(وإذ قال ربك) أي واذكر يا محمد إذ قال، وكل ما ورد في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله، وقيل إذ زائدة والأول أوجه (للملائكة) جمع ملك بوزن فعل قاله ابن كيسان، وقيل جمع ملاك بوزن مفعل، قاله أبو عبيده، وأراد بالملائكة الذين كانوا في الأرض، وذلك أن الله تعالى خلق الأرض وأسكن فيها الجن واسكن في السماء الملائكة، فأفسدت الجن في الأرض فبعث إليهم طائفة من الملائكة فطردتهم إلى جزائر البحار ورؤوس الجبال، وأقاموا مكانهم [[لم نعثر على دليل على هذا القول.]]، وقيل: القول لمطلق الملائكة وكان ذلك تعليماً للمشاورة وتعظيماً لآدم، وبياناً لكون الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره على شره، واللام في للملائكة للتبليغ وهو أحد المعاني التي جاءت لها اللام.
(إني جاعل في الأرض خليفة) أي خالق بدلاً منكم ورافعكم إلي، وجاعل هنا من جعل المتعدي إلى مفعولين، وذكر المطرزي أنه بمعنى الخالق، وذلك يقتضي أنه متعد إلى مفعول واحد، وصيغة اسم الفاعل بمعنى المستقبل، والأرض هنا هي هذه الغبراء، ولا يختص ذلك بمكان دون مكان، وقيل إنها مكة كما ورد في مرسل ضعيف، وقال ابن كثير أنه مدرج، والخليفة هنا معناه الخالف لمن كان قبله من الملائكة، ويجوز أن يكون بمعنى المخلوف أي يخلفه غيره، قيل هو آدم كما دل عليه السياق، وقيل كل من له خلافة في الارض، ويقوي الأول قوله (خليفة) دون الخلائف واستغنى بذكر آدم عن ذكر من بعده، والصحيح أنه إنما سمي خليفة لأنه خليفة الله في أرضه لإقامة حدوده وتنفيذ قضاياه، قيل خاطب الله الملائكة بهذا الخطاب لا للمشورة ولكن لاستخراج ما عندهم، قيل وفيه إرشاد عباده إلى المشاورة وأن الحكمة تقتضي اتخاذ ما يغلب خيره وإن كان فيه نوع شر، وأنه لا رأي مع وجود النص، وهو أصل في المسائل التعبدية.
قال بعض المفسرين أن في الكلام حذفاً والتقدير إني جاعل في الأرض خليفة يفعل كذا وكذا فكرهوا ذلك و (قالوا) أي أستكشافاً عما خفي عليهم من الحكمة الباهرة، وليس باعتراض على الله ولا طعن في بني آدم على وجه الغيبة، فإنهم أعلى من أن يظن بهم ذلك لقوله (بل عباد مكرمون) وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله أو تلق من اللوح المحفوظ أو مقياس لأحد الثقلين على الآخر (أتجعل فيها من يفسد فيها) بالمعاصي بمقتضى القوة الشهوانية، والفساد ضد الصلاح (ويسفك الدماء) بغير حق بمقتضى القوة الغضبية كما فعل الجن، وسفك الدم صبه، قاله ابن فارس والجوهري والمهدوي ولا يستعمل السفك إلا في الدم.
(ونحن نسبح) أي نقول سبحان الله وبحمده وهي صلاة الخلق وعليها يرزقون، عن أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل أي الكلام أفضل قال " ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده [[مسلم/2731.]] أخرجه مسلم، وقال ابن عباس كل ما جاء في القرآن من التسبيح فالمراد منه الصلاة فيكون المعنى ونحن نصلي لك، وأصل التسبيح في كلام العرب التنزيه والتبعيد من السوء على وجه التعظيم، فيكون المعنى ونحن ننزهك عن كل سوء ونقيصة (بحمدك) أي حامدين لك أو متلبسين بحمدك فإنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق لم نتمكن من ذلك (ونقدس لك) وأصل التقديس التطهير أي ونطهرك عن النقائص وعن كل ما لا يليق بك من سوء ومما نسبه إليك الملحدون، وافتراه الجاحدون، وذكر في الكشاف أن معنى التسبيح والتقديس واحد وهو تبعيد الله من السوء، وفي القاموس وغيره من كتب اللغة ما يرشد إلى ما ذكرناه، والتأسيس خير من التأكيد خصوصاً في كلام الله سبحانه، وقيل معناه نطهر أنفسنا لطاعتك وعبادتك والأول أولى.
وعن ابن مسعود وناس من الصحابة نقدس لك أي نصلي لك، وقال مجاهد نعظمك ونكبرك واللام زائدة، والجملة حال أي فنحن أحق بالاستخلاف.
ولما كان سؤالهم واقعاً على صفة تستلزم إثبات شيء من العلم لأنفسهم أجاب الله سبحانه عليهم فقال (إني أعلم ما لا تعلمون) وفي هذا الإجمال ما يغني عن التفصيل، لأن من علم ما لا يعلم الخاطب له كان حقيقاً بأن يسلم له ما يصدر عنه، وعلى من لا يعرف أن يعترف لمن يعلم بأن أفعاله صادرة على ما يوجبه العلم وتقتضيه المصلحة الراجحة والحكمة البالغة، ولم يذكر متعلق قوله (تعلمون) ليفيد التعميم، ويذهب السامع عند ذلك كل مذهب ويعترف بالعجز ويقر بالقصور.
عن ابن عباس قال: إن الله أخرج آدم من الجنة قبل أن يخلقه قال وقد كان فيها أي في الأرض قبل أن يخلق بألفي عام: الجن بنو الجان فأفسدوا في الأرض وسفكوا الدماء، فلما أفسدوا في الأرض بعث الله عليهم جنوداً من الملائكة فضربوهم حتى ألحقوهم بجزائر البحور، فلما قال (إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) كما فعل أولئك الجان فقال (إني أعلم ما لا تعلمون) أخرجه الحاكم وصححه عنه.
وفي الباب آثار من الصحابة كثيرة، وعن قتادة كان في علم الله أنه سيكون من الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة، وقيل أعلم أنهم يذنبون ويستغفرون فأغفر لهم، وقيل أعلم من وجود المصلحة والحكمة ما لا تعلمون أنتم.
وقد ثبت في كتب الحديث المعتبرة أحاديث من طريق جماعة من الصحابة، في صفة خلقه سبحانه لآدم وهي موجودة فلا نطول بذكرها، قيل خاطبهم بذلك لأجل أن يصدر منهم ذلك السؤال فيجابون بذلك الجواب، وقيل لأجل تعليم عباده مشروعية المشاورة لهم، وظاهره أنهم استنكروا استخلاف بني آدم في الأرض لكونهم مظنة للإفساد في الأرض، وإنما قالوا هذه المقالة قبل أن تتقدم لهم معرفة ببني آدم بل قبل وجود آدم، فضلاً عن ذريته لعلم قد علموه من الله سبحانه بوجه من الوجوه، لأنهم لا يعلمون الغيب، قال بهذا جماعة من المفسرين.
{"ayah":"وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی جَاعِلࣱ فِی ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَةࣰۖ قَالُوۤا۟ أَتَجۡعَلُ فِیهَا مَن یُفۡسِدُ فِیهَا وَیَسۡفِكُ ٱلدِّمَاۤءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّیۤ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ"}