والانقياد، فبادروا إلى الامتثال، وظهر ما في قلب عدوه من الكبر والغش والحسد. فأبى واستكبر وكان من الكافرين.
* (لطيفة)
الله سبحانه مهد الأرض لآدم وذريته قبل خلقه فقال: ﴿إنِّي جاعِلٌ في الأرض خَلِيفَةً﴾ وقضى أن يعرفه قدر المخالفة وأقام عذره بقوله: ﴿فَأزَلَّهُما الشَّيْطانُ﴾ وتداركه برحمته بقوله: ﴿ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّه﴾
يا آدم لا تجزع من كأس خطإٍ كان سبب كيسك، فقد استخرج منك داء العُجب وألبسك رداء العبودية
"لو لم تذنبوا"
لا تحزن بقولي لك ﴿اهْبِطُوا مِنها﴾ فلك خلقتُها، ولكن اخرج إلى مزرعة المجاهدة، واجتهد في البذر واسق شجرة الندم بساقية الدمع، فإذا عاد العود أخضر فعُدْ لما كان.
* (فصل)
جوابه سبحانه لمن سأل عن التخصيص والتمييز الواقع في أفعاله بأنه لحكمة يعلمها هو سبحانه وإن كان السائل لا يعلمها كما أجاب الملائكة لما قال لهم: ﴿إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ فقالوا: ﴿تَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ﴾ فأجابهم بقوله: ﴿إنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾
ولو كان فعله مجردا عن الحكم والغايات والمصالح لكان الملائكة أعلم به أن سألوا هذا السؤال ولم يصح جوابهم بتفرده بعلم ما لا يعلمونه من الحكم والمصلحة التي في خلق هذه الخليفة ولهذا كان سؤالهم إنما وقع عن وجه الحكمة لم يكن اعتراضا على الرب تعالى ولو قدر أنه على وجه الاعتراض فهو دليل على علمهم أنه لا يفعل شيئا إلا لحكمة فلما رأوا أن خلق هذا الخليفة مناف للحكمة في الظاهر سألوه عن ذلك ومن هذا قوله تعالى: ﴿وَإذا جاءَتْهم آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾
فأجابهم بأن حكمته وعلمه يأبى أن يضع رسالاته في غير محلها وعند غير أهلها ولو كان الأمر راجعا إلى محض المشيئة لم يكن في هذا جوابا بل كان الجواب أن أفعاله لا تعلل وهو يرجح مثلا على مثل بغير مرجح والأمر عائد إلى مجرد القدرة كما يقوله المنكرون وكذلك قوله: ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهم بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِن بَيْنِنا ألَيْسَ اللَّهُ بِأعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ﴾ فلما سألوا عن التخصيص بمشيئة الله وأنكروا ذلك أجيبوا بأن الله أعلم بمن يصلح لمشيئته وهو أهل لها وهم الشاكرون الذين يعرفون قدر النعمة ويشكرون عليها المنعم فهؤلاء يصلحون بمشيئته ولو كان الأمر عائدا إلى محض المشيئة لم يحسن هذا الجواب ولهذا يذكر سبحانه صفة العلم حيث يذكر التخصيص والتفصيل بينهما على أنه إنما حصل بعلمه سبحانه بما في التخصيص المفصل مما يقتضي تخصيصه وتفصيله وهو الذي جعله أهلا لذلك كما قال تعالى: ﴿وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأمْرِهِ إلى الأرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وكُنّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ﴾ فذكر علمه عقيب تخصيصه سليمان بتسخير الريح له وتخصيصه الأرض المذكورة بالبركة ومنه قوله: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرامَ قِيامًا لِلنّاسِ والشَّهْرَ الحَرامَ والهَدْيَ والقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ وأنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ فذكر صفة العلم التي اقتضت تخصيص هذا المكان وهذا الزمان بأمر اختصا به دون سائر الأمكنة والأزمنة ومن ذلك قوله سبحانه: ﴿أنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وعَلى المُؤْمِنِينَ وألْزَمَهم كَلِمَةَ التَّقْوى وكانُوا أحَقَّ بِها وأهْلَها وكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ فأخبر أنه وضع هذه الكلمة عند أهلها ومن هم أحق بها وأنه أعلم بمن يستحقها من غيرهم فهل هذا وصف من يخص بمحض المشيئة لا بسبب وغاية.
* (فائدة)
قال للملائكة: ﴿إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ قالَ إنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾
ثم أظهر سبحانه من علمه وحكمته الذي خفي على الملائكة من أمر هذا الخليفة ما لم يكونوا يعرفونه بأن جعل من نسله من أوليائه وأحبائه ورسله وأنبيائه من يتقرب إليه بأنواع التقرب ويبذل نفسه في محبته ومرضاته يسبح بحمده آناء الليل وأطراف النهار ويذكره قائما وقاعدا وعلى جنبه ويعبده ويذكره ويشكره في السراء والضراء والعافية والبلاء والشدة والرخاء فلا يثنيه عن ذكره وشكره وعبادته شدة ولا بلاء ولا فقر ولا مرض ويعبده مع معارضة الشهوة وغلبات الهوى وتعاضد الطباع لأحكامها ومعاداة بني جنسه وغيرهم له فلا يصده ذلك عن عبادته وشكره وذكره والتقرب إليه فإن كانت عبادتكم لي بلا معارض ولا ممانع فعبادة هؤلاء لي مع هذه المعارضات والموانع والشواغل وأيضا فإنه سبحانه أراد أن يظهر لهم
ما خفي عليهم من شأن ما كانوا يعظمونه ويجلونه ولا يعرفون ما في نفسه من الكبر والحسد والشر فذلك الخير، وهذا الشر كامن في نفوس لا يعلمونها فلا بد من إخراجه وإبرازه لكي يعلم حكمة أحكم الحاكمين في مقابلة كل منهما بما يليق به وأيضا فإنه سبحانه لما خلق خلقه أطوارا وأصنافا وسبق في حكمه وحكمته تفضيل آدم وبنيه على كثير ممن خلق تفضيلا جعل عبوديتهم أكمل من عبودية غيرهم وكانت العبودية أفضل أحوالهم وأعلى درجاتهم أعني العبودية الاختيارية التي يأتون بها طوعا واختيارا لا كرها واضطرارا، ولهذا أرسل الله جبريل إلى سيد هذا النوع الإنساني يخيره بين أن يكون عبدا رسولا أو ملكا نبيا فاختار بتوفيق ربه له أن يكون عبدا رسولا وذكره سبحانه بأتم العبودية في أشرف مقاماته وأفضل أحواله كمقام الدعوة والتحدي والإسراء وإنزال القرآن: ﴿وَأنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ﴾: ﴿وَإنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا﴾: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ﴾: ﴿تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ﴾ فأثنى عليه ونوه الله لعبوديته التامة له ولهذا يقول أهل الموقف حين يطلبون الشفاعة اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فلما كانت العبودية أشرف أحوال بني آدم وأحبها إلى الله وكان لها لوازم وأسباب مشروطة لا يحصل إلا بها كان من أعظم الحكمة أن أخرجوا إلى دار تجري عليهم فيها أحكام العبودية وأسبابها وشروطها وموجباتها فكان إخراجهم من الجنة تنكيلا لهم وإتماما لنعمته عليهم مع ما في ذلك من محبوبات الرب تعالى فإنه يحب إجابة الدعوات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات ومغفرة الزلات وتكفير السيئات ودفع البليات وإعزاز من يستحق العز وإذلال من يستحق الذل ونصر المظلوم وجبر الكسير ورفع بعض خلقة على بعض وجعلهم درجات ليعرف قدر فضله وتخصيصه فاقتضى ملكه التام وحمده الكامل أن يخرجهم إلى دار يحصل فيها محبوباته سبحانه وإن كان لكثير منها طرق وأسباب يكرهها فالوقوف على الشيء لا بدونه وإيجاد لوازم الحكمة من الحكمة كما أن إيجاد لوازم العدل من العدل كما ستقف عليه في فصل إيلام الأطفال إن شاء الله.
وقيل: أجابهم سبحانه بأن في خلقه من الحكم والمصالح ما لا تعلمه الملائكة والخالق سبحانه يعلمه وإذا كانت الملائكة لا تعلم ما في خلق هذا الإنسان الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء من الحكم والمصالح فغيرهم أولى أن لا يحيط به علما فخلق هذا الإنسان من تمام الحكمة والرحمة والمصلحة وإن كان وجوده مستلزما لشر فهو شر مغمور بما في إيجاده من الخير كإنزال المطر والثلج وهبوب الرياح وطلوع الشمس وخلق الحيوان والنبات والجبال والبحار وهذا كما أنه في خلقه فهو في شرعه ودينه وأمره فإن ما أمر به من الأعمال الصالحة خيره ومصلحته راجح وإن كان فيه شر فهو مغمور جدا بالنسبة إلى خيره وما نهى عنه من الأعمال والأقوال القبيحة فشره ومفسدته راجح والخير الذي فيه مغمور جدا بالنسبة إلى شره فسنته سبحانه في خلقه وأمره فعل الخير الخالص والراجح والأمر بالخير الخالص والراجح فإذا تناقضت أسباب الخير والشر والجمع بين النقيضين محال قدم أسباب الخير الراجحة على المرجوحة ولم يكن تفويت المرجوحة شرا ودفع أسباب الشر الراجحة بالأسباب المرجوحة ولم يكن حصول المرجوحة شرا بالنسبة إلى ما اندفع بها من الشر الراجح وكذلك سنته في شرعه وأمره فهو يقدم الخير الراجح وإن كان في ضمنه شر مرجوح ويعطل الشر الراجح وإن فات بتعطيله خير مرجوح هذه سنته فيما يحدثه ويبدعه في سماواته وأرضه وما يأمر به وينهى عنه وكذلك سنته في الآخرة وهو سبحانه قد أحسن كل شيء خلقه وقد أتقن كل ما صنع وهذا أمر يعلمه العالمون بالله جملة ويتفاوتون في العلم بتفاصيله.
وإذا عرف ذلك فالآلام والمشاق إما إحسان ورحمة، وإما عدل وحكمة، وإما إصلاح وتهيئة لخير يحصل بعدها، وإما لدفع ألم هو أصعب منها، وإما لتولدها عن لذات ونعم يولدها عنها أمر لازم لتلك اللذات، وإما أن يكون من لوازم العدل أو لوازم الفضل والإحسان، فيكون من لوازم الخير التي إن عطلت ملزوماتها فات بتعطيلها خير أعظم من مفسدة تلك الآلام.
والشرع والقدر أعدلا شاهد بذلك فكم في طلوع الشمس من ألم لمسافر وحاضر، وكم في نزول الغيث والثلوج من أذى كما سماه الله بقوله: ﴿إنْ كانَ بِكم أذىً مِن مَطَرٍ﴾
وكم في هذا الحر والبرد والرياح من أذى موجب لأنواع من الآلام لصنوف من الحيوانات وأعظم لذات الدنيا لذة الأكل والشرب والنكاح واللباس والرياسة ومعظم آلام أهل الأرض أو كلها ناشئة عنها ومتولدة منها بل الكمالات الإنسانية لا تنال إلا بالآلام والمشاق كالعلم والشجاعة والزهد والعفة والحلم والمروءة والصبر والإحسان كما قال:
؎لولا المشقة ساد الناس كلهم ∗∗∗ الجود يفقر والأقدام قتال
وإذا كانت الآلام أسبابا للذاتٍ أعظم منها وأدوم منها كان العقل يقضي باحتمالها وكثيرا ما تكون الآلام أسبابا لصحة لولا تلك الآلام لفاتت وهذا شأن أكبر أمراض الأبدان فهذه الحمى فيها من المنافع للأبدان ما لا يعلمه إلا الله وفيها من إذابة الفضلات وإنضاج المواد الفجة وإخراجها ما لا يصل إليه دواء غيرها وكثير من الأمراض إذا عرض لصاحبها الحمى استبشر بها الطبيب وأما انتفاع القلب والروح بالآلام والأمراض فأمر لا يحس به إلا من فيه حياة فصحة القلوب والأرواح موقوفة على آلام الأبدان ومشاقها وقد أحصيت فوائد الأمراض فزادت على مائة فائدة وقد حجب الله سبحانه أعظم اللذات بأنواع المكاره وجعلها جسرا موصلا إليها كما حجب أعظم الآلام بالشهوات واللذات وجعلها جسرا موصلا إليها ولهذا قالت العقلاء قاطبة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم وأن الراحة لا تنال بالراحة وأن من آثر اللذات فاتته اللذات فهذه الآلام والأمراض والمشاق من أعظم النعم إذ هي أسباب النعم وما تنال الحيوانات غير المكلفة منها فمغمور جدا بالنسبة إلى مصالحها ومنافعها كما ينالها من حر الصيف وبرد الشتاء وحبس المطر والثلج وألم الحمل والولادة والسعي في طلب أقواتها وغير ذلك ولكن لذاتها أضعاف أضعاف آلامها وما ينالها من المنافع والخيرات أضعاف ما ينالها من الشرور والآلام فسنة الله في خلقه وأمره هي التي أوجبها كمال علمه وحكمته وعزته، ولو اجتمعت عقول العقلاء كلهم على أن يقترحوا أحسن منها لعجزوا عن ذلك وقيل لكل منهم أرجع بصر العقل فهل ترى من خلل: ﴿ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خاسِئًا وهو حَسِيرٌ﴾
فتبارك الذي من كمال حكمته وقدرته أن أخرج الأضداد من أضدادها، والأشياء من خلافها فأخرج الحي من الميت والميت من الحي والرطب من اليابس واليابس من الرطب فكذلك أنشأ اللذات من الآلام والآلام من اللذات فأعظم اللذات ثمرات الآلام ونتائجها وأعظم الآلام ثمرات اللذات ونتائجها وبعد فاللذة والسرور والخير والنعم والعافية والمصلحة والرحمة في هذه الدار المملوءة بالمحن والبلاء وأكثر من أضدادها بأضعاف مضاعفة فأين آلام الحيوان من لذته وأين سقمه من صحته وأين جوعه وعطشه من شبعه وريه وتعبه من راحته قال تعالى: ﴿فَإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا﴾ ولن يغلب عسر يسرين وهذا لأن الرحمة غلبت الغضب والعفو سبق العقوبة والنعمة تقدمت المحنة والخير في الصفات والأفعال والشر في المفعولات لا في الأفعال فأوصافه كلها كمال وأفعاله كلها خيرات فإن ألم الحيوان لم يعدم بألمه عافية من ألم هو أشد من ذلك الألم أو تهيئة لقوة وصحة وكمال أو عوضا لا نسبة لذلك الألم إليه بوجه ما فآلام الدنيا جميعها نسبتها إلى لذات الآخرة وخيراتها أقل من نسبة ذرة إلى جبال الدنيا بكثير وكذلك لذات الدنيا جميعها بالنسبة إلى آلام الآخرة والله سبحانه لم يخلق الآلام واللذات سدى ولم يقدرهما عبثا ومن كمال قدرته وحكمته أن جعل كل واحد منهما يثمر الأخرى هذا ولوازم الخلقة يستحيل ارتفاعها كما يستحيل ارتفاع الفقر والحاجة والنقص عن المخلوق فلا يكون المخلوق إلا فقيرا محتاجا ناقص العلم والقدرة فلو كان الإنسان وغيره من الحيوان لا يجوع ولا يعطش ولا يتألم في عالم الكون والفساد لم يكن حيوانا ولكانت هذه الدار دار بقاء ولذة مطلقة كاملة والله لم يجعلها كذلك وإنما جعلها دارا ممتزجا ألمها بلذتها وسرورها بأحزانها وغمومها وصحتها بسقمها حكمة منه بالغة.
وأيضا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ لما قالَ للْمَلائكَة ﴿إنِّي جاعل في الأرْض خَليفَة قالُوا أتجْعَلُ فِيها من يفْسد فِيها ويسفك الدِّماء ونحن نُسَبِّح بحَمْدك ونقدس لَك﴾ أجابهم بقوله ﴿إنِّي أعلم ما لا تعلمُونَ﴾ ثمَّ أظهر سُبْحانَهُ علمه لِعِبادِهِ ولملائكته بِما جعله في الأرض من خَواص خلقه ورُسُله وأنبيائه وأوليائه ومن يتَقرَّب إليه ويبذل نَفسه في محبته ومرضاته مَعَ مجاهدة شَهْوَته وهواه فَيتْرك محبوباته تقربا الي ويتْرك شهواته ابْتِغاء مرضاتي ويبذل دَمه ونَفسه في محبتي وأخصه بِعلم لا تعلمونه يسبح بحمدي آناء اللَّيْل وأطراف النَّهار ويعبدني مَعَ معارضات الهوى والشهوة والنَّفس والعدو إذْ تعبدوني أنتم من غير معارض يعارضكم ولا شَهْوَة تعتريكم ولا عَدو أسلطه عَلَيْكُم بل عبادتكم لي بِمَنزِلَة النَّفس لأحدهم وأيْضًا فَإنِّي أريد أن أظهر ما خفي عَلَيْكُم من شَأْن عدوي ومحاربته لي وتكبره عَن أمْرِي وسعيه في خلاف مرضاتي وهَذا وهَذا كانا كامنين مستترين في أبي البشر وأبي الجِنّ فأنزلهم دارا أظهر فِيها ما كانَ الله سُبْحانَهُ مُنْفَردا بِعِلْمِهِ لا يُعلمهُ سواهُ وظَهَرت حكمته وتمّ امْرَهْ وبدا للْمَلائكَة من علمه ما لم يَكُونُوا يعلمُونَ وأيضا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ لما كانَ يحب الصابرين ويُحب المُحْسِنِينَ ويُحب الَّذين يُقاتلُون في سَبيله صفا ويُحب التوابين ويُحب المتطهرين ويُحب الشّاكِرِينَ وكانَت محبته أعلى أنواع الكرامات اقْتَضَت حكمته أن أسكن آدم وبنيه دارا يأْتونَ فِيها بِهَذِهِ الصِّفات الَّتِي ينالون بها أعلى الكرامات من محبته، فَكانَ إنزالهم إلى الأرض من أعظم النعم عَلَيْهِم ﴿والله يخْتَص برحمته من يَشاء والله ذُو الفضل العَظِيم﴾
وَأيْضًا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ أرادَ أن يتَّخذ من آدم ذُرِّيَّة يواليهم ويودهم ويحبهم ويُحِبُّونَهُ فمحبتهم لَهُ هي غايَة كمالهم ونِهايَة شرفهم، ولم يُمكن تَحْقِيق هَذِه المرتبَة السّنيَّة إلا بموافقة رِضاهُ واتباع أمره وترك إرادات النَّفس وشهواتها الَّتِي يكرهها محبوبهم فأنزلهم دارا أمرهم فِيها ونهاهم فَقامُوا بأمْره ونَهْيه فنالوا دَرَجَة محبتهم لَهُ فأنالهم دَرَجَة حبه إيّاهُم وهَذا من تَمام حكمته وكَمال رَحمته وهو البر الرَّحِيم.
وأيضا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ لما خلق خلقه أطوارا وأصنافا وسبق في حكمه تفضيله آدم وبنيه على كثير من مخلوقاته جعل عبوديته أفضل درجاتهم اعنى العُبُودِيَّة الاختيارية الَّتِي يأْتونَ بها طَوْعًا واختيارا لا كرها واضطرارا وقد ثَبت أن الله سُبْحانَهُ أرسل جِبْرِيل إلى النَّبِي يخيره بَين أن يكون ملكا نَبيا أوْ عبدا نَبيا فَنظر إلى جِبْرِيل كالمستشير لَهُ فأشار إليه أن تواضع فَقالَ بل أن اكون عبدا نَبيا فَذكره سُبْحانَهُ باسم عبوديته في أشرف مقاماته في مقام الإسراء ومقام الدعْوَة ومقام التحدي فَقالَ في مقام الإسراء ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ ولم يقل بِرَسُولِهِ ولا نبيه إشارَة إلى أنه قامَ هَذا المقام الأعظم بِكَمال عبوديته لرَبه وقالَ في مقام الدعْوَة ﴿وَأنه لما قامَ عبد الله يَدعُوهُ كادُوا يكونُونَ عَلَيْهِ لبدا﴾
وَقالَ في مقام التحدي ﴿وَإن كُنْتُم في ريب مِمّا نزلنا على عَبدنا فَأتوا بِسُورَة من مثله﴾ وفي الصَّحِيحَيْنِ في حَدِيث الشَّفاعَة وتراجع الأنبياء فِيها وقَول المَسِيح إذْهَبُوا إلى مُحَمَّد عبد غفر الله لَهُ ما تقدم من ذَنبه وما تَأخّر فَدلَّ ذَلِك على أنه نالَ ذَلِك المقام الأعظم بِكَمال عبوديته لله وكَمال مغْفرَة الله لَهُ وإذا كانَت العُبُودِيَّة عند الله بِهَذِهِ المنزلَة اقْتَضَت حكمته أن اسكن آدم وذريته دارا ينالون فِيها هَذِه الدرجَة بِكَمال طاعتهم لله وتقربهم إليه بمحابه وترك مألوفاتهم من أجله فَكانَ ذَلِك من تَمام نعْمَته عَلَيْهِم وإحسانه إليهم وأيْضًا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ أرادَ أن يعرف عباده الَّذين أنْعم عَلَيْهِم تَمام نعْمَته عَلَيْهِم وقدرها ليكونوا أعظم محبَّة وأكْثر شكرا وأعظم التذاذا بِما أعطاهم من النَّعيم فَأراهُم سُبْحانَهُ فعله بأعدائه وما أعد لَهُم من العَذاب وأنواع الآلام وأشهدهم تخليصهم من ذَلِك وتخصيصهم بِأعْلى أنواع النَّعيم لِيَزْدادَ سرورهم وتكمل غبطتهم ويعظم فَرَحهمْ وتتم لذتهم وكانَ ذَلِك من إتْمام الأنعام عَلَيْهِم ومحبتهم ولم يكن بُد في ذَلِك من إنزالهم إلى الأرض وامتحانهم واختبارهم وتوفيق من شاءَ مِنهُم رَحْمَة مِنهُ وفضلا وخذلان من شاءَ مِنهُم حِكْمَة مِنهُ وعدلا وهو العَلِيم الحَكِيم ولا ريب أن المُؤمن إذا رأى عدوه ومحبوبه الَّذِي هو أحب الأشياء إليه في أنْواع العَذاب والآلام وهو يتقلب في أنواع النَّعيم واللذة ازْدادَ بذلك سُرُورًا وعظمت لذته وكملت نعْمَته وأيْضًا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ إنَّما خلق الخلق لعبادته وهِي الغايَة مِنهُم قالَ تَعالى ﴿وَما خلقت الجِنّ والإنس إلا ليعبدون﴾ ومَعْلُوم أن كَمال العُبُودِيَّة المَطْلُوب من الخلق لا يحصل في دار النَّعيم والبقاء إنَّما يحصل في دار المحنة والابتلاء وأما دار البَقاء فدار لَذَّة ونعيم لا دار ابتلاء وامتحان وتكليف.
وأيضا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ اقْتَضَت حكمته خلق آدم وذريته من تركيب مُسْتَلْزم لداعي الشَّهْوَة والفتنة وداعي العقل والعلم فَإنَّهُ سُبْحانَهُ خلق فِيهِ العقل والشهوة ونصبهما داعيين بمقتضياتهما ليتم مُراده ويظْهر لِعِبادِهِ عزته في حكمته وجبروته ورَحمته وبره ولطفه في سُلْطانه وملكه فاقتضت حكمته ورَحمته أن أذاق أباهم وبيل مُخالفَته وعرفه ما يجني عواقب إجابَة الشَّهْوَة والهوى ليَكُون أعظم حذرا فِيها وأشد هروبا وهَذا كَحال رجل سائِر على طَرِيق قد كمنت الأعداء في جنباته وخَلفه وأمامه وهو لا يشْعر فَإذا أصيب مِنها مرّة بمصيبة استعد في سيره وأخذ اهبة عدوه وأعد لَهُ ما يَدْفَعهُ ولَوْلا أنه ذاق ألم إغارة عدوه عَلَيْهِ وتبييته لَهُ لما سمحت نَفسه بالاستعداد والحذر وأخذ العدة فَمن تَمام نعْمَة الله على آدم وذريته أن أراهم ما فعل العَدو بهم فاسْتَعدوا لَهُ وأخذوا اهبته فَإن قيل كانَ من المُمكن أن لا يُسَلط عَلَيْهِم العَدو قيل قد تقدم أنه سُبْحانَهُ خلق آدم وذريته على بنية وتركيب مُسْتَلْزم لمخالطتهم لعدوهم وابتلائهم بِهِ ولَو شاءَ لخلقهم كالملائكة الَّذين هم عقول بِلا شهوات فَلم يكن لعدوهم طَرِيق إليهم ولَكِن لَو خلقُوا هَكَذا لكانوا خلقا آخر غير بني آدم فَإن بنى آدم قد ركبُوا على العقل والشهوة وأيْضًا فَإنَّهُ لما كانَت محبَّة الله وحده هي غايَة كَمال العَبْد وسعادته الَّتِي لا كَمال لَهُ ولا سَعادَة بِدُونِها أصلا وكانَت المحبَّة الصادقة إنَّما تتَحَقَّق بغيثار المحبوب على غَيره من محبوبات النُّفُوس واحْتِمال أعظم المشاق في طاعَته ومرضاته فَبِهَذا تتَحَقَّق المحبَّة ويعلم ثُبُوتها في القلب اقْتَضَت حكمته سُبْحانَهُ اخراجهم إلى هَذِه الدّار المحفوفة بالشهوات ومحاب النُّفُوس الَّتِي بإيثار الحق عَلَيْها والإعراض عَنْها يتَحَقَّق حبهم لَهُ وإيثارهم إيّاه على غَيره ولذَلِك يتَحَمَّل المشاق الشَّدِيدَة وركوب الأخطار واحْتِمال المَلامَة والصَّبْر على دواعي الغي والضلال ومجاهدتها يقوى سُلْطان المحبَّة وتثبت شجرتها في القلب وتطعم ثَمَرَتها على الجَوارِح فَإن المحبَّة الثّابِتَة اللّازِمَة على كَثْرَة المَوانِع والعوارض والصوارف هي المحبَّة الحَقِيقِيَّة النافعة وأما المحبَّة المَشْرُوطَة بالعافية والنَّعِيم واللذة وحُصُول مُراد المُحب من محبوبه فَلَيْسَتْ محبَّة صادِقَة ولا ثبات لَها عند المعارضات والموانع فَإن المُعَلق على الشَّرْط عدم عند عَدمه ومن ودك لأمر ولي عند انقضائه وفرق بَين من يعبد الله على السَّرّاء والرخاء والعافية فَقَط وبَين من يعبده على السَّرّاء والضَّرّاء والشدة والرخاء والعافية والبَلاء وأيضا فَإن الله سُبْحانَهُ لَهُ الحَمد المُطلق الكامِل الَّذِي لا نِهايَة بعده وكانَ ظُهُور الأسباب الَّتِي يحمد عَلَيْها من مُقْتَضى كَونه مَحْمُودًا وهِي من لَوازِم حَمده تَعالى وهِي نَوْعانِ فضل وعدل إذْ هو سُبْحانَهُ المَحْمُود على هَذا وعَلى هَذا فَلا بُد من ظُهُور أسباب العدْل واقتضائها لمسمياتها ليترتب عَلَيْها كَمال الحَمد الَّذِي هو أهله فَكَما أنه سُبْحانَهُ مَحْمُود على إحسانه وبره وفضله وثوابه فَهو مَحْمُود على عدله وانتقامه وعقابه إذْ يصدر ذَلِك كُله عَن عزته وحكمته ولِهَذا نبه سُبْحانَهُ على هَذا كثيرا كَما في سُورَة الشُّعَراء حَيْثُ يذكر في آخر كل قصَّة من قصَص الرُّسُل وأممهم ﴿إن في ذَلِك لآية وما كانَ أكثرهم مُؤمنين وإن رَبك لَهو العَزِيز الرَّحِيم﴾
فَأخْبر سُبْحانَهُ أن ذَلِك صادر عَن عزته المتضمنة كَمال قدرته وحكمته المتضمنة كَمال علمه ووَضعه الأشياء مواضعها اللائقة بها ما وضع نعْمَته ونجاته لرسله ولاتباعهم ونقمته وإهلاكه لأعدائهم إلا في محلها اللّائِق بها لكَمال عزته وحكمته ولِهَذا قالَ سُبْحانَهُ عقيب إخْباره عَن قَضائِهِ بَين أهل السَّعادَة والشقاوة ومصير كل مِنهُم إلى دِيارهمْ الَّتِي لا يَلِيق بهم غَيرها ولا تقتضي حكمته سواها ﴿وَقضى بَينهم بِالحَقِّ وقيل الحَمد لله رب العالمين﴾
وَأيْضًا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ اقْتَضَت حكمته وحمده أن فاوت بَين عباده أعظم تفاوت وأبينه ليشكره مِنهُم من ظَهرت عَلَيْهِ نعْمَته وفضله ويعرف أنه قد حبى بالإنعام وخص دون غَيره بالإكرام ولَو تساووا جَمِيعهم في النِّعْمَة والعافية لم يعرف صاحب النِّعْمَة قدرها ولم يبْذل شكرها إذْ لا يرى أحدا إلّا في مثل حاله ومن أقوى أسباب الشُّكْر وأعْظَمها استخرجا لَهُ من العَبْد أن يرى غَيره في ضد حاله الَّذِي هو عَلَيْها من الكمال والفلاح.
وَفِي الأثر المَشْهُور "أن الله سُبْحانَهُ لما أرى آدم ذُريَّته وتفاوت مَراتِبهمْ قالَ يا رب هلا سويت بَين عِبادك؟
قالَ إنِّي أحب أن أُشكر"
فاقتضت محبته سُبْحانَهُ لأن يشْكر خلق الأسباب الَّتِي يكن شكر الشّاكِرِينَ عِنْدها أعظم وأكمل وهَذا هو عين الحِكْمَة الصادرة عَن صفة الحَمد وأيضا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ لا شَيْء أحب إليه من العَبْد من تذلله بَين يَدَيْهِ وخضوعه وافتقاره وانكساره وتضرعه إليه ومَعْلُوم أن هَذا المَطْلُوب من العَبْد إنَّما يتم بأسبابه الَّتِي تتَوَقَّف عَلَيْها وحُصُول هَذِه الأسباب في دار النَّعيم المُطلق والعافية الكامِلَة يمْتَنع إذْ هو مُسْتَلْزم للْجمع بَين الضدين وأيْضًا فَإنَّهُ سُبْحانَهُ لَهُ الخلق والأمر، والأمر هو شَرعه وأمره ودينه الَّذِي بعث بِهِ رسله وأنْزلْ بِهِ كتبه ولَيْسَت الجنَّة دار تَكْلِيف تجرى عَلَيْهِم فِيها أحْكام التَّكْلِيف ولوازمها وإنَّما هي دار نعيم ولَذَّة واقتضت حكمته سُبْحانَهُ اسْتِخْراج آدم وذريته إلى دار تجرى عَلَيْهِم فِيها أحكام دينه وأمره ليظْهر فيهم مُقْتَضى الأمر ولوازمه فَإن الله سُبْحانَهُ كَما أن أفعاله وخلقه من لَوازِم كَمال أسمائه الحسنى وصِفاته العلى فَكَذَلِك امْرَهْ وشرعه وما يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من الثَّواب والعِقاب وقد ارشد سُبْحانَهُ إلى هَذا المَعْنى في غير مَوضِع من كِتابه فَقالَ تَعالى ﴿أيحسب الإنسان أن يتْرك سدى﴾ أي مهملا معطلا لا يُؤمر ولا ينْهى ولا يُثاب ولا يُعاقب.
وَهَذا يدل على أن هَذا مناف لكَمال حكمته وأن ربوبيته وعزته وحكمته تأبى ذَلِك ولِهَذا أخرج الكَلام مخرج الإنكار على من زعم ذَلِك وهو يدل على أن حسنه مُسْتَقر في الفطر والعقول وقبح تَركه سدا معطلا أيضا مُسْتَقر في الفطر فَكيف ينْسب إلى الرب ما قبحه مُسْتَقر في فطركم وعقولكم.
وَقالَ تَعالى ﴿أفحسبتم أنما خَلَقْناكم عَبَثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إلَه إلا هو رب العَرْش الكَرِيم﴾.
* (فصل)
كانَ أول المَخْلُوقات القَلَم ليكتب المَقادِير قبل كَونها وجعل آدم آخر المَخْلُوقات
وَفِي ذَلِك حكم أحدها تمهيد الدّار قبل السّاكِن
الثّانِيَة أنه الغايَة الَّتِي خلق لأجلها ما سواهُ من السَّماوات والأرْض والشَّمْس والقَمَر والبر والبَحْر
الثّالِثَة أن أحذق الصنّاع يخْتم عمله بأحسنه وغايته كَما يبدؤه بأساسه ومبادئه
الرّابِعَة أن النُّفُوس متطلعة إلى النهايات والأواخر دائِما ولِهَذا قالَ مُوسى للسحرة ولا ﴿ألْقُوا ما أنْتُمْ ملقون﴾ فَلَمّا رأى النّاس فعلهم تطلعوا إلى ما يَأْتِي بعده.
الخامِسَة أن الله سُبْحانَهُ أخّر أفضل الكتب والأنبياء والأمم إلى آخر الزَّمان وجعل الآخِرَة خيرا من الأولى والنهايات أكمل من البدايات فكم بَين قَول الملك للرسول اقْرَأ فَيَقُول ما أنا بقارئ وبَين قَوْله تَعالى ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دينكُمْ﴾
السّادِسَة أنه سُبْحانَهُ جمع ما فرقه في العالم في آدم فَهو العالم الصَّغِير وفِيه ما في العالم الكَبِير
السّابِعَة أن خُلاصَة الوُجُود وثمرته فَناسَبَ أن يكون خلقه بعد الموجودات
الثّامِنَة أن من كرامته على خالقه أنه هيأ لَهُ مَصالِحه وحوائجه وآلات معيشته وأسْباب حَياته فَما رفع رَأسه إلّا وذَلِكَ كُله حاضر عتيد.
التّاسِعَة أنه سُبْحانَهُ أرادَ أن يظْهر شرفه وفضله على سائِر المَخْلُوقات فَقَدمها عَلَيْهِ في الخلق ولِهَذا قالَت المَلائِكَة ليخلق رَبنا ما شاءَ فَلَنْ يخلق خلقا أكْرم عَلَيْهِ منا فَلَمّا خلق آدم وأمرهمْ بِالسُّجُود لَهُ ظهر فَضله وشرفه عَلَيْهِم بِالعلمِ والمعرفة فَلَمّا وقع في الذَّنب ظنت المَلائِكَة أن ذَلِك الفضل
قد نسخ ولم تطلع على عبودية التَّوْبَة الكامنة فَلَمّا تابَ إلى ربه وأنى بِتِلْكَ العُبُودِيَّة علمت المَلائِكَة أن لله في خلقه سرا لا يُعلمهُ سواهُ.
العاشِرَة أنه سُبْحانَهُ لما افْتتح خلق هَذا العالم بالقلم من أحسن المُناسبَة أن يختمه بِخلق الإنْسان فَإن القَلَم آلَة العلم والإنْسان هو العالم ولِهَذا أظهر سُبْحانَهُ فضل آدم على المَلائِكَة بِالعلمِ الَّذِي خُصّ بِهِ دونهم وتَأمل كَيفَ كتب سُبْحانَهُ عذر آدم قبل هُبُوطه إلى الأرْض ونبهَ المَلائِكَة على فَضله وشرفه ونوه باسمه قبل إيجاده بقوله ﴿إنِّي جاعِلٌ في الأرْض خَليفَة﴾
وَتَأمل كَيفَ وسمه بالخلافة وتلك ولايَة لَهُ قبل وجوده وأقام عذره قبل الهبوط بقوله ﴿فِي الأرْض﴾ والمحب يُقيم عذر المحبوب قبل جِنايَته فَلَمّا صوره ألْقاهُ على باب الجنَّة أرْبَعِينَ سنة لِأن دأب المُحب الوُقُوف على باب الحبيب رمى بِهِ في طَرِيق ذل ﴿لَمْ يَكُنْ شَيْئا﴾ لِئَلّا يعجب يَوْم ﴿اسجدوا﴾ كانَ إبْلِيس يمر على جسده فيعجب مِنهُ ويَقُول لأمر قد خلقت ثمَّ يدْخل من فِيهِ ويخرج من دبره ويَقُول لَئِن سلطت عَلَيْك لأهلكنك ولَئِن سلطت عَليّ لأعصينك ولم يعلم أن هَلاكه على يَده رأى طينا مجموعا فاحتقر فَلَمّا صور الطين صُورَة دب فِيهِ داء الحَسَد فَلَمّا نفخ فِيهِ الرّوح ماتَ الحاسِد فَلَمّا بسط لَهُ بِساط العِزّ عرضت عَلَيْهِ المَخْلُوقات فاسْتَحْضر مدعي ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّح﴾ إلى حاكم ﴿أنْبِئُونِي﴾ وقد أخْفى الوَكِيل عَنهُ بَيِّنَة وعَلَّمَ فنكسوا رُؤُوس الدَّعاوى على صُدُور الإقْرار فَقامَ مُنادِي التَّفْضِيل في أندية المَلائِكَة يُنادي اسجدوا فتطهروا من حَدِيث دَعْوى ونَحْن بِماء العذر في آنِية ﴿لا عِلْمَ لَنا﴾ فسجدوا على طَهارَة التَّسْلِيم وقامَ إبْلِيس ناحيَة لم يسْجد لِأنَّهُ خبث وقد تلون بِنَجاسَة الِاعْتِراض وما كانَت نَجاسَته تتلافى بالتطهير لِأنَّها عَيْنِيَّة فَلَمّا تمّ كَمال آدم قالَ لا بُد من خال جمال على وجه اسْجُدُوا فَجرى القدر بالذنب ليتبين أثر العُبُودِيَّة في الذل يا آدم لَو عفى لَك عَن تِلْكَ اللُّقْمَة لقالَ الحاسدون كَيفَ فضل ذُو شَره لم يصبر على شَجَرَة لَوْلا نزولك ما تصاعدت صعداء الأنفاس ولا نزلت رسائل هَل من وسائِل ولا فاحت رَوائِح ولخلوف فَم الصّائِم فَتبين حِينَئِذٍ أن ذَلِك التَّناوُل لم يكن عَن شَرَهٍ يا آدم ضحكك في الجنَّة لَك وبكاؤك في دار التَّكْلِيف لنا ما ضرّ من كَسره عزي إذا جبره فضلي إنَّما تلِيق خلعة العِزّ ببدن الانكسار أنا عند المنكسرة قُلُوبهم من أجلي مازالت تِلْكَ الأكلَة تعاده حَتّى استولى داؤه على أوْلاده فَأرْسل إلَيْهِم اللَّطِيف الخَبِير الدَّواء على أيدي أطباء الوُجُود ﴿فَإمّا يَأْتِيَنَّكم مِنِّي هُدىً فَمن تبع هُدايَ فَلا يَضِلُّ ولا يشقى﴾ فحماهم الطَّبِيب بالمناهي وحفظ القُوَّة بالأوامر واستفرغ أخلاطهم الرَّديئَة بِالتَّوْبَةِ فَجاءَت العافِيَة من كل ناحيَة.
فيا من ضيّع القُوَّة ولم يحفظها وخلط في مَرضه وما احتمى ولا صَبر على مرارَة الاستفراغ لا تنكر قرب الهَلاك فالداء مترام إلى الفساد لَو ساعد القدر فأعنت الطَّبِيب على نَفسك بالحمية من شَهْوَة خسيسة ظَفرت بأنواع اللَّذّات وأصناف المشتهيات ولَك بخار الشَّهْوَة غطى عين البصيرة فَظَنَنْت أن الحزم بيع الوَعْد بِالنَّقْدِ يالها بَصِيرَة عمياء جزعت من صَبر ساعَة واحتملت ذل الأبَد سافَرت في طلب الدُّنْيا وهِي عَنْها زائلة وقَعَدت عَن السّفر إلى الآخِرَة وهِي إلَيْها راحِلَة إذا رَأيْت الرجل يَشْتَرِي الخسيس بالنفيس ويبِيع العَظِيم بالحقير فاعْلَم بِأنَّهُ سَفِيه.
* (فصل)
فهذه كالمناظرة من الملائكة والجواب عن سؤالهم كأنهم قالوا إن استخلفت في الأرض خليفة كان منه الفساد وسفك الدماء وحكمتك تقتضي أن لا تفعل ذلك وإن جعلت فيها فتجعل فيها من يسبح بحمدك ويقدس لك ونحن نفعل ذلك فأجابهم تعالى عن هذا السؤال بأن له من الحكمة في جعل هذا الخليفة في الأرض ما لا تعلمه الملائكة وإن وراء ما زعمتم من الفساد مصالح وحكما لا تعلمونها أنتم وقد ذكرنا منها قريبا من أربعين حكمة في كتاب التحفة المكية فاستخرج تعالى من هذا الخليفة
وذريته الأنبياء والرسل والأولياء والمؤمنين وعمر بهم الجنة وميز الخبيث من ذريته من الطيب فعمر بهم النار.
وكان في ضمن ذلك من الحكم والمصالح ما لم يكن للملائكة تعلمه ثم إنه سبحانه أظهر فضل الخليفة عليهم بما خص به من العلم الذي لم تعلمه الملائكة وأمرهم بالسجود له تكريما له وتعظيما له وإظهار لفضله.
وفي ضمن ذلك من الحكم ما لا يعلمه إلا الله فمنها امتحانهم بالسجود لمن زعموا أنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء فأسجدهم له وأظهر فضله عليهم لما أثنوا على أنفسهم وذموا الخليفة كما فعل سبحانه ذلك بموسى لما أخبر عن نفسه أنه أعلم أهل الأرض فامتحنه بالخضر وعجزه معه في تلك الوقائع الثلاث وهذه سنته تعالى في خليقته وهو الحكيم العليم.
ومنها خبره لهذا الخليفة وابتداؤه له بالإكرام والإنعام لما علم مما يحصل له من الانكسار والمصيبة والمحنة فابتدأه بالجبر والفضل ثم جاءت المحنة والبلية والذل وكانت عاقبتها إلى الخبر والفضل والإحسان فكانت المصيبة التي لحقته محفوفة بإنعامين إنعام قبلها وبعدها ولذريته المؤمنين نصيب مما لأبيهم فإن الله تعالى أنعم عليهم بالإيمان ابتداء وجعل العاقبة لهم فما أصابهم بين ذلك من الذنوب والمصائب فهي محفوفة بإنعام قبلها وإنعام بعدها فتبارك الله رب العالمين.
ومنها استخراجه تعالى ما كان كامنا في نفس عدوه إبليس من الكبر والمعصية الذي ظهر عند أمره بالسجود فاستحق اللعنة والطرد والإبعاد على ما كان كامنا في نفسه عند إظهاره والله تعالى كان يعلم منه ولم يكن ليعاقبه ويلعنه على علمه فيها بل على وقوع معلومة فكان أمره بالسجود له مع الملائكة مظهرا للخبث والكفر الذي كان كامنا فيه ولم تكن الملائكة تعلمه فأظهر لهم سبحانه ما كان يعلمه وكان خافيا عنهم من أمره فكان في الأمر بالسجود له تكريما لخليفته الذي أخبرهم بجعله في الأرض وجبرا له وتأديبا للملائكة وإظهارا لما كان مستخفيا في نفس إبليس وكان ذلك سببا لتمييز الخبيث من الطيب وهذا من بعض حكمه تعالى في إسجادهم لآدم ثم إنه سبحانه لما علم آدم ما علمه ثم امتحن الملائكة بعلمه فلم يعلموه فأنبأهم به آدم وكان في طي ذلك جوابا لهم عن كون هذا الخليفة لا فائدة في جعله في الأرض فإنه يفسد فيها ويسفك الدماء فأراهم من فضله وعلمه خلاف ما كان في ظنهم.
* (فَصْلٌ المَشْهَدُ الخامِسُ وهو أحَدُ مَشاهِدِ أهْلِ الِاسْتِقامَةِ: مَشْهَدُ الحِكْمَةِ)
وَهُوَ مَشْهَدُ حِكْمَةِ اللَّهِ في تَقْدِيرِهِ عَلى عَبْدِهِ ما يُبْغِضُهُ سُبْحانَهُ ويَكْرَهُهُ، ويَلُومُ ويُعاقِبُ عَلَيْهِ، وأنَّهُ لَوْ شاءَ لَعَصَمَهُ مِنهُ، ولَحالَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ، وأنَّهُ سُبْحانَهُ لا يُعْصى قَسْرًا، وأنَّهُ لا يَكُونُ في العالَمِ شَيْءٌ إلّا بِمَشِيئَتِهِ ﴿ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ﴾ [الأعراف: ٥٤].
وَهَؤُلاءِ يَشْهَدُونَ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا عَبَثًا ولا سُدًى، وأنَّهُ لَهُ الحِكْمَةُ البالِغَةُ في كُلِّ ما قَدَّرَهُ وقَضاهُ مِن خَيْرٍ وشَرٍّ، وطاعَةٍ ومَعْصِيَةٍ، وحِكْمَةٍ باهِرَةٍ تَعْجِزُ العُقُولُ عَنِ الإحاطَةِ بِكُنْهِها، وتَكِلُّ الألْسُنُ عَنِ التَّعْبِيرِ عَنْها.
فَمَصْدَرُ قَضائِهِ وقَدَرِهِ لِما يُبْغِضُهُ ويُسْخِطُهُ اسْمُهُ الحَكِيمُ الَّذِي بَهَرَتْ حِكْمَتُهُ الألْبابَ، وقَدْ قالَ تَعالى لِمَلائِكَتِهِ لَمّا قالُوا ﴿أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: ٣٠] فَأجابَهم سُبْحانَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠] فَلِلَّهِ سُبْحانَهُ في ظُهُورِ المَعاصِي والذُّنُوبِ والجَرائِمِ وتَرَتُّبِ آثارِها مِنَ الآياتِ والحِكَمِ، وأنْواعِ التَّعَرُّفاتِ إلى خَلْقِهِ، وتَنْوِيعِ آياتِهِ، ودَلائِلِ رُبُوبِيَّتِهِ ووَحْدانِيَّتِهِ، وإلَهِيَّتِهِ، وحِكْمَتِهِ، وعِزَّتِهِ، وتَمامِ مُلْكِهِ، وكَمالِ قُدْرَتِهِ، وإحاطَةِ عِلْمِهِ ما يَشْهَدُهُ أُولُو البَصائِرِ عِيانًا بِبَصائِرِ قُلُوبِهِمْ، فَيَقُولُونَ ﴿رَبَّنا ما خَلَقْتَ هَذا باطِلًا سُبْحانَكَ﴾ [آل عمران: ١٩١] إنْ هي إلّا حِكْمَتُكَ الباهِرَةُ، وآياتُكَ الظّاهِرَةُ.
؎وَلِلَّهِ في كُلِّ تَحْرِيكَةٍ ∗∗∗ وتَسْكِينَةٍ أبَدًا شاهِدُ
؎وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ∗∗∗ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ واحِدُ
فَكَمْ مِن آيَةٍ مِنَ الأرْضِ بَيِّنَةٍ، دالَّةٍ عَلى اللَّهِ، وعَلى صِدْقِ رُسُلِهِ، وعَلى أنَّ لِقاءَهُ حَقٌّ، كانَ سَبَبُها مَعاصِيَ بَنِي آدَمَ وذُنُوبَهُمْ، كَآيَتِهِ في إغْراقِ قَوْمِ نُوحٍ، وعُلُوِّ الماءِ عَلى رُءُوسِ الجِبالِ حَتّى أغْرَقَ جَمِيعَ أهْلِ الأرْضِ ونَجّى أوْلِياءَهُ، وأهْلَ مَعْرِفَتِهِ وتَوْحِيدِهِ، فَكَمْ في ذَلِكَ مِن آيَةٍ وعِبْرَةٍ، ودَلالَةٍ باقِيَةٍ عَلى مَرِّ الدُّهُورِ؟! وكَذَلِكَ إهْلاكُ قَوْمِ عادٍ وثَمُودَ.
وَكَمْ لَهُ مِن آيَةٍ في فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ مِن حِينِ بَعَثَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ إلَيْهِمْ بَلْ قَبْلَ مَبْعَثِهِ إلى حَيْثُ إغْراقُهُمْ، لَوْلا مَعاصِيهِمْ وكُفْرُهم لَمْ تَظْهَرْ تِلْكَ الآياتُ والعَجائِبُ، وفي التَّوْراةِ أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ لِمُوسى: اذْهَبْ إلى فِرْعَوْنَ فَإنِّي سَأُقَسِّي قَلْبَهُ، وأمْنَعُهُ عَنِ الإيمانِ لِأُظْهِرَ آياتِي وعَجائِبِي بِمِصْرَ، وكَذَلِكَ فَعَلَ سُبْحانَهُ فَأظْهَرَ مِن آياتِهِ وعَجائِبِهِ بِسَبَبِ ذُنُوبِ فِرْعَوْنَ وقَوْمِهِ ما أظْهَرَ.
وَكَذَلِكَ إظْهارُهُ سُبْحانَهُ ما أظْهَرَ مِن جَعْلِ النّارِ بَرْدًا وسَلامًا عَلى إبْراهِيمَ بِسَبَبِ ذُنُوبِ قَوْمِهِ ومَعاصِيهِمْ، وإلْقائِهِمْ لَهُ في النّارِ، حَتّى صارَتْ تِلْكَ آيَةً، وحَتّى نالَ إبْراهِيمُ بِها ما نالَ مِن كَمالِ الخُلَّةِ.
وَكَذَلِكَ ما حَصَلَ لِلرُّسُلِ مِنَ الكَرامَةِ والمَنزِلَةِ والزُّلْفى عِنْدَ اللَّهِ والوَجاهَةِ عِنْدَهُ، بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ عَلى أذى قَوْمِهِمْ، وعَلى مُحارَبَتِهِمْ لَهم ومُعاداتِهِمْ.
وَكَذَلِكَ اتِّخاذُ اللَّهِ تَعالى الشُّهَداءَ والأوْلِياءَ والأصْفِياءَ مِن بَنِي آدَمَ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ عَلى أذى بَنِي آدَمَ مِن أهْلِ المَعاصِي والظُّلْمِ، ومُجاهَدَتِهِمْ في اللَّهِ، وتَحَمُّلِهِمْ لِأجْلِهِ مِن أعْدائِهِ ما هو بِعَيْنِهِ وعِلْمِهِ، واسْتِحْقاقُهم بِذَلِكَ رِفْعَةُ الدَّرَجاتِ.
إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ المَصالِحِ والحِكَمِ الَّتِي وُجِدَتْ بِسَبَبِ ظُهُورِ المَعاصِي والجَرائِمِ، وكانَ مِن سَبَبِها تَقْدِيرُ ما يَبْغَضُهُ اللَّهُ ويَسْخَطُهُ، وكانَ ذَلِكَ مَحْضَ الحِكْمَةِ لِما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِمّا هو أحَبُّ إلَيْهِ وآثَرُ عِنْدَهُ مِن فَوْتِهِ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ المَعْصِيَةِ.
فَحُصُولُ هَذا المَحْبُوبِ العَظِيمِ أحَبُّ إلَيْهِ مِن فَواتِ ذَلِكَ المَبْغُوضِ المَسْخُوطِ، فَإنَّ فَواتَهُ وعَدَمَهُ وإنْ كانَ مَحْبُوبًا لَهُ لَكِنَّ حُصُولَ هَذا المَحْبُوبِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يَحْصُلُ بِدُونِ وُجُودِ ذَلِكَ المَكْرُوهِ المَسْخُوطِ، وكَمالُ حِكْمَتِهِ تَقْتَضِي حُصُولَ أحَبِّ الأمْرَيْنِ إلَيْهِ بِفَواتِ أدْنى المَحْبُوبِينِ، وأنْ لا يُعَطَّلَ هَذا الأحَبُّ بِتَعْطِيلِ ذَلِكَ المَكْرُوهِ، وفَرْضُ الذِّهْنِ وُجُودَ هَذا بِدُونِ هَذا، كَفَرْضِهِ وُجُودَ المُسَبَّباتِ بِدُونِ أسْبابِها، والمَلْزُوماتِ بِدُونِ لَوازِمِها مِمّا تَمْنَعُهُ حِكْمَةُ اللَّهِ، وكَمالُ قُدْرَتِهِ ورُبُوبِيَّتِهِ.
وَيَكْفِي مِن هَذا مِثالٌ واحِدٌ، وهو أنَّهُ لَوْلا المَعْصِيَةُ مِن أبِي البَشَرِ بِأكْلِهِ مِنَ الشَّجَرَةِ لَما تَرَتَّبَ عَلى ذَلِكَ ما تَرَتَّبَ مِن وُجُودِ هَذِهِ المَحْبُوباتِ العِظامِ لِلرَّبِّ تَعالى، مِنَ امْتِحانِ خَلْقِهِ وتَكْلِيفِهِمْ، وإرْسالِ رُسُلِهِ، وإنْزالِ كُتُبِهِ، وإظْهارِ آياتِهِ وعَجائِبِهِ وتَنْوِيعِها وتَصْرِيفِها، وإكْرامِ أوْلِيائِهِ، وإهانَةِ أعْدائِهِ، وظُهُورِ عَدْلِهِ وفَضْلِهِ، وعِزَّتِهِ وانْتِقامِهِ، وعَفْوِهِ ومَغْفِرَتِهِ وصَفْحِهِ وحِلْمِهِ، وظُهُورِ مَن يَعْبُدُهُ ويُحِبُّهُ ويَقُومُ بِمَراضِيهِ بَيْنَ أعْدائِهِ في دارِ الِابْتِلاءِ والِامْتِحانِ.
فَلَوْ قَدَّرَ أنَّ آدَمَ لَمْ يَأْكُلْ مِنَ الشَّجَرَةِ، ولَمْ يُخْرَجْ مِنَ الجَنَّةِ هو وأوْلادُهُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِن تِلْكَ، ولا ظَهَرَ مِنَ القُوَّةِ إلى الفِعْلِ ما كانَ كامِنًا في قَلْبِ إبْلِيسَ يَعْلَمُهُ اللَّهُ ولا تَعْلَمُهُ المَلائِكَةُ، ولَمْ يَتَمَيَّزْ خَبِيثُ الخَلْقِ مِن طَيِّبِهِمْ، ولَمْ تَتِمَّ المَمْلَكَةُ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ هُناكَ إكْرامٌ وثَوابٌ، وعُقُوبَةٌ وإهانَةٌ، ودارُ سَعادَةٍ وفَضْلٍ، ودارُ شَقاوَةٍ وعَدْلٍ.
وَكَمْ في تَسْلِيطِ أوْلِيائِهِ عَلى أعْدائِهِ، وتَسْلِيطِ أعْدائِهِ عَلى أوْلِيائِهِ، والجَمْعِ بَيْنَهُما في دارٍ واحِدَةٍ، وابْتِلاءِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ مِن حِكْمَةٍ بالِغَةٍ، ونِعْمَةٍ سابِغَةٍ!.
وَكَمْ فِيها مِن حُصُولِ مَحْبُوبٍ لِلرَّبِّ، وحَمْدٍ لَهُ مِن أهْلِ سَماواتِهِ وأرْضِهِ، وخُضُوعٍ لَهُ وتَذَلُّلٍ، وتَعَبُّدٍ وخَشْيَةٍ وافْتِقارٍ إلَيْهِ، وانْكِسارٍ بَيْنَ يَدَيْهِ أنْ لا يَجْعَلَهم مِن أعْدائِهِ، إذْ هم يُشاهِدُونَهم ويُشاهِدُونَ خِذْلانَ اللَّهِ لَهُمْ، وإعْراضَهُ عَنْهُمْ، ومَقْتَهُ لَهُمْ، وما أعَدَّ لَهم مِنَ العَذابِ، وكُلُّ ذَلِكَ بِمَشِيئَتِهِ وإرادَتِهِ، وتَصَرُّفِهِ في مَمْلَكَتِهِ، فَأوْلِياؤُهُ مِن خَشْيَةِ خِذْلانِهِ خاضِعُونَ مُشْفِقُونَ، عَلى أشَدِّ وجَلِّ، وأعْظَمِ مَخافَةٍ، وأتَمِّ انْكِسارٍ.
فَإذا رَأتِ المَلائِكَةُ إبْلِيسَ وما جَرى لَهُ، وهارُوتَ ومارُوتَ وضَعَتْ رُءُوسَها بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ خُضُوعًا لِعَظَمَتِهِ، واسْتِكانَةً لِعِزَّتِهِ، وخَشْيَةً مِن إبْعادِهِ وطَرْدِهِ، وتَذَلُّلًّا لِهَيْبَتِهِ، وافْتِقارًا إلى عِصْمَتِهِ ورَحْمَتِهِ، وعَلِمَتْ بِذَلِكَ مِنَّتَهُ عَلَيْهِمْ، وإحْسانَهُ إلَيْهِمْ، وتَخْصِيصَهُ لَهم بِفَضْلِهِ وكَرامَتِهِ.
وَكَذَلِكَ أوْلِياؤُهُ المُتَّقُونَ، إذا شاهَدُوا أحْوالَ أعْدائِهِ ومَقْتَهُ لَهُمْ، وغَضَبَهُ عَلَيْهِمْ، وخِذْلانَهُ لَهُمْ، ازْدادُوا خُضُوعًا وذُلًّا، وافْتِقارًا وانْكِسارًا، وبِهِ اسْتِعانَةً وإلَيْهِ إنابَةً، وعَلَيْهِ تَوَكُّلًا، وفِيهِ رَغْبَةً، ومِنهُ رَهْبَةً، وعَلِمُوا أنَّهم لا مَلْجَأ لَهم مِنهُ إلّا إلَيْهِ، وأنَّهم لا يُعِيذُهم مِن بَأْسِهِ إلّا هُوَ، ولا يُنْجِيهِمْ مِن سَخَطِهِمْ إلّا مَرْضاتُهُ، فالفَضْلُ بِيَدِهِ أوَّلًا وآخِرًا.
وَهَذِهِ قَطْرَةٌ مِن بَحْرِ حِكْمَتِهِ المُحِيطَةِ بِخَلْقِهِ، والبَصِيرُ يُطالِعُ بِبَصِيرَتِهِ ما وراءَهُ، فَيُطْلِعُهُ عَلى عَجائِبَ مِن حِكْمَتِهِ، لا تَبْلُغُها العِبارَةُ، ولا تَنالُها الصِّفَةُ.
وَأمّا حَظُّ العَبْدِ في نَفْسِهِ، وما يَخُصُّهُ مِن شُهُودِ هَذِهِ الحِكْمَةِ فَبِحَسَبِ اسْتِعْدادِهِ وقُوَّةِ بَصِيرَتِهِ، وكَمالِ عِلْمِهِ ومَعْرِفَتِهِ بِاللَّهِ وأسْمائِهِ وصِفاتِهِ، ومَعْرِفَتِهِ بِحُقُوقِ العُبُودِيَّةِ والرُّبُوبِيَّةِ، وكُلُّ مُؤْمِنٍ لَهُ مِن ذَلِكَ شِرْبٌ مَعْلُومٌ، ومَقامٌ لا يَتَعَدّاهُ ولا يَتَخَطّاهُ، واللَّهُ المُوَفِّقُ والمُعِينُ.
{"ayah":"وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی جَاعِلࣱ فِی ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَةࣰۖ قَالُوۤا۟ أَتَجۡعَلُ فِیهَا مَن یُفۡسِدُ فِیهَا وَیَسۡفِكُ ٱلدِّمَاۤءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّیۤ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق