الباحث القرآني
ولَمّا ذَكَرَ (p-٢٢٦)الحَياةَ والمَوْتَ المُشاهَدَيْنِ تَنْبِيهًا عَلى القُدْرَةِ عَلى ما أتْبَعَهُما بِهِ مِنَ البَعْثِ ثُمَّ دَلَّ عَلى ذَلِكَ أيْضًا بِخَلْقِ هَذا الكَوْنِ كُلِّهِ عَلى هَذا النِّظامِ البَدِيعِ وخَتَمَ ذَلِكَ بِصِفَةِ العِلْمِ ذَكَرَ ابْتِداءَ خَلْقِ هَذا النَّوْعِ البَشَرِيِّ المُودَعِ مِن صِفَةِ العِلْمِ ما ظَهَرَ بِهِ فَضْلُهُ بِقَوْلِهِ تَعالى عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البقرة: ٢١] وبَيانًا لِقَوْلِهِ: ﴿رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢] إذْ مِنَ البَدْءَةِ تُعْلَمُ العَوْدَةُ لِمَن تَدَبَّرَ، أوْ يَكُنْ عَطْفًا عَلى ما تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ هَذا لَهم، وذَلِكَ أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا خاطَبَهم بِهَذا الِاسْتِفْهامِ الَّذِي مِن مَعانِيهِ الإنْكارُ ذاكِرًا الِاسْمَ الأعْظَمَ الَّذِي هو أعْلى الأسْماءِ وأبْطَنُها غَيْبًا والضَّمِيرُ الَّذِي ”هو“ أبْطَنُ مِنهُ، وأتْبَعَهُ بَعْضَ ما هم لَهُ مُنْكِرُونَ أوْ بِهِ جاهِلُونَ، وأشارَ بِقَوْلِهِ: ”لَكم“ مُثْبَتَةً فِيما هو ظاهِرٌ عِنْدَهم ومَحْذُوفَةً مِمّا هو خَفِيٌّ عَنْهم، كَما نَبَّهَ عَلَيْهِ في الِاحْتِباكِ إلى أنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ هَذا النَّوْعَ البَشَرِيَّ لِلْفَناءِ بَلْ لِلْبَقاءِ بِما أبانَ عَنْ أنَّهُ إنَّما خَلَقَ جَمِيعَ (p-٢٢٧)ما في هَذِهِ الأكْوانِ لِأجْلِهِمْ، فالبَعْضُ رِزْقٌ لَهم والبَعْضُ أسْبابٌ لَهُ، والبَعْضُ أسْجَدَهم لِأبِيهِمْ وهم في صُلْبِهِ ووَكَّلَهم بِهِمْ في حِفْظِ أعْمالِهِمْ وقَسْمِ أرْزاقِهِمْ ونَفْخِ أرْواحِهِمْ وغَيْرِ ذَلِكَ مِن تَرْبِيَتِهِمْ وإصْلاحِهِمْ؛ لَمْ يَكُونُوا أهْلًا لِفَهْمِ هَذا الخِطابِ حَقَّ فَهْمِهِ تَلَقِّيًا عَنِ اللَّهِ لِعُلُوِّهِ سُبْحانَهُ وعُلُوِّ هَذا الخِطابِ بِالأسْماءِ الباطِنَةِ وما نُظِمَ بِها مِنَ المَعانِي اللّائِقَةِ بِها عُلُوًّا وغَيْبًا فَأعْلَمَ سُبْحانَهُ بِعَطْفِ ”إذْ“ عَلى غَيْرِ ظاهِرٍ أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى (p-٢٢٨)نَحْوِ: اذْكُرْ لَهم أيُّها الرَّسُولُ هَذا، لِأنَّهُ لا يَفْهَمُهُ حَقَّ فَهْمِهِ عَنّا سِواكَ، وهم إلى الفَهْمِ عَنْكَ أقْرَبُ ”وإذْ“ أيْ واذْكُرْ ما اتَّفَقَ إذْ، وحُذِفَ هَذا المَعْطُوفُ عَلَيْهِ لِاحْتِمالِ المَأْمُورِ بِذِكْرِهِ الإنْكارَ والسِّياقُ لِإيرادِ الرِّفْقِ والبَشارَةِ عَلى لِسانِهِ ﷺ اسْتِعْطافًا لَهم إلَيْهِ وتَحْبِيبًا فِيهِ وفي حَذْفِهِ أيْضًا والدَّلالَةِ عَلَيْها بِالعاطِفِ حَثٌّ عَلى تَدَبُّرِ ما قَبْلَهُ تَنْبِيهًا عَلى جَلالَةِ مِقْدارِهِ ودِقَّةِ أسْرارِهِ، ولَمّا عُلِمَتِ الإشارَةُ لَكِنْ لِأهْلِ البِصارَةِ أتْبَعَها قِصَّةَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ دَلِيلًا ظاهِرًا ومِثالًا بَيِّنًا لِخُلاصَةِ ما أُرِيدَ بِهَذِهِ الجُمَلِ مِمّا نَبَّهَ عَلَيْهِ بِالعاطِفِ مِن أنَّ النَّوْعَ الآدَمِيَّ هو المَقْصُودُ بِالذّاتِ مِن هَذا الوُجُودِ، وأنَّهُ لا يَجُوزُ في الحِكْمَةِ أنْ يُتْرَكَ بَعْدَ مَوْتِهِ مِن غَيْرِ إحْياءٍ يُرَدُّ بِهِ إلى دارٍ لا يَكُونُ في شَيْءٍ مِن أُمُورِها مِن أحَدٍ نَوْعٌ مِنَ الخَلَلِ وتَكُونُ الحِكْمَةُ فِيها ظاهِرَةً جِدًّا لا خَفاءَ بِها أصْلًا. فَيَظْهَرُ الحَمْدُ أتَمَّ ظُهُورٍ؛ ولِذَلِكَ ذَكَرَ تَفْضِيلَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ (p-٢٢٩)بِالعِلْمِ، ثُمَّ بِإسْجادِ المَلائِكَةِ لَهُ، ثُمَّ بِإسْكانِهِ الجَنَّةَ، ثُمَّ بِتَلَقِّي أسْبابِ التَّوْبَةِ عِنْدَ صُدُورِ الهَفْوَةِ؛ وقَدْ رَوى البَيْهَقِيُّ في أواخِرِ الدَّلائِلِ، والحارِثُ بْنُ أبِي أُسامَةَ، والحاكِمُ في المُسْتَدْرِكِ عَنْ بِشْرِ بْنِ شَغافٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: ”إنَّ أكْرَمَ خَلِيقَةِ اللَّهِ عَلى اللَّهِ: أبُو القاسِمِ ﷺ، قُلْتُ: رَحِمَكَ اللَّهُ ! فَأيْنَ المَلائِكَةُ ؟ فَنَظَرَ إلَيَّ وضَحِكَ فَقالَ: يا ابْنَ أخِي ! وهَلْ تَدْرِي ما المَلائِكَةُ ؟ إنَّما المَلائِكَةُ خَلْقٌ كَخَلْقِ الأرْضِ وخَلْقِ السَّماءِ وخَلْقِ السَّحابِ وخَلْقِ الجِبالِ وخَلْقِ الرِّياحِ وسائِرِ الخَلائِقِ الَّتِي لا تَعْصِي اللَّهَ شَيْئًا، وإنَّ أكْرَمَ الخَلائِقِ عَلى اللَّهِ أبُو القاسِمِ ﷺ“ . وقالَ البَيْهَقِيُّ: إنَّهُ لَيْسَ بِمَوْقُوفٍ بَلْ حُكْمُهُ الرَّفْعُ. وقالَ الحَرالِّيُّ: لَمّا جَعَلَ اللَّهُ تَعالى نُورَ العَقْلِ هادِيًا لِآياتِ ما ظَهَرَ في الكَوْنِ، وكانَ مِنَ الخَلْقِ مُهْتَدٍ بِهِ ومُعْرِضٌ عَنْهُ بَعْثَ اللَّهِ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ لِمَنِ اهْتَدى بِنُورِ العَقْلِ بِمُقْتَضى الآياتِ المَحْسُوسَةِ وتِلْكَ هي الحَنِيفِيَّةُ والمِلَّةُ الإبْراهِيمِيَّةُ، ومُنْذِرِينَ لِمَن أعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ وشَغَلَتْهُ شَهَواتُ دُنْياهُ، (p-٢٣٠)فَتَرَتَّبَ لِذَلِكَ خِطابُ الكِتابِ بَيْنَ ما يُخاطِبُ بِهِ الأعْلَيْنَ المُهْتَدِينَ وبَيْنَ ما يُخاطِبُ بِهِ الأدْنَيْنَ المُعْرِضِينَ، وكَذَلِكَ تَفاوَتَ الخِطابُ بَيْنَ ما يُخاطِبُ بِهِ الأئِمَّةَ المُهْتَدِينَ والمُؤْتَمُّونَ بِهِمْ، فَكانَ أعْلى الخِطابِ ما يُقْبِلُ عَلى إمامِ الأئِمَّةِ وسَيِّدِ السّاداتِ وأحْظى خَلْقِ اللَّهِ عِنْدَ اللَّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ . فَكانَ أوَّلُ الخِطابِ بِـ ﴿الم﴾ [البقرة: ١] ﴿ذَلِكَ الكِتابُ﴾ [البقرة: ٢] إقْبالًا عَلَيْهِ وإيتاءً لَهُ مِنَ الذِّكْرِ الأوَّلِ كَما قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: «أُوتِيَتُ البَقَرَةَ وآلَ عِمْرانَ مِنَ الذِّكْرِ الأوَّلِ» وهو أوَّلُ مَكْتُوبٍ حِينَ كانَ اللَّهُ ولا شَيْءَ مَعَهُ، وكُتِبَ في الذِّكْرِ الأوَّلِ كُلُّ شَيْءٍ، فَخاطَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بِما في الذِّكْرِ الأوَّلِ وأنْزَلَهُ قُرْآنًا لِيَكُونَ آخِرَ المُنْزَلِ الخاتَمِ هو أوَّلُ الذِّكْرِ السّابِقِ لِيَكُونَ الآخِرَ الأوَّلَ في كِتابِهِ كَما هو في ذاتِهِ، فَمِن حَيْثُ كانَ الخِطابُ الأوَّلُ مِن أعْلى خِطابِ اللَّهِ لِمُحَمَّدٍ ﷺ انْتَظَمَ بِهِ ما هو أدْنى خِطابٍ مِن آياتِ الدَّعْوَةِ تَنْبِيهًا لِمَن أعْرَضَ عَنِ الِاسْتِضاءَةِ بِنُورِ العَقْلِ لِما بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ مِن (p-٢٣١)تَناسُبِ التَّقابُلِ؛ ثُمَّ عادَ وجْهُ الخِطابِ إلَيْهِ ﷺ بِما هو إعْلامٌ بِغائِبِ الماضِي عَنْ كائِنِ الوَقْتِ مِن أمْرِ ابْتِداءِ مُفاوَضَةِ الحَقِّ مَلائِكَتَهُ في خَلْقِ آدَمَ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَرْغِيبًا لِلْمُبَشَّرِينَ في عُلُوِّ الرُّتَبِ إلى التَّكامُلِ كَما كانَتْ آيَةُ الدَّعْوَةِ تَنْبِيهًا لِلْمُعْرِضِينَ لِيَعُودُوا إلى الإقْبالِ، وخُصُوصُ الإنْزالِ إنَّما هو في الإنْباءِ بِغَيْبِ الكَوْنِ مِن مَلَكُوتِهِ وغائِبِ أيّامِ اللَّهِ الماضِيَةِ ومُنْتَظَرِ أيّامِ اللَّهِ الآتِيَةِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَخُصُّ المُهْتَدِينَ بِنُورِ العَقْلِ لِيَتَرَقَّوْا مِن حَدِّ الإيمانِ إلى رُتْبَةِ اليَقِينِ، وإنَّما يَرِدُ التَّنْبِيهُ والتَّنْزِيلُ بِما في نُورِ العَقْلِ هِدايَتُهُ مِن أجْلِ المُعْرِضِينَ؛ فَكانَ ما شَمِلَهُ التَّنْزِيلُ بِذَلِكَ أرْبَعَةَ أُمُورٍ: أحَدُها التَّنْبِيهُ عَلى الآياتِ بِمُقْتَضى أسْماءِ اللَّهِ مِنِ اسْمِهِ المَلِكِ إلى اسْمِهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إلى اسْمِهِ رَبِّ العالَمِينَ إلى اسْمِهِ العَظِيمِ الَّذِي هو اللَّهُ، والثّانِي التَّنْبِيهُ عَلى غائِبِ المُنْتَظَرِ الَّذِي الخَلْقُ صائِرُونَ إلَيْهِ تَرْغِيبًا وتَرْهِيبًا، والثّالِثُ الإعْلامُ بِماضِي أمْرِ اللَّهِ جَمْعًا لِلْهِمَمِ لِلْجِدِّ والِانْكِماشِ في عِبادَةِ اللَّهِ، والرّابِعُ التَّبْصِيرُ بِبَواطِنِ كائِنِ الوَقْتِ الَّذِي في ظاهِرِهِ إعْلامُهُ؛ فَكانَ أوَّلُ التَّنْزِيلِ في هَذِهِ السُّورَةِ أمْرَ أوَّلِ يَوْمٍ مِن ذِكْرِ اللَّهِ وهو كَتْبُ مُقْتَضى العِلْمِ والقُدْرَةِ في قَسْمِهِ تَعالى عِبادَهُ بَيْنَ مُؤْمِنٍ وكافِرٍ ومُنافِقٍ، ثُمَّ أنْزَلَ الخِطابَ إلى آيَةِ الدَّعْوَةِ مِن وراءِ حِجابِ السِّتْرِ بِسابِقِ التَّقْدِيرِ فَعَمَّ بِهِ النّاسَ ونَبَّهَهم (p-٢٣٢)عَلى آياتِ رُبُوبِيَّتِهِ وحْيًا أوْحاهُ اللَّهُ مِنهُ إلَيْهِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلى ذَلِكَ إعْلامًا لِابْتِداءِ المُفاوَضَةِ في خَلْقِ آدَمَ عَطْفًا عَلى ذَلِكَ الَّذِي يُعْطِيهِ إفْهامُ هَذا الإفْصاحِ، فَلِذَلِكَ قالَ تَعالى: ”وإذْ“ فَإنَّ الواوَ حَرْفٌ يُجْمَعُ ما بَعْدَهُ مَعَ شَيْءٍ قَبْلَهُ إفْصاحًا في اللَّفْظِ أوْ إفْهامًا في المَعْنى، وإنَّما يَقَعُ ذَلِكَ لِمَن يَعْلُو خِطابُهُ ولا يَرْتابُ في إبْلاغِهِ. وإذْ اسْمٌ مُبْهَمٌ لِما مَضى مِنَ الأمْرِ والوَقْتِ، ”قالَ“ مِنَ القَوْلِ وهو إبْداءُ صُوَرِ الكَلِمِ نَظْمًا بِمَنزِلَةِ ائْتِلافِ الصُّوَرِ المَحْسُوسَةِ جَمْعًا، فالقَوْلُ مَشْهُودُ القَلْبِ بِواسِطَةِ الأُذُنِ، كَما أنَّ المَحْسُوسَ مَشْهُودُ القَلْبِ بِواسِطَةِ العَيْنِ وغَيْرِهِ.
ثُمَّ قالَ: لَمّا أنْبَأ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ نَبِيَّهُ ﷺ بِما في الذِّكْرِ مِنَ التَّقْدِيرِ الَّذِي هو خَبْءُ الشِّرْعَةِ ونَظَمَ بِهِ ما أنْزَلَ مِن دَعْوَةِ الخَلْقِ إلى حُكْمِهِ فانْتَظَمَ ذَلِكَ رُتْبَتَيْ أمْرٍ نَظَمَ تَعالى بِذَلِكَ إنْزالَ ذِكْرِ خَلْقٍ مَعْطُوفًا عَلى ذِكْرِ خَلْقٍ أعْلى رُتْبَةً مِنهُ، نِسْبَتُهُ مِنهُ كَنِسْبَةِ الدَّعْوَةِ مِن خَبْئِها، فَذَكَرَ خَلْقَ آدَمَ ظاهِرَ خَبْءِ ما عَطَفَ عَلَيْهِ وهو واللَّهُ أعْلَمُ ذِكْرُ خَلْقِ مُحَمَّدٍ ﷺ الَّذِي هو خَبْءُ خَلْقِ آدَمَ، فَكَأنَّهُ تَعالى أعْلَمَ نَبِيَّهُ ﷺ بِأمْرِ خَلْقِهِ لَهُ بَدْءَ وحْيِ سِرٍّ ثُمَّ أعْلَنَ بِما عَطَفَ عَلَيْهِ (p-٢٣٣)مِن ذِكْرِ خَلْقِ آدَمَ وحْيَ عَلَنٍ لِيَكُونَ أمْرُ خَلْقِ مُحَمَّدٍ ﷺ عِنْدَ الخاصَّةِ فَهْمًا كَما كانَ أمْرُ خَلْقِ آدَمَ عِنْدَ العامَّةِ إفْصاحًا؛ وكانَ المَفْهُومُ: اذْكُرْ يا مُحَمَّدُ إذْ كانَ في خَلْقِكَ كَذا ﴿وإذْ قالَ رَبُّكَ﴾ أيِ المُحْسِنُ إلَيْكَ بِرَحْمَةِ العِبادِ بِكَ الَّذِي خَبَّأكَ في إظْهارِ خَلْقِ آدَمَ ﴿لِلْمَلائِكَةِ﴾ ما أنْزَلَ، وتَأْوِيلُ المَلائِكَةِ عِنْدَ أهْلِ العَرَبِيَّةِ أنَّهُ جَمْعُ مَلاكٍ مَقْلُوبٌ مِن مَأْلَكٍ مِنَ الألْكِ وهي الرِّسالَةُ، فَتَكُونُ المِيمُ زائِدَةً ويَكُونُ وزْنُهُ مَعافِلَةً، ويَكُونُ المَلَكُ مِنَ المَلْكِ وهو إحْكامُ ما مِنهُ التَّصْوِيرُ، مِن مَلَكَتِ (p-٢٣٤)العَجِينُ، وجَمْعُهُ أمْلاكٌ، تَكُونُ فِيهِ المِيمُ أصْلِيَّةً، فَلْيَكُنِ اسْمُ مَلائِكَةٍ جامِعًا لِلْمَعْنَيَيْنِ مَنحُوتًا مِنَ الأصْلَيْنِ، فَكَثِيرًا ما يُوجَدُ ذَلِكَ في أسْماءِ الذَّواتِ الجامِعَةِ كَلَفْظِ إنْسانٍ بِما ظَهَرَ فِيهِ مِن أنَّهُ مِنَ الأُنْسِ والنِّسْيانِ مَعًا، وهو وضْعٌ لِلْكَلِمِ عَلى مَقْصِدٍ أفْصَحَ وأعْلى مِمّا يَخُصُّ بِهِ اللَّفْظُ مَعْنًى واحِدًا، فَلِلْكَلامِ رُتْبَتانِ: رُتْبَةٌ عامَّةٌ ورُتْبَةٌ خاصَّةٌ أفْصَحُ وأعْلى كَلِمًا وكَلامًا.
قالَ: وفِيهِ - أيْ هَذا الخِطابِ - مَعَ ذَلِكَ اسْتِخْلاصٌ لِبَواطِنِ أهِلِ الفَطانَةِ مِن أنَّ تَعَلُّقَ بَواطِنِهِمْ بِأحَدٍ مِن دُونِهِ حِينَ أبْدى لَهُمُ انْفِرادَهُ بِإظْهارِهِمْ خَلْقًا دُونَ مَلائِكَتِهِ الأكْرَمِينَ، حَتّى لا تُعَلَّقَ قُلُوبُهم بِغَيْرِهِ مَن أهْلِ الِاصْطِفاءِ فَكَيْفَ بِمَن يَكُونُ في مَحَلِّ البُعْدِ والإقْصاءِ ! تَوْطِئَةً لِقَبِيحِ ما يَقَعُ مِن بَعْضِهِمْ مِنِ اتِّباعِ خُطُواتِ الشَّيْطانِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ في كُلِّ آيَةٍ مَعْنًى تَنْتَظِمُ بِهِ بِما قَبْلَها ومَعْنًى تَتَهَيَّأُ بِهِ لِلِانْتِظامِ بِما بَعْدَها؛ وبِذَلِكَ (p-٢٣٥)كانَ انْتِظامُ الآيِ داخِلًا في مَعْنى الإعْجازِ الَّذِي لا يَأْتِي الخَلْقُ بِمِثْلِهِ ولَوْ كانَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ ظَهِيرًا.
”إنِّي“ إنَّ حَرْفٌ يُفْهِمُ تَوْكِيدًا مِن ذاتِ نَفْسِ المُؤَكِّدِ وعِلْمِهِ، والياءُ اسْمٌ عَلِيٌّ يَخُصُّ المُضِيفَ إلى نَفْسِهِ الَّذِي يُضِيفُ الأشْياءَ إلَيْهِ،
﴿جاعِلٌ في الأرْضِ﴾ ولَمّا كانَتْ خِلافَةُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كامِلَةً في جَمِيعِ الأرْضِ بِنَفْسِهِ وبِذَرِّيَّتِهِ وحَّدَ لِذَلِكَ مَعَ أنَّهُ يَصِحُّ أنْ يُرادَ بِهِ الجِنْسُ فَقالَ: ﴿خَلِيفَةً﴾ الخَلِيفَةُ ذاتٌ قائِمٌ بِما يَقُومُ بِهِ المُسْتَخْلَفُ عَلى حَسَبِ رُتْبَةِ ذَلِكَ الخَلِيفَةِ مِنهُ، فَهو خَلِيفَةُ اللَّهِ في كَوْنِهِ مُلْكِهِ ومَلَكُوتِهِ، وهم أيْضًا بَعْضُهم خُلَفاءُ بَعْضٍ؛ فَهو خَلِيفَةٌ بِالمَعْنَيَيْنِ. انْتَهى.
وجَعَلَ سُبْحانَهُ هَذا التَّذْكِيرَ في سِياقٍ داعٍ إلى عِبادَتِهِ وقائِدٍ إلى مَحَبَّتِهِ حَيْثُ مَتَّ إلى هَذا النَّوْعِ الآدَمِيِّ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ وإحْسانِهِ إلَيْهِمْ قَبْلَ (p-٢٣٦)إيجادِهِمْ، فَذَكَرَ لَهم ما حاجَّ بِهِ مَلائِكَتَهُ عَنْهم، وما شَرَّفَ بِهِ أباهم آدَمَ مِنَ العِلْمِ وأمْرِ المَلائِكَةِ المُقَرَّبِينَ بِالسُّجُودِ لَهُ، ثُمَّ ما وقَعَ لِإبْلِيسَ مَعَهُ وهُما عَبْدانِ مِن عَبِيدِهِ فَتابَ عَلَيْهِ ولَمْ يَتُبْ عَلى إبْلِيسَ مَعَ سَبْقِهِ لَهُ بِالعِبادَةِ بَلْ أوْجَبَ طَرْدَهُ وأبَّدَ بُعْدَهُ فَقالَ تَعالى حِكايَةً عَنِ المَلائِكَةِ جَوابًا لِسُؤالِ مَن كَأنَّهُ قالَ ما قالُوا حِينَ أخْبَرَهم سُبْحانَهُ بِذَلِكَ: ”قالُوا“ طالِبِينَ الإيقانَ عَلى الحِكْمَةِ في إيجادِ مَن يَقَعُ مِنهُ شَرٌّ ﴿أتَجْعَلُ فِيها﴾ أيْ في الأرْضِ ﴿مَن يُفْسِدُ فِيها﴾ أيْ بِأنْواعِ المَعاصِي بِالقُوَّةِ الشَّهْوانِيَّةِ،
﴿ويَسْفِكُ﴾ (p-٢٣٧)مِنَ السَّفْكِ، قالَ الحَرالِّيُّ: وهو سَكْبٌ بِسَطْوَةٍ ﴿الدِّماءَ﴾ أيْ بِغَيْرِ حَقِّها بِالقُوَّةِ الغَضَبِيَّةِ، لِعَدَمِ عِصْمَتِهِمْ، وخَلْقِهِمْ جُوفًا لا يَتَمالَكُونَ، وأصْحابَ شَهَواتٍ عَلَيْها يَتَهالَكُونَ؛ وكَأنَّهم لَمّا رَأوْا صُورَةَ آدَمَ تَفَرَّسُوا فِيها ذَلِكَ لَوْ سَألُوا عَنْ مَنافِعِ أعْضائِهِ وما أُودِعَ فِيها مِنَ القُوى والمَعانِي أخْبَرَهم تَعالى بِما تَفَرَّسُوا مِنهُ ذَلِكَ والدَّمُ قالَ الحَرالِّيُّ: رِزْقُ البَدَنِ الأقْرَبُ إلَيْهِ المَحُوطُ فِيهِ ”ونَحْنُ“ أيْ والحالُ إنّا نَحْنُ، وهَذا الضَّمِيرُ (p-٢٣٨)كَما قالَ الحَرالِّيُّ: اسْمُ القائِلِ المُسْتَتْبِعِ لِمَن هو في طَوْعِ أمْرِهِ لا يُخالِفُهُ ﴿نُسَبِّحُ﴾ أيْ نُوقِعُ التَّسْبِيحَ أيِ التَّنْزِيهَ لَكَ والإبْعادَ عَمّا لا يَلِيقُ بِكَ مُلْتَبِسِينَ في التَّسْبِيحِ ﴿بِحَمْدِكَ﴾ والحاصِلُ إنّا نُبَرِّئُكَ عَنْ صِفاتِ النَّقْصِ حالَ إثْباتِنا لَكَ صِفاتِ الكَمالِ، وحُذِفَ المَفْعُولُ لِلتَّعْمِيمِ؛ وقالَ الحَرالِّيُّ: التَّسْبِيحُ تَنْزِيهُ الحَقِّ تَعالى عَنْ بادِيَةِ نَقْصٍ في خَلْقٍ أوْ رُتْبَةٍ، وحَمْدُ اللَّهِ اسْتِواءُ أمْرِهِ عُلُوًّا وسُفْلًا ومَحْوُ الذَّمِّ عَنْهُ والنَّقْصِ مِنهُ، وذَلِكَ تَسْبِيحٌ أيْضًا في عُلُوِّ أمْرِ اللَّهِ، فَما سَبَّحَ بِالحَمْدِ إلّا أهْلُ الحَمْدِ مِن آدَمَ ومُحَمَّدٍ ﷺ، فَغايَةُ المُسَبِّحِ الحَمْدُ، والحَمْدُ تَسْبِيحٌ لِمَن غايَتُهُ وراءَ ذَلِكَ الِاسْتِواءِ. انْتَهى.
﴿ونُقَدِّسُ﴾ أيْ نُطَهِّرُ كُلَّ شَيْءٍ نَقْدِرُ عَلَيْهِ مِن نُفُوسِنا وغَيْرِها، (p-٢٣٩)”لَكَ“ أيْ لا لِغَيْرِكَ لِعِصْمَتِنا بِكَ، أوِ المَعْنى نُوقِعُ التَّقْدِيسَ أيِ التَّطْهِيرَ لَكَ بِمَعْنى أنَّكَ في الغايَةِ مِنَ الطَّهارَةِ والعُلُوِّ في كُلِّ صِفَةٍ. قالَ الحَرالِّيُّ: القُدْسُ طَهارَةٌ دائِمَةٌ لا يَلْحَقُها نَجَسٌ ظاهِرٌ ولا رِجْسٌ باطِنٌ، واللّامُ تَعِلَّةٌ لِلشَّيْءِ لِأجْلِهِ كانَ ما أُضِيفَ بِهِ. انْتَهى.
ولَمّا تَضَمَّنَ تَفَرُّسُهم هَذا نِسْبَتَهم أنْفُسَهم إلى العِلْمِ المُثْمِرِ لِلْإحْسانِ، ونِسْبَةَ الخَلِيفَةِ إلى الجَهْلِ المُنْتِجِ لِلْإساءَةِ أعْلَمَنا سُبْحانَهُ لِنَشْكُرَهُ أنَّهُ حاجَّ مَلائِكَتَهُ عَنّا، فَبَيَّنَ لَهم أنَّ الأمْرَ عَلى خِلافِ ما ظَنُّوا بِقَوْلِهِ اسْتِئْنافًا: ﴿قالَ إنِّي أعْلَمُ﴾ أيْ مِن ذَلِكَ وغَيْرِهِ ﴿ما لا تَعْلَمُونَ﴾ وقالَ الحَرالِّيُّ: وأعْلَمَ تَعالى بِما أجْرى عَلَيْهِ خَلْقَهُ مِنَ القَضاءِ بِما ظَهَرَ والحُكْمِ عَلى الآتِي بِما مَضى حَيْثُ أنْبَأ عَنْ مَلائِكَتِهِ بِأنَّهم قَضَوْا عَلى الخَلِيفَةِ في الأرْضِ بِحالِ مَن تَقَدَّمَهم في الأرْضِ مِنَ الجِبِلَّةِ الأوَّلِينَ مِنَ الجِنِّ الَّذِينَ أبْقى مِنهُمُ عَزازِيلَ وغَيْرِهِمْ لِيَتَحَقَّقَ أنَّ أمْرَ اللَّهِ جَدِيدٌ وأنَّهُ كُلَّ يَوْمٍ هو في شَأْنٍ لا يَقْضِي عَلى آتِي وقْتٍ بِحُكْمِ ما فِيهِ ولا بِما مَضى قَبْلَهُ. انْتَهى. والأظْهَرُ (p-٢٤٠)ما ذَكَرْتُهُ أنَّهم إنَّما قالُوا ذَلِكَ تَفَرُّسًا بِحُكْمِ ما ظَهَرَ لَهم مِن صُورَتِهِ ونَحْوِ ذَلِكَ مِن إعْلامِهِمْ بِأنَّهُ يَجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ الشَّهْوَةِ والعَقْلِ، ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ الشَّهْوَةَ حامِلَةٌ عَلى الفَسادِ؛ وعَلِمَ سُبْحانَهُ ما خَفِيَ عَنْهُ مِن أنَّهُ يُوَفِّقُ مَن أرادَ مِنهم لِلْعَمَلِ بِمُقْتَضى العَقْلِ مَعَ قِيامِ مُنازِعِ الشَّهْوَةِ والهَوى، فَيَأْتِي غايَةَ الكَمالِ الَّتِي هي فَوْقَ دَرَجَةِ العامِلِ بِمُقْتَضى العَقْلِ مِن غَيْرِ مُنازِعٍ لَهُ فَيُظْهِرُ تَمامَ القُدْرَةِ واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayah":"وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی جَاعِلࣱ فِی ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَةࣰۖ قَالُوۤا۟ أَتَجۡعَلُ فِیهَا مَن یُفۡسِدُ فِیهَا وَیَسۡفِكُ ٱلدِّمَاۤءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّیۤ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق