الباحث القرآني

القول في تأويل قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ﴾ قال أبو جعفر: زعم بعض المنسوبين إلى العلم بلغات العرب من أهل البصرة [[هو أبو عبيدة (انظر تفسير ابن كثير ١: ١٢٥) ، وكما مضى آنفًا في مواضع من كلام الطبري. ويؤيد ذلك أن البغدادي نقل في شرح بيت عبد مناف بن ربعى، (الخزانة ٣: ١٧١) ، عن ابن السيد: "وقال أبو عبيدة: إذا، زائدة، فلذلك لم يؤت لها بجواب". هذا والشاهدان الآتيان في زيادة"إذا" لا في زيادة"إذ"، وهو من جرأة أبي عبيدة وخطئه، وأيا ما كان قائله، فهو جريء مخطئ.]] : أن تأويل قوله:"وإذ قال ربك"، وقال ربك؛ وأن"إذ" من الحروف الزوائد، وأن معناها الحذف. واعتلّ لقوله الذي وصفنا عنه في ذلك ببيت الأسود بن يَعْفُر: فَإِذَا وَذَلِكَ لامَهَاهَ لِذِكْرهِ ... وَالدَّهْرُ يُعْقِب صَالِحًا بِفَسَادِ [[المفضليات، القصيدة رقم: ٤٤، وليس البيت في رواية ابن الأنباري شارح المفضليات. وقوله"لامهاه"، يقال: ليس لعيشنا مهه (بفتحتين) ومهاه: أي ليس له حسن أو نضارة. وقد زعموا أن الواو في قوله"فإذا وذلك. . " زائدة مقحمة، كأنه قال: فإذا ذلك. . .، وقد قال الطبري في تفسير قوله تعالى: "حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين" ج ٢٤ ص ٢٤: "واختلف أهل العربية في موضع جواب"إذا" التي في قوله: (حتى إذا جاءوها) ، فقال بعض نحويي البصرة، يقال إن قوله: (وقال لهم خزنتها) في معنى: قال لهم. كأنه يلغى الواو. وقد جاء في الشعر شيء يشبه أن تكون الواو زائدة، كما قال الشاعر: فَإِذَا وَذَلِكَ يَا كُبَيْشَةُ لَمْ يَكُنْ ... إِلا تَوَهُّمَ حَالِمٍ بِخَيَالِ فيشبه أن يكون يريد: فإذا ذلك لم يكن". وقال أبو سعيد السكري في شرح أشعار الهذليين ٢: ١٠٠، في شرح بيت أبي كبير الهذلي: فَإِذَا وَذَلِكَ لَيْسَ إِلا حِينَهُ ... وَإِذَا مَضَى شَيْءٌ كَأَنْ لَمْ يُفْعَلِ قال أبو سعيد: "الواو زائدة. قال: قلت لأبي عمرو: يقول الرجل: ربنا ولك الحمد. فقال: يقول الرجل: قد أخذت هذا بكذا وكذا. فيقول: وهو لك". وقال ابن الشجري في أماليه ١: ٣٥٨: "قيل في الآية إن الواو مقحمة، وليس ذلك بشيء، لأن زيادة الواو لم تثبت في شيء من الكلام الفصيح". والذي ذهب إليه ابن الشجري هو الصواب، ولكل شاهد مما استشهدوا به وجه في البيان، ليس هذا موضع تفصيله. وكفى برد الطبري في هذا الموضع ما زعمه أبو عبيدة من زيادة"إذ" كما سيأتي: "وغير جائز إبطال حرف كان دليلا على معنى في الكلام" إلى آخر ما قال. وهو من سديد الفهم. وشرحه للبيت بعد، يدل على أنه لا يرى زيادة الواو، وذلك قوله في شرحه: "فإذا الذي نحن فيه، وما مضى من عيشنا".]] ثم قال: ومعناها: وذلك لامهاه لذكره - وببيت عبد مناف بن رِبْع الهُذَليِّ: حَتَّى إِذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدَةٍ ... شَلا كَمَا تَطْرُدُ الْجَمَّالَةُ الشُّرُدَا [[ديوان الهذليين ٢: ٤٢، ويأتي في تفسير الطبري ١٤: ٨، ١٨: ١٣، ٢٤: ٢٥ (طبعة بولاق) والخزانة ٣: ١٧٠ - ١٧٤، وأمالى ابن الشجري ١: ٣٥٨، ٢: ٢٨٩، وكثير غيرها. وسلك الرجل الطريق، وسلكه غيره فيه، وأسلكه الطريق: أدخله فيه أو اضطره إليه. وقتائدة: جبل بين المنصرف والروحاء، أي في الطريق بين مكة والمدينة. وشل السائق الإبل: طردها أمامه طردًا. ومر فلان يشل العدو بالسيف: يطردهم طردًا يفرون أمامه. والجمالة: أصحاب الجمال. وشرد البعير فهو شارد وشرود: نفر وذهب في الأرض، وجمع شارد شرد (بفتحتين) مثل خادم وخدم. وجمع شرود شرد (بضمتين) . ويذكر عبد مناف قومًا أغاروا على عدو لهم، فأزعجوهم عن منازلهم، واضطروهم إلى"قتائدة" يطردونهم بالسيوف والرماح والنبال، كما تطرد الإبل الشوارد. وجواب"إذا" تقديره: شلوهم شلا، فعل محذوف دل عليه المصدر، كما سيأتي في كلام الطبري بعد.]] وقال: معناه، حتى أسلكوهم. قال أبو جعفر: والأمر في ذلك بخلاف ما قال: وذلك أن"إذ" حرف يأتي بمعنى الجزاء، ويدل على مجهول من الوقت. وغيرُ جائز إبطال حرف كان دليلا على معنى في الكلام. إذْ سواءٌ قيلُ قائل: هو بمعنى التطوُّل، وهو في الكلام دليل على معنى مفهوم - وقيلُ آخرَ، في جميع الكلام الذي نطق به دليلا على ما أريد به: وهو بمعنى التطوُّل [[في المخطوطة: "هو بمعنى التطول في الكلام". وهو خطأ. والتطول، في اصطلاح الطبري وغيره: الزيادة في الكلام بمعنى الإلغاء، كما مضى آنفًا في ص ١٤٠ من بولاق، وأراد الطبري أن ينفي ما لج فيه بعض النحاة من ادعاء اللغو والزيادة في الكلام، فهو يقول: إذا كان للحرف أو الكلمة معنى مفهوم في الكلام، ثم ادعيت أنه زيادة ملغاة، فجائز لغيرك أن يدعي أن جملة كاملة مفهومة المعنى، أو كلامًا كاملا مفهوم المعنى - إنما هي زيادة ملغاة أيضًا. وبذلك يبطل كل معنى لكل كلام، إذ يجوز لمدع أن يبطل منه ما يشاء بما يهوى من الجرأة والادعاء. وهذا تأييد لمذهبنا الذي ارتضيناه في التعليق السالف.]] . وليس لما ادَّعَى الذي وصفنا قوله [[في المطبوعة"وليس لمدعي الذي. . " وهو خطأ.]] - في بيت الأسود بن يعفر: أن"إذا" بمعنى التطوّل - وجه مفهوم، بل ذلك لو حذف من الكلام لبطل المعنى الذي أراده الأسود بن يعفر من قوله: فَإِذَا وذلك لامَهَاهَ لِذِكْرِه وذلك أنه أراد بقوله: فإذا الذي نحن فيه، وما مضى من عيشنا. وأشار بقوله"ذلك" إلى ما تقدم وصْفه من عيشه الذي كان فيه -"لامهاه لذكره" يعني لا طعمَ له ولا فضلَ، لإعقاب الدهر صَالح ذلك بفساد. وكذلك معنى قول عبد مناف بن رِبْعٍ: حَتَّى إِذَا أَسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدَةٍ ... شَلا................. لو أسقط منه"إذا" بطل معنى الكلام، لأن معناه: حتى إذا أسلكوهم في قتائدة سلكوا شلا فدل قوله."أسلكوهم شلا" على معنى المحذوف، فاستغنى عن ذكره بدلالة"إذا" عليه، فحذف. كما دَلّ - ما قد ذكرنا فيما مضى من كتابنا [[في المطبوعة: "كما قد ذكرنا فيما مضى من كتابنا على ما تفعل. . . "، وفي المخطوطة: "كما قال. قد ذكرنا فيما مضى. . "، وكلاهما خطأ، الأول من تغيير المصححين، والثاني تصحيف في"قال"، فهي"دل"، والنقطة السوداء، بياض كان في الأصل المنقول عنه، أو"ما" ضاعت ألفها وبقيت"م" مطموسة، فظنها ظان علامة فصل. هذا وقد أشار الطبري إلى ما مضى في كتابه هذا ص: ١١٤، ص: ٣٢٧ فانظره.]] - على ما تفعل العربُ في نظائر ذلك. وكما قال النمر بن تَوْلَب: فَإِنَّ الْمَنِيَّةَ مَنْ يَخْشَهَا ... فَسَوْفَ تُصَادِفُه أَيْنَما [[من قصيدة محكمة في مختارات ابن الشجري ١: ١٦، والخزانة ٤: ٤٣٨، وشرح شواهد المغني: ٦٥، وبعده: وإنْ تتخطّاكَ أسْبابُها ... فإن قُصَاراكَ أنْ تهرمَا]] وهو يريد: أينما ذهب. وكما تقول العرب:"أتيتك من قبلُ ومن بعدُ". تريد من قبل ذلك، ومن بعد ذلك. فكذلك ذلك في"إذا" كما يقول القائل: "إذا أكرمك أخوكَ فأكرمه، وإذا لا فلا". يريد: وإذا لم يكرمك فلا تكرمه. ومن ذلك قول الآخر: فَإِذَا وَذَلِكَ لا يَضُرُّكَ ضُرُّهُ ... فِي يَوْم أسألُ نَائِلا أو أنْكَدُ [[لم أعرف صاحبه. وفي المطبوعة: "في يوم أثل نائلا أو أنكدا" وهو خطأ عريق. وفي المطبوعة: "أسل نائلا"، وهي أقرب إلى الصواب. الضر: سوء الحال من فقر أو شدة أو بلاء أو حزن. والنائل: ما تناله وتصيبه من معروف إنسان. ونكده ما سأله: قلل له العطاء، أو لم يعطه البتة، يقول القائل: وأعْطِ ما أعطيتَهُ طَيِّبًا ... لا خيرَ في المنكودِ والنَّاكِدِ]] نظيرَ ما ذكرنا من المعنى في بيت الأسود بن يعفر. وكذلك معنى قول الله جل ثناؤه:"وإذ قالَ ربك للملائكة"، لو أبْطِلت"إذ" وحُذِفت من الكلام، لاستحال عن معناه الذي هو به [[قوله: "الذي هو به"، أي: الذي هو به كلام قائم مفهوم.]] ، وفيه"إذ". فإن قال لنا قائل: فما معنى ذلك؟ وما الجالب لـ "إذ"، إذ لم يكن في الكلام قبله ما يُعطف به عليه [[في المطبوعة: "فإن قال قائل"، بحذف: "لنا".]] ؟ قيل له: قد ذكرنا فيما مضى [[انظر ما سلف في ص: ٤٢٤ وما بعدها.]] : أنّ الله جل ثناؤه خاطب الذين خاطبهم بقوله:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم"، بهذه الآيات والتي بعدها، مُوَبِّخهم مقبحًا إليهم سوءَ فعالهم ومقامهم على ضلالهم، مع النعم التي أنعمها عليهم وعلى أسلافهم؛ ومذكِّرَهم -بتعديد نعمه عليهم وعلى أسلافهم- بأسَه، أن يسلكوا سبيل من هلك من أسلافهم في معصيته [[في المطبوعة: "من أسلافهم في معصية الله"، وفي المخطوطة: "سلافهم" مضبوطة بالقلم بضم السين وتشديد اللام، وفي المواضع السالفة: "أسلاف". والأسلاف والسلاف جمع سلف وسالف: وهم آباؤنا الذين مضوا وتقدمونا إلى لقائه سبحانه.]] ، فيسلك بهم سبيلهم في عقوبته؛ ومعرِّفهم ما كان منه من تعطّفه على التائب منهم استعتابًا منه لهم. فكان مما عدّد من نعمه عليهم أنه خلق لهم ما في الأرض جميعًا، وسخّر لهم ما في السموات من شمسها وقمرها ونجومها، وغير ذلك من منافعها التي جعلها لهم ولسائر بني آدم معهم منافع. فكان في قوله تعالى: ذكره"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون"، معنى: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، إذ خلقتكم ولم تكونوا شيئًا، وخلقت لكم ما في الأرض جميعًا، وسويت لكم ما في السماء. ثم عطف بقوله:"وإذ قال رَبُّك للملائكة" على المعنى المقتضَى بقوله:"كيف تكفرون بالله"، إذ كان مقتضيًا ما وصفتُ من قوله: اذكروا نعمتي إذ فعلت بكم وفعلتُ، واذكروا فعلي بأبيكم آدم إذ قلتُ للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفةً [[هذا الذي قاله أبو جعفر تغمده الله بمغفرته، من أجود النظر في تأويل كتاب الله، ومن حسن بصره بالعربية وأسرار إيجازها، واعتمادها على الاكتفاء بالقليل من اللفظ الدال على الكثير من المعنى، واتخاذها الحروف روابط للمعاني الجامعة، لا لرد حرف على حرف سبق.]] . فإن قال قائل: فهل لذلك من نظير في كلام العرب نعلم به صحة ما قلت؟ قيل: نعم، أكثرُ من أن يحصى، من ذلك قول الشاعر: أجِدَّك لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَاتٍ ... وَلا بَيْدَانَ نَاجِيةَ ذَمُولا [[هو للمرار بن سعيد الفقعسي، معاني القرآن للفراء ١: ١٧١، مجالس ثعلب: ١٥٩، اللسان (بيد) (طفل) (نشغ) ، ومعجم البلدان (ثعيلبات) . وثعيلبات وبيدان موضعان. والناجية: الناقة السريعة، من النجاء: وهو سرعة السير. والذمول: الناقة التي تسير سيرًا سريعًا لينًا ذملت ذميلا وذملانًا.]] وَلا مُتَدَاركٍ وَالشَّمْسُ طِفْلٌ ... بِبَعْضِ نَوَاشغ الوَادي حُمُولا [[يروى"ولا متلافيًا" بالنصب. وتدارك القوم (متعديًا) ، بمعنى أدركهم، أو حاول اللحاق بهم. وتلافاه: تداركه أيضًا. والشمس طفل: يعني هنا: عند شروقها -لا عند غروبها- أخذت من الطفل الصغير. ونواشغ الوادي جمع ناشغة: وهي مجرى الماء إلى الوادي. الحمول: هي الهوادج التي فيها النساء تحملها الإبل. وسميت الإبل وما عليها حمولا، لأنهم يحملون عليها الهوادج للرحلة. يقول: لن تدركهم، فقد بكروا بالرحيل.]] فقال:"ولا متداركٍ"، ولم يتقدمه فعلٌ بلفظ يعطفه عليه [[في المطبوعة: "يعطف عليه". وفي المخطوطة"يعطف به"، وقوله"به" ملصقة إلصاقًا في الفاء من "يعطف".]] ، ولا حرف مُعرَب إعرابَه، فيردّ "متدارك" عليه في إعرابه. ولكنه لما تقدّمه فعل مجحود بـ "لن" يدل على المعنى المطلوب في الكلام من المحذوف [[في المطبوعة: "في الكلام، وعلى المحذوف"، لعله من تغيير المصححين. وأراد الطبري أن الفعل المجحود، يدل على المعنى المطلوب من المحذوف. وهذا بين.]] ، استغني بدلالة ما ظهر منه عن إظهار ما حُذِف، وعاملَ الكلامَ في المعنى والإعراب معاملته أن لو كان ما هو محذوف منه ظاهرًا [[في المخطوطة: "إذ لو كان ما هو محذوف منه ظاهر"، وهو خطأ.]] . لأن قوله: أجدّك لن تَرَى بِثُعَيْلِبَات بمعنى:"أجدّك لستَ بِرَاءٍ"، فردّ "متداركًا" على موضع"ترى"، كأنْ "لست" و"الباء" موجودتان في الكلام. فكذلك قوله:"وإذ قالَ رَبُّك"، لمّا سلف قبله تذكير الله المخاطبين به ما سلف قِبَلهم وقِبَل آبائهم من أياديه وآلائه، وكانَ قوله: "وإذ قال ربك للملائكة" مع ما بعده من النعم التي عدّدها عليهم ونبّههم على مواقعها - رَدّ "إذْ" على موضع" وكنتم أمواتًا فأحياكم". لأن معنى ذلك: اذكروا هذه من نعمي، وهذه التي قلت فيها للملائكة. فلما كانت الأولى مقتضية"إذ"، عطف بـ "إذ" على موضعها في الأولى [[في المطبوعة: "عطف"وإذ" على موضعها في الأولى"، وليس بشيء.]] ، كما وصفنا من قول الشاعر في"ولا متدارك". * * * القول في تأويل قوله: ﴿لِلْمَلائِكَةِ﴾ قال أبو جعفر: والملائكة جمع مَلأكٍ [[في المطبوعة والمخطوطة: "جمع ملك"، وظاهر كلام الطبري يدل على صواب ما أثبتناه.]] ، غيرَ أن أحدَهم [[في المطبوعة: "غير أن واحدهم"، وهما سواء.]] ، بغير الهمزة أكثرُ وأشهر في كلام العرب منه بالهمز، وذلك أنهم يقولون في واحدهم: مَلَك من الملائكة، فيحذفون الهمز منه، ويحركون اللام التي كانت مسكنة لو هُمز الاسم. وإنما يحركونها بالفتح، لأنهم ينقلون حركة الهمزة التي فيه بسقوطها إلى الحرف الساكن قبلها: فإذا جمعوا واحدهم، ردّوا الجمعَ إلى الأصل وهمزوا، فقالوا: ملائكة. وقد تفعل العرب نحو ذلك كثيرا في كلامها، فتترك الهمز في الكلمة التي هي مهموزة، فيجري كلامهم بترك همزها في حال، وبهمزها في أخرى، كقولهم:"رأيت فلانا" فجرى كلامهم بهمز"رأيت" ثم قالوا:"نرى وترى ويرى"، فجرى كلامهم في"يفعل" ونظائرها بترك الهمز، حتى صارَ الهمز معها شاذًّا، مع كون الهمز فيها أصلا. فكذلك ذلك في"ملك وملائكة"، جرى كلامهم بترك الهمز من واحدهم، وبالهمز في جميعهم. وربما جاء الواحد مهموزًا، كما قال الشاعر: فلَسْتَ لإِنْسِيٍّ ولكنْ لِمَلأَكٍ ... تَحَدَّرَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ [[سلف الكلام على هذا البيت في ص: ٣٣٣، ورواية المخطوطة في هذا الموضع: "ولستَ لجنّيّ ولكنّ مَلأكًا"]] وقد يقال في واحدهم، مألك، فيكون ذلك مثل قولهم: جَبَذ وجذب، وشأمَل وشمأل، وما أشبه ذلك من الحروف المقلوبة. غير أن الذي يجبُ إذا سمي واحدهم "مألك" أن يجمع إذا جمع على ذلك"مآلك"، ولست أحفظ جمعَهم كذلك سماعًا، ولكنهم قد يجمعون: ملائك وملائكة، كما يجمع أشعث: أشاعث وأشاعثة، ومِسْمع: مَسامع ومَسامِعة، قال أميّة بن أبي الصّلت في جمعهم كذلك: وَفِيهِمَا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ قَوْمٌ ... مَلائِك ذُلِّلوا وهُمُ صِعَابُ [[ديوانه: ١٩. "ذللوا" من الذل (بكسر الذال) وذلله: راضه حتى يذل ويلين ويطيع.]] وأصل الملأك: الرسالة، كما قال عدي بن زيد العِبَادِيّ: أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّي مَلأَكًا ... إِنَّهُ قَدْ طَالَ حَبْسِي وَانْتِظَارِي [[الأغاني ٢: ١٤، والعقد الفريد ٥: ٢٦١، وفي المطبوعة"وانتظار"، وهي إحدى قصائد عدي، التي كان يكتبها إلى النعمان، لما حبسه في محبس لا يدخل عليه فيه أحد. وبعده البيت المشهور، وهو من تمامه: لَوْ بِغَيْرِ الْمَاءِ حَلْقِي شرِقٌ ... كُنْت كالغَصَّانِ بالماء اعتصارِي]] وقد ينشد: مألَكًا، على اللغة الأخرى. فمن قال: ملأكًا فهو مَفْعل، من لأك إليه يَلأك إذا أرسل إليه رسالة مَلأكة [[في المطبوعة والمخطوطة: "يلئك"، وهذا الثلاثي: "لأك يلأك" لم أجده منصوصًا عليه في كتب اللغة، بل الذي نصوا عليه هو الرباعي: "ألكني إلى فلان: أبلغه عني. أصله ألئكني، فحذفت الهمزة وألقيت حركتها على ما قبلها"، ولكنهم نصوا على أنه مقلوب، فإذا صح ذلك، صح أيضًا أن تكون"لأك" مقلوب"ألك" الثلاثي، وهو مما نصوا عليه.]] ؛ ومن قال: مَألَكًا فهو مَفْعَل من ألكت إليه آلك: إذا أرسلت إليه مألَكة وألُوكًا [[كلام الطبري يشعر بأنه أراد وزن"مفعل" بفتح العين، فهي مألك، بفتح اللام، والأشهر الأفصح: والمألك والمألكة (بفتح الميم وضم اللام فيهما) .]] ، كما قال لبيد بن ربيعة [[في المطبوعة: "لبيد بن أبي ربيعة"، وهو خطأ.]] : وَغُلامٍ أَرْسَلَتْه أُمُّه ... بأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَأَلْ [[ديوانه القصيدة رقم: ٣٧، البيت: ١٦، وقوله"وغلام" مجرور بواو"رب". أرسلت الغلام أمه تلتمس من معروف لبيد، فأعطاها ما سألت.]] فهذا من"ألكت"، ومنه قول نابغة بني ذبيان: أَلِكْنِي يَا عُيَيْنَ إِلَيْكَ قَوْلا ... سَأَهْدِيه، إِلَيْكَ إِلَيْكَ عَنِّي [[في المطبوعة: "ستهديه الرواة إليك. . "، وأثبتنا نص المخطوطة، والديوان: ٨٥ وغيرهما. ويضبطونه"سأهديك" بضم الهمزة، من الهدية، أي سأهديه إليك، ولست أرتضيه، والشعر يختل بذلك معناه. وإنما هو عندي بفتح الهمزة، من"هديته الطريق" إذا عرفته الطريق وبينته له. ومنه أخذوا قولهم: هاداني فلان الشعر وهاديته: أي هاجاني وهاجيته. وقوله: "إليك إليك" أي خذها، كما قال القطامي: إذا التَّيَّازُ ذُو الْعَضَلاتِ قُلْنَا: ... إِلَيْكَ إِلَيْكَ! ضَاقَ بِهَا ذِرَاعَا وقوله: "عني" أي مني، كما في قولهم: "عنك جاء هذا" أي منك، أو من قبلك. وكذلك هو في قوله تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) ، أي من عباده، وقوله تعالى: (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا) ، أي نتقبل منهم. وليس قول النابغة من قولهم"إليك عني"، أي كف وأمسك - في شيء. والشعر الذي يليه دال على ذلك، والبيت الذي يلي هذا فيه الكلمة المنصوبة بقوله"إليك إليك": قَوَافِيَ كَالسِّلامِ إِذَا اسْتَمَرَّتْ ... فَلَيْسَ يرُدّ مَذْهَبَهَا التَّظَنِّي أي خذها قوافي كالسلام، وهي الحجارة. وقوله: "عيين" يعني عيينة بن حصن الفزاري، وكان أعان بني عبس على بني أسد حلفاء بني ذبيان" رهط النابغة.]] وقال عبدُ بني الحَسْحَاس: أَلِكْنِي إِلَيْهَا عَمْرَكَ اللَّهُ يَا فَتًى ... بِآيَةِ ما جاءتْ إِلَيْنَا تَهَادِيَا [[سلف القول في هذا البيت: ١٠٦ آنفًا.]] يعني بذلك: أبلغها رسالتي. فسميت الملائكةُ ملائكةً بالرسالة، لأنها رُسُل الله بينه وبين أنبيائه، ومن أرسلت إليه من عباده. * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ﴾ اختلف أهل التأويل في قوله:"إني جاعل"، فقال بعضهم: إني فاعل. * ذكر من قال ذلك: ٥٩٧- حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك، عن الحسن، وأبي بكر -يعني الهذلي- عن الحسن، وقتادة، قالوا: قال الله تعالى ذكره لملائكته:"إني جاعلٌ في الأرض خليفة" [[في المطبوعة: "قال الله للملائكة إني. . ". وهو موافق لما نقله ابن كثير.]] قال لهم: إني فاعل [[الأثر: ٥٩٧- نقله ابن كثير ١: ١٢٧ عن الطبري. ووقع في إسناده هناك سقط، والظاهر أنه خطأ مطبعي. وذكره السيوطي ١: ٤٤ مختصرًا. وسيأتي مرة أخرى: ٦١١ مطولا، بهذا الإسناد نصًّا. وهو هنا بإسنادين بل ثلاثة: رواه الحجاج -وهو ابن المنهال- عن جرير ابن حازم، وعن المبارك -وهو ابن فضالة- ثم رواه عن أبي بكر الهذلي، ثلاثتهم عن الحسن البصري، والإسنادان الأولان جيدان، والثالث ضعيف، بضعف أبي بكر الهذلي، ضعفه ابن المديني جدًّا، وقال ابن معين: "ليس بشيء"، وترجمه البخاري في الكبير ٢/٢/١٩٩ باسم"سلمى أبو بكر الهذلي البصري"، وقال: "ليس بالحافظ عندهم. قال عمرو بن علي: عدلت عن أبي بكر الهذلي عمدًا". وكذلك ترجمه ابن أبي حاتم ٢/١/ ٣١٣ - ٣١٤، وأبان عن ضعفه. و"سلمى": بضم السين وسكون اللام مع إمالة الألف المقصورة.]] . وقال آخرون: إني خالق. * ذكر من قال ذلك: ٥٩٨- حُدِّثت عن المنجاب بن الحارث، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، قال: كل شيء في القرآن"جَعَل"، فهو خلق [[الأثر: ٥٩٨- نقله السيوطي ١: ٤٤ عن الطبري، ولكنه جعله من كلام الضحاك. وأبو روق يكثر رواية التفسير عن الضحاك. فلعل ذكر"الضحاك" سقط من الناسخين في بعض نسخ الطبري. وأيًّا ما كان فهذا الإسناد ضعيف. سبق بيان ضعفه: ١٣٧. ويزيده ضعفًا هنا جهالة الشيخ الذي رواه عنه الطبري عن المنجاب، في قوله"حدثت"، بتجهيل من حدثه.]] . قال أبو جعفر: والصواب في تأويل قوله:"إني جاعل في الأرض خليفة": أي مستخلف في الأرض خليفةً، ومُصَيِّر فيها خَلَفًا [[في المخطوطة: "خلقًا"، بالقاف.]] . وذلك أشبه بتأويل قول الحسن وقتادة. وقيل: إن الأرض التي ذكرها الله في هذه الآية هي"مكة". * ذكر من قال ذلك: ٥٩٩- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن ابن سابط: أن النبي ﷺ قال: دُحِيت الأرضُ من مكة، وكانت الملائكة تطوفُ بالبيت، فهي أوّل من طاف به، وهي"الأرضُ" التي قال الله:"إني جاعلٌ في الأرض خليفة"، وكان النبيّ إذا هلك قومه، ونجا هو والصالحون، أتاها هو ومن معه فعبدوا الله بها حتى يموتوا. فإنّ قَبر نُوحٍ وهودٍ وصَالحٍ وشعَيْب، بين زَمزَم والرُّكن والمَقَام [[الحديث: ٥٩٩- نقل ابن كثير في التفسير ١: ١٢٧ معناه من تفسير ابن أبي حاتم: "حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن ابن سابط"، فذكره مرفوعا بنحوه مختصرًا. وقال ابن كثير: "وهذا مرسل، وفي سنده ضعف، وفيه مدرج، وهو أن المراد بالأرض مكة، والله أعلم - فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك". أما إرساله: فإن"عبد الرحمن بن سابط": تابعي، وهو ثقة، ولكنه لم يدرك النبي ﷺ، بل لم يدرك كبار الصحابة، كعمر وسعد ومعاذ وغيرهم. ويقال إنه"عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط". واختلف في ذلك جدًّا، فلذلك ترجمه الحافظ لأبيه في الموضعين: "سابط"، أو"عبد الله بن سابط"، وفي الإصابة ٣: ٥١ - ٥٢، ٤: ٧٣. ونقله السيوطي ١: ٤٦، ونسبه للطبري وابن أبي حاتم وابن عساكر، مطولا كرواية الطبري، ونقله الشوكاني ١: ٥٠ مختصرًا، كرواية ابن أبي حاتم، ونقل تعليل ابن كثير إياه. وفي المطبوعة"أتى هو ومن معه". وفي المخطوطة"فيعبدوا الله بها".]] . * * * القول في تأويل قوله: ﴿خَلِيفَةً﴾ والخليفة الفعيلة من قولك: خلف فلان فلانًا في هذا الأمر، إذا قام مقامه فيه بعده. كما قال جل ثناؤه ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [سورة يونس: ١٤] يعني بذلك أنه أبدلكم في الأرض منهم، فجعلكم خلفاء بعدهم. ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم: خليفة، لأنه خلف الذي كان قبله، فقام بالأمر مقامه، فكان منه خلَفًا. يقال منه: خلف الخليفة، يخلُف خِلافة وخِلِّيفَى [[في المخطوطة والمطبوعة: "وخليفًا"، والصواب ما أثبتناه. في حديث عمر: "لولا الخليفى لأذنت" (بكسر الخاء وتشديد اللام المكسورة، بعدها ياء، ثم فاء مفتوحة) قالوا: وهو وأمثاله من الأبنية كالرمي والدليلي، مصدر يدل على معنى الكثرة. يريد عمر: كثرة اجتهاده في ضبط أمور الخلافة وتصريف أعنتها.]] . وكان ابن إسحاق يقول بما: ٦٠٠- حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إني جاعل في الأرض خليفة"، يقول: ساكنًا وعامرًا يسكنها ويعمُرها خلَفًا، ليس منكم [[الأثر: ٦٠٠- في ابن كثير ١: ١٢٧ وفي المطبوعة هنا، وفي: ٦١٥"خلقا ليس منكم" بالقاف، وهو خطأ، والصواب في ابن كثير ١: ١٢٧. وقوله"خلفًا": أي بدلا ممن مضى، وهو سكان الأرض قبل أبينا آدم عليه السلام، كما يأتي في الخبر التام: ٦١٥. وقوله: "ليس منكم"، كلام مستأنف، أي ليس منكم أيتها الملائكة. أما المخطوطة ففيها: "ليس خلفًا منكم" وهو خطأ محض.]] . وليس الذي قال ابن إسحاق في معنى الخليفة بتأويلها - وإن كان الله جل ثناؤه إنما أخبر ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفةً يسكنها - ولكن معناها ما وصفتُ قبلُ. فإن قال قائل: فما الذي كان في الأرض قبل بني آدم لها عامرًا، فكان بنو آدم منه بدلا [[في المطبوعة: "بدلا منه" بالتقديم.]] وفيها منه خلَفًا؟ قيل: قد اختلف أهل التأويل في ذلك. ٦٠١- فحدثنا أبو كريب قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: أول من سكن الأرضَ الجنُّ فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضًا. فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. ثم خلق آدم فأسكنه إياها، فلذلك قال:"إني جاعل في الأرض خليفة" [[الخبر: ٦٠١- في ابن كثير ١: ١٢٧. وقد روى الحاكم في المستدرك ٢: ٢٦١ خبرًا يشبهه في بعض المعنى ويخالفه في اللفظ قال: "أخبرنا عبد الله بن موسى الصيدلاني، حدثنا إسماعيل بن قتيبة، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس:. . . " وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وأما إسناد الطبري هنا فضعيف، كما بينا فيما سبق: ١٣٧.]] . فعلى هذا القول:"إني جاعل في الأرض خليفة"، من الجن، يخلفونهم فيها فيسكنونها ويعمرونها. ٦٠٢- وحدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"إني جاعل في الأرض خليفة"، الآية، قال: إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجن يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة، فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم، فكانت الدماء، وكان الفساد في الأرض [[الأثر: ٦٠٢- رواه الطبري في التاريخ ١: ٤٣، بهذا الإسناد. سيأتي أيضًا بهذا الإسناد بأطول منه: ٦١٢. ونقله ابن كثير ١: ١٢٨، والسيوطي ١: ٤٥ بالرواية المطولة، ولكنهما جعلاه من كلام أبي العالية. فهو من رواية الربيع بن أنس عن أبي العالية. وزاد السيوطي في نسبته أنه رواه أيضًا ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ في العظمة.]] . وقال آخرون في تأويل قوله:"إني جاعل في الأرض خليفة"، أي خلفًا يخلف بعضهم بعضًا، وهم ولد آدم الذين يخلفون أباهم آدم، ويخلف كل قرن منهم القرن الذي سلف قبله. وهذا قول حكي عن الحسن البصري. ونظيرٌ له ما:- ٦٠٣- حدثني به محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن ابن سابط في قوله:"إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" قال: يعنون به بني آدم ﷺ. ٦٠٤- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: قال الله تعالى ذكره للملائكة: إني أريد أنْ أخلق في الأرض خلقًا وأجعلَ فيها خليفةً. وليس لله يومئذ خلق إلا الملائكة، والأرض ليس فيها خلق [[الأثران: ٦٠٣، ٦٠٤ - في ابن كثير ١: ١٢٨.]] . وهذا القول يحتمل ما حكي عن الحسن، ويحتمل أن يكون أراد ابنُ زيد أنَّ الله أخبر الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفةً له يحكم فيها بين خلقه بحكمه، نظيرَ ما:- ٦٠٥- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ: أنّ الله جل ثناؤه قال للملائكة:"إني جاعل في الأرض خليفة". قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذُرّيةٌ يُفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا [[الأثر: ٦٠٥ - في ابن كثير ١: ١٢٧.]] . فكان تأويل الآية على هذه الرواية التي ذكرناها عن ابن مسعود وابن عباس: إني جاعل في الأرض خليفةً منّي يخلفني في الحكم بين خلقي. وذلك الخليفة هو آدمُ ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه. وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها، فمن غير خلفائه، ومن غير آدم ومن قام مقامه في عباد الله -لأنهما أخبرَا أن الله جل ثناؤه قال لملائكته- إذ سألوه: ما ذاك الخليفة؟ =: إنه خليفة يكون له ذُرّية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. فأضاف الإفساد وسفك الدماء بغير حقها إلى ذُرّية خليفته دونه، وأخرج منه خليفته. وهذا التأويل، وإن كان مخالفًا في معنى الخليفة ما حكي عن الحسن من وجه، فموافق له من وجه. فأما موافقته إياه، فصرْفُ متأوِّليه إضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء فيها إلى غير الخليفة. وأما مخالفته إياه، فإضافتهما الخلافة إلى آدم [[في المطبوعة: "فإضافتهم"، والصواب ما في المخطوطة، ويعني بهما ابن مسعود وابن عباس كما مضى آنفًا.]] بمعنى استخلاف الله إياه فيها. وإضافة الحسن الخلافةَ إلى ولده، بمعنى خلافة بعضهم بعضًا، وقيام قرن منهم مقام قرن قبلهم، وإضافة الإفساد في الأرض وسفك الدماء إلى الخليفة. والذي دعا المتأوِّلين قولَه:"إني جاعلٌ في الأرض خليفة" -في التأويل الذي ذُكر عن الحسن- إلى ما قالوا في ذلك، أنهم قالوا إن الملائكة إنما قالت لربها- إذ قال لهم ربهم:"إني جاعلٌ في الأرض خليفة"-:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، إخبارًا منها بذلك عن الخليفة الذي أخبرَ الله جل ثناؤه أنه جاعله في الأرض لا عنْ غيره [[في المطبوعة"لا غيره" بإسقاط"عن".]] . لأنّ المحاورة بين الملائكة وبين ربها عنهُ جرتْ. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك -وكان الله قد بَرّأ آدم من الإفساد في الأرض وسفك الدماء، وطهَّره من ذلك- عُلم أن الذي عنى به غيرَه من ذرّيته. فثبت أن الخليفة الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء هو غيرُ آدم، وأنهم وَلدُه الذين فعلوا ذلك، وأن معنى الخلافة التي ذكرَها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنًا غيرَهم لما وصفنا. وأغفل قائلو هذه المقالة، ومتأوّلو الآية هذا التأويل، سبيلَ التأويل. وذلك أنّ الملائكة إذ قال لها ربها:"إني جاعلٌ في الأرض خليفة"، لم تُضف الإفساد وسفك الدماء في جَوابها ربَّها إلى خليفته في أرضه، بل قالت:"أتجعل فيها من يُفسد فيها"؟ وغير مُنْكَر أن يكون ربُّها أعلمها أنه يكون لخليفتِه ذلك ذرّيةٌ يكون منهم الإفساد وسفك الدماء، فقالت: يا ربنا"أتجعل فيها من يُفسدُ فيها ويسفكُ الدماء". كما قال ابن مسعود وابن عباس، ومن حكينا ذلك عنه من أهل التأويل [[في الأصل المخطوط بعد هذا الموضع ما نصه: - [بلغتُ من أوّله بقراءتي على القاضي أبي الحسن الخصيب ابن عبد الله الخصيبيّ، عن أبي محمد الفَرْغانيّ، عن أبي جعفر الطبري. وسمع معي أخي علي بن أحمد بن عيسى، ونصر بن الحسن الطبري. وسمع أبو الفتح أحمد بن عمر الجهاري، من موضع سماعه. وكتب محمد بن أحمد بن عيسى السعدي في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعمئة] * * * "تذكرة" تبين لي مما راجعته من كلام الطبري، أن استدلال الطبري بهذه الآثار التي يرويها بأسانيدها، لا يراد به إلا تحقيق معنى لفظ، أو بيان سياق عبارة. فهو قد ساق هنا الآثار التي رواها بإسنادها ليدل على معنى"الخليفة"، و"الخلافة"، وكيف اختلف المفسرون من الأولين في معنى"الخليفة". وجعل استدلاله بهذه الآثار، كاستدلال المستدل بالشعر على معنى لفظ في كتاب الله. وهذا بين في الفقرة التالية للأثر رقم: ٦٠٥، إذ ذكر ما روي عن ابن مسعود وابن عباس، وما روي عن الحسن في بيان معنى"الخليفة"، واستظهر ما يدل عليه كلام كل منهم. ومن أجل هذا الاستدلال، لم يبال بما في الإسناد من وهن لا يرتضيه. ودليل ذلك أن الطبري نفسه قال في إسناد الأثر: ٤٦٥ عن ابن مسعود وابن عباس، فيما مضى ص: ٣٥٣"فإن كان ذلك صحيحًا، ولست أعلمه صحيحًا، إذ كنت بإسناده مرتابًا. . "، فهو مع ارتيابه في هذا الإسناد، قد ساق الأثر للدلالة على معنى اللفظ وحده، فيما فهمه ابن مسعود وابن عباس -إن صح عنهما- أو ما فهمه الرواة الأقدمون من معناه. وهذا مذهب لا بأس به في الاستدلال. ومثله أيضًا ما يسوقه من الأخبار والآثار التي لا يشك في ضعفها، أو في كونها من الإسرائيليات، فهو لم يسقها لتكون مهيمنة على تفسير آي التنزيل الكريم، بل يسوق الطويل الطويل، لبيان معنى لفظ، أو سياق حادثة، وإن كان الأثر نفسه مما لا تقوم به الحجة في الدين، ولا في التفسير التام لآي كتاب الله. فاستدلال الطبري بما ينكره المنكرون، لم يكن إلا استظهارًا للمعاني التي تدل عليها ألفاظ هذا الكتاب الكريم، كما يستظهر بالشعر على معانيها. فهو إذن استدلال يكاد يكون لغويًّا. ولما لم يكن مستنكرًا أن يستدل بالشعر الذي كذب قائله، ما صحت لغته؛ فليس بمستنكر أن تساق الآثار التي لا يرتضيها أهل الحديث، والتي لا تقوم بها الحجة في الدين، للدلالة على المعنى المفهوم من صريح لفظ القرآن، وكيف فهمه الأوائل - سواء كانوا من الصحابة أو من دونهم. وأرجو أن تكون هذه تذكرة تنفع قارئ كتاب الطبري، إذا ما انتهى إلى شيء مما عده أهل علم الحديث من الغريب والمنكر. ولم يقصر أخي السيد أحمد شاكر في بيان درجة رجال الطبري عند أهل العلم بالرجال، وفي هذا مقنع لمن أراد أن يعرف علم الأقدمين على وجهه، والحمد لله أولا وآخرًا.]] . * * * القول في تأويل قوله جل ثناؤه خبرا عن ملائكته: ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل [[في المطبوعة: "إن قال قائل".]] : وكيف قالت الملائكة لربها إذ أخبرها أنه جاعل في الأرض خليفة:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، ولم يكن آدمُ بعد مخلوقًا ولا ذُرّيته، فيعلموا ما يفعلونَ عيانًا؟ أعلمتِ الغيبَ فقالت ذلك، أم قالت ما قالت من ذلك ظنًّا؟ فذلك شهادة منها بالظنّ وقولٌ بما لا تعلم. وذلك ليس من صفتها. أمْ ما وجه قيلها ذلك لربها؟ [[في المطبوعة: "فما وجه".]] قيل: قد قالت العلماء من أهل التأويل في ذلك أقوالا. ونحن ذاكرو أقوالهم في ذلك، ثم مخبرون بأصحِّها برهانًا وأوضحها حُجة. فروي عن ابن عباس في ذلك ما: ٦٠٦- حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كان إبليس من حَيٍّ من أحياء الملائكة يقال لهم"الحِنّ"، خُلقوا من نار السَّمُوم من بين الملائكة [[في المطبوعة في الموضعين"الجن" بالجيم، وهو خطأ، يدل عليه سياق هذا الأثر، فقد ميز ما بين إبليس، وبين الجن الذين ذكروا في القرآن. إبليس مخلوق من نار السموم، والآخرون خلقوا من مارج من نار. والجن (بالجيم) أول من سكن الأرض، وإبليس جاء لقتالهم في جند من الملائكة. وهذا بين. وقد قال الجاحظ في الحيوان ٧: ١٧٧، وبعض الناس يقسم الجن على قسمين فيقول: هم جن وحن (بالحاء) ، ويجعل التي بالحاء أضعفهما. وقال في ١: ٢٩١-٢٩٢، وبعض الناس يزعم أن الحن والجن صنفان مختلفان، وذهبوا إلى قول الأعرابي حين أتى باب بعض الملوك ليكتتب في الزمنى فقال في ذلك: إن تكتُبُوا الزَّمْنى فإنّي لَزمِنْ ... من ظاهر الداء وداءٍ مستكِنّْ أبيتُ أهوِي في شياطينَ ترنّْ ... مختلفٍ نجارُهُمْ جنٌّ وحِنّْ ففرق بين هذين الجنسين. وانظر الحيوان ٦: ١٩٣، أيضًا، واللسان (جنن) ، وغيرهما.]] قال: وكان اسمه الحارث، قال: وكان خازنًا من خُزَّان الجنة. قال: وخُلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحيّ. قال: وخلقت الجنّ الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار - وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا ألهبت. قال: وخُلق الإنسان من طين. فأوّل من سكن الأرضَ الجنُّ. فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضًا. قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة -وهم هذا الحي الذين يقال لهم الحِن [[في المطبوعة في الموضعين"الجن" بالجيم، وهو خطأ، يدل عليه سياق هذا الأثر، فقد ميز ما بين إبليس، وبين الجن الذين ذكروا في القرآن. إبليس مخلوق من نار السموم، والآخرون خلقوا من مارج من نار. والجن (بالجيم) أول من سكن الأرض، وإبليس جاء لقتالهم في جند من الملائكة. وهذا بين. وقد قال الجاحظ في الحيوان ٧: ١٧٧، وبعض الناس يقسم الجن على قسمين فيقول: هم جن وحن (بالحاء) ، ويجعل التي بالحاء أضعفهما. وقال في ١: ٢٩١-٢٩٢، وبعض الناس يزعم أن الحن والجن صنفان مختلفان، وذهبوا إلى قول الأعرابي حين أتى باب بعض الملوك ليكتتب في الزمنى فقال في ذلك: إن تكتُبُوا الزَّمْنى فإنّي لَزمِنْ ... من ظاهر الداء وداءٍ مستكِنّْ أبيتُ أهوِي في شياطينَ ترنّْ ... مختلفٍ نجارُهُمْ جنٌّ وحِنّْ ففرق بين هذين الجنسين. وانظر الحيوان ٦: ١٩٣، أيضًا، واللسان (جنن) ، وغيرهما.]] - فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال. فلما فعل إبليس ذلك اغترّ في نفسه. وقال:"قد صنعتُ شيئًا لم يصنعه أحد"! قال: فاطَّلع الله على ذلك من قلبه، ولم تطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه. فقال الله للملائكة الذين معه:"إني جاعلٌ في الأرض خليفة". فقالت الملائكة مجيبين له:"أتجعلُ فيها من يُفسد فيها ويَسفِك الدماء"، كما أفسدت الجن وسفكت الدماء، وإنما بُعثنا عليهم لذلك. فقال:"إني أعلم ما لا تعلمون"، يقول: إني قد اطلعتُ من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه، من كبره واغتراره. قال: ثم أمر بتُربة آدم فرُفعت، فخلق الله آدم من طين لازب - واللازبُ: اللزِجُ الصُّلب، من حمأ مسنون - مُنْتِن. قال: وإنما كان حمأ مسنونًا بعد التراب. قال: فخلق منه آدم بيده، قال فمكث أربعين ليلة جسدًا ملقًى. فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيُصَلصِل -أي فيصوّت- قال: فهو قول الله: ﴿مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾ [سورة الرحمن: ١٤] . يقول: كالشيء المنفوخ الذي ليس بمُصْمت [[المصمت: الذي لا جوف له، وكل ذي جوف إذ قرع صوت، أما المصمت فهو صامت لا صوت له. فمن الصمت أخذوه.]] . قال: ثم يَدخل في فيه ويخرج من دُبُره، ويدخل من دُبُره ويخرج من فيه، ثم يقول: لست شيئًا! -للصّلصَلة- ولشيء ما خُلقت! لئن سُلِّطتُ عليك لأهلكنك، ولئن سُلِّطتَ علي لأعصِيَنَّك. قال: فلما نفخ الله فيه من روحه، أتت النفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صَار لحمًا ودمًا. فلما انتهت النفخة إلى سُرّته، نظر إلى جسده، فأعجبه ما رأى من حسنه، فذهب لينهضَ فلم يقدرْ، فهو قول الله: ﴿وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا﴾ [سورة الإسراء: ١١] قال: ضَجِرًا لا صَبرَ له على سَرَّاء ولا ضرَّاء. قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس، فقال:"الحمد لله ربّ العالمين" بإلهام من الله تعالى، فقال الله له: يرحمُك الله يا آدم. قال: ثم قال الله للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات: اسجدوا لآدم. فسجدُوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبَى واستكبر، لِما كان حدّث به نفسه من كبره واغتراره. فقال: لا أسجُد له، وأنا خير منه وأكبرُ سنًّا وأقوى خَلْقًا، خلقتني من نار وخلقته من طين -يقول: إن النار أقوى من الطين. قال: فلما أبَى إبليس أن يسجد أبلسه الله- أي آيسه من الخير كله [[في المطبوعة: "وآيسه الله. . . ".]] ، وجعله شيطانًا رجيما عقوبةً لمعصيته. ثم علم آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرْض وسهلٌ وبحر وجبل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة -يعني الملائكة الذين كانوا مع إبليس، الذين خلقوا من نار السموم- وقال لهم: أنبئوني بأسماء هؤلاء - يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، إن كنتم تعلمون أنِّي لمَ أجعلُ خليفة في الأرض [[في المطبوعة: "أنكم تعلمون أني أجعل في الأرض خليفة"، وقوله"لم أجعل. . " سقط"لم" من المخطوطة أيضًا. والصواب من الدر المنثور، والشوكاني، حيث يأتي تخريجه. وسيأتي على الصواب أيضًا في رقم: ٦٧١ ص: ٤٩٠، وهو مختصر من هذا الأثر.]] . قال: فلما علمت الملائكة مؤاخذةَ الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب، الذي لا يعلمه غيرُه، الذي ليس لهم به علم، قالوا: سبحانك، تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيرُه - تبنا إليك، لا علم لنا إلا ما علمتنا، تبرِّيًا منهم من علم الغيب، إلا ما علمتنا كما علّمت آدم. فقال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم - يقول: أخبرهم بأسمائهم. فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقل لكم - أيها الملائكة خاصة - إني أعلم غيبَ السموات والأرض، ولا يعلمه غيري، وأعلم ما تبدون - يقول: ما تُظهرون - وما كنتم تكتمون - يقول: أعلم السرّ كما أعلم العلانية، يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار [[الخبر: ٦٠٦ - خرجه السيوطي في الدر المنثور مفرقًا ١: ٤٤-٤٥، ٤٩، ٥٠. والشوكاني ١: ٥٢ بعضه مفرقًا. وروى الطبري قطعة منه، بهذا الإسناد، في تاريخه ١: ٤٢-٤٣.]] . قال أبو جعفر: وهذه الرواية عن ابن عباس، تُنبئ عن أن قول الله جل ثناؤه:"وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرص خليفة"، خطابٌ من الله جل ثناؤه لخاصٍّ من الملائكة دون الجميع، وأنّ الذين قيل لهم ذلك من الملائكة كانوا قبيلة إبليس خاصةً - الذين قاتلوا معه جنّ الأرض قبل خلق آدم - وأنّ الله إنما خصّهم بقيل ذلك امتحانًا منه لهم وابتلاءً، ليعرِّفهم قصورَ علمهم وفضلَ كثير ممن هو أضعفُ خلقًا منهم من خلقه عليهم، وأنّ كرامته لا تنال بقوَى الأبدان وشدّة الأجسام، كما ظنه إبليس عدوّ الله. ومُصَرِّح بأن قيلهم لربِّهم [[في المطبوعة: "ويصرح"، وسياق الكلام: "تنبئ عن أن قول الله. . . خطاب من الله جل ثناؤه لخاص من الملائكة دون الجميع،. . ومصرح بأن قيلهم"، عطفًا على خبر "أن".]] : "أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء"، كانت هفوةً منهم ورجمًا بالغيب؛ وأن الله جل ثناؤه أطلعهم على مكروه ما نطقوا به من ذلك، ووقَفَهم عليه حتى تابوا وأنابوا إليه مما قالوا ونطقوا من رَجْم الغيْب بالظُّنون، وتبرَّأوا إليه أن يعلم الغيب غيرُه، وأظهرَ لهم من إبليس ما كان منطويًا عليه من الكبْر الذي قد كان عنهم مستخفيًا [[هذا التعقيب على خبر ابن عباس، دليل على ما ذهبنا إليه في بيان طريقة الطبري في الاستدلال بالأخبار والآثار انظر ص: ٤٥٣-٤٥٤. فهو لم يروه لاعتماد صحته، بل رواه لبيان أن قول الله سبحانه: "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة"، إنما هو خطاب فيه لفظ العموم"الملائكة"، ويراد به الخصوص لبعض الملائكة، كما هو معروف في لسان العرب. وأن قول هؤلاء الملائكة: "أتجعل فيها من يفسد فيها. . . "، لم يكن عن علم عرفوه من علم الغيب، بل كان ظنًّا ظنوه. وسيأتي بعد ما يوضح مذهب الطبري في الاستدلال، كما سأشير إليه في موضعه.]] . وقد رُوي عن ابن عباس خلاف هذه الرواية، وهو ما:- ٦٠٧- حدثني به موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ:"لما فرَغ الله من خلق ما أحبّ، استوى على العرش، فجعل إبليس على مُلْك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجنّ [[في المخطوطة: "الحن" بالحاء، وتفسيرها التالي يدل على أنها بالجيم. وانظر ما كتبناه آنفًا في ص: ٤٥٥ التعليق: ١.]] - وإنما سموا الجنّ لأنهم خزّان الجنة. وكان إبليس مع مُلكه خازنا، فوقع في صدره كبر، وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزيّة لي - هكذا قال موسى بن هارون، وقد حدثني به غيره، وقال: لمزية لي على الملائكة [[غيره، الذي أبهمه الطبري هنا، بينه في التاريخ ١: ٤٣، قال: "وحدثنى به أحمد بن أبي خيثمة، عن عمرو بن حماد".]] - فلما وقع ذلك الكبر في نفسه، اطلع الله على ذلك منه، فقال الله للملائكة:"إني جاعل في الأرض خليفة". قالوا: ربنا، وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرّية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. قالوا: ربنا،"أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء ونحنُ نسبِّح بحمدك ونُقدّس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون". يعني من شأن إبليس. فبعث جبريلَ إلى الأرض ليأتيه بطين منها فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تنقُص مني أو تشينني. فرجع، ولم يأخذ. وقال: ربِّ إنها عاذت بك فأعذْتُها. فبعث الله ميكائيل، فعاذَت منه، فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل. فبعث مَلَك الموت فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره. فأخذ من وجه الأرض، وخَلَط فلم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تُرْبة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين. فصَعِد به، فبلّ التراب حتى عاد طينًا لازبًا -واللازبُ: هو الذي يلتزق بعضه ببعض- ثم ترك حتى أنتن وتغير [[في المطبوعة"حين أنتن"، وصحته"حتى أنتن"، كما في تاريخ الطبري، وتفسير ابن كثير - فيما تبين في تخريجه.]] . وذلك حين يقول: ﴿مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ﴾ [سورة الحجر: ٢٨] . قال: منتن - ثم قال للملائكة: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [سورة ص: ٧١-٧٢] . فخلقه الله بيديه لكيلا يتكبر إبليس عنه، ليقول له: تتكبر عما عملت بيديّ، ولم أتكبر أنا عنه؟ فخلقه بشرًا، فكان جسدًا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة: فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه. وكان أشدّهم منه فزعًا إبليس، فكان يمر به فيضربه فيصوّت الجسدُ كما يصوّت الفخار وتكون له صلصلة، فذلك حين يقول: ﴿مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ﴾ [سورة الرحمن: ١٤] ويقول لأمر ما خُلقت! ودخل من فيه فخرج من دُبُره. فقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا، فإنّ ربكم صَمَدٌ وهذا أجوف [[الصمد هنا: هو الذي لا جوف له، والمصمد والمصمت واحد. وانظر ما سلف ص: ٤٥٦ تعليق: ١.]] . لئن سُلطت عليه لأهلكنّه. فلما بلغ الحين الذي يريد الله جل ثناؤه أن ينفخ فيه الروح، قال للملائكة: إذا نفختُ فيه من رُوحي فاسجدوا له. فلما نفخ فيه الرّوح فدخل الروح في رأسه عَطَس، فقالت له الملائكة: قل الحمدُ لله. فقال: الحمد لله، فقال له الله: رحمك ربُّك. فلما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة. فلما دخل في جوفه اشتهى الطعامَ، فوَثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عَجْلانَ إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول: ﴿خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ [سورة الأنبياء: ٣٧] . فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين -أي استكبرَ [[في المطبوعة: "أبى واستكبر"، وهو تحريف.]] - وكان من الكافرين. قال الله له: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لِما خلقتُ بيديّ؟ قال: أنا خير منه، لم أكن لأسجدَ لبشر خلقته من طين. قال الله له: أخرج منها فما يكون لك -يعني ما ينبغي لك- أن تتكبر فيها، فاخرج إنك من الصاغرين - والصَّغار: هو الذل -. قال: وعلَّم آدم الأسماء كلها، ثم عرض الخلق على الملائكة، فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين أنّ بني آدم يُفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. فقالوا له: سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنتَ العليم الحكيم. قال الله: يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون. قال قولهم:"أتجعل فيها من يفسد فيها"، فهذا الذي أبدَوْا،"وأعلم ما كنتم تكتمون"، يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر [[الخبر: ٦٠٧- روى الطبري قطعة منه في تاريخه ١٠: ٤١-٤٢، بهذا الإسناد. وقطعة أخرى أيضًا ١: ٤٣. وثالثة ١: ٤٥-٤٦. ورابعة ١: ٤٧. وخامسة ١: ٤٧-٤٨. وسادسة ١: ٥٠. وبعضه عن السيوطي ١: ٤٥-٤٧، والشوكاني ١: ٥٠. وقد مضى تعليل هذا الإسناد، في: ١٦٨، ورأى الطبري نفسه فيه: ٤٥٢، وأنه فيه مرتاب. وقد ساقه ابن كثير بطوله ١: ١٣٧-١٣٨، ثم قال: "فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السدي، ويقع فيه إسرائيليات كثيرة. فلعل بعضها مدرج، ليس من كلام الصحابة، أو أنهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة، والله أعلم. والحاكم يروي في مستدركه، بهذا الإسناد بعينه، أشياء، ويقول: على شرط البخاري! ".]] . قال أبو جعفر: فهذا الخبر أوّله مخالف معناه معنى الرواية التي رويت عن ابن عباس من رواية الضحاك التي قد قدمنا ذكرها قبل، وموافقٌ معنى آخره معناها. وذلك أنه ذكر في أوّله أن الملائكة سألت ربها: ما ذاك الخليفة؟ حين قال لها: إني جاعلٌ في الأرض خليفة. فأجابها أنه تكون له ذُرّية يُفسدون في الأرض وَيتحاسدون ويقتل بعضهم بعضًا. فقالت الملائكة حينئذ: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ فكان قولُ الملائكة ما قالت من ذلك لرَبِّها، بعد إعلام الله إياها أنّ ذلك كائن من ذُرّية الخليفة الذي يجعله في الأرض. فذلك معنى خلاف أوله معنى خبر الضحاك الذي ذكرناه. وأما موافقته إياه في آخره، فهو قولهم في تأويل قوله:"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين": أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، وأن الملائكة قالت إذ قال لها ربها ذلك، تبرِّيًا من علم الغيب -:"سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم". وهذا إذا تدبّره ذو الفهم، علم أن أوّله يفسد آخرَه، وأن آخره يُبطل معنى أوّله. وذلك أن الله جل ثناؤه إن كان أخبر الملائكة أن ذرّية الخليفة الذي يجعله في الأرض تفسد فيها وتسفك الدماء، فقالت الملائكة لربها:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"؛ فلا وجه لتوبيخها على أن أخبرت عمن أخبرها الله عنه أنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء، بمثل الذي أخبرها عنهم ربُّها، فيجوزَ أن يقالَ لها فيما طوي عنها من العلوم: إن كنتم صادقين فيما علمتم بخبر الله إياكم أنه كائن من الأمور فأخبرتم به، فأخبرونا بالذي قد طوى الله عنكم علمه، كما قد أخبرتمونا بالذي قد أطلعكم الله عليه - بل ذلك خُلفٌ من التأويل، ودعوَى على الله ما لا يجور أن يكون له صفة [[نقد الطبري دال أيضًا على ما ذهبنا إليه من الاستدلال بالآثار كاستدلال المستدل بالشعر. وأنت تراه ينقض هذا الخبر نقضًا، ويبين الخطأ في سياقه، وتناقضه في معناه. وهذا بين إن شاء الله.]] . وأخشى أن يكون بعض نَقَلة هذا الخبر هو الذي غَلِط على من رواه عنه من الصحابة، وأن يكون التأويل منهم كان على ذلك:"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين فيما ظننتم أنكم أدركتموه من العِلم بخبَري إياكم أنّ بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، حتى استجزتم أن تقولوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء". فيكون التوبيخ حينئذ واقعًا على ما ظنوا أنهم قد أدركوا بقول الله لهم:"إنه يكون له ذرّية يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء"، لا على إخبارهم بما أخبرهم الله به أنه كائن. وذلك أن الله جل ثناؤه، وإن كان أخبرهم عما يكون من بعض ذرّية خليفته في الأرض، ما يكون منه فيها من الفساد وسفك الدماء، فقد كانَ طوَى عنهم الخبرَ عما يكون من كثيرٍ منهم ما يكون من طاعتِهم ربَّهم، وإصلاحهم في أرْضه، وحقن الدماء، ورفعِه منزلتَهم، وكرامتِهم عليه، فلم يخبرهم بذلك. فقالت الملائكة:"أتجعلُ فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء"، على ظنٍّ منها -على تأويل هذين الخبرين اللذين ذكرتُ وظاهرِهما- أنّ جميع ذرية الخليفة الذي يجعله في الأرض يُفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء، فقال الله لهم -إذ علّم آدم الأسماء كلها -: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين أنكم تعلمون أنّ جميع بني آدم يُفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، على ما ظننتم في أنفسكم - إنكارًا منه جل ثناؤه لقيلهم ما قالوا من ذلك على الجميع والعموم، وهو من صفة خاصِّ ذرّية الخليفة منهم. وهذا الذي ذكرناه هو صفةٌ منا لتأويل الخبر، لا القول الذي نختاره في تأويل الآية [[وهذا أيضًا دليل واضح على أن استدلال الطبري بالأخبار والآثار، ليس معناه أنه ارتضاها، بل معناه أنه أتى بها ليستدل على سياق تفسير الآية مرة، وعلى بيان فساد الأخبار أنفسها مرة أخرى. وقد أخطأ كثير ممن نقل عن الطبري في فهم مراده، وتحامل عليه آخرون لم يعرفوا مذهبه في هذا التفسير.]] . ومما يدل على ما ذكرنا من توجيه خبر الملائكة عن إفساد ذرية الخليفة وسفكها الدماء على العموم، ما:- ٦٠٨- حدثنا به أحمد بن إسحاق الأهوازي [[في المطبوعة. "ابن أحمد بن إسحاق الأهوازي"، وزيادة"ابن" خطأ.]] قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن عبد الرحمن بن سابط، قوله:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، قال: يعنون الناس [[الأثر: ٦٠٨- لم أجده.]] . وقال آخرون في ذلك بما:- ٦٠٩- حدثنا به بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، عن سعيد، عن قتادة قوله:"وإذ قال ربُّك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفةً"، فاستشار الملائكة في خلق آدمَ، فقالوا:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" - وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض -"ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون" فكان في علم الله جل ثناؤه أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياءُ ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة. قال: وذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة: ما الله خالقٌ خلقًا أكرم عليه منَّا ولا أعلم منَّا؟ فابتلوا بخلق آدم -وكل خلق مُبْتَلًى- كما ابتليت السموات والأرض بالطاعة، فقال الله: ﴿اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [[الأثر: ٦٠٩- في ابن كثير ١: ١٢٩، وبعضه في الدر المنثور مفرقًا ١: ٤٥، ٤٦، ٥٠.]] [سورة فصلت: ١١] . وهذا الخبر عن قتادة يدل على أن قتادة كان يرى أن الملائكة قالت ما قالت من قولها:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، على غير يقين علمٍ تقدم منها بأن ذلك كائن، ولكن على الرأي منها والظنّ، وأن الله جل ثناؤه أنكر ذلك من قيلها، وردّ عليها ما رأت بقوله:"إني أعلم ما لا تعلمون" من أنه يكون من ذرية ذلك الخليفة الأنبياء والرسلُ والمجتهدُ في طاعة الله. وقد رُوي عن قتادةَ خلافُ هذا التأويل، وهو ما:- ٦١٠- حدثنا به الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"أتجعل فيها من يُفسد فيها" قال: كان الله أعلمهم إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء، فذلك قوله:"أتجعل فيها من يفسد فيها" [[الأثر: ٦١٠- لم أجده.]] . وبمثل قول قتادة قال جماعة من أهل التأويل، منهم الحسن البصري: ٦١١- حدثنا القاسم: قال حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن جرير بن حازم، ومبارك، عن الحسن -وأبي بكر، عن الحسن وقتادة- قالا قال الله لملائكته:"إني جاعلٌ في الأرص خليفة" - قال لهم: إني فاعلٌ - فعرضُوا برأيهم، فعلّمهم علمًا وطوَى عنهم علمًا علمه لا يعلمونه، فقالوا بالعلم الذي علمهم:"أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء" - وقد كانت الملائكة علمتْ من علم الله أنه لا ذنب أعظم عند الله من سفك الدماء -"ونحن نسبّح بحمدك ونُقدس لكَ. قال إني أعلم ما لا تعلمون". فلما أخذ في خلق آدم، هَمست الملائكة فيما بينها، فقالوا: ليخلق رَبنا ما شاء أن يخلق، فلن يخلق خلقًا إلا كنا أعلمَ منه وأكرمَ عليه منه. فلما خلقه ونفخ فيه من روحه أمرَهم أن يسجدوا له لما قالوا، ففضّله عليهم، فعلموا أنهم ليسوا بخير منه، فقالوا: إن لم نكن خيرًا منه فنحن أعلمُ منه، لأنا كنا قَبله، وخُلقت الأمم قبله. فلما أعجبوا بعملهم ابتلوا، فـ "علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسمَاء هؤلاء إن كنتم صادقين" أني لا أخلق خلقًا إلا كنتم أعلمَ منه، فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قال: ففزع القومُ إلى التوبة -وإليها يفزع كل مؤمن- فقالوا:"سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، قال: يا آدم أنبئهم بأسمَائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقلْ لكم إني أعلمُ غيبَ السموات والأرض وأعلم ما تُبدُون وما كنتم تكتمون" - لقولهم:"ليخلقْ ربّنا ما شاء، فلن يخلق خلقًا أكرمَ عليه منا ولا أعلم منا". قال: علمه اسم كل شيء، هذه الجبال وهذه البغال والإبل والجنّ والوحش، وجعل يسمي كل شيء باسمه، وعرضت عليه كل أمة، فقال:"ألم أقل لكم إني أعلم غَيبَ السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون"، قال: أما ما أبدَوْا فقولهم:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، وأمَّا ما كتموا فقول بعضهم لبعض:"نحن خير منه وأعلم" [[الأثر: ٦١١- سبق بعضه بهذا الإسناد نصًّا. وشرحنا جودة بعضه وضعف بعضه. ونقل السيوطي ١: ٤٩، بعضه عن هذا الموضع من تفسير الطبري. وذكر ابن كثير ١: ١٢٨ قسما منه، من تفسير ابن أبي حاتم: عن الحسن بن محمد بن الصباح، عن سعيد بن سليمان، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن - وهو البصري. وهذا إسناد صحيح إلى الحسن البصري: فإن"الحسن بن محمد بن الصباح": هو الزعفراني الثقة المأمون، تلميذ الشافعي وراوية كتبه بالعراق. وسعيد بن سليمان: هو سعدويه الضبي الواسطي، وهو ثقة مأمون من شيوخ البخاري ومن أقران الإمام أحمد. ومبارك بن فضالة: ثقة، من أخص الناس بالحسن البصري، جالسه ١٣ أو ١٤ سنة.]] . ٦١٢- وحدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله:"إني جاعل في الأرض خليفةً" الآية، قال: إن الله خلق الملائكة يوم الأربعاء، وخلق الجنّ يوم الخميس، وخلق آدم يوم الجمعة. قال: فكفر قوم من الجن، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم، فكانت الدماءُ، وكان الفسادُ في الأرض. فمن ثمّ قالوا:"أتجعلُ فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" الآية [[الأثر: ٦١٢- مضى صدره برقم: ٦٠٢، وأشرنا إلى هذا هناك.]] . ٦١٣-[حدثنا محمد بن جرير، قال] : حدثت عن عمار بن الحسن، قال: أخبرنا عبد الله بن أَبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله-:"ثم عَرَضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين". إلى قوله:"إنك أنتَ العليم الحكيم". قال: وذلك حين قالوا:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك". قال: فلما عرفوا أنه جاعل في الأرض خليفة قالوا بينهم: لن يخلق الله خلقا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرمَ. فأراد الله أن يخبرهم أنه قد فضل عليهم آدَم. وَعلم آدم الأسماء كلها، فقال للملائكة:"أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين"، إلى قوله:"وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون"، وكان الذي أبدَوْا حين قالوا:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"، وكان الذي كتموا بينهم قولهم:"لن يخلق الله خلقًا إلا كنا نحن أعلم منه وأكرم"، فعرفوا أن الله فضّل عليهم آدم في العلم والكرم [[الأثر: ٦١٣- هو رواية أخرى للأثر السالف. ولم أجده في المراجع السالفة.]] . وقال ابن زيد بما:- ٦١٤- حدثني به يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال قال ابن زيد: لما خلق الله النارَ ذعرت منها الملائكة ذعرًا شديدًا، وقالوا: ربنا لم خلقت هذه النار؟ ولأي شيء خلقتها؟ قال: لمن عصاني من خلقي. قال: ولم يكن لله خلق يومئذ إلا الملائكة، والأرض ليس فيها خلق، إنما خُلق آدم بعد ذلك، وقرأ قول الله: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ [سورة الإنسان: ١] . قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ليت ذلك الحين [[كلمة عمر رضي الله عنه: "ليت ذلك الحين"، يعني ليت الإنسان بقي شيئًا غير مذكور، طينًا لازبًا. يقولها من مخافة عذابه ربه يوم القيامة. وفي الدر المنثور ٦: ٢٩٧: "أخرج ابن المبارك، وأبو عبيد في فضائله، وعبد بن حميد، وابن المنذر، عن عمر بن الخطاب: أنه سمع رجلا يقرأ: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا) ، فقال عمر: ليتها تمت". فهذا في معنى كلمة عمر هنا.]] . ثم قال: قالت الملائكة: يا رب، أويأتي علينا دهرٌ نعصيك فيه! -لا يرَوْن له خلقًا غيرهم- قال: لا إني أريد أن أخلق في الأرض خلقًا وأجعل فيها خليفةً، يسفكون الدماء ويفسدون في الأرض. فقالت الملائكة:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"؟ وقد اخترتنا، فاجعلنا نحن فيها، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ونعمل فيها بطاعتك. وأعظمت الملائكة أن يجعل الله في الأرض من يعصيه فقال:"إني أعلمُ ما لا تعلمون"."يا آدم أنبئهم بأسمائهم". فقال: فلان وفلان. قال: فلما رأوا ما أعطاه الله من العلم أقروا لآدم بالفضل عليهم، وأبى الخبيث إبليس أن يقرَّ له، قال:"أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين". قال:"فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها" [[الأثر: ٦١٤- سيأتي بعض معناه بهذا الإسناد: (ص ١٧٦ بولاق) . وأما هذا النص، فقد ذكر السيوطي بعضه ١: ٤٥ ونسبه لابن جرير فقط. ولم يذكر فيه كلمة عمر بن الخطاب. وقد أشرنا إلى ورود معناها من وجه آخر، في الهامشة قبل هذه. وكلمة عمر هنا سيقت مساق الحديث المرفوع، إذ قال: "يا رسول الله، ليت ذلك الحين". فتكون حديثًا مرفوعًا مرسلا، بل منقطعًا، لأن ابن زيد -وهو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم- لم يدرك إلا بعض التابعين. هذا إلى أنه ضعيف جدًّا، كما سبق في: ١٨٥.]] . وقال ابن إسحاق بما:- ٦١٥- حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق قال: لما أراد الله أن يخلق آدم بقدرته ليبتليه ويبتلي به، لعلمه بما في ملائكته وجميع خلقه -وكان أوّل بلاء ابتُليت به الملائكةُ مما لها فيه ما تحبّ وما تكره، للبلاء والتمحيص لما فيهم مما لم يعلموا، وأحاط به علم الله منهم- جمع الملائكة من سكان السموات والأرض، ثم قال:"إني جاعل في الأرض خليفة"- ساكنًا وعامرًا ليسكنها ويعمرُها - خَلَفًا، ليس منكم [[في المطبوعة: "عامر وساكن يسكنها ويعمرها خلقًا ليس منكم"، وانظر ما مضى، رقم: ٦٠٠، وانظر تخريجه بعد.]] . ثم أخبرهم بعلمه فيهم، فقال: يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ويعملون بالمعاصي. فقالوا جميعًا:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" لا نعصي، ولا نأتي شيئًا كرهته؟ قال:"إني أعلم ما لا تعلمون" - قال: إني أعلم فيكم ومنكم ولم يُبدها لهم - من المعصية والفساد وسفك الدماء وإتيان ما أكره منهم، مما يكون في الأرض، مما ذكرتُ في بني آدم. قال الله لمحمد ﷺ: ﴿مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [ص: ٦٩-٧٢] . فذكر لنبيه ﷺ الذي كان منْ ذكره آدم حين أراد خلقه، ومراجعة الملائكة إياه فيما ذكر لهم منه. فلما عزم الله تعالى ذكره على خلق آدم قال للملائكة: إني خالقٌ بشرًا من صلصال من حمإٍ مسنون بيدي -تكرمةً له وتعظيمًا لأمره وتشريفا له- حفظت الملائكة عهده وَوَعوْا قوله، وأجمعوا الطاعة إلا ما كان من عدوّ الله إبليس، فإنه صمتَ على ما كان في نفسه من الحسد والبغْيِ والتكبر والمعصية. وخلق الله آدم من أدَمة الأرض، من طين لازب من حَمَإٍ مسنون، بيديه، تكرمةً له وتعظيمًا لأمره وتشريفًا له على سائر خلقه. قال ابن إسحاق: فيقال، والله أعلم: خلق الله آدم ثم وضعه ينظر إليه أربعين عامًا قبل أن ينفخ فيه الروح حتى عاد صلصالا كالفخار، ولم تمسه نار. قال: فيقال، والله أعلم: إنه لما انتهى الروح إلى رأسه عَطس فقال: الحمد لله! فقال له ربه: يرحمك ربك، ووقع الملائكة حين استوى سجودًا له، حفظًا لعهد الله الذي عهد إليهم، وطاعة لأمره الذي أمرهم به. وقام عدوّ الله إبليس من بينهم فلم يَسجد، مكابرًا متعظمًا بغيًا وحسدًا. فقال له: ﴿يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ إِلَى ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [سورة ص: ٧٥-٨٥] . قال: فلما فرغ الله من إبليس ومعاتبته، وأبى إلا المعصية، أوقع عليه اللعنة وأخرجه من الجنة. ثم أقبل على آدم، وقد علمه الأسماء كلها، فقال:"يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنّي أعلم غيبَ السموات والأرض وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون. قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" - أي، إنما أجبناك فيما علمتنا، فأما ما لم تعلمنا فأنت أعلم به. فكان ما سمّى آدمُ من شيء، كان اسمه الذي هو عليه إلى يوم القيامة [[الأثر: ٦١٥- مضى صدره برقم: ٦٠٠.]] . وقال ابن جُريج بما:- ٦١٦- حدثنا به القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جُريج، قال: إنما تكلموا بما أعلمهم أنه كائن من خلق آدم، فقالوا:"أتجعلُ فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء"؟ وقال بعضهم: إنما قالت الملائكة ما قالت:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء" لأن الله أذن لها في السؤال عن ذلك، بعد ما أخبرها أن ذلك كائن من بني آدم. فسألته الملائكة، فقالت -على التعجب منها-: وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم؟ فأجابهم ربهم: إني أعلم ما لا تعلمون، يعني: أن ذلك كائن منهم -وإن لم تعلموه أنتم- ومن بعض من ترونه لي طائعًا. يعرفهم بذلك قصور علمهم عن علمه [[الأثر: ٦١٦- لم أجده في مكان.]] . وقال بعض أهل العربية: قول الملائكة:"أتجعل فيها من يفسد فيها" على غير وجه الإنكار منهم على ربّهم، وإنما سألوه ليعلموا، وأخبروا عن أنفسهم أنهم يسبحون. وقال: قالوا ذلك لأنهم كرهوا أن يُعصَى الله، لأن الجن قد كانت أمرتْ قبل ذلك فعصتْ. وقال بعضهم: ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك، فكأنهم قالوا:"يا رب خبرنا"، مسألةَ استخبار منهم لله، لا على وجه مسألة التوبيخ. قال أبو جعفر: وأولى هذه التأويلات بقول الله جل ثناؤه، مخبرًا عن ملائكته قيلها له:"أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك"، تأويل من قال: إن ذلك منها استخبار لربها، بمعنى: أعلمنا يا ربنا أجاعلٌ أنت في الأرض مَنْ هذه صفته، وتارك أن تجعل خلفاءَك منا، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك - لا إنكارٌ منها لما أعلمها ربها أنه فاعل. وإن كانت قد استعظمتْ لما أخبرت بذلك، أن يكون لله خلقٌ يعصيه. وأما دعوى من زعم أن الله جل ثناؤه كان أذن لها بالسؤال عن ذلكَ فسألته على وجه التعجب، فدعْوَى لا دلالة عليها في ظاهر التنزيل، ولا خبر بها من الحجة يقطعُ العذرَ. وغير جائز أن يقال في تأويل كتاب الله بما لا دلالة عليه من بعض الوجوه التي تقوم بها الحجة. وأما وصفُ الملائكة مَن وصفت -في استخبارها ربَّها عنه- بالفساد في الأرض وسفك الدماء، فغير مستحيلٍ فيه ما رُوي عن ابن عباس وابن مسعود من القول الذي رواه السُّدّيّ، ووافقهما عليه قتادة - من التأويل: وهو أن الله جل ثناؤه أخبرهم أنه جاعلٌ في الأرض خليفة تكون له ذرية يفعلون كذا وكذا، فقالوا: "أتجعل فيها من يفسد فيها"، على ما وصفت من الاستخبار. فإن قال لنا قائل: وما وجه استخبارها، والأمر على ما وصفتَ، من أنها قد أخبرت أنّ ذلك كائن؟ قيل: وجه استخبارها حينئذ يكون عن حالهم عن وقوع ذلك. وهل ذلك منهم؟ ومسألتهم ربَّهم أن يجعلهم الخلفاءَ في الأرض حتى لا يعصوه. وغيرُ فاسد أيضًا ما رواه الضحاك عن ابن عباس، وتابعه عليه الربيع بن أنس، من أن الملائكة قالت ذلك لما كان عندها من علم سكان الأرض -قبل آدم- من الجنّ، فقالت لربها:"أجاعل فيها أنت مثلهم من الخلق يفعلون مثل الذي كانوا يفعلون"؟ على وجه الاستعلام منهم لربهم، لا على وجه الإيجاب أنّ ذلك كائن كذلك، فيكون ذلك منها إخبارًا عما لم تطلع عليه من علم الغيب. وغيرُ خطأ أيضًا ما قاله ابن زيد من أن يكون قيلُ الملائكة ما قالت من ذلك، على وجه التعجب منها من أن يكون لله خلقٌ يعصي خالقه. وإنما تركنا القول بالذي رواه الضحاك عن ابن عباس، ووافقه عليه الربيع بن أنس، وبالذي قاله ابن زيد في تأويل ذلك، لأنه لا خبر عندنا بالذي قالوه من وجه يقطعُ مجيئُه العذرَ، ويُلزمُ سامِعَه به الحجة. والخبر عما مضى وما قد سلف، لا يُدرك علمُ صحته إلا بمجيئه مجيئًا يمتنع مَعه التشاغب والتواطؤ، ويستحيل مَعه الكذب والخطأ والسهو [[في المخطوطة والمطبوعة: "يمتنع منه. . . ويستحيل منه"، وليست بشيء. وفي المخطوطة مكان"التشاغب": "الساعر" غير مبينة.]] . وليس ذلك بموجود كذلك فيما حكاه الضحاك عن ابن عباس ووافقه عليه الربيع، ولا فيما قاله ابن زيد. فأولى التأويلات -إذ كان الأمر كذلك- بالآية، ما كان عليه من ظاهر التنزيل دلالةٌ، مما يصح مخرجُه في المفهوم. فإن قال قائل: فإن كان أولى التأويلات بالآية هو ما ذكرتَ، من أن الله أخبر الملائكة بأن ذرّية خليفته في الأرض يفسدون فيها ويسفكون فيها الدماء، فمن أجل ذلك قالت الملائكة:"أتجعل فيها من يفسد فيها"، فأين ذكر إخبارِ الله إياهم في كتابه بذلك؟ قيل له: اكتفى بدلالة ما قد ظهرَ من الكلام عليه عنه، كما قال الشاعر: فَلا تَدْفِنُونِي إِنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ ... عَلَيْكُمْ، وَلَكِن خَامِرِي أُمَّ عَامِرِ [[البيت للشنفري الأزدي في قصة. شرح الحماسة ٢: ٢٤-٢٦، والأغاني ٢١: ٨٩ وغيرهما. ويروى: "لا تقبروني إن قبري"، "ولكن أبشري". وقوله"خامري": أي استتري، وأصله من الخمرة (بكسر فسكون) وهو الاستخفاء. يريدون بذلك دنو الضبع مستخفية ملازمة لمكانها حتى تخالط القتيل فتصيب منه. وأم عامر: كنية الضبع. وذلك مما يقوله لها الصائد حين يريد صيدها، يغرها بذلك حتى يتمكن منها، فيقول لها: "أبشري أم عامر بشياه هزلى، وجراد عظلى، +وكسر رجال قتلى"، فتميل الضبع إليه فيصيدها.]] فحذف قوله"دعوني للتي يقال لها عند صَيدها": خامري أمّ عامر. إذ كان فيما أظهر من كلامه، دلالة على معنى مراده. فكذلك ذلك في قوله:"قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها"، لما كان فيه دلالة على ما ترك ذكره بعد قوله:"إنّي جاعل في الأرض خليفة"، من الخبر عما يكون من إفساد ذريته في الأرض، اكتفى بدلالته وحَذف، فترك ذكره كما ذكرنا من قول الشاعر. ونظائر ذلك في القرآن وأشعار العرب وكلامها أكثر من أن يحصى. فلما ذكرنا من ذلك، اخترنا ما اخترنا من القول في تأويل قوله:"قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء". القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ قال أبو جعفر: أما قوله:"ونحن نسبِّح بحمدك" فإنه يعني: إنا نعظِّمك بالحمد لك والشكر، كما قال جل ثناؤه: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ [سورة النصر: ٣] ، وكما قال: ﴿وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ [سورة الشورى: ٥] ، وكل ذكر لله عند العرب فتسبيحٌ وصلاة. يقول الرجل منهم: قضيتُ سُبْحَتي من الذكر والصلاة. وقد قيل: إن التسبيحَ صلاةُ الملائكة. ٦١٧- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، قال: كان النبي ﷺ يُصلي، فمرّ رجل من المسلمين على رجل من المنافقين، فقال له: النبيُّ ﷺ يُصلِّي وأنت جالس! فقال له: امض إلى عملك إن كان لك عمل. فقال: ما أظنّ إلا سيمر عليك من ينكر عليك. فمرّ عليه عمر بن الخطاب فقال له: يا فلان، النبي ﷺ يصَلِّي وأنت جالس! فقال له مثلها، فقال: هذا من عَملي. فوثب عليه فضربَه حتى انتهى، ثم دخل المسجدَ فصلّى مع النبي ﷺ. فلما انفتل النبي ﷺ قام إليه عمر فقال: يا نبيَّ الله مررت آنفًا على فلان وأنت تُصلي، فقلت له: النبيّ ﷺ يُصلّي وأنت جالس! فقال: سرْ إلى عملك إن كان لكَ عمل. فقال النبي ﷺ: فهلا ضربْتَ عُنقه. فقام عمر مسرعًا. فقال: يا عُمر ارجع فإن غضبك عِزّ ورضاك حُكْم، إن لله في السموات السبع ملائكة يصلون، له غنًى عن صلاة فلان. فقال عمر: يا نبي الله، وما صَلاتهم؟ فلم يرد عليه شيئًا، فأتاه جبريل فقال: يا نبي الله، سألك عُمر عن صلاة أهل السماء؟ قال: نعم. فقال: اقرأ على عمر السلام، وأخبره أن أهل السماء الدنيا سجودٌ إلى يوم القيامة يقولون:"سبحان ذي الملك والملكوت"، وأهل السماء الثانية ركوعٌ إلى يوم القيامة يقولون:"سبحان ذي العزة والجبروت"، وأهل السماء الثالثة قيامٌ إلى يوم القيامة يقولون:"سبحان الحي الذي لا يموت" [[الحديث: ٦١٧ هو حديث مرفوع، ولكنه مرسل، لأن سعيد بن جبير تابعي. وإسناده إليه إسناد جيد. يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي أبو الحسن: ثقة، مترجم في التهذيب، وترجمه البخاري في الكبير ٤/٢/٣٩١، فلم يذكر فيه جرحًا. وفي التهذيب: "قال محمد بن حميد الرازي [وهو شيخ الطبري هنا] : دخلت بغداد، فاستقبلني أحمد وابن معين، فسألاني عن أحاديث يعقوب القمي". جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي القمي: ثقة، ترجمه البخاري في الكبير ١/٢/٢٠٠، وابن أبي حاتم في الجرح ١/١/٤٩٠-٤٩١، فلم يذكرا فيه مطعنًا. وفي التهذيب أن ابن حبان نقل في الثقات توثيقه عن أحمد بن حنبل. وهذا الحديث بطوله، رواه أبو نعيم في الحلية ٤: ٢٧٧-٢٧٨، من طريق محمد بن حميد -شيخ الطبري- بهذا الإسناد. وذكر السيوطي في الدر المنثور ١: ٤٦ آخره، من أول سؤال عمر عن صلاة الملائكة، ولم ينسبه لغير الطبري وأبي نعيم.]] . ٦١٨- قال أبو جعفر: وحدثني يعقوب بن إبراهيم، وسهل بن موسى الرازي، قالا حدثنا ابن عُلَيَّة، قال: أخبرنا الجُرَيْرِي، عن أبي عبد الله الجَسْري، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر: أن رسول الله ﷺ عَادَه -أو أن أبا ذَرّ عاد النبي ﷺ- فقال: يا رسول الله، بأبي أنتَ، أي الكلام أحب إلى الله؟ فقال: ما اصطفى الله لملائكته:"سبحان رَبي وبحمده، سبحان ربي وبحمده" [[الحديث: ٦١٨ - في الدر المنثور ولم ينسبه لابن جرير، وقال: "أخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي ذر. . . " ٥: ١٦١، ١٧٦. وهو في المسند ٥: ١٤٨ ومسلم ٢: ٣١٩، ٨: ٨٦.]] . - في أشكال لما ذكرنا من الأخبار [[في المطبوعة: "في كل أشكال لما ذكرنا. . . "، و"كل" مقحمة هنا بلا شك.]] ، كرهنا إطالةَ الكتاب باستقصائها. وأصلُ التسبيح لله عند العرب: التنزيهُ له من إضافة ما ليس من صفاته إليه، والتبرئة له من ذلك، كما قال أعشى بني ثعلبة: أَقُولُ -لمَّا جَاءَنِي فَخْرُه-: ... سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ [[ديوانه: ١٠٦، من قصيدته المشهورة، التي قالها في هجاء علقمة بن علاثة، في خبر منافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل (الأغاني ١٥: ٥٠-٥٦) . وذكر ابن الشجري في أماليه ١: ٣٤٨ عن أبي الخطاب الأخفش، قال: "وإنما ترك التنوين في"سبحان" وترك صرفه، لأنه صار عندهم معرفة". وقال في ٢: ٢٥٠: "لم يصرفه، لأن فيه الألف والنون زائدين، وأنه علم للتسبيح، فإن نكرته صرفته". وانظر ص: ٤٩٥ وتعليق رقم: ٣.]] يريد: سُبحان الله من فَخر علقمة، أي تنزيهًا لله مما أتى علقمة من الافتخار، على وجه النكير منه لذلك. وقد اختلف أهل التأويل في معنى التسبيح والتقديس في هذا الموضع، فقال بعضهم: قولهم:"نسبح بحمدك": نصلي لك. * ذكر من قال ذلك: ٦١٩- حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ:"ونحن نسبح بحمدك ونُقدس لك"، قال: يقولون: نصلّي لك. وقال آخرون:"نُسبّح بحمدك" [[في الأصول: "نسبح لك"، والصواب ما أثبتناه، وهو نص الآية.]] التسبيح المعلوم. * ذكر من قال ذلك: ٦٢٠- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"ونحن نسبِّح بحمدك"، قال: التسبيحَ التسبيحَ [[الأثران: ٦١٩، ٦٢٠- في ابن كثير ١: ١٢٩، والدر المنثور ١: ٤٦، والشوكاني ١: ٥٠.]] . * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ قال أبو جعفر: والتقديس هو التطهير والتعظيم، ومنه قولهم:"سُبُّوح قُدُّوس"، يعني بقولهم:"سُبوح"، تنزيهٌ لله، وبقولهم:"قُدوسٌ"، طهارةٌ له وتعظيم. ولذلك قيل للأرض:"أرض مُقدسة"، يعني بذلك المطهرة. فمعنى قول الملائكة إذًا:"ونحن نسبِّح بحمدك"، ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهلُ الشرك بك، ونصلي لك."ونقدس لك"، ننسبك إلى ما هو من صفاتك، من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك. وقد قيل: إن تقديس الملائكة لربها صَلاتها له. كما:- ٦٢١- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"ونقدس لك"، قال: التقديسُ: الصلاة [[الأثر: ٦٢١- في ابن كثير ١: ١٢٩، والدر المنثور ١: ٤٦، والشوكاني ١: ٥٠.]] . وقال بعضهم:"نقدس لك": نعظمك ونمجدك. * ذكر من قال ذلك: ٦٢٢- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هاشم بن القاسم، قال: حدثنا أبو سعيد المؤدّب، قال: حدثنا إسماعيل، عن أبي صالح، في قوله:"ونحن نسبّح بحمدك، ونقدس لك"، قال: نعظمك ونمجِّدك [[الأثر: ٦٢٢- في الدر المنثور ١: ٤٦.]] . ٦٢٣- حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى -وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل- جميعًا عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد، في قول الله:"ونقدس لك"، قال نعظّمك ونكبِّرك [[الأثر: ٦٢٣- في ابن كثير ١: ١٢٩، والدر المنثور ١: ٤٦.]] . ٦٢٤- وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق:"ونحن نسبِّح بحمدك ونقدس لك"، لا نَعْصي ولا نأتي شيئًا تكرهُه [[الأثر: ٦٢٤- في ابن كثير ١: ١٢٩.]] . ٦٢٥- وحدثت عن المنجاب، قال: حدثنا بشر، عن أبي رَوْق، عن الضحاك، في قوله:"ونقدس لك"، قال: التقديس: التطهير [[الأثر: ٦٢٥- في ابن كثير ١: ١٢٩، وفي الدر المنثور ١: ٤٦: "وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: التقديس: التطهير"، ولم ينسبه للضحاك، ولا لابن جرير.]] . وأما قول من قال: إن التقديس الصلاة أو التعظيم، فإن معنى قوله ذلك راجع إلى المعنى الذي ذكرناه من التطهير، من أجل أنّ صلاتها لربها تعظيم منها له، وتطهير مما ينسبه إليه أهل الكفر به. ولو قال مكانَ:"ونقدِّس لك" و"نقدِّسك"، كان فصيحا من الكلام. وذلك أن العرب تقول: فلان يسبح الله ويقدِّسه، ويسبح لله ويقدِّس له، بمعنى واحد. وقد جاء بذلك القرآن، قال الله جل ثناؤه: ﴿كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا﴾ [سورة طه: ٣٣-٣٤] ، وقال في موضع آخر: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ [سورة الجمعة: ١] * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (٣٠) ﴾ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: يعني بقوله:"أعلم ما لا تعلمون"، مما اطلع عليه من إبليس، وإضماره المعصيةَ لله وإخفائه الكبر، مما اطلع عليه تبارك وتعالى منه وخفي على ملائكته. * ذكر من قال ذلك: ٦٢٦- حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"إني أعلم ما لا تعلمون"، يقول: إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره [[الخبر: ٦٢٦- لم يذكر في المصادر السالفة. و"بشر بن عمارة": مضت ترجمته في: ١٣٧، وتكرر مرارًا، ولكن مصححو طبعة بولاق قالوا في هذا الموضع: "كذا في النسخ بالتاء، وتكرر بها فيها كلها. وهو في الخلاصة بدون تاء"!! وهو"عمارة" بالتاء في جميع الكتب والدواوين. والذي في الخلاصة خطأ مطبعي فقط!!]] . ٦٢٧- وحدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدّيّ في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مُرَّة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي ﷺ:"إني أعلم ما لا تعلمون"، يعني من شأن إبليس. ٦٢٨- وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد -وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل- قالا جميعًا: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد:"إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها. ٦٢٩- وحدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا سفيان، عن علي بن بَذِيمة، عن مجاهد، بمثله [[الأثر: ٦٢٩-"علي بن بذيمة"، بفتح الباء الموحدة وكسر الذال المعجمة، وهو ثقة.]] . ٦٣٠- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن علي بن بذيمة، عَن مجاهد مثله [[الأثر: ٦٣٠-"ابن يمان"، بفتح الياء وتخفيف الميم: هو يحيى بن يمان العجلي الكوفي، وهو صدوق من شيوخ أحمد بن حنبل. و"سفيان" في هذا والذي قبله - هو الثوري.]] . ٦٣١- وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حَكَّام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله:"إني أعلم ما لا تعلمون" قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها [[الأثر: ٦٣١-"القاسم بن أبي بزة"، بفتح الباء الموحدة وتشديد الزاي: ثقة مكي، قال ابن حبان: "لم يسمع التفسير من مجاهد -أحد غير القاسم، وكل من يروي عن مجاهد التفسير- فإنما أخذه من كتاب القاسم". وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ٣/٢/١٢٢: "هو القاسم بن نافع بن أبي بزة، واسم أبي بزة: يسار". و"محمد بن عبد الرحمن" الراوي عنه هنا: هو ابن أبي ليلى.]] . ٦٣٢- وحدثني جعفر بن محمد البُزُوري، قال: حدثنا حسن بن بشر، عن حمزة الزيات، عن ابن أبي نَجيح، عن مجاهد في قوله:"إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس كتمانه الكِبْر أن لا يسجُد لآدم. ٦٣٣- وحدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال: -وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شِبْل- جميعًا عن ابن أبي نَجيح عن مجاهد في قول الله:"إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس المعصية. ٦٣٤- وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، مثله. ٦٣٥- وحدثني المثنى، قال: حدثنا سُويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، قال: قال مجاهد في قوله:"إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها [[الأثر: ٦٣٥- ذكره السيوطي ١: ٤٦. والشوكاني ١: ٥٠. ولكن سقط اسم"مجاهد"، من الدر المنثور، خطأ مطبعيًّا.]] . وقال مرَّة آدم. ٦٣٦- وحدثني المثنى، قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، قال سمعت عبد الوهاب بن مجاهد يحدث عن أبيه في قوله:"إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها، وعلم من آدم الطاعة وخلقَه لها [[الأثر: ٦٣٦ - أما"مجاهد بن جبر"، فهو التابعي الكبير، الثقة الفقيه المفسر. ولكن ابنه"عبد الوهاب بن مجاهد": ضعيف جدًّا، قال أحمد بن حنبل: "لم يسمع من أبيه، ليس بشيء، ضعيف الحديث". وضعفه أيضًا ابن معين وأبو حاتم. ومر عبد الوهاب بسفيان الثوري، في مسجد الحرام، فقال سفيان: "هذا كذاب". وأما هذا الأثر، بزيادة: "وعلم من آدم الطاعة -. . . "- فلم نجده في موضع آخر.]] . ٦٣٧- وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزَّاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، والثوري، عن علي بن بَذِيمة، عن مجاهد في قوله:"إني أعلم ما لا تعلمون"، قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها [[الأثر: ٦٣٧- هو في معنى الآثار السالفة: ٦٣٣-٦٣٥.]] . ٦٣٨- وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إني أعلم ما لا تعلمون". أي فيكم ومنكم، ولم يُبْدِها لهم، من المعصية والفساد وسفك الدماء. وقال آخرون: معنى ذلك: إني أعلم ما لا تعلمون من أنه يكون من ذلك الخليفة أهلُ الطاعة والولايةِ لله. * ذكر من قال ذلك: ٦٣٩- حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زُرَيع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال:"إني أعلم ما لا تعلمون"، فكان في علم الله أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء ورُسلٌ وقوم صالحون وساكنو الجنة [[الأثر: ٦٣٩- في ابن كثير ١: ١٣٠، والدر المنثور ١: ٤٦، والشوكاني ١: ٥٠. وفي ابن كثير: "في تلك الخليقة" وفي الدر المنثور"من تلك الخليقة" وفي الشوكاني: "سيكون من الخليقة": وجميعها بالقاف، وهو خطأ، والصواب ما في نص الطبري.]] . وهذا الخبر من الله جل ثناؤه يُنبئ عن أن الملائكة التي قالت:"أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء"، استفظعتْ أن يكون لله خلق يعصيه، وعجبتْ منه إذْ أخبرت أن ذلك كائن. فلذلك قال لهم ربهم:"إني أعلم ما لا تعلمون". يعني بذلك، والله أعلم: إنكم لتعجبون من أمر الله وتستفظعونه، وأنا أعلم أنه في بعضكم، وتصفون أنفسكم بصفةٍ أعلمُ خِلافَها من بعضكم، وتعرضون بأمر قد جعلته لغيركم. وذلك أن الملائكة لما أخبرها ربها بما هو كائن من ذرية خليفته، من الفساد وسفك الدماء، قالت لربها: يا رب أجاعل أنت في الأرض خليفةً من غيرنا، يكون من ذريته من يعصيك، أم منا، فإنا نعظمك ونصلي لك ونطيعك ولا نعصيك؟ -ولم يكن عندها علم بما قد انطوى عليه كَشحا إبليسُ من استكباره على ربه- فقال لهم ربهم: إني أعلم غير الذي تقولون من بعضكم. وذلك هو ما كان مستورًا عنهم من أمر إبليس، وانطوائه على ما قد كان انطوى عليه من الكبر. وعلى قِيلهم ذلك، ووصفهم أنفسهم بالعموم من الوصف عُوتبوا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب