الباحث القرآني

﴿وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ لَمّا امْتَنَّ سُبْحانَهُ عَلى مَن تَقَدَّمَ بِما تَقَدَّمَ أتْبَعَ ذَلِكَ بِنِعْمَةٍ عامَّةٍ، وكَرامَةٍ تامَّةٍ، والإحْسانُ إلى الأصْلِ إحْسانٌ إلى الفَرْعِ، والوَلَدُ سِرُّ أبِيهِ، وإذْ ظَرْفُ زَمانٍ لِلْماضِي مَبْنِيٌّ لِشَبَهِهِ بِالحَرْفِ وضْعًا وافْتِقارًا، ويَكُونُ ما بَعْدَها جُمْلَةً فِعْلِيَّةً أوِ اسْمِيَّةً، ويُسْتَفادُ الزَّمانُ مِنها بِأنْ يَكُونَ ثانِي جُزْأيْها فِعْلًا، أوْ يَكُونَ مَضْمُونُها مَشْهُورًا بِالوُقُوعِ في الزَّمانِ المُعَيَّنِ، وإذا دَخَلَتْ عَلى المُضارِعِ قَلَبَتْهُ إلى الماضِي، وهي مُلازِمَةٌ لِلظَّرْفِيَّةِ، إلّا أنْ يُضافَ إلَيْها زَمانٌ، وفي وُقُوعِها مَفْعُولًا بِهِ، أوْ حَرْفَ تَعْلِيلٍ أوْ مُفاجَأةٍ، أوْ ظَرْفَ مَكانٍ، أوْ زائِدَةً، خِلافٌ، وفي البَحْرِ إنَّها لا تَقَعُ، وإذا اسْتُفِيدَ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ فَمِنَ المَقامِ، واخْتَلَفَ المُعْرِبُونَ فِيها هُنا، فَقِيلَ: زائِدَةٌ، وبِمَعْنى قَدْ، وفي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أيِ ابْتِداءُ خَلْقِكم إذْ، وفي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمُقَدَّرٍ، أيِ ابْتَدَأ خَلْقُكُمْ، أوْ أحْياكم إذْ، ويُعْتَبَرُ وقْتًا مُمْتَدًّا لا حِينَ القَوْلِ، ويُقالُ: بَعْدَها، ومَعْمُولُ (لِخَقَلَكُمُ) المُتَقَدِّمُ، والواوُ زائِدَةٌ، والفَصْلُ بِما يَكادُ أنْ يَكُونَ سُورَةً، ومُتَعَلِّقٌ بِاذْكُرْ، ويَكْفِي في صِحَّةِ الظَّرْفِيَّةِ ظَرْفِيَّةُ المَفْعُولِ كَرَمَيْتُ الصَّيْدَ في الحَرَمِ، وهَذِهِ عِدَّةُ أقْوالٍ بَعْضُها غَيْرُ صَحِيحٍ، والبَعْضُ فِيهِ تَكَلُّفٌ، فاللّائِقُ أنْ تُجْعَلَ مَنصُوبَةً بِقالُوا الآتِي، وبَيْنَهُما تَناسُبٌ ظاهِرٌ، والجُمْلَةُ بِما فِيها عَطْفٌ عَلى ما قَبْلَها عَطْفُ القِصَّةِ عَلى القِصَّةِ، كَذا قِيلَ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ المَشْهُورَ القَوْلُ الأخِيرُ، ولَعَلَّهُ الأوْلى، فَتَدَبَّرْ، ولا يَخْفى لُطْفُ الرَّبِّ هُنا، مُضافًا إلى ضَمِيرِهِ بِطَرِيقِ الخِطابِ، وكانَ في تَنْوِيعِهِ والخُرُوجِ مِن عامِّهِ إلى خاصِّهِ رَمْزًا إلى أنَّ المُقْبَلَ عَلَيْهِ بِالخِطابِ لَهُ الحَظُّ الأعْظَمُ والقِسْمُ الأوْفَرُ مِنَ الجُمْلَةِ المُخْبَرِ بِها، فَهو صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلى الحَقِيقَةِ الخَلِيفَةُ الأعْظَمُ في الخَلِيقَةِ، والإمامُ المُقَدَّمُ في الأرْضِ والسَّماواتِ العُلى، ولَوْلاهُ ما خُلِقَ آدَمُ، بَلْ (ولا ولا) ولِلَّهِ تَعالى دَرُّ سَيِّدِي ابْنِ الفارِضِ حَيْثُ يَقُولُ عَنْ لِسانِ الحَقِيقَةِ المُحَمَّدِيَّةِ: ؎وإنِّي وإنْ كُنْتُ ابْنَ آدَمَ صُورَةً فَلِي فِيهِ مَعْنًى شاهِدٌ بِأُبُوَّتِي واللّامُ الجارَّةُ لِلتَّبْلِيغِ، (والمَلائِكَةُ) جَمْعُ مَلْئَكٍ عَلى وزْنِ شَمائِلَ وشَمْألٍ، وهو مَقْلُوبُ مَأْلَكٍ، صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ عِنْدَ الكِسائِيِّ، وهو مُخْتارُ الجُمْهُورِ مِنَ الألُوكَةِ، وهي الرِّسالَةُ، فَهم رُسُلٌ إلى النّاسِ، وكالرُّسُلِ إلَيْهِمْ، وقِيلَ: لا قَلْبَ، فابْنُ كَيْسانَ إلى أنَّهُ فَعالٌ مِنَ المَلَكِ بِزِيادَةِ الهَمْزَةِ، لِأنَّهُ مالِكٌ ما جَعَلَهُ اللَّهُ تَعالى إلَيْهِ، أوْ لِقُوَّتِهِ، فَإنَّ (م ل ك) يَدُورُ مَعَ القُوَّةِ والشِّدَّةِ يُقالُ: مَلَكْتُ العَجِينَ شَدَدْتَ عَجْنَهُ، وهو اشْتِقاقٌ بَعِيدٌ، وفَعالٌ قَلِيلٌ، وأبُو عُبَيْدَةَ إلى أنَّهُ مَفْعَلٍ مِن لاكَ، إذا أرْسَلَ، مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنى المَفْعُولِ، أوِ اسْمُ مَكانٍ عَلى المُبالَغَةِ، وهو اشْتِقاقٌ بَعِيدٌ أيْضًا، ولَمْ يَشْتَهِرْ لاكَ، وكَثُرَ في الِاسْتِعْمالِ الكُنِّيِّ إلَيْهِ، أيْ كُنْ لِي رَسُولًا، ولَمْ يَجِئْ سِوى هَذِهِ الصِّيغَةِ فاعْتَبِرْهُ مَهْمُوزَ العَيْنِ، وأنَّ أصْلَهُ: ألاكَنِي، وبَعْضٌ جَعَلَهُ أجْوَفَ مِن لاكَ، يَلُوكُ، والتّاءُ لِتَأْنِيثِ الجَمْعِ، وقِيلَ: لِلْمُبالَغَةِ، ولَمْ يُجْعَلْ لِتَأْنِيثِ اللَّفْظِ، كالظُّلْمَةِ لِاعْتِبارِهِمُ التَّأْنِيثَ المَعْنَوِيَّ في كُلِّ جَمْعٍ حَيْثُ قالُوا: كُلُّ جَمْعٍ مُؤَنَّثٌ بِتَأْوِيلِ الجَماعَةِ، وقَدْ ورَدَ بِغَيْرِ تاءٍ في قَوْلِهِ: أبا خالِدٍ صَلَّتْ عَلَيْكَ المَلائِكُ. واخْتَلَفَ النّاسُ في حَقِيقَتِها بَعْدَ اتِّفاقِهِمْ عَلى أنَّها مَوْجُودَةٌ سَمْعًا أوْ عَقْلًا، فَذَهَبَ أكْثَرُ المُسْلِمِينَ إلى أنَّها أجْسامٌ نُورانِيَّةٌ، وقِيلَ: هَوائِيَّةٌ قادِرَةٌ عَلى التَّشَكُّلِ والظُّهُورِ بِأشْكالٍ مُخْتَلِفَةٍ بِإذْنِ اللَّهِ تَعالى، وقالَتِ النَّصارى: إنَّها الأنْفُسُ النّاطِقَةُ المُفارِقَةُ لا بُدَّ أنَّها الصّافِيَةُ الخَيِّرَةُ، والخَبِيثَةُ عِنْدَهم شَياطِينُ، وقالَ عَبَدَةُ الأوْثانِ: إنَّها هَذِهِ الكَواكِبُ السُّعُدُ مِنها مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ، والنَّحُسُ مَلائِكَةُ العَذابِ، والفَلاسِفَةُ يَقُولُونَ: إنَّها جَواهِرُ مُجَرَّدَةٌ مُخالِفَةٌ لِلنُّفُوسِ (p-219)النّاطِقَةِ في الحَقِيقَةِ، وصَرَّحَ بَعْضُهم بِأنَّها العُقُولُ العَشَرَةُ، والنُّفُوسُ الفَلَكِيَّةُ الَّتِي تُحَرِّكُ الأفْلاكَ، وهي عِنْدَنا مُنْقَسِمَةٌ إلى قِسْمَيْنِ، قِسْمٌ شَأْنُهُمُ الِاسْتِغْراقُ في مَعْرِفَةِ الحَقِّ والتَّنَزُّهِ عَنِ الِاشْتِغالِ بِغَيْرِهِ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لا يَفْتَرُونَ، وهُمُ العِلِّيُّونَ، والمَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ، وقِسْمٌ يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ عَلى ما سَبَقَ بِهِ القَضاءُ، وجَرى بِهِ القَلَمُ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أمَرَهم ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ، وهُمُ المُدَبِّراتُ أمْرًا، فَمِنهم سَماوِيَّةٌ، ومِنهم أرْضِيَّةٌ، ولا يَعْلَمُ عَدَدَهم إلّا اللَّهُ، وفي الخَبَرِ: «(أطَّتِ السَّماءُ وحُقَّ لَها أنْ تَئِطَّ، ما فِيها مَوْضِعُ قَدَمٍ إلّا وفِيهِ مَلَكٌ ساجِدٌ أوْ راكِعٌ)،» وهم مُخْتَلِفُونَ في الهَيْئاتِ، مُتَفاوِتُونَ في العِظَمِ، لا يَراهم عَلى ما هم عَلَيْهِ إلّا أرْبابُ النُّفُوسِ القُدْسِيَّةِ، وقَدْ يَظْهَرُونَ بِأبْدانٍ يَشْتَرِكُ في رُؤْيَتِها الخاصُّ والعامُّ، وهم عَلى ما هم عَلَيْهِ حَتّى قِيلَ: إنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ في وقْتِ ظُهُورِهِ في صُورَةِ دِحْيَةَ الكَلْبِيِّ بَيْنَ يَدَيِ المُصْطَفى صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمْ يُفارِقْ سِدْرَةَ المُنْتَهى، ومِثْلُهُ يَقَعُ لِلْكُمَّلِ مِنَ الأوْلِياءِ، وهَذا ما وراءَ طَوْرِ العَقْلِ، وأنا بِهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ، وقَدْ ذَكَرَ أهْلُ اللَّهِ قَدَّسَ اللَّهُ تَعالى أسْرارَهم أنَّ أوَّلَ مَظْهَرٍ لِلْحَقِّ جَلَّ شَأْنُهُ العَما، ولَمّا انْصَبَغَ بِالنُّورِ فَتَحَ فِيهِ صُوَرَ المَلائِكَةِ المُهِيمِينَ الَّذِينَ هم فَوْقَ عالَمِ الأجْسادِ الطَّبِيعِيَّةِ، ولا عَرْشَ، ولا مَخْلُوقَ تَقَدَّمَهُمْ، فَلَمّا أوْجَدَهم تَجَلّى لَهم بِاسْمِهِ الجَمِيلِ، فَهامُوا في جَلالِ جَمالِهِ، فَهم لا يُفِيقُونَ، فَلَمّا شاءَ أنْ يَخْلُقَ عالَمَ التَّدْوِينِ والتَّسْطِيرِ عَيَّنَ واحِدًا مِن هَؤُلاءِ، وهو أوَّلُ مَلَكٍ ظَهَرَ عَنْ مَلائِكَةِ ذَلِكَ النُّورِ، سَمّاهُ العَقْلَ والقَلَمَ، وتَجَلّى لَهُ في مَجْلى التَّعْلِيمِ الوَهْبِيِّ بِما يُرِيدُ إيجادَهُ مِن خَلْقِهِ لا إلى غايَةٍ، فَقَبِلَ بِذاتِهِ عِلْمَ ما يَكُونُ، وما لِلْحَقِّ مِنَ الأسْماءِ الإلَهِيَّةِ الطّالِبَةِ صُدُورَ هَذا العالَمِ الخُلُقِيِّ، فاشْتَقَّ مِن هَذا العَقْلِ ما سَمّاهُ اللَّوْحَ، وأمَرَ القَلَمَ أنْ يَتَدَلّى إلَيْهِ، ويُودِعَ فِيهِ ما يَكُونُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، لا غَيْرُ، فَجَعَلَ لِهَذا العِلْمِ ثَلاثَمِائَةٍ وسِتِّينَ سِنًّا مِن كَوْنِهِ قَلَمًا، ومِن كَوْنِهِ عَقْلًا ثَلاثَمِائَةٍ وسِتِّينَ تَجَلِّيًا، أوْ رَقِيقَةً، كُلُّ سِنٍّ أوْ رَقِيقَةٍ تَفْتَرِقُ مِن ثَلاثِمِائَةٍ وسِتِّينَ صِنْفًا مِنَ العُلُومِ الإجْمالِيَّةِ في فَصْلِها في اللَّوْحِ، وأوَّلُ عِلْمٍ حَصَلَ فِيهِ عِلْمُ الطَّبِيعَةِ فَكانَتْ دُونَ النَّفْسِ، وهَذا كُلُّهُ في عالَمِ النُّورِ الخالِصِ، ثُمَّ أوْجَدَ سُبْحانَهُ الظُّلْمَةَ المَحْضَةَ الَّتِي هي في مُقابَلَةِ هَذا النُّورِ بِمَنزِلَةِ العَدَمِ المُطْلَقِ، المُقابِلِ لِلْوُجُودِ المُطْلَقِ، فَأفاضَ عَلَيْها النُّورَ إفاضَةً ذاتِيَّةً بِمُساعَدَةِ الطَّبِيعَةِ، فَلَأمَ شَعَثَها ذَلِكَ النُّورُ، فَظَهَرَ العَرْشُ فاسْتَوى عَلَيْهِ اسْمُ الرَّحْمَنِ بِالِاسْمِ الظّاهِرِ، فَهو أوَّلُ ما ظَهَرَ مِن عالَمِ الخَلْقِ، وخَلَقَ مِن ذَلِكَ النُّورِ المُمْتَزِجِ المَلائِكَةَ الحافِّينَ، ولَيْسَ لَهم شُغْلٌ إلّا كَوْنُهم حافِّينَ مِن حَوْلِ العَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِهِ، ثُمَّ أوْجَدَ الكُرْسِيَّ في جَوْفِ هَذا العَرْشِ، وجَعَلَ فِيهِ مَلائِكَةً مِن جِنْسِ طَبِيعَتِهِ، فَكُلُّ فَلَكٍ أصْلٌ لِما خُلِقَ فِيهِ مِن عُمّارِهِ، كالعَناصِرِ فِيما خَلَقَ فِيها مِن عُمّارِها، وقَسَّمَ في هَذا الكُرْسِيِّ الكَلِمَةَ إلى خَبَرٍ، وحِكَمٍ، وهُما القَدَمانِ اللَّتانِ تَدَلَّتا لَهُ مِنَ العَرْشِ، كَما ورَدَ في الخَبَرِ، ثُمَّ خَلَقَ في جَوْفِ الكُرْسِيِّ الأفْلاكَ فَلَكًا في جَوْفِ فَلَكٍ، وخَلَقَ في كُلِّ فَلَكٍ عالَمًا مِنهُ يُعَمِّرُونَهُ، وزَيَّنَها بِالكَواكِبِ، وأوْحى في كُلِّ سَماءٍ أمْرَها، إلى أنْ خَلَقَ صُوَرَ المُوَلَّداتِ، وتَجَلّى لِكُلِّ صِنْفٍ مِنها، بِحَسَبِ ما هي عَلَيْهِ، فَتَكَوَّنَ مِن ذَلِكَ أرْواحُ الصُّوَرِ، وأمَرَها بِتَدْبِيرِها، وجَعَلَها غَيْرَ مُنْقَسِمَةٍ، بَلْ ذاتًا واحِدَةً، ومَيَّزَ بَعْضَها عَنْ بَعْضٍ، فَتَمَيَّزَتْ، وكانَ تَمْيِيزُها بِحَسَبِ قَبُولِ الصُّوَرِ مِن ذَلِكَ التَّجَلِّي، وهَذِهِ الصُّوَرُ في الحَقِيقَةِ كالمَظاهِرِ لِتِلْكَ الأرْواحِ، ثُمَّ أحْدَثَ سُبْحانَهُ الصُّوَرَ الجَسَدِيَّةَ الخَيالِيَّةَ بِتَجَلٍّ آخَرَ، وجَعَلَ لِكُلٍّ مِنَ الأرْواحِ والصُّوَرِ غِذاءً يُناسِبُهُ، ولا يَزالُ الحَقُّ سُبْحانَهُ يَخْلُقُ مِن أنْفاسِ العالَمِ مَلائِكَةً ما دامُوا مُتَنَفِّسِينَ، وسُبْحانَ مَن يَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ، إذا عَلِمْتَ ذَلِكَ فاعْلَمْ أنَّهُمُ اخْتَلَفُوا في المَلائِكَةِ المَقُولِ لَهُمْ، فَقِيلَ: كُلُّهم لِعُمُومِ اللَّفْظِ، وعَدَمِ المُخَصَّصِ، فَشَمِلَ المُهِيمِينَ، وغَيْرَهُمْ، وقِيلَ: مَلائِكَةُ الأرْضِ بِقَرِينَةِ أنَّ الكَلامَ في خِلافَةِ الأرْضِ، وقِيلَ: إبْلِيسُ، ومَن كانَ مَعَهُ في مُحارَبَةِ الجِنِّ (p-220)الَّذِينَ أُسْكِنُوا الأرْضَ دَهْرًا طَوِيلًا فَفَسَدُوا، فَبَعَثَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِمْ جُنْدًا مِنَ المَلائِكَةِ يُقالُ لَهُمُ الجِنُّ أيْضًا، وهم خُزّانُ الجَنَّةِ، اشْتُقَّ لَهُمُ اسْمٌ مِنها، فَطَرَدُوهم إلى شُعُوبِ الجِبالِ والجَزائِرِ، والَّذِي عَلَيْهِ السّادَةُ الصُّوفِيَّةُ قَدَّسَ اللَّهُ تَعالى أسْرارَهم أنَّهم ما عَدا العالَمِينَ مِمَّنْ كانَ مُودَعًا شَيْئًا مِن أسْماءِ اللَّهِ تَعالى وصِفاتِهِ، وأنَّ العالَمِينَ غَيْرُ داخِلِينَ في الخِطابِ، ولا مَأْمُورِينَ بِالسُّجُودِ، لِاسْتِغْراقِهِمْ، وعَدَمِ شُعُورِهِمْ بِسِوى الذّاتِ، وقَوْلُهُ تَعالى:﴿أسْتَكْبَرْتَ أمْ كُنْتَ مِنَ العالِينَ﴾ يُشِيرُ إلى ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، وجَعَلُوا مِن أُولَئِكَ المَلَكَ المُسَمّى بِالرُّوحِ وبِالقَلَمِ الأعْلى، وبِالعَقْلِ الأوَّلِ، وهو المِرْآةُ لِذاتِهِ تَعالى، فَلا يَظْهَرُ بِذاتِهِ إلّا في هَذا المَلَكِ، وظُهُورُهُ في جَمِيعِ المَخْلُوقاتِ إنَّما هو بِصِفاتِهِ، فَهو قُطْبُ العالَمِ الدُّنْيَوِيِّ والأُخْرَوِيِّ وقُطْبُ أهْلِ الجَنَّةِ والنّارِ، وأهْلِ الكَثِيبِ والأعْرافِ، وما مِن شَيْءٍ إلّا ولِهَذا المَلَكِ فِيهِ وجْهٌ يَدُورُ ذَلِكَ المَخْلُوقُ عَلى وجْهِهِ فَهو قُطْبُهُ، وهو قَدْ كانَ عالِمًا بِخَلْقِ آدَمَ، ورُتْبَتِهِ، فَإنَّهُ الَّذِي سَطَّرَ في اللَّوْحِ ما كانَ، وما يَكُونُ، واللَّوْحُ قَدْ عَلِمَ عِلْمَ ذَوْقٍ ما خَطَّهُ القَلَمُ فِيهِ، وقَدْ ظَهَرَ هَذا المَلَكُ بِكَمالِهِ في الحَقِيقَةِ المُحَمَّدِيَّةِ، كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا﴾ ولِهَذا كانَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أفْضَلَ خَلْقِ اللَّهِ تَعالى عَلى الإطْلاقِ، بَلْ هو الخَلِيفَةُ عَلى الحَقِيقَةِ في السَّبْعِ الطِّباقِ، ولَيْسَ هَذا بِالبَعِيدِ، فَلْيُفْهَمْ. (وجاعِلٌ) اسْمُ فاعِلٍ مِنَ الجَعْلِ، بِمَعْنى التَّصْيِيرِ، فَيَتَعَدّى لِاثْنَيْنِ، والأوَّلُ هُنا خَلِيفَةٌ، والثّانِي في الأرْضِ، أوْ بِمَعْنى الخَلْقِ، فَيَتَعَدّى لِواحِدٍ، فَفي الأرْضِ مُتَعَلِّقٌ بِخَلِيفَةٍ، وقُدِّمَ لِلتَّشْوِيقِ، وعَمَلِ الوَصْفِ لِأنَّهُ بِمَعْنى الِاسْتِقْبالِ، ومُعْتَمِدٌ عَلى مُسْنَدٍ إلَيْهِ، ورَجَّحَ في البَحْرِ كَوْنَهُ بِمَعْنى الخَلْقِ، لِما في المُقابِلِ، ويَلْزَمُ عَلى كَوْنِهِ بِمَعْنى التَّصْيِيرِ ذِكْرُ خَلِيفَةٍ، أوْ تَقْدِيرُهُ فِيهِ، والمُرادُ مِنَ الأرْضِ إمّا كُلُّها، وهو الظّاهِرُ، وبِهِ قالَ الجُمْهُورُ، أوْ أرْضُ مَكَّةَ، ورُوِيَ هَذا مَرْفُوعًا، والظّاهِرُ أنَّهُ لَمْ يَصِحَّ، وإلّا لَمْ يُعْدَلْ عَنْهُ، وخَصَّ سُبْحانَهُ الأرْضَ لِأنَّها مِن عالَمِ التَّغْيِيرِ، والِاسْتِحالاتِ، فَيَظْهَرُ بِحُكْمِ الخِلافَةِ فِيها حُكْمُ جَمِيعِ الأسْماءِ الإلَهِيَّةِ الَّتِي طَلَبَ الحَقُّ ظُهُورَهُ بِها، بِخِلافِ العالَمِ الأعْلى، والخَلِيفَةُ مَن يَخْلُفُ غَيْرَهُ، ويَنُوبُ عَنْهُ، والهاءُ لِلْمُبالَغَةِ، ولِهَذا يُطْلَقُ عَلى المُذَكَّرِ، والمَشْهُورُ أنَّ المُرادَ بِهِ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وهو المُوافِقُ لِلرِّوايَةِ، ولِإفْرادِ اللَّفْظِ، ولِما في السِّياقِ، ونِسْبَةُ سَفْكِ الدَّمِ والفَسادِ إلَيْهِ حِينَئِذٍ بِطَرِيقِ التَّسَبُّبِ، أوِ المُرادُ بِمَن يُفْسِدُ إلَخْ، مَن فِيهِ قُوَّةُ ذَلِكَ، ومَعْنى كَوْنِهِ خَلِيفَةً أنَّهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ تَعالى في أرْضِهِ، وكَذا كُلُّ نَبِيٍّ اسْتَخْلَفَهم في عِمارَةِ الأرْضِ، وسِياسَةِ النّاسِ، وتَكْمِيلِ نُفُوسِهِمْ، وتَنْفِيذِ أمْرِهِ فِيهِمْ لا لِحاجَةٍ بِهِ تَعالى، ولَكِنْ لِقُصُورِ المُسْتَخْلَفِ عَلَيْهِ، لِما أنَّهُ في غايَةِ الكُدُورَةِ والظُّلْمَةِ الجِسْمانِيَّةِ، وذاتُهُ تَعالى في غايَةِ التَّقَدُّسِ، والمُناسَبَةُ شَرْطٌ في قَبُولِ الفَيْضِ عَلى ما جَرَتْ بِهِ العادَةُ الإلَهِيَّةُ، فَلا بُدَّ مِن مُتَوَسِّطٍ ذِي جِهَتَيْ تَجَرُّدٍ وتَعَلُّقٍ لِيَسْتَفِيضَ مِن جِهَةٍ ويَفِيضَ بِأُخْرى، وقِيلَ: هو وذُرِّيَّتُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ، ويُؤَيِّدُهُ ظاهِرُ قَوْلِ المَلائِكَةِ، فَإلْزامُهم حِينَئِذٍ بِإظْهارِ فَضْلِ آدَمَ عَلَيْهِمْ لِكَوْنِهِ الأصْلَ المُسْتَتْبِعَ مَن عَداهُ، وهَذا كَما يُسْتَغْنى بِذِكْرِ أبِي القَبِيلَةِ عَنْهُمْ، إلّا أنَّ ذِكْرَ الأبِ بِالعَلَمِ، وما هُنا بِالوَصْفِ، ومَعْنى كَوْنِهِمْ خُلَفاءَ أنَّهم يَخْلُفُونَ مَن قَبْلَهم مِنَ الجِنِّ بَنِي الجانِّ، أوْ مِن إبْلِيسَ ومَن مَعَهُ مِنَ المَلائِكَةِ المَبْعُوثِينَ لِحَرْبِ أُولَئِكَ عَلى ما نَطَقَتْ بِهِ الآثارُ، أوْ أنَّهُ يَخْلُفُ بَعْضُهم بَعْضًا، وعِنْدَ أهْلِ اللَّهِ تَعالى المُرادُ بِالخَلِيفَةِ آدَمُ، وهو عَلَيْهِ السَّلامُ خَلِيفَةُ اللَّهِ تَعالى، وأبُو الخُلَفاءِ، والمُجَلِّي لَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى، والجامِعُ لِصِفَتَيْ جَمالِهِ وجَلالِهِ، ولِهَذا جُمِعَتْ لَهُ اليَدانِ، وكِلْتاهُما يَمِينٌ، ولَيْسَ في المَوْجُوداتِ مَن وسِعَ الحَقَّ سِواهُ، ومِن هُنا قالَ الخَلِيفَةُ الأعْظَمُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: «(إنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ آدَمَ عَلى صُورَتِهِ، أوْ عَلى صُورَةِ الرَّحْمَنِ)،» وبِهِ جُمِعَتِ الأضْدادُ، وكَمُلَتِ النَّشْأةُ، وظَهَرَ الحَقُّ، ولَمْ تَزَلْ تِلْكَ الخِلافَةُ في الإنْسانِ الكامِلِ إلى قِيامِ السّاعَةِ، وساعَةِ القِيامِ، بَلْ مَتى فارَقَ هَذا (p-221)الإنْسانُ العالَمَ ماتَ العالَمُ، لِأنَّهُ الرُّوحُ الَّذِي بِهِ قِوامُهُ، فَهو العِمادُ المَعْنَوِيُّ لِلسَّماءِ، والدّارُ الدُّنْيا جارِحَةٌ مِن جَوارِحِ جَسَدِ العالَمِ الَّذِي الإنْسانُ رُوحُهُ، ولَمّا كانَ هَذا الِاسْمُ الجامِعُ قابَلَ الحَضْرَتَيْنِ بِذاتِهِ صَحَّتْ لَهُ الخِلافَةُ، وتَدْبِيرُ العالَمِ، واللَّهُ سُبْحانَهُ الفَعّالُ لِما يُرِيدُ، ولا فاعِلَ عَلى الحَقِيقَةِ سِواهُ، وفي المَقامِ ضِيقٌ، والمُنْكِرُونَ كَثِيرُونَ، ولا مُسْتَعانَ إلّا بِاللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وفائِدَةُ قَوْلِهِ تَعالى هَذا لِلْمَلائِكَةِ تَعْلِيمُ المُشاوَرَةِ، لِأنَّ هَذِهِ المُعامَلَةُ تُشْبِهُها، أوْ تَعْظِيمُ شَأْنِ المَجْعُولِ، وإظْهارُ فَضْلِهِ، ويُحْتَمَلُ أنَّهُ سُبْحانَهُ أرادَ بِذَلِكَ تَعْرِيفَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَهُمْ، لِيَعْرِفُوا قَدْرَهُ، لِأنَّهُ باطِنٌ عَنِ الصُّورَةِ الكَوْنِيَّةِ بِما عِنْدَهُ مِنَ الصُّورَةِ الإلَهِيَّةِ، وما يَعْرِفُهُ لِبُطُونِهِ مِنَ المَلَإ الأعْلى، إلّا اللَّوْحُ والقَلَمُ، وكانَ هَذا القَوْلُ عَلى ما ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الأكْبَرُ قُدِّسَ سِرُّهُ في دَوْلَةِ السُّنْبُلَةِ بَعْدَ مُضِيِّ سَبْعَةَ عَشَرَ ألْفَ سَنَةٍ مِن عُمْرِ الدُّنْيا، ومِن عُمْرِ الآخِرَةِ الَّتِي لا نِهايَةَ لَهُ في الدَّوامِ ثَمانِيَةِ آلافِ سَنَةٍ، ومِن عُمْرِ العالَمِ الطَّبِيعِيِّ المُفِيدِ بِالزَّمانِ المَحْصُورِ بِالمَكانِ إحْدى وسَبْعُونَ ألْفَ سَنَةٍ مِنَ السِّنِينَ المَعْرُوفَةِ الحاصِلَةِ أيّامُها مِن دَوْرَةِ الفَلَكِ الأوَّلِ، وهو يَوْمٌ وخُمْسا يَوْمٍ مِن أيّامِ ذِي المَعارِجِ، ولِلَّهِ تَعالى الأمْرُ مِن قَبْلُ ومِن بَعْدُ، وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ (خَلِيقَةً) بِالقافِ، والمَعْنى واضِحٌ، ﴿قالُوا أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ﴾ اسْتِكْشافٌ عَنِ الحِكْمَةِ الخَفِيَّةِ، وعَمّا يُزِيلُ الشُّبْهَةَ، ولَيْسَ اسْتِفْهامًا عَنْ نَفْسِ الجَعْلِ والِاسْتِخْلافِ، لِأنَّهم قَدْ عَلِمُوهُ قَبْلُ، فالمَسْؤُولُ عَنْهُ هو الجَعْلُ، ولَكِنْ لا بِاعْتِبارِ ذاتِهِ بَلْ بِاعْتِبارِ حِكْمَتِهِ، ومُزِيلِ شُبْهَتِهِ، أوْ تَعَجُّبٌ مِن أنْ يُسْتَخْلَفَ لِعِمارَةِ الأرْضِ وإصْلاحِها مَن يُفْسِدُ فِيها، أوْ يُسْتَخْلَفُ مَكانَ أهْلِ الفَسادِ مِثْلُهُمْ، أوْ مَكانَ أهْلِ الطّاعَةِ أهْلُ المَعْصِيَةِ، وقِيلَ: اسْتِفْهامٌ مَحْضٌ حُذِفَ فِيهِ المُعادِلُ، أيْ: أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ أمْ تَجْعَلُ مَن لا يُفْسِدُ، وجَعَلَهُ بَعْضُهم مِنَ الجُمْلَةِ الحالِيَّةِ، أيْ أتَجْعَلُ فِيها كَذا، ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ، أمْ نَتَغَيَّرُ، واخْتارَ ذَلِكَ شَيْخُنا عَلاءُ الدِّينِ المَوْصِلِيُّ رَوَّحَ اللَّهُ تَعالى رُوحَهُ، والأدَبُ يُسْكِتُنِي عَنْهُ، وعَلى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَيْسَتِ الهَمْزَةُ لِلْإنْكارِ، كَما زَعَمَتْهُ الحَشْوِيَّةُ مُسْتَدِلِّينَ بِالآيَةِ عَلى عَدَمِ عِصْمَةِ المَلائِكَةِ لِاعْتِراضِهِمْ عَلى اللَّهِ تَعالى، وطَعْنِهِمْ في بَنِي آدَمَ، ومِنَ العَجِيبِ أنَّ مَوْلانا الشَّعَرانِيَّ وهو مِن أكابِرِ أهْلِ السُّنَّةِ، بَلْ مِن مَشايِخِ أهْلِ اللَّهِ تَعالى نَقَلَ عَنْ شَيْخِهِ الخَواصِّ أنَّهُ خَصَّ العِصْمَةَ بِمَلائِكَةِ السَّماءِ، مُعَلِّالًا لَهُ بِأنَّهم عُقُولٌ مُجَرَّدَةٌ بِلا مُنازِعٍ ولا شَهْوَةٍ، وقالَ: إنَّ المَلائِكَةَ الأرْضِيَّةَ غَيْرُ مَعْصُومِينَ، ولِذَلِكَ وقَعَ إبْلِيسُ فِيما وقَعَ، إذْ كانَ مِن مَلائِكَةِ الأرْضِ السّاكِنِينَ بِجَبَلِ الياقُوتِ بِالمَشْرِقِ عِنْدَ خَطِّ الِاسْتِواءِ، فَعَلَيْهِ لا يَبْعُدُ الِاعْتِراضُ مِمَّنْ كانَ في الأرْضِ والعِياذُ بِاللَّهِ تَعالى، ويُسْتَأْنَسُ لَهُ بِما ورَدَ في بَعْضِ الأخْبارِ أنَّ القائِلِينَ كانُوا عَشَرَةَ آلافٍ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ نارٌ فَأحْرَقَتْهُمْ، وعِنْدِي أنَّ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وقِيلَ: إنَّ القائِلَ إبْلِيسُ، وقَدْ كانَ إذْ ذاكَ مَعْدُودًا في عِدادِ المَلائِكَةِ، ويَكُونُ نِسْبَةُ القَوْلِ إلَيْهِمْ عَلى حَدِّ: بَنُو فُلانٍ قَتَلُوا فُلانًا، والقاتِلُ واحِدٌ مِنهُمْ، والوَجْهُ ما قَرَّرْنا، وتَكْرارُ الظَّرْفِ لِلدِّلالَةِ عَلى الإفْراطِ في الفَسادِ، ولَمْ يُكَرِّرْهُ بَعْدُ لِلِاكْتِفاءِ مَعَ ما في التَّكْرارِ مِمّا لا يَخْفى، (والسَّفْكُ) الصَّبُّ والإراقَةُ، ولا يُسْتَعْمَلُ إلّا في الدَّمِ، أوْ فِيهِ وفي الدَّمْعِ، والعَطْفُ مِن عَطْفِ الخاصِّ عَلى العامِّ لِلْإشارَةِ إلى عِظَمِ هَذِهِ المَعْصِيَةِ، لِأنَّهُ بِها تَتَلاشى الهَياكِلُ الجِسْمانِيَّةُ، (والدِّماءُ) جَمْعُ دَمٍ لامُهُ ياءٌ، أوْ واوٌ، وقَصْرُهُ وتَضْعِيفُهُ مَسْمُوعانِ، وأصْلُهُ فَعْلٌ، أوْ فَعَلٌ، والمُرادُ بِها المُحَرَّمَةُ بِقَرِينَةِ المَقامِ، وقِيلَ: الِاسْتِغْراقُ، فَيَتَضَمَّنُ جَمِيعَ أنْواعِها مِنَ المَحْظُورِ وغَيْرِهِ، والمَقْصُودُ عَدَمُ تَمْيِيزِهِ بَيْنَها، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ (يَسْفُكُ) بِضَمِّ الفاءِ، ويُسْفِكُ مَن أسْفَكَ وبِالتَّضْعِيفِ مِن سَفَكَ، وقَرَأ ابْنُ هُرْمُزَ بِنَصْبِ الكافِ، وخُرِّجَ عَلى النَّصْبِ في جَوابِ الِاسْتِفْهامِ، وقُرِئَ عَلى البِناءِ لِلْمَجْهُولِ، والرّاجِعُ إلى مَن حِينَئِذٍ سَواءٌ جُعِلَ مَوْصُولًا أوْ مَوْصُوفًا (p-222)مَحْذُوفٌ، أيْ فِيهِمْ، وحُكْمُ المَلائِكَةِ بِالإفْسادِ والسَّفْكِ عَلى الإنْسانِ بِناءً عَلى بَعْضِ هاتِيكَ الوُجُوهِ لَيْسَ مِنَ ادِّعاءِ عِلْمِ الغَيْبِ أوِ الحُكْمِ بِالظَّنِّ والتَّخْمِينِ، ولَكِنْ بِإخْبارٍ مِنَ اللَّهِ تَعالى، ولَمْ يَقُصَّ عَلَيْنا فِيما حَكى عَنْهُمُ اكْتِفاءً بِدِلالَةِ الجَوابِ عَلَيْهِ لِلْإيجازِ، كَما هو عادَةُ القُرْآنِ، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ ما رُوِيَ في بَعْضِ الآثارِ، أنَّهُ لَمّا قالَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ قالُوا: وما يَكُونُ مِن ذَلِكَ الخَلِيفَةِ؟ قالَ: تَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ يُفْسِدُونَ في الأرْضِ، ويَقْتُلُ بَعْضُهم بَعْضًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ قالُوا: رَبَّنا أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ، وقِيلَ: عَرَفُوا ذَلِكَ مِنَ اللَّوْحِ، ويُبْعِدُهُ عَدَمُ عِلْمِ الجَوابِ، ويَحْتاجُ الجَوابُ إلى تَكَلُّفٍ، وقِيلَ: عَرَفُوهُ اسْتِنْباطًا عَمّا رَكَزَ في عُقُولِهِمْ مِن عَدَمِ عِصْمَةِ غَيْرِهِمُ المُفْضِي إلى العِلْمِ بِصُدُورِ المَعْصِيَةِ عَمَّنْ عَداهُمُ المُفْضِي إلى التَّنازُعِ والتَّشاجُرِ، إذْ مَن لا يَرْحَمُ نَفْسَهُ لا يَرْحَمُ غَيْرَهُ، وذَلِكَ يُفْضِي إلى الفَسادِ وسَفْكِ الدِّماءِ، وقِيلَ: قِياسًا لِأحَدِ الثَّقَلَيْنِ عَلى الآخَرِ بِجامِعِ اشْتِراكِهِما في عَدَمِ العِصْمَةِ، ولا يَخْفى ما في القَوْلَيْنِ، ويُحْتَمَلُ أنَّهم عَلِمُوا ذَلِكَ مِن تَسْمِيَتِهِ خَلِيفَةً، لِأنَّ الخِلافَةَ تَقْتَضِي الإصْلاحَ وقَهْرَ المُسْتَخْلَفِ عَلَيْهِ، وهو يَسْتَلْزِمُ أنْ يَصْدُرَ مِنهُ فَسادٌ، إمّا في ذاتِهِ، بِمُقْتَضى الشَّهْوَةِ، أوْ في غَيْرِهِ مِنَ السَّفْكِ، أوْ لِأنَّها مَجْلى الجَلالِ كَما أنَّها مَجْلى الجَمال، ولِكُلٍّ آثارٌ، والإفْسادُ والسَّفْكُ مِن آثارِ الجَلالِ، وسَكَتُوا عَنْ آثارِ الجَمالِ إذْ لا غَرابَةَ فِيها، وهم عَلى كُلِّ تَقْدِيرٍ ما قَدَرُوا اللَّهَ تَعالى حَقَّ قَدْرِهِ، ولا يُخِلُّ ذَلِكَ بِهِمْ، فَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، ﴿ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ﴾ حالٌ مِن ضَمِيرِ الفاعِلِ في ﴿أتَجْعَلُ﴾ وفِيها تَقْرِيرٌ لِجِهَةِ الإشْكالِ، والمَعْنى: تَسْتَخْلِفُ مَن ذُكِرَ ونَحْنُ المَعْصُومُونَ، ولَيْسَ المَقْصُودُ إلّا الِاسْتِفْسارَ عَنِ المُرَجِّحِ لا العَجَبَ والتَّفاخُرَ، حَتّى يَضُرَّ بِعِصْمَتِهِمْ، كَما زَعَمَتِ الحَشْوِيَّةُ، ولُزُومُ الضَّمِيرِ، وتَرْكُ الواوِ في الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ إذا وقَعَتْ حالًا مُؤَكِّدَةً غَيْرُ مُسَلَّمٍ، كَما في شَرْحِ التَّسْهِيلِ، وصِيغَةُ المُضارِعِ لِلِاسْتِمْرارِ وتَقْدِيمُ المُسْنَدِ إلَيْهِ عَلى المُسْنَدِ الفِعْلِيِّ لِلِاخْتِصاصِ، ومِنَ الغَرِيبِ جَعْلُ الجُمْلَةِ اسْتِفْهامِيَّةً حُذِفَ مِنها الأداةُ، وكَذا المُعادِلُ، والتَّسْبِيحُ في الأصْلِ مُطْلَقُ التَّبْعِيدِ، والمُرادُ بِهِ تَبْعِيدُ اللَّهِ تَعالى عَنِ السُّوءِ، وهو مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ، ويُعَدّى بِاللّامِ إشْعارًا بِأنَّ إيقاعَ الفِعْلِ لِأجْلِ اللَّهِ تَعالى، وخالِصًا لِوَجْهِهِ سُبْحانَهُ، فالمَفْعُولُ المُقَدَّرُ ها هُنا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ بِاللّامِ عَلى وفْقِ قَرِينَةٍ، وأنْ يَكُونَ بِدُونِهِ كَما هو أصْلُهُ، (وبِحَمْدِكَ) في مَوْضِعِ الحالِ، والباءُ لِاسْتِدامَةِ الصُّحْبَةِ والمَعِيَّةِ، وإضافَةُ الحَمْدِ إمّا إلى الفاعِلِ، والمُرادُ لازِمُهُ مَجازًا مِنَ التَّوْفِيقِ والهِدايَةِ، أوْ إلى المَفْعُولِ أيْ مُتَلَبِّسِينَ بِحَمْدِنا لَكَ عَلى ما وفَّقْتَنا لِتَسْبِيحِكَ، وفي ذَلِكَ نَفْيُ ما يُوهِمُهُ الإسْنادُ مِنَ العَجَبِ، وقِيلَ: المُرادُ بِهِ تَسْبِيحٌ خاصٌّ، وهُوَ: سُبْحانَ ذِي المُلْكِ والمَلَكُوتِ، سُبْحانَ ذِي العَظَمَةِ والجَبَرُوتِ، سُبْحانَ الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ، ويُعْرَفُ هَذا بِتَسْبِيحِ المَلائِكَةِ، أوْ سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ، وفي حَدِيثٍ عَنْ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ عَنْ أبِي ذَرٍّ «أنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ سُئِلَ: أيُّ الكَلامِ أفْضَلُ؟ قالَ: (ما اصْطَفى اللَّهُ تَعالى لِمَلائِكَتِهِ، أوْ لِعِبادِهِ، سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ)،» أيْ وبِحَمْدِهِ نُسَبِّحُ، والتَّقْدِيسُ في المَشْهُورِ كالتَّسْبِيحِ مَعْنًى، واحْتاجُوا لِدَفْعِ التَّكْرارِ إلى أنَّ أحَدَهُما بِاعْتِبارِ الطّاعاتِ والآخَرَ بِاعْتِبارِ الِاعْتِقاداتِ، وقِيلَ: التَّسْبِيحُ تَنْزِيهُهُ تَعالى عَمّا لا يَلِيقُ بِهِ، والتَّقْدِيسُ تَنْزِيهُهُ في ذاتِهِ عَمّا لا يَراهُ لائِقًا بِنَفْسِهِ، فَهو أبْلَغُ، ويَشْهَدُ لَهُ أنَّهُ حَيْثُ جُمِعَ بَيْنَهُما أُخِّرَ، نَحْوُ: سَبُّوحٍ قُدُّوسٍ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ بِمَعْنى التَّطْهِيرِ، والمُرادُ نُسَبِّحُكَ ونُطَهِّرُ أنْفُسَنا مِنَ الأدْناسِ أوْ أفْعالَنا مِنَ المَعاصِي، فَلا نَفْعَلُ فِعْلَهم مِنَ الإفْسادِ والسَّفْكِ، أوْ نُطَهِّرُ قُلُوبَنا عَنِ الِالتِفاتِ إلى غَيْرِكَ، ولامُ (لَكَ) إمّا لِلْعِلَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ(نُقَدِّسُ)، والحَمْلُ عَلى التَّنازُعِ مِمّا فِيهِ تَنازُعٌ، أوْ مُعَدِّيَةٌ لِلْفِعْلِ كَما فِي: سَجَدْتُ لِلَّهِ تَعالى، أوْ لِلْبَيانِ كَما في سَفَهًا لَكَ، فَمُتَعِلِّقُها حِينَئِذٍ خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ، أوْ زائِدَةٌ، والمَفْعُولُ هو المَجْرُورُ، ثُمَّ الظّاهِرُ أنَّ قائِلَ هَذِهِ الجُمْلَةِ هو قائِلُ الجُمْلَةِ الأُولى، وأغْرَبَ الشَّيْخُ (p-223)صَفِيُّ الدِّينِ الخَزْرَجِيُّ في كِتابِهِ (فَكِّ الأزْرارِ) فَجَعَلَ القائِلَ مُخْتَلِفًا، وبَيَّنَ ذَلِكَ بِأنَّ المَلائِكَةَ كانُوا حِينَ وُرُودِ الخِطابِ عَلَيْهِمْ مُجْمَلِينَ، وكانَ إبْلِيسُ مُنْدَرِجًا في جُمْلَتِهِمْ، فَوَرَدَ الجَوابُ مِنهم مُجْمَلًا، فَلَمّا انْفَصَلَ إبْلِيسُ عَنْ جُمْلَتِهِمْ بِإبائِهِ انْفَصَلَ الجَوابُ إلى نَوْعَيْنِ، فَنَوْعٌ الِاعْتِراضُ مِنهُ، ونَوْعٌ التَّسْبِيحُ والتَّقْدِيسُ مِمَّنْ عَداهُ، فانْقَسَمَ الجَوابُ إلى قِسْمَيْنِ، كانْقِسامِ الجِنْسِ إلى جِنْسَيْنِ، وناسَبَ كُلُّ جَوابٍ مَن ظَهَرَ عَنْهُ، فالكَلامُ شَبِيهٌ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقالُوا كُونُوا هُودًا أوْ نَصارى تَهْتَدُوا﴾ وهو تَأْوِيلٌ، لا تَفْسِيرٌ، ﴿قالَ إنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ أيْ أعْلَمُ مِنَ الحِكَمِ في ذَلِكَ ما أنْتُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْهُ، وقِيلَ: أرادَ بِذَلِكَ عِلْمَهُ بِمَعْصِيَةِ إبْلِيسَ، وطاعَةِ آدَمَ، وقِيلَ: بِأنَّهُ سَيَكُونُ مِن ذَلِكَ الخَلِيفَةِ أنْبِياءُ وصالِحُونَ، وقِيلَ: الأحْسَنُ أنْ يُفَسَّرَ هَذا المُبْهَمُ بِما أخْبَرَ بِهِ تَعالى عَنْهُ، بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿إنِّي أعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ ويُفْهَمُ مِن كَلامِ القَوْمِ قَدَّسَ اللَّهُ تَعالى أسْرارَهم أنَّ المُرادَ مِنَ الآيَةِ بَيانُ الحِكْمَةِ في الخِلافَةِ عَلى أدَقِّ وجْهٍ وأكْمَلِهِ، فَكَأنَّهُ قالَ جَلَّ شَأْنُهُ: أُرِيدُ الظُّهُورَ بِأسْمائِي وصِفاتِي، ولَمْ يَكْمُلْ ذَلِكَ بِخَلْقِكُمْ، فَإنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَهُ لِقُصُورِ اسْتِعْدادِكُمْ، ونُقْصانِ قابِلِيَّتِكُمْ، فَلا تَصْلُحُونَ لِظُهُورِ جَمِيعِ الأسْماءِ، والصِّفاتِ فِيكُمْ، فَلا تَتِمُّ بِكم مَعْرِفَتِي، ولا يَظْهَرُ عَلَيْكم كَنْزِي، فَلا بُدَّ مِن إظْهارِ مَن تَمَّ اسْتِعْدادُهُ، وكَمُلَتْ قابِلِيَّتُهُ، لِيَكُونَ مَجْلًى لِي، ومِرْآةً لِأسْمائِي وصِفاتِي، ومَظْهَرًا لِلْمُتَقابِلاتِ فِيَّ، ومَظْهَرًا لِما خَفِيَ عِنْدِي، وبِي يَسْمَعُ، وبِي يُبْصِرُ، وبِي وبِي، وبَعْدَ ذاكَ يَرِقُّ الزُّجاجُ، والخَمْرُ، وإلى اللَّهِ عَزَّ شَأْنُهُ يَرْجِعُ الأمْرُ، (وأعْلَمُ) فِعْلٌ مُضارِعٌ، واحْتِمالُ أنَّهُ أفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِمّا لا يَنْبَغِي أنْ يُخَرَّجَ عَلَيْهِ كِتابُ اللَّهِ سُبْحانَهُ، كَما لا يَخْفى،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب