الباحث القرآني

﴿وَإذْ قالَ رَبُّكَ﴾: بَيانٌ لِأمْرٍ آخَرَ؛ مِن جِنْسِ الأُمُورِ المُتَقَدِّمَةِ؛ المُؤَكِّدَةِ لِلْإنْكارِ؛ والِاسْتِبْعادِ؛ فَإنَّ خَلْقَ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وما خَصَّهُ بِهِ مِنَ الكَراماتِ السَّنِيَّةِ المَحْكِيَّةِ؛ مِن أجَلِّ النِّعَمِ الدّاعِيَةِ لِذُرِّيَّتِهِ إلى الشُّكْرِ والإيمانِ؛ النّاهِيَةِ عَنِ الكُفْرِ والعِصْيانِ؛ وتَقْرِيرٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَهُ مِن قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿خَلَقَ لَكم ما في الأرْضِ جَمِيعًا﴾؛ وتَوْضِيحٌ لِكَيْفِيَّةِ التَّصَرُّفِ والِانْتِفاعِ بِما فِيها. وتَلْوِينُ الخِطابِ؛ بِتَوْجِيهِهِ إلى النَّبِيِّ ﷺ خاصَّةً؛ لِلْإيذانِ بِأنَّ فَحْوى الكَلامِ لَيْسَ مِمّا يُهْتَدى إلَيْهِ بِأدِلَّةِ العَقْلِ؛ كالأُمُورِ المُشاهَدَةِ؛ الَّتِي نُبِّهَ عَلَيْها الكَفَرَةُ بِطَرِيقِ الخِطابِ؛ بَلْ إنَّما طَرِيقُهُ الوَحْيُ الخاصُّ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -؛ وفي التَّعَرُّضِ لِعُنْوانِ الربوبية؛ المُنْبِئَةِ عَنِ التَّبْلِيغِ إلى الكَمالِ؛ مَعَ الإضافَةِ إلى ضَمِيرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -؛ مِنَ الإنْباءِ عَنْ تَشْرِيفِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -؛ ما لا يَخْفى؛ و"إذْ": ظَرْفٌ؛ مَوْضُوعٌ لِزَمانِ نِسْبَةٍ ماضِيَةٍ؛ وقَعَ فِيهِ نِسْبَةٌ أُخْرى مِثْلُها؛ كَما أنَّ "إذا" مَوْضُوعٌ لِزَمانِ نِسْبَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ؛ يَقَعُ فِيهِ أُخْرى مِثْلُها؛ ولِذَلِكَ يَجِبُ إضافَتُهُما إلى الجُمَلِ؛ وانْتِصابُهُ بِمُضْمَرٍ؛ صُرِّحَ بِمِثْلِهِ في قَوْلِهِ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿واذْكُرُوا إذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ﴾؛ وقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكم خُلَفاءَ مِن بَعْدِ عادٍ﴾؛ وتَوْجِيهُ الأمْرِ بِالذِّكْرِ إلى الوَقْتِ؛ دُونَ ما وقَعَ فِيهِ مِنَ الحَوادِثِ - مَعَ أنَّها المَقْصُودَةُ بِالذّاتِ - لِلْمُبالَغَةِ في إيجابِ ذِكْرِها؛ لِما أنَّ إيجابَ ذِكْرِ الوَقْتِ إيجابٌ لِذِكْرِ ما وقَعَ فِيهِ؛ بِالطَّرِيقِ البُرْهانِيِّ؛ ولِأنَّ الوَقْتَ مُشْتَمِلٌ عَلَيْها؛ فَإذا اسْتُحْضِرَ كانَتْ حاضِرَةً بِتَفاصِيلِها؛ كَأنَّها مُشاهَدَةٌ عِيانًا؛ وقِيلَ: لَيْسَ انْتِصابُهُ عَلى المَفْعُولِيَّةِ؛ بَلْ عَلى تَأْوِيلِ "اذْكُرِ الحادِثَ فِيهِ"؛ بِحَذْفِ المَظْرُوفِ؛ وإقامَةِ الظَّرْفِ مَقامَهُ؛ وأيًّا ما كانَ فَهو مَعْطُوفٌ عَلى مُضْمَرٍ آخَرَ؛ يَنْسَحِبُ عَلَيْهِ الكَلامُ؛ كَأنَّهُ قِيلَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - غُبَّ ما أُوحِيَ إلَيْهِ؛ ما خُوطِبَ بِهِ الكَفَرَةُ مِنَ الوَحْيِ النّاطِقِ بِتَفاصِيلِ الأُمُورِ السّابِقَةِ؛ الزّاجِرَةِ عَنِ الكُفْرِ بِهِ (تَعالى) -: ذَكِّرْهم بِذَلِكَ؛ واذْكُرْ لَهم هَذِهِ النِّعْمَةَ؛ لِيَتَنَبَّهُوا بِذَلِكَ لِبُطْلانِ ما هم فِيهِ؛ ويَنْتَهُوا عَنْهُ؛ وأمّا ما قِيلَ مِن أنَّ المُقَدَّرَ هُوَ: "اشْكُرِ النِّعْمَةَ في خَلْقِ السَّمَواتِ والأرْضِ"؛ أوْ: "تَدَبَّرْ ذَلِكَ"؛ فَغَيْرُ سَدِيدٍ؛ ضَرُورَةَ أنَّ مُقْتَضى المَقامِ تَذْكِيرُ المُخِلِّينَ بِمَواجِبِ الشُّكْرِ؛ وتَنْبِيهِهِمْ عَلى ما يَقْتَضِيهِ؛ وأيْنَ ذاكَ مِن مَقامِهِ الجَلِيلِ - ﷺ؟ وقِيلَ: انْتِصابُهُ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿قالُوا﴾؛ ويَأْباهُ أنَّهُ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ هو المَقْصُودَ بِالذّاتِ؛ دُونَ سائِرِ القِصَّةِ؛ وقِيلَ: بِما سَبَقَ مِن قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ ولا يَخْفى بُعْدُهُ؛ وقِيلَ: بِمُضْمَرٍ؛ دَلَّ عَلَيْهِ مَضْمُونُ الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ؛ مِثْلَ: وبَدَأ خَلْقَكم إذْ قالَ؛ إلَخْ.. ولا رَيْبَ في أنَّهُ لا فائِدَةَ في تَقْيِيدِ بَدْءِ الخَلْقِ بِذَلِكَ الوَقْتِ؛ وقِيلَ: بِـ "خَلَقَكُمْ"؛ أوْ بِـ "أحْياكُمْ"؛ مُضْمَرًا؛ وفِيهِ ما فِيهِ؛ وقِيلَ: "إذْ" زائِدَةٌ؛ ويُعْزى ذَلِكَ إلى أبِي عُبَيْدٍ؛ ومَعْمَرٍ؛ وقِيلَ: إنَّهُ بِمَعْنى "قَدْ". و"اللّامُ" في قَوْلِهِ - عَزَّ قائِلًا -: ﴿لِلْمَلائِكَةِ﴾؛ لِلتَّبْلِيغِ؛ وتَقْدِيمُ الجارِّ والمَجْرُورِ في هَذا البابِ مُطَّرِدٌ؛ لِما في المَقُولِ مِنَ الطُّولِ غالِبًا؛ مَعَ ما فِيهِ مِنَ (p-80)الِاهْتِمامِ بِما قُدِّمَ؛ والتَّشْوِيقِ إلى ما أُخِّرَ؛ كَما مَرَّ مِرارًا؛ و"المَلائِكَةُ" جَمْعُ "مَلَكٌ"؛ بِاعْتِبارِ أصْلِهِ الَّذِي هو "مَلْأكَ"؛ عَلى أنَّ الهَمْزَةَ مَزِيدَةٌ؛ كَـ "الشَّمائِلُ"؛ في جَمْعِ "شَمْألٌ"؛ والتّاءُ لِتَأْكِيدِ تَأْنِيثِ الجَماعَةِ؛ واشْتِقاقُهُ مِن "مَلَكٌ" لِما فِيهِ مِن مَعْنى الشِّدَّةِ والقُوَّةِ؛ وقِيلَ: عَلى أنَّهُ مَقْلُوبٌ مِن "مَأْلَكٌ" مِن "الألُوكَةُ"؛ وهي الرِّسالَةُ؛ أيْ مَوْضِعُ الرِّسالَةِ؛ أوْ مُرْسَلٌ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنى المَفْعُولِ؛ فَإنَّهم وسائِطُ بَيْنَ اللَّهِ (تَعالى) وبَيْنَ النّاسِ؛ فَهم رُسُلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -؛ أوْ بِمَنزِلَةِ رُسُلِهِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ -؛ واخْتَلَفَ العُقَلاءُ في حَقِيقَتِهِمْ؛ بَعْدَ اتِّفاقِهِمْ عَلى أنَّها ذَواتٌ مَوْجُودَةٌ؛ قائِمَةٌ بِأنْفُسِها؛ فَذَهَبَ أكْثَرُ المُتَكَلِّمِينَ إلى أنَّها أجْسامٌ لَطِيفَةٌ؛ قادِرَةٌ عَلى التَّشَكُّلِ بِأشْكالٍ مُخْتَلِفَةٍ؛ مُسْتَدِلِّينَ بِأنَّ الرُّسُلَ كانُوا يَرَوْنَهم كَذَلِكَ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ -؛ وذَهَبَ الحُكَماءُ إلى أنَّها جَواهِرُ مُجَرَّدَةٌ؛ مُخالِفَةٌ لِلنُّفُوسِ النّاطِقَةِ في الحَقِيقَةِ؛ وأنَّها أكْمَلُ مِنها قُوَّةً؛ وأكْثَرُ عِلْمًا؛ تَجْرِي مِنها مُجْرى الشَّمْسِ مِنَ الأضْواءِ؛ مُنْقَسِمَةٌ إلى قِسْمَيْنِ: قِسْمٍ شَأْنُهم الِاسْتِغْراقُ في مَعْرِفَةِ الحَقِّ؛ والتَّنَزُّهُ عَنْ الِاشْتِغالِ بِغَيْرِهِ؛ كَما نَعَتَهُمُ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - بِقَوْلِهِ: ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ﴾؛ وهُمُ العِلِّيُّونَ؛ المُقَرَّبُونَ؛ وقِسْمٍ يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ؛ حَسْبَما جَرى عَلَيْهِ قَلَمُ القَضاءِ والقَدَرِ؛ وهُمُ المُدَبِّراتُ أمْرًا؛ فَمِنهم سَماوِيَّةٌ؛ ومِنهم أرْضِيَّةٌ؛ وقالَتْ طائِفَةٌ مِنَ النَّصارى: هي النُّفُوسُ الفاضِلَةُ البَشَرِيَّةُ؛ المُفارِقَةُ لِلْأبْدانِ؛ ونُقِلَ في شَرْحِ كَثْرَتِهِمْ أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - قالَ: « "أطَّتِ السَّماءُ؛ وحُقَّ لَها أنْ تَئِطَّ؛ ما فِيها مَوْضِعُ قَدَمٍ إلّا وفِيهِ مَلَكٌ ساجِدٌ؛ أوْ راكِعٌ"؛» ورُوِيَ أنَّ بَنِي آدَمَ عُشْرُ الجِنِّ؛ وهُما عُشْرُ حَيَواناتِ البَرِّ؛ والكُلُّ عُشْرُ الطُّيُورِ؛ والكُلُّ عُشْرُ حَيَواناتِ البِحارِ؛ وهَؤُلاءِ كُلُّهم عُشْرُ مَلائِكَةِ الأرْضِ المُوَكَّلِينَ؛ وهَؤُلاءِ كُلُّهم عُشْرُ مَلائِكَةِ السَّماءِ الدُّنْيا؛ وكُلُّ هَؤُلاءِ عُشْرُ مَلائِكَةِ السَّماءِ الثّانِيَةِ؛ وهَكَذا.. إلى السَّماءِ السّابِعَةِ؛ ثُمَّ كُلُّ أُولَئِكَ في مُقابَلَةِ مَلائِكَةِ الكُرْسِيِّ نَزْرٌ قَلِيلٌ؛ ثُمَّ جَمِيعُ هَؤُلاءِ عُشْرُ مَلائِكَةِ سُرادِقٍ واحِدٍ مِن سُرادِقاتِ العَرْشِ؛ الَّتِي عَدَدُها سِتُّمائَةُ ألْفٍ؛ طُولُ كُلِّ سُرادِقٍ؛ وعَرْضُهُ؛ وسُمْكُهُ؛ إذا قُوبِلَتْ بِهِ السَّمَواتُ والأرْضُ وما فِيهِما وما بَيْنَهُما لا يَكُونُ لَها عِنْدَهُ قَدْرٌ مَحْسُوسٌ؛ وما مِنهُ مِن مِقْدارِ شِبْرٍ إلّا وفِيهِ مَلَكٌ ساجِدٌ؛ أوْ راكِعٌ؛ أوْ قائِمٌ؛ لَهم زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ؛ والتَّقْدِيسِ؛ ثُمَّ كُلُّ هَؤُلاءِ في مُقابَلَةِ المَلائِكَةِ الَّذِينَ يَحُومُونَ حَوْلَ العَرْشِ كالقَطْرَةِ في البَحْرِ؛ ثُمَّ مَلائِكَةُ اللَّوْحِ؛ الَّذِينَ هم أشْياعُ إسْرافِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - والمَلائِكَةُ الَّذِينَ هم جُنُودُ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لا يُحْصِي أجْناسَهُمْ؛ ولا مُدَّةَ أعْمارِهِمْ؛ ولا كَيْفِيّاتِ عِباداتِهِمْ؛ إلّا بارِئُهُمُ العَلِيمُ الخَبِيرُ؛ عَلى ما قالَ (تَعالى): ﴿وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلا هُوَ﴾؛ ورُوِيَ «أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - حِينَ عُرِجَ بِهِ إلى السَّماءِ؛ رَأى مَلائِكَةً في مَوْضِعٍ بِمَنزِلَةِ شَرَفٍ؛ يَمْشِي بَعْضُهم تُجاهَ بَعْضٍ؛ فَسَألَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: "إلى أيْنَ يَذْهَبُونَ؟"؛ فَقالَ جِبْرِيلُ: "لا أدْرِي؛ إلّا أنِّي أراهم مُنْذُ خُلِقْتُ؛ ولا أرى واحِدًا مِنهم قَدْ رَأيْتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ"؛ ثُمَّ سَألا واحِدًا مِنهُمْ: "مُنْذُ كَمْ خُلِقْتَ؟"؛ فَقالَ: "لا أدْرِي؛ غَيْرَ أنَّ اللَّهَ - عَزَّ وجَلَّ - يَخْلُقُ في كُلِّ أرْبَعِمائَةِ ألْفِ سَنَةٍ كَوْكَبًا؛ وقَدْ خَلَقَ مُنْذُ خَلَقَنِي أرْبَعَمائَةِ ألْفِ كَوْكَبٍ".» فَسُبْحانَهُ مِن إلَهٍ؛ ما أعْظَمَ قَدْرَهُ! وما أوْسَعَ مَلَكُوتَهُ! واخْتُلِفَ في المَلائِكَةِ الَّذِينَ قِيلَ لَهم ما قِيلَ؛ فَقِيلَ: هم مَلائِكَةُ الأرْضِ؛ ورَوى الضَّحّاكُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - أنَّهُمُ المُخْتارُونَ مَعَ إبْلِيسَ؛ حِينَ بَعْثَهُ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - لِمُحارَبَةِ الجِنِّ؛ حَيْثُ كانُوا سُكّانَ الأرْضِ؛ فَأفْسَدُوا فِيها؛ وسَفَكُوا الدِّماءَ؛ فَقَتَلُوهم إلّا قَلِيلًا؛ قَدْ أخْرَجُوهم مِنَ الأرْضِ؛ وألْحَقُوهم بِجَزائِرِ البِحارِ؛ وقُلَلِ الجِبالِ؛ وسَكَنُوا الأرْضَ؛ وخَفَّفَ اللَّهُ (تَعالى) عَنْهُمُ العِبادَةَ؛ وأعْطى إبْلِيسَ مُلْكَ الأرْضِ؛ ومُلْكَ السَّماءِ الدُّنْيا؛ وخِزانَةَ الجَنَّةِ؛ فَكانَ يَعْبُدُ اللَّهَ (تَعالى) تارَةً في الأرْضِ؛ (p-81)وَتارَةً في السَّماءِ؛ وأُخْرى في الجَنَّةِ؛ فَأخَذَهُ العُجْبُ؛ فَكانَ مِن أمْرِهِ ما كانَ. وقالَ أكْثَرُ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ - رِضْوانُ اللَّهِ (تَعالى) عَلَيْهِمْ - في أنَّهم كُلُّ المَلائِكَةِ؛ لِعُمُومِ اللَّفْظِ؛ وعَدَمِ المُخَصَّصِ. وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾؛ في حَيِّزِ النَّصْبِ؛ عَلى أنَّهُ مَقُولُ "قالَ"؛ وصِيغَةُ الفاعِلِ بِمَعْنى المُسْتَقْبَلِ؛ ولِذَلِكَ عَمِلَتْ عَمَلَهُ؛ وفِيها ما لَيْسَ في صِيغَةِ المُضارِعِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ فاعِلٌ ذَلِكَ لا مَحالَةَ؛ وهي مِن "الجَعْلُ"؛ بِمَعْنى "التَّصْيِيرُ"؛ المُتَعَدِّي إلى مَفْعُولَيْنِ؛ فَقِيلَ: أوَّلُهُما: "خَلِيفَةٌ"؛ وثانِيهِما: الظَّرْفُ المُتَقَدِّمُ عَلى ما هو مُقْتَضى الصِّناعَةِ؛ فَإنَّ مَفْعُولَيِ التَّصْيِيرِ في الحَقِيقَةِ اسْمُ "صارَ" وخَبَرُهُ؛ أوَّلُهُما الأوَّلُ؛ وثانِيهِما الثّانِي؛ وهُما مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ؛ والأصْلُ: "فِي الأرْضِ خَلِيفَةٌ"؛ ثُمَّ قِيلَ: "صارَ في الأرْضِ خَلِيفَةٌ"؛ ثُمَّ: "مُصَيِّرٌ في الأرْضِ خَلِيفَةٌ"؛ فَمَعْناهُ - بَعْدَ اللَّتَيّا والَّتِي -: "إنِّي جاعِلٌ خَلِيفَةً مِنَ الخَلائِفِ؛ أوْ خَلِيفَةً بِعَيْنِهِ؛ كائِنًا في الأرْضِ"؛ فَإنَّ خَبَرَ "صارَ" في الحَقِيقَةِ هو الكَوْنُ المُقَدَّرُ؛ العامِلُ في الظُّرُوفِ؛ ولا رَيْبَ في أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمّا يَقْتَضِيهِ المَقامُ أصْلًا؛ وإنَّما الَّذِي يَقْتَضِيهِ هو الإخْبارُ بِجَعْلِ آدَمَ خَلِيفَةً فِيها؛ كَما يُعْرِبُ عَنْهُ جَوابُ المَلائِكَةِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ -؛ فَإذَنْ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿خَلِيفَةً﴾؛ مَفْعُولٌ ثانٍ؛ والظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِـ "جاعِلٌ"؛ قُدِّمَ عَلى المَفْعُولِ الصَّرِيحِ؛ لِما مَرَّ مِنَ التَّشْوِيقِ إلى ما أُخِّرَ؛ أوْ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِمّا بَعْدَهُ؛ لِكَوْنِهِ نَكِرَةً؛ وأمّا المَفْعُولُ الأوَّلُ فَمَحْذُوفٌ؛ تَعْوِيلًا عَلى القَرِينَةِ الدّالَّةِ عَلَيْهِ؛ كَما في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكم قِيامًا﴾؛ حُذِفَ فِيهِ المَفْعُولُ الأوَّلُ؛ وهو ضَمِيرُ الأمْوالِ؛ لِدَلالَةِ الحالِ عَلَيْهِ؛ وكَذا في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هو خَيْرًا لَهُمْ﴾؛ حَيْثُ حُذِفَ فِيهِ المَفْعُولُ الأوَّلُ؛ لِدَلالَةِ "يَبْخَلُونَ" عَلَيْهِ؛ أيْ: لا يَحْسَبَنَّ البُخَلاءُ بُخْلَهم هو خَيْرًا لَهُمْ؛ ولا رَيْبَ في تَحْقِيقِ القَرِينَةِ هَهُنا؛ أمّا إنْ حُمِلَ عَلى الحَذْفِ عِنْدَ وُقُوعِ المَحْكِيِّ فَهي واضِحَةٌ؛ لِوُقُوعِهِ في أثْناءِ ذِكْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -؛ عَلى ما سَنُفَصِّلُهُ؛ كَأنَّهُ قِيلَ: "إنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ؛ وجاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً"؛ وأمّا إنْ حُمِلَ عَلى أنَّهُ لَمْ يُحْذَفْ هُناكَ؛ بَلْ قِيلَ - مَثَلًا -: "وَجاعِلٌ إيّاهُ خَلِيفَةً في الأرْضِ"؛ لَكِنَّهُ حُذِفَ عِنْدَ الحِكايَةِ؛ فالقَرِينَةُ ما ذُكِرَ مِن جَوابِ المَلائِكَةِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ -؛ قالَ العَلّامَةُ الزَّمَخْشَرِيُّ - في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿إذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ﴾ -: "إنْ قُلْتَ: كَيْفَ صَحَّ أنْ يَقُولَ لَهُمْ: "بَشَرًا"؛ وما عَرَفُوا ما البَشَرُ؛ ولا عَهِدُوا بِهِ؟ قُلْتُ: وجْهُهُ أنْ يَكُونَ قَدْ قالَ لَهُمْ: "إنِّي خالِقٌ خَلْقًا مِن صِفَتِهِ كَيْتُ وكَيْتُ"؛ ولَكِنَّهُ حِينَ حَكاهُ اقْتَصَرَ عَلى الِاسْمِ". انْتَهى. فَحَيْثُ جازَ الِاكْتِفاءُ عِنْدَ الحِكايَةِ عَنْ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ بِمُجَرَّدِ الِاسْمِ؛ مِن غَيْرِ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ؛ فَما ظَنُّكَ بِما نَحْنُ فِيهِ؛ ومَعَهُ قَرِينَةٌ ظاهِرَةٌ؟! ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن "الجَعْلُ" بِمَعْنى "الخَلْقُ"؛ المُتَعَدِّي إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ؛ هو "خَلِيفَةً"؛ وحالُ الظَّرْفِ في التَّعَلُّقِ والتَّقْدِيمِ؛ كَما مَرَّ؛ فَحِينَئِذٍ لا يَكُونُ ما سَيَأْتِي مِن كَلامِ المَلائِكَةِ مُتَرَتِّبًا عَلَيْهِ بِالذّاتِ؛ بَلْ بِالواسِطَةِ؛ فَإنَّهُ رُوِيَ أنَّهُ (تَعالى) لَمّا قالَ لَهُمْ: ﴿إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾؛ قالُوا: رَبَّنا.. وما يَكُونُ ذَلِكَ الخَلِيفَةُ؟ قالَ (تَعالى): "يَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ يُفْسِدُونَ في الأرْضِ؛ ويَتَحاسَدُونَ؛ ويَقْتُلُ بَعْضُهم بَعْضًا"؛ فَعِنْدَ ذَلِكَ قالُوا ما قالُوا؛ واللَّهُ (تَعالى) أعْلَمُ. والخَلِيفَةُ: مَن يَخْلُفُ غَيْرَهُ؛ ويَنُوبُ مَنابَهُ؛ "فَعِيلٌ" بِمَعْنى "الفاعِلُ"؛ والتّاءُ لِلْمُبالَغَةِ؛ والمُرادُ بِهِ: إمّا آدَمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ وبَنُوهُ؛ وإنَّما اقْتُصِرَ عَلَيْهِ اسْتِغْناءً بِذِكْرِهِ عَنْ ذِكْرِهِمْ؛ كَما يُسْتَغْنى عَنْ ذِكْرِ القَبِيلَةِ بِذِكْرِ أبِيها؛ كَـ "مُضَرٍ"؛ و"هاشِمٍ"؛ ومِنهُ الخِلافَةُ في قُرَيْشٍ؛ وإمّا مَن يَخْلُفُ؛ أوْ "خَلَفَ يَخْلُفُ"؛ فَيَعُمُّهُ - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ وغَيْرَهُ مِن خُلَفاءِ ذُرِّيَّتِهِ؛ والمُرادُ بِالخِلافَةِ: إمّا الخِلافَةُ مِن جِهَتِهِ - سُبْحانَهُ - في إجْراءِ أحْكامِهِ؛ وتَنْفِيذِ أوامِرِهِ بَيْنَ النّاسِ؛ وسِياسَةِ الخَلْقِ؛ لَكِنْ لا لِحاجَةٍ بِهِ (تَعالى) إلى ذَلِكَ؛ بَلْ لِقُصُورِ اسْتِعْدادِ المُسْتَخْلَفِ عَلَيْهِمْ؛ وعَدَمِ لِياقَتِهِمْ لِقَبُولِ الفَيْضِ بِالذّاتِ؛ فَتَخْتَصُّ (p-82)بِالخَواصِّ مِن بَنِيهِ؛ وإمّا الخِلافَةُ مِمَّنْ كانَ في الأرْضِ قَبْلَ ذَلِكَ؛ فَتَعُمُّ حِينَئِذٍ الجَمِيعَ. ﴿قالُوا﴾: اسْتِئْنافٌ وقَعَ جَوابًا عَمّا يَنْساقُ إلَيْهِ الأذْهانُ؛ كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا قالَتِ المَلائِكَةُ حِينَئِذٍ؟ فَقِيلَ: ﴿قالُوا أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها﴾؛ وهو أيْضًا مِن "الجَعْلُ"؛ المُتَعَدِّي إلى اثْنَيْنِ؛ فَقِيلَ فِيهِما ما قِيلَ في الأوَّلِ؛ والظّاهِرُ أنَّ الأوَّلَ كَلِمَةُ "مَن"؛ والثّانِي مَحْذُوفٌ ثِقَةً بِما ذُكِرَ في الكَلامِ السّابِقِ؛ كَما حُذِفَ الأوَّلُ ثَمَّةَ؛ تَعْوِيلًا عَلى ما ذُكِرَ هُنا؛ قالَ قائِلُهُمْ: لا تَخَلْنا عَلى عَزائِكَ إنّا ... طالَما قَدْ وشى بِنا الأعْداءُ بِحَذْفِ المَفْعُولِ الثّانِي؛ أيْ: لا تَخَلْنا جازِعِينَ عَلى عَزائِكَ؛ والمَعْنى: أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها خَلِيفَةً؛ والظَّرْفُ الأوَّلُ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَجْعَلُ"؛ وتَقْدِيمُهُ لِما مَرَّ مِرارًا؛ والثّانِي بِـ "يُفْسِدُ"؛ وفائِدَتُهُ تَأْكِيدُ الِاسْتِبْعادِ؛ لِما أنَّ في اسْتِخْلافِ المُفْسِدِ في مَحَلِّ إفْسادِهِ مِنَ البُعْدِ ما لَيْسَ في اسْتِخْلافِهِ في غَيْرِهِ؛ هَذا.. وقَدْ جُوِّزَ كَوْنُهُ مِن "الجَعْلُ"؛ بِمَعْنى "الخَلْقُ"؛ المُتَعَدِّي إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ؛ هو كَلِمَةُ "مَن"؛ وأنْتَ خَبِيرٌ بِأنَّ مَدارَ تَعَجُّبِهِمْ لَيْسَ خَلْقَ مَن يُفْسِدُ في الأرْضِ؛ كَيْفَ لا.. وأنَّ ما يَعْقُبُهُ مِنَ الجُمْلَةِ الحالِيَّةِ النّاطِقَةِ بِدَعْوى أحَقِّيَّتِهِمْ مِنهُ يَقْضِي بِبُطْلانِهِ حَتْمًا؛ إذْ لا صِحَّةَ لِدَعْوى الأحَقِّيَّةِ مِنهُ بِالخَلْقِ وهم مَخْلُوقُونَ؟ بَلْ مَدارُهُ أنْ يُسْتَخْلَفَ لِعِمارَةِ الأرْضِ؛ وإصْلاحِها؛ بِإجْراءِ أحْكامِ اللَّهِ (تَعالى)؛ وأوامِرِهِ؛ أوْ يُسْتَخْلَفَ مَكانَ المَطْبُوعِينَ عَلى الطّاعَةِ مَن مِن شَأْنِ بَنِي نَوْعِهِ الإفْسادُ؛ وسَفْكُ الدِّماءِ؛ وهو - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ وإنْ كانَ مُنَزَّهًا عَنْ ذَلِكَ؛ إلّا أنَّ اسْتِخْلافَهُ مُسْتَتْبِعٌ لِاسْتِخْلافِ ذُرِّيَّتِهِ؛ الَّتِي لا تَخْلُو عَنْهُ غالِبًا؛ وإنَّما أظْهَرُوا تَعَجُّبَهُمُ اسْتِكْشافًا عَمّا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنَ الحِكَمِ؛ الَّتِي بَذَّتْ عَلى تِلْكَ المَفاسِدِ؛ وألْغَتْها؛ واسْتِخْبارًا عَمّا يُزِيحُ شُبْهَتَهُمْ؛ ويُرْشِدُهم إلى مَعْرِفَةِ ما فِيهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِنَ الفَضائِلِ الَّتِي جَعَلَتْهُ أهْلًا لِذَلِكَ؛ كَسُؤالِ المُتَعَلِّمِ عَمّا يَنْقَدِحُ في ذِهْنِهِ؛ لا اعْتِراضًا عَلى فِعْلِ اللَّهِ - سُبْحانَهُ -؛ ولا شَكًّا في اشْتِمالِهِ عَلى الحِكْمَةِ؛ والمَصْلَحَةِ إجْمالًا؛ ولا طَعْنًا فِيهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ -؛ ولا في ذُرِّيَّتِهِ عَلى وجْهِ الغَيْبَةِ؛ فَإنَّ مَنصِبَهم أجَلُّ مِن أنْ يُظَنَّ بِهِمْ أمْثالُ ذَلِكَ؛ قالَ (تَعالى): ﴿بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ﴾ ﴿لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وهم بِأمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾؛ وإنَّما عَرَفُوا ما قالُوا إمّا بِإخْبارٍ مِنَ اللَّهِ (تَعالى)؛ حَسْبَما نُقِلَ مِن قَبْلُ؛ أوْ بِتَلَقٍّ مِنَ اللَّوْحِ؛ أوْ بِاسْتِنْباطٍ عَمّا ارْتَكَزَ في عُقُولِهِمْ في اخْتِصاصِ العِصْمَةِ بِهِمْ؛ أوْ بِقِياسٍ لِأحَدِ الثَّقَلَيْنِ عَلى الآخَرِ. ﴿وَيَسْفِكُ الدِّماءَ﴾: السَّفْكُ؛ والسَّفْحُ؛ والسَّبْكُ؛ والسَّكْبُ: أنْواعٌ مِنَ الصَّبِّ؛ والأوَّلانِ مُخْتَصّانِ بِالدَّمِ؛ بَلْ لا يُسْتَعْمَلُ أوَّلُهُما إلّا في الدَّمِ المُحَرَّمِ؛ أيْ بِقَتْلِ النُّفُوسِ المُحَرَّمَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ والتَّعْبِيرُ عَنْهُ بِسَفْكِ الدِّماءِ لِما أنَّهُ أقْبَحُ أنْواعِ القَتْلِ؛ وأفْظَعُهُ؛ وقُرِئَ: "يُسْفِكُ"؛ بِضَمِّ الفاءِ؛ و"يُسْفِكُ"؛ و"يَسْفِكُ"؛ مِن "أسْفَكَ"؛ و"سَفَكَ"؛ وقُرِئَ: "يُسْفَكُ"؛ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ؛ وحُذِفَ الرّاجِعُ إلى "مَن"؛ مَوْصُولَةً أوْ مَوْصُوفَةً؛ أيْ: يَسْفِكُ الدِّماءَ فِيهِمْ. ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ﴾: جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ؛ مُقَرِّرَةٌ لِلتَّعَجُّبِ السّابِقِ؛ ومُؤَكِّدَةٌ لَهُ؛ عَلى طَرِيقَةِ قَوْلِ مَن يَجِدُّ في خِدْمَةِ مَوْلاهُ؛ وهو يَأْمُرُ بِها غَيْرَهُ: أتَسْتَخْدِمُ العُصاةَ وأنا مُجْتَهِدٌ فِيها؟ كَأنَّهُ قِيلَ: أتَسْتَخْلِفُ مَن مِن شَأْنِ ذُرِّيَّتِهِ الفَسادُ؛ مَعَ وُجُودِ مَن لَيْسَ مِن شَأْنِهِ ذَلِكَ أصْلًا؟ والمَقْصُودُ: عَرْضُ أحَقِّيَّتِهِمْ مِنهم بِالخِلافَةِ؛ واسْتِفْسارٌ عَمّا رَجَّحَهم عَلَيْهِمْ؛ مَعَ ما هو مُتَوَقَّعٌ مِنهم مِنَ المَوانِعِ؛ لا العُجْبُ والتَّفاخُرُ؛ فَكَأنَّهم شَعَرُوا بِما فِيهِمْ مِنَ القُوَّةِ الشَّهَوِيَّةِ؛ الَّتِي رَذِيلَتُها الإفْراطِيَّةُ الفَسادُ في الأرْضِ؛ والقُوَّةِ الغَضَبِيَّةِ؛ الَّتِي رَذِيلَتُها الإفْراطِيَّةُ سَفْكُ الدِّماءِ؛ فَقالُوا ما قالُوا؛ وذَهِلُوا عَمّا إذا سَخَّرَتْهُما القُوَّةُ العَقْلِيَّةُ؛ ومَرَّنَتْهُما عَلى الخَيْرِ يَحْصُلُ بِذَلِكَ مِن عُلُوِّ الدَّرَجَةِ ما يُقَصِّرُ عَنْ بُلُوغِ رُتْبَةِ القُوَّةِ العَقْلِيَّةِ؛ عِنْدَ انْفِرادِها في أفاعِيلِها؛ كالإحاطَةِ بِتَفاصِيلِ أحْوالِ الجُزْئِيّاتِ؛ واسْتِنْباطِ الصِّناعاتِ؛ واسْتِخْراجِ مَنافِعِ الكائِناتِ مِنَ (p-83) القُوَّةِ إلى الفِعْلِ؛ وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا نِيطَ بِهِ أمْرُ الخِلافَةِ. والتَّسْبِيحُ: تَنْزِيهُ اللَّهِ (تَعالى)؛ وتَبْعِيدُهُ اعْتِقادًا؛ وقَوْلًا؛ وعَمَلًا؛ عَمّا لا يَلِيقُ بِجَنابِهِ - سُبْحانَهُ -؛ مِن "سَبَحَ في الأرْضِ والماءِ"؛ إذا أبْعَدَ فِيهِما وأمْعَنَ؛ ومِنهُ "فَرَسٌ سَبُوحٌ"؛ أيْ: واسِعُ الجَرْيِ. وكَذَلِكَ تَقْدِيسُهُ (تَعالى): مِن "قَدَسَ في الأرْضِ"؛ إذا ذَهَبَ فِيها وأبْعَدَ؛ ويُقالُ: "قَدَّسَهُ"؛ أيْ: "طَهَّرَهُ"؛ فَإنَّ مُطَهِّرَ الشَّيْءِ مُبْعِدُهُ عَنِ الأقْذارِ. والباءُ في "بِحَمْدِكَ" مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ؛ أيْ: نُنَزِّهُكَ عَنْ كُلِّ ما لا يَلِيقُ بِشَأْنِكَ؛ مُلْتَبِسِينَ بِحَمْدِكَ عَلى ما أنْعَمْتَ بِهِ عَلَيْنا مِن فُنُونِ النِّعَمِ؛ الَّتِي مِن جُمْلَتِها تَوْفِيقُنا لِهَذِهِ العِبادَةِ. فالتَّسْبِيحُ لِإظْهارِ صِفاتِ الجَلالِ؛ والحَمْدُ لِتَذْكِيرِ صِفاتِ الإنْعامِ؛ واللّامُ في "لَكَ": إمّا مَزِيدَةٌ؛ والمَعْنى: نُقَدِّسُكَ؛ وإمّا صِلَةٌ لِلْفِعْلِ؛ كَما في "سَجَدْتُ لِلَّهِ"؛ وإمّا لِلْبَيانِ؛ كَما في "سُقْيًا لَكَ"؛ فَتَكُونُ مُتَعَلِّقَةً بِمَحْذُوفٍ؛ أيْ: نُقَدِّسُ تَقْدِيسًا لَكَ؛ أيْ: نَصِفُكَ بِما يَلِيقُ بِكَ مِنَ العُلُوِّ والعِزَّةِ؛ ونُنَزِّهُكَ عَمّا لا يَلِيقُ بِكَ. وقِيلَ: المَعْنى: نُطَهِّرُ نُفُوسَنا عَنِ الذُّنُوبِ لِأجْلِكَ؛ كَأنَّهم قابَلُوا الفَسادَ - الَّذِي أعْظَمُهُ الإشْراكُ - بِالتَّسْبِيحِ؛ وسَفْكَ الدِّماءِ - الَّذِي هو تَلْوِيثُ النَّفْسِ بِأقْبَحِ الجَرائِمِ - بِتَطْهِيرِ النَّفْسِ عَنِ الآثامِ؛ لا تَمَدُّحًا بِذَلِكَ؛ ولا إظْهارًا لِلْمِنَّةِ؛ بَلْ بَيانًا لِلْواقِعِ. قالَ: اسْتِئْنافٌ؛ كَما سَبَقَ؛ ﴿إنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾: لَيْسَ المُرادُ بَيانَ أنَّهُ (تَعالى) يَعْلَمُ ما لا يَعْلَمُونَهُ مِنَ الأشْياءِ؛ كائِنًا ما كانَ؛ فَإنَّ ذَلِكَ مِمّا لا شُبْهَةَ لَهم فِيهِ حَتّى يَفْتَقِرُوا إلى التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ؛ لا سِيَّما بِطَرِيقِ التَّوْكِيدِ؛ بَلْ بَيانَ أنَّ فِيهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مَعانِيَ مُسْتَدْعِيَةً لِاسْتِخْلافِهِ؛ إذْ هو الَّذِي خَفِيَ عَلَيْهِمْ؛ وبَنَوْا عَلَيْهِ ما بَنَوْا مِنَ التَّعَجُّبِ والِاسْتِبْعادِ؛ فَـ "ما" - مَوْصُولَةً كانَتْ أوْ مَوْصُوفَةً - عِبارَةٌ عَنْ تِلْكَ المَعانِي؛ والمَعْنى: إنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَهُ مِن دَواعِي الخِلافَةِ فِيهِ؛ وإنَّما لَمْ يَقْتَصِرْ عَلى بَيانِ تَحَقُّقِها فِيهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - بِأنْ قِيلَ - مَثَلًا -: إنَّ فِيهِ ما يَقْتَضِيهِ؛ مِن غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِإحاطَتِهِ (تَعالى) بِهِ؛ وغَفْلَتِهِمْ عَنْهُ؛ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ؛ وإيذانًا بِابْتِناءِ أمْرِهِ (تَعالى) عَلى العِلْمِ الرَّصِينِ؛ والحِكْمَةِ المُتْقَنَةِ؛ وصُدُورِ قَوْلِهِمْ عَنِ الغَفْلَةِ؛ وقِيلَ: مَعْناهُ: إنِّي أعْلَمُ مِنَ المَصالِحِ في اسْتِخْلافِهِ ما هو خَفِيٌّ عَلَيْكم. وإنَّ هَذا إرْشادٌ لِلْمَلائِكَةِ إلى العِلْمِ بِأنَّ أفْعالَهُ (تَعالى) كُلَّها حَسَنَةٌ؛ وحِكْمَةٌ؛ وإنْ خَفِيَ عَلَيْهِمْ وجْهُ الحُسْنِ؛ والحِكْمَةِ؛ وأنْتَ خَبِيرٌ بِأنَّهُ مُشْعِرٌ بِكَوْنِهِمْ غَيْرَ عالِمِينَ بِذَلِكَ مِن قَبْلُ؛ ويَكُونُ تَعَجُّبُهم مَبْنِيًّا عَلى تَرَدُّدِهِمْ في اشْتِمالِ هَذا الفِعْلِ لِحِكْمَةٍ ما؛ وذَلِكَ مِمّا لا يَلِيقُ بِشَأْنِهِمْ؛ فَإنَّهم عالِمُونَ بِأنَّ ذَلِكَ مُتَضَمِّنٌ لِحِكْمَةٍ ما؛ ولَكِنَّهم مُتَرَدِّدُونَ في أنَّها ماذا؛ هَلْ هو أمْرٌ راجِعٌ إلى مَحْضِ حُكْمِ اللَّهِ - عَزَّ وجَلَّ -؛ أوْ إلى فَضِيلَةٍ مِن جِهَةِ المُسْتَخْلَفِ؛ فَبَيَّنَ - سُبْحانَهُ وتَعالى - لَهم أوَّلًا عَلى وجْهِ الإجْمالِ والإبْهامِ أنَّ فِيهِ فَضائِلَ غائِبَةً عَنْهُمْ؛ لِيَسْتَشْرِفُوا إلَيْها؛ ثُمَّ أبْرَزَ لَهم طَرَفًا مِنها؛ لِيُعايِنُوهُ جَهْرَةً؛ ويَظْهَرَ لَهم بَدِيعُ صُنْعِهِ؛ وحِكْمَتُهُ؛ ويَنْزاحَ شُبْهَتُهم بِالكُلِّيَّةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب