الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ قالَ إنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى كَيْفِيَّةِ خَلْقِهِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وعَلى كَيْفِيَّةِ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعالى إيّاهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ إنْعامًا عامًّا عَلى جَمِيعِ بَنِي آدَمَ، فَيَكُونُ هَذا هو النِّعْمَةَ الثّالِثَةَ مِن تِلْكَ النِّعَمِ العامَّةِ الَّتِي أوْرَدَها في هَذا المَوْضِعِ ثُمَّ فِيهِ مَسائِلُ:(p-١٤٧) المَسْألَةُ الأُولى: في إذْ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ صِلَةٌ زائِدَةٌ إلّا أنَّ العَرَبَ يَعْتادُونَ التَّكَلُّمَ بِها، والقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَةِ العَرَبِ. الثّانِي: وهو الحَقُّ أنَّهُ لَيْسَ في القُرْآنِ ما لا مَعْنى لَهُ، وهو نُصِبَ بِإضْمارِ اذْكُرْ، والمَعْنى: اذْكُرْ لَهم قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ فَأضْمَرَ هَذا لِأمْرَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ المَعْنى مَعْرُوفٌ. والثّانِي: أنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ كَشَفَ ذَلِكَ في كَثِيرٍ مِنَ المَواضِعِ كَقَوْلِهِ: ﴿واذْكُرْ أخا عادٍ إذْ أنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقافِ﴾ [الأحْقافِ: ٢١] وقالَ: ﴿واذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ﴾ [ص: ١٧]، ﴿واضْرِبْ لَهم مَثَلًا أصْحابَ القَرْيَةِ إذْ جاءَها المُرْسَلُونَ﴾ ﴿إذْ أرْسَلْنا إلَيْهِمُ اثْنَيْنِ﴾ [يس: ١٣، ١٤] والقُرْآنُ كُلُّهُ كالكَلِمَةِ الواحِدَةِ، ولا يَبْعُدُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ المَواضِعُ المُصَرِّحَةُ نَزَلَتْ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ، فَلا جَرَمَ تُرِكَ ذَلِكَ هَهُنا اكْتِفاءً بِذَلِكَ المُصَرَّحِ، قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: ويَجُوزُ أنْ يَنْتَصِبَ ”إذْ“ بِقالُوا. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: المَلَكُ أصْلُهُ مِنَ الرِّسالَةِ، يُقالُ: ألَكَنِي إلَيْهِ أيْ أرْسَلَنِي إلَيْهِ، والمَأْلُكَةُ والألُوكَةُ الرِّسالَةُ، وأصْلُهُ الهَمْزَةُ مِن ”مَلْأكَةٍ“ حُذِفَتِ الهَمْزَةُ وأُلْقِيَتْ حَرَكَتُها عَلى ما قَبْلَها طَلَبًا لِلْخِفَّةِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمالِها، قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: المَلائِكُ جَمْعُ مَلْأكٍ عَلى الأصْلِ كالشِّمالِ في جَمْعِ شَمْألٍ وإلْحاقُ التّاءِ لِتَأْنِيثِ الجَمْعِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: مِنَ النّاسِ مَن قالَ: الكَلامُ في المَلائِكَةِ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ مُقَدَّمًا عَلى الكَلامِ في الأنْبِياءِ لِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى قَدَّمَ ذِكْرَ الإيمانِ بِالمَلائِكَةِ عَلى ذِكْرِ الإيمانِ بِالرُّسُلِ في قَوْلِهِ: ﴿والمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٨٥] ولَقَدْ قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ”«ابْدَءُوا بِما بَدَأ اللَّهُ بِهِ» “ . الثّانِي: أنَّ المَلَكَ واسِطَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وبَيْنَ الرَّسُولِ في تَبْلِيغِ الوَحْيِ والشَّرِيعَةِ فَكانَ مُقَدَّمًا عَلى الرَّسُولِ، ومِنَ النّاسِ مَن قالَ: الكَلامُ في النُّبُوّاتِ مُقَدَّمٌ عَلى الكَلامِ في المَلائِكَةِ؛ لِأنَّهُ لا طَرِيقَ لَنا إلى مَعْرِفَةِ وُجُودِ المَلائِكَةِ بِالعَقْلِ بَلْ بِالسَّمْعِ، فَكانَ الكَلامُ في النُّبُوّاتِ أصْلًا لِلْكَلامِ في المَلائِكَةِ فَلا جَرَمَ وجَبَ تَقْدِيمُ الكَلامِ في النُّبُوّاتِ، والأوْلى أنْ يُقالَ: المَلَكُ قَبْلَ النَّبِيِّ بِالشَّرَفِ والعِلْيَةِ، وبَعْدَهُ في عُقُولِنا وأذْهانِنا بِحَسَبِ وُصُولِنا إلَيْها بِأفْكارِنا. واعْلَمْ أنَّهُ لا خِلافَ بَيْنِ العُقَلاءِ في أنَّ شَرَفَ الرُّتْبَةِ لِلْعالَمِ العُلْوِيِّ هو وُجُودُ المَلائِكَةِ فِيهِ، كَما أنَّ شَرَفَ الرُّتْبَةِ لِلْعالَمِ السُّفْلِيِّ هو وُجُودُ الإنْسانِ فِيهِ إلّا أنَّ النّاسَ اخْتَلَفُوا في ماهِيَّةِ المَلائِكَةِ وحَقِيقَتِهِمْ. وطَرِيقُ ضَبْطِ المَذاهِبِ أنْ يُقالَ: المَلائِكَةُ لا بُدَّ وأنْ تَكُونَ ذَواتًا قائِمَةً بِأنْفُسِها، ثُمَّ إنَّ تِلْكَ الذَّواتِ إمّا أنْ تَكُونَ مُتَحَيِّزَةً أوْ لا تَكُونَ، أمّا الأوَّلُ: وهو أنْ تَكُونَ المَلائِكَةُ ذَواتًا مُتَحَيِّزَةً فَهُنا أقْوالٌ: أحَدُها: أنَّها أجْسامٌ لَطِيفَةٌ هَوائِيَّةٌ تَقْدِرُ عَلى التَّشَكُّلِ بِأشْكالٍ مُخْتَلِفَةٍ مَسْكَنُها السَّماواتُ، وهَذا قَوْلُ أكْثَرِ المُسْلِمِينَ. وثانِيًا: قَوْلُ طَوائِفَ مِن عَبَدَةِ الأوْثانِ وهو أنَّ المَلائِكَةَ هي الحَقِيقَةُ في هَذِهِ الكَواكِبِ المَوْصُوفَةِ بِالإسْعادِ والإنْحاسِ، فَإنَّها بِزَعْمِهِمْ أحْياءٌ ناطِقَةٌ، وأنَّ المُسْعِداتِ مِنها مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ، والمُنْحِساتِ مِنها مَلائِكَةُ العَذابِ. وثالِثُها: قَوْلُ مُعْظَمِ المَجُوسِ والثَّنَوِيَّةِ وهو أنَّ هَذا العالَمَ مُرَكَّبٌ مِن أصْلَيْنِ أزَلِيَّيْنِ وهُما النُّورُ والظُّلْمَةُ، وهُما في الحَقِيقَةِ جَوْهَرانِ شَفّافانِ مُخْتارانِ قادِرانِ مُتَضادّا النَّفْسِ والصُّورَةِ مُخْتَلِفا الفِعْلِ والتَّدْبِيرِ، فَجَوْهَرُ النُّورِ فاضِلٌ خَيِّرٌ نَقِيٌّ طَيِّبُ الرِّيحِ كَرِيمُ النَّفْسِ يَسُرُّ ولا يَضُرُّ، ويَنْفَعُ ولا يَمْنَعُ، ويُحْيِي ولا يُبْلِي، وجَوْهَرُ الظُّلْمَةِ عَلى ضِدِّ ذَلِكَ، ثُمَّ إنَّ جَوْهَرَ النُّورِ لَمْ يَزَلْ يُوَلِّدُ الأوْلِياءَ وهُمُ المَلائِكَةُ لا عَلى سَبِيلِ التَّناكُحِ، بَلْ عَلى سَبِيلِ تَوَلُّدِ الحِكْمَةِ مِنَ الحَكِيمِ والضَّوْءِ مِنَ المُضِيءِ، وجَوْهَرُ الظُّلْمَةِ لَمْ يَزَلْ يُوَلِّدُ الأعْداءَ وهُمُ الشَّياطِينُ عَلى سَبِيلِ تَوَلُّدِ السَّفَهِ مِنَ السَّفِيهِ، لا عَلى سَبِيلِ التَّناكُحِ، فَهَذِهِ أقْوالُ مَن جَعَلَ المَلائِكَةَ (p-١٤٨)أشْياءَ مُتَحَيِّزَةً جُسْمانِيَّةً. القَوْلُ الثّانِي: أنَّ المَلائِكَةَ ذَواتٌ قائِمَةٌ بِأنْفُسِها ولَيْسَتْ بِمُتَحَيِّزَةٍ ولا بِأجْسامٍ فَهَهُنا قَوْلانِ: أحَدُهُما: قَوْلُ طَوائِفَ مِنَ النَّصارى وهو أنَّ المَلائِكَةَ في الحَقِيقَةِ هي الأنْفُسُ النّاطِقَةُ المُفارِقَةُ لِأبْدانِها عَلى نَعْتِ الصَّفاءِ والخَيْرِيَّةِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ هَذِهِ النُّفُوسَ المُفارِقَةَ إنْ كانَتْ صافِيَةً خالِصَةً فَهي المَلائِكَةُ، وإنْ كانَتْ خَبِيثَةً كَدِرَةً فَهي الشَّياطِينُ. وثانِيهِما: قَوْلُ الفَلاسِفَةِ: وهي أنَّها جَواهِرُ قائِمَةٌ بِأنْفُسِها ولَيْسَتْ بِمُتَحَيِّزَةٍ البَتَّةَ، وأنَّها بِالماهِيَّةِ مُخالِفَةٌ لِأنْواعِ النُّفُوسِ النّاطِقَةِ البَشَرِيَّةِ، وأنَّها أكْمَلُ قُوَّةً مِنها وأكْثَرُ عِلْمًا مِنها، وأنَّها لِلنُّفُوسِ البَشَرِيَّةِ جارِيَةٌ مَجْرى الشَّمْسِ بِالنِّسْبَةِ إلى الأضْواءِ، ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الجَواهِرَ عَلى قِسْمَيْنِ، مِنها ما هي بِالنِّسْبَةِ إلى أجْرامِ الأفْلاكِ والكَواكِبِ كَنُفُوسِنا النّاطِقَةِ بِالنِّسْبَةِ إلى أبْدانِنا، ومِنها ما هي لا عَلى شَيْءٍ مِن تَدْبِيرِ الأفْلاكِ بَلْ هي مُسْتَغْرِقَةٌ في مَعْرِفَةِ اللَّهِ ومَحَبَّتِهِ ومُشْتَغِلَةٌ بِطاعَتِهِ، وهَذا القِسْمُ هُمُ المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ، ونِسْبَتُهم إلى المَلائِكَةِ الَّذِينَ يُدَبِّرُونَ السَّماواتِ كَنِسْبَةِ أُولَئِكَ المُدَبِّرِينَ إلى نُفُوسِنا النّاطِقَةِ. فَهَذانَ القِسْمانِ قَدِ اتَّفَقَتِ الفَلاسِفَةُ عَلى إثْباتِهِما، ومِنهم مَن أثْبَتَ أنْواعًا أُخَرَ مِنَ المَلائِكَةِ وهي المَلائِكَةُ الأرْضِيَّةُ المُدَبِّرَةُ لِأحْوالِ هَذا العالَمِ السُّفْلِيِّ، ثُمَّ إنَّ المُدَبِّراتِ لِهَذا العالَمِ إنْ كانَتْ خَيِّرَةً فَهُمُ المَلائِكَةُ، وإنْ كانَتْ شِرِّيرَةً فَهُمُ الشَّياطِينُ، فَهَذا تَفْصِيلُ مَذاهِبِ النّاسِ في المَلائِكَةِ. واخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في أنَّهُ هَلْ يُمْكِنُ الحُكْمُ بِوُجُودِها مِن حَيْثُ العَقْلُ أوْ لا سَبِيلَ إلى إثْباتِها إلّا بِالسَّمْعِ ؟ أمّا الفَلاسِفَةُ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ في العَقْلِ دَلائِلَ تَدُلُّ عَلى وُجُودِ المَلائِكَةِ، ولَنا مَعَهم في تِلْكَ الدَّلائِلِ أبْحاثٌ دَقِيقَةٌ عَمِيقَةٌ، ومِنَ النّاسِ مَن ذَكَرَ في ذَلِكَ وُجُوهًا عَقْلِيَّةً إقْناعِيَّةً ولْنُشِرْ إلَيْها. أحَدُها: أنَّ المُرادَ مِنَ المَلَكِ الحَيِّ النّاطِقِ الَّذِي لا يَكُونُ مَيِّتًا، فَنَقُولُ: القِسْمَةُ العَقْلِيَّةُ تَقْتَضِي وُجُودَ أقْسامٍ ثَلاثَةٍ، فَإنَّ الحَيَّ إمّا أنْ يَكُونَ ناطِقًا ومَيِّتًا مَعًا وهو الإنْسانُ، أوْ يَكُونَ مَيِّتًا ولا يَكُونَ ناطِقًا وهو البَهائِمُ، أوْ يَكُونَ ناطِقًا ولا يَكُونَ مَيِّتًا وهو المَلَكُ، ولا شَكَّ أنَّ أخَسَّ المَراتِبِ هو المَيِّتُ غَيْرُ النّاطِقِ، وأوْسَطُها النّاطِقُ المَيِّتُ، وأشْرَفُها النّاطِقُ الَّذِي لَيْسَ بِمَيِّتٍ، فَإذا اقْتَضَتِ الحِكْمَةُ الإلَهِيَّةُ إيجادَ أخَسِّ المَراتِبِ وأوْسَطِها، فَلِأنْ تَقْتَضِيَ إيجادَ أشْرَفِ المَراتِبِ وأعْلاها كانَ ذَلِكَ أوْلى. وثانِيها: أنَّ الفِطْرَةَ تَشْهَدُ بِأنَّ عالَمَ السَّماواتِ أشْرَفُ مِن هَذا العالَمِ السُّفْلِيِّ، وتَشْهَدُ بِأنَّ الحَياةَ والعَقْلَ والنُّطْقَ أشْرَفُ مِن أضْدادِها ومُقابِلَتِها، فَيَبْعُدُ في العَقْلِ أنْ تَحْصُلَ الحَياةُ، والعَقْلُ والنُّطْقُ في هَذا العالَمِ الكَدِرِ الظُّلُمانِيِّ، ولا تَحْصُلُ البَتَّةَ في ذَلِكَ العالَمِ الَّذِي هو عالَمُ الضَّوْءِ والنُّورِ والشَّرَفِ. وثالِثُها: أنَّ أصْحابَ المُجاهَداتِ أثْبَتُوها مِن جِهَةِ المُشاهَدَةِ والمُكاشَفَةِ، وأصْحابَ الحاجاتِ والضَّرُوراتِ أثْبَتُوها مِن جِهَةٍ أُخْرى، وهي ما يُشاهَدُ مِن عَجائِبِ آثارِها في الهِدايَةِ إلى المُعالَجاتِ النّادِرَةِ الغَرِيبَةِ، وتَرْكِيبِ المَعْجُوناتِ واسْتِخْراجِ صَنْعَةِ التِّرْياقاتِ، ومِمّا يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ حالُ الرُّؤْيا الصّادِقَةِ، فَهَذِهِ وُجُوهٌ إقْناعِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إلى مَن سَمِعَها ولَمْ يُمارِسْها، وقَطْعِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إلى مَن جَرَّبَها وشاهَدَها واطَّلَعَ عَلى أسْرارِها، وأمّا الدَّلائِلُ النَّقْلِيَّةُ فَلا نِزاعَ البَتَّةَ بَيْنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ في إثْباتِ المَلائِكَةِ، بَلْ ذَلِكَ كالأمْرِ المُجْمَعِ عَلَيْهِ بَيْنَهم، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: في شَرْحِ كَثْرَتِهِمْ: قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«أطَّتِ السَّماءُ وحَقَّ لَها أنْ تَئِطَّ ما فِيها (p-١٤٩)مَوْضِعُ قَدَمٍ إلّا وفِيهِ مَلَكٌ ساجِدٌ أوْ راكِعٌ» “ ورُوِيَ أنَّ بَنِي آدَمَ عُشْرُ الجِنِّ، والجِنُّ وبَنُو آدَمَ عُشْرُ حَيَواناتِ البَرِّ، وهَؤُلاءِ كُلُّهم عُشْرُ الطُّيُورِ، وهَؤُلاءِ كُلُّهم عُشْرُ حَيَواناتِ البَحْرِ، وهَؤُلاءِ كُلُّهم عُشْرُ مَلائِكَةِ الأرْضِ المُوَكَّلِينَ بِها، وكُلُّ هَؤُلاءِ عُشْرُ مَلائِكَةِ سَماءِ الدُّنْيا، وكُلُّ هَؤُلاءِ عُشْرُ مَلائِكَةِ السَّماءِ الثّالِثَةِ، وعَلى هَذا التَّرْتِيبِ إلى مَلائِكَةِ السَّماءِ السّابِعَةِ، ثُمَّ الكُلُّ في مُقابَلَةِ مَلائِكَةِ الكُرْسِيِّ نَزْرٌ قَلِيلٌ، ثُمَّ كُلُّ هَؤُلاءِ عُشْرُ مَلائِكَةِ السُّرادِقِ الواحِدِ مِن سُرادِقاتِ العَرْشِ الَّتِي عَدَدُها سِتُّمِائَةِ ألْفٍ، طُولُ كُلِّ سُرادِقٍ وعَرْضُهُ وسُمْكُهُ إذا قُوبِلَتْ بِهِ السَّماواتُ والأرَضُونَ وما فِيها وما بَيْنَها، فَإنَّها كُلَّها تَكُونُ شَيْئًا يَسِيرًا، وقَدْرًا صَغِيرًا، وما مِن مِقْدارِ مَوْضِعِ قَدَمٍ إلّا وفِيهِ مَلَكٌ ساجِدٌ أوْ راكِعٌ أوْ قائِمٌ، لَهم زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ والتَّقْدِيسِ، ثُمَّ كُلُّ هَؤُلاءِ في مُقابَلَةِ المَلائِكَةِ الَّذِينَ يَحُومُونَ حَوْلَ العَرْشِ كالقَطْرَةِ في البَحْرِ ولا يَعْلَمُ عَدَدَهم إلّا اللَّهُ، ثُمَّ مَعَ هَؤُلاءِ مَلائِكَةُ اللَّوْحِ الَّذِينَ هم أشْياعُ إسْرافِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، والمَلائِكَةُ الَّذِينَ هم جُنُودُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وهم كُلُّهم سامِعُونَ مُطِيعُونَ لا يَفْتُرُونَ مُشْتَغِلُونَ بِعِبادَتِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، رِطابُ الألْسُنِ بِذِكْرِهِ وتَعْظِيمِهِ، يَتَسابَقُونَ في ذَلِكَ مُذْ خَلَقَهم، لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ آناءَ اللَّيْلِ والنَّهارِ ولا يَسْأمُونَ، لا يُحْصِي أجْناسَهم، ولا مُدَّةَ أعْمارِهِمْ ولا كَيْفِيَّةَ عِبادَتِهِمْ إلّا اللَّهُ تَعالى، وهَذا تَحْقِيقُ حَقِيقَةِ مَلَكُوتِهِ جَلَّ جَلالُهُ عَلى ما قالَ: ﴿وما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلّا هُوَ﴾ [المُدَّثِّرِ: ٣١] . وأقُولُ: رَأيْتُ في بَعْضِ كُتُبِ التَّذْكِيرِ «أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حِينَ عُرِجَ بِهِ رَأى مَلائِكَةً في مَوْضِعٍ بِمَنزِلَةِ سُوقٍ بَعْضُهم يَمْشِي تُجاهَ بَعْضٍ، فَسَألَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أيُّهم إلى أيْنَ يَذْهَبُونَ ؟ فَقالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ: لا أدْرِي إلّا أنِّي أراهم مُذْ خُلِقْتُ ولا أرى واحِدًا مِنهم قَدْ رَأيْتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ سَألُوا واحِدًا مِنهم، وقِيلَ لَهُ: مُذْ كَمْ خُلِقْتَ ؟ فَقالَ: لا أدْرِي غَيْرَ أنَّ اللَّهَ تَعالى يَخْلُقُ كَوْكَبًا في كُلِّ أرْبَعِمِائَةِ ألْفِ سَنَةٍ فَخَلَقَ مِثْلَ ذَلِكَ الكَوْكَبِ مُنْذُ خَلَقَنِي أرْبَعَمِائَةِ ألْفِ مَرَّةٍ»، فَسُبْحانَهُ مِن إلَهٍ ما أعْظَمَ قُدْرَتَهُ وما أجَلَّ كَمالَهُ. واعْلَمْ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى ذَكَرَ في القُرْآنِ أصْنافَهم وأوْصافَهم، أمّا الأصْنافُ: فَأحَدُها: حَمَلَةُ العَرْشِ وهو قَوْلُهُ: ﴿ويَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهم يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ﴾ [الحاقَّةِ: ١٧] . وثانِيها: الحافُّونَ حَوْلَ العَرْشِ عَلى ما قالَ سُبْحانَهُ: ﴿وتَرى المَلائِكَةَ حافِّينَ مِن حَوْلِ العَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ [الزُّمَرِ: ٧٥] . وثالِثُها: أكابِرُ المَلائِكَةِ، فَمِنهم جِبْرِيلُ ومِيكائِيلُ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِما لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَن كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ ومَلائِكَتِهِ ورُسُلِهِ وجِبْرِيلَ ومِيكالَ فَإنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ﴾ [البَقَرَةِ: ٩٨] ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى وصَفَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِأُمُورٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ صاحِبُ الوَحْيِ إلى الأنْبِياءِ قالَ تَعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ﴾ ﴿عَلى قَلْبِكَ﴾ [الشُّعَراءِ: ١٩٣، ١٩٤] . الثّانِي: أنَّهُ تَعالى ذَكَرَهُ قَبْلَ سائِرِ المَلائِكَةِ في القُرْآنِ ﴿قُلْ مَن كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ﴾ [البَقَرَةِ: ٩٧] ولِأنَّ جِبْرِيلَ صاحِبُ الوَحْيِ والعِلْمِ، ومِيكائِيلَ صاحِبُ الأرْزاقِ والأغْذِيَةِ، والعِلْمُ الَّذِي هو الغِذاءُ الرُّوحانِيُّ أشْرَفُ مِنَ الغِذاءِ الجُسْمانِيِّ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ أشْرَفَ مِن مِيكائِيلَ. الثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى جَعَلَهُ ثانِيَ نَفْسِهِ ﴿فَإنَّ اللَّهَ هو مَوْلاهُ وجِبْرِيلُ وصالِحُ المُؤْمِنِينَ﴾ [التَّحْرِيمِ: ٤] . الرّابِعُ: سَمّاهُ رُوحَ القُدُسِ، قالَ في حَقِّ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿إذْ أيَّدْتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ﴾ [المائِدَةِ: ١١٠] . الخامِسُ: يَنْصُرُ أوْلِياءَ اللَّهِ ويَقْهَرُ أعْداءَهُ مَعَ ألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مَسُوِّمِينَ. السّادِسُ: أنَّهُ تَعالى مَدَحَهُ بِصِفاتٍ سِتٍّ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾ ﴿ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ﴾ ﴿مُطاعٍ ثَمَّ أمِينٍ﴾ [التَّكْوِيرِ: ١٩ - ٢١] فَرِسالَتُهُ أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى جَمِيعِ الأنْبِياءِ، فَجَمِيعُ (p-١٥٠)الأنْبِياءِ والرُّسُلِ أُمَّتُهُ وكَرَمُهُ عَلى رَبِّهِ أنَّهُ جَعَلَهُ واسِطَةً بَيْنَهُ وبَيْنَ أشْرَفِ عِبادِهِ وهُمُ الأنْبِياءُ، وقُوَّتُهُ أنَّهُ رَفَعَ مَدائِنَ قَوْمِ لُوطٍ إلى السَّماءِ وقَلَبَها،، ومَكانَتُهُ عِنْدَ اللَّهِ أنَّهُ جَعَلَهُ ثانِيَ نَفْسِهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنَّ اللَّهَ هو مَوْلاهُ وجِبْرِيلُ وصالِحُ المُؤْمِنِينَ﴾ [التَّحْرِيمِ: ٤]، وكَوْنُهُ مُطاعًا أنَّهُ إمامُ المَلائِكَةِ ومُقْتَداهم، وأمّا كَوْنُهُ أمِينًا فَهو قَوْلُهُ: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ﴾ ﴿عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ﴾ [الشُّعَراءِ: ١٩٣ - ١٩٤]، ومِن جُمْلَةِ أكابِرِ المَلائِكَةِ إسْرافِيلُ وعِزْرائِيلُ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِما، وقَدْ ثَبَتَ وُجُودُهُما بِالأخْبارِ، وثَبَتَ بِالخَبَرِ أنَّ عِزْرائِيلَ هو مَلَكُ المَوْتِ عَلى ما قالَ تَعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفّاكم مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ [السَّجْدَةِ: ١١] وأمّا قَوْلُهُ: ﴿حَتّى إذا جاءَ أحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا﴾ [الأنْعامِ: ٦١] فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلى وُجُودِ مَلائِكَةٍ مُوَكَّلِينَ بِقَبْضِ الأرْواحِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَلَكُ المَوْتِ رَئِيسَ جَماعَةٍ وُكِّلُوا عَلى قَبْضِ الأرْواحِ قالَ تَعالى: ﴿ولَوْ تَرى إذْ يَتَوَفّى الَّذِينَ كَفَرُوا المَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهم وأدْبارَهُمْ﴾ [الأنْفالِ: ٥٠] . وأمّا إسْرافِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَدْ دَلَّتِ الأخْبارُ عَلى أنَّهُ صاحِبُ الصُّورِ عَلى ما قالَ تَعالى: ﴿ونُفِخَ في الصُّورِ فَصَعِقَ مَن في السَّماواتِ ومَن في الأرْضِ إلّا مَن شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإذا هم قِيامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [الزُّمَرِ: ٦٨] . ورابِعُها: مَلائِكَةُ الجَنَّةِ قالَ تَعالى: ﴿والمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِن كُلِّ بابٍ﴾ ﴿سَلامٌ عَلَيْكم بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبى الدّارِ﴾ [الرَّعْدِ: ٢٣، ٢٤] . وخامِسُها: مَلائِكَةُ النّارِ قالَ تَعالى: ﴿عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ [المُدَّثِّرِ: ٣٠] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما جَعَلْنا أصْحابَ النّارِ إلّا مَلائِكَةً﴾ [المُدَّثِّرِ: ٣١] ورَئِيسُهم مالِكٌ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ونادَوْا يامالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٧٧] وأسْماءُ جُمْلَتِهِمُ الزَّبانِيَةُ قالَ تَعالى: ﴿فَلْيَدْعُ نادِيَهُ﴾ ﴿سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ﴾ [العَلَقِ: ١٧، ١٨] . وسادِسُها: المُوَكَّلُونَ بِبَنِي آدَمَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَنِ اليَمِينِ وعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ﴾ ﴿ما يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إلّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق ١٧، ١٨] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّباتٌ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِن أمْرِ اللَّهِ﴾ [الرَّعْدِ: ١١] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهُوَ القاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ويُرْسِلُ عَلَيْكم حَفَظَةً﴾ [الأنْعامِ: ٦١] . وسابِعُها: كَتَبَةُ الأعْمالِ وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنَّ عَلَيْكم لَحافِظِينَ﴾ ﴿كِرامًا كاتِبِينَ﴾ ﴿يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ﴾ [الِانْفِطارِ: ١٠ - ١٢] . وثامِنُها: المُوَكَّلُونَ بِأحْوالِ هَذا العالَمِ وهُمُ المُرادُونَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والصّافّاتِ صَفًّا﴾ [الصّافّاتِ: ١] وبِقَوْلِهِ: ﴿والذّارِياتِ ذَرْوًا﴾ [الذّارِياتِ: ١] إلى قَوْلِهِ: ﴿فالمُقَسِّماتِ أمْرًا﴾ [الذّارِياتِ: ٤] وبِقَوْلِهِ: ﴿والنّازِعاتِ غَرْقًا﴾ [النّازِعاتِ: ١] . وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: إنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً سِوى الحَفَظَةِ يَكْتُبُونَ ما يَسْقُطُ مِن ورَقِ الأشْجارِ، فَإذا أصابَ أحَدَكم حَرِجَةٌ بِأرْضِ فَلاةٍ فَلْيُنادِ: أعِينُوا عِبادَ اللَّهِ يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ. * * * وأمّا أوْصافُ المَلائِكَةِ فَمِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ المَلائِكَةَ رُسُلُ اللَّهِ، قالَ تَعالى: ﴿جاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلًا﴾ [فاطِرٍ: ١] أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلًا﴾ [الحَجِّ: ٧٥] فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ بَعْضَ المَلائِكَةِ هُمُ الرُّسُلُ فَقَطْ، وجَوابُهُ أنَّ ”مِن“ لِلتَّبْيِينِ لا لِلتَّبْعِيضِ. وثانِيها: قُرْبُهم مِنَ اللَّهِ تَعالى، وذَلِكَ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ بِالمَكانِ والجِهَةِ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا أنْ يَكُونَ ذَلِكَ القُرْبُ هو القُرْبُ بِالشَّرَفِ وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ومَن عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ﴾ [الأنْبِياءِ: ١٩] وقَوْلِهِ: ﴿بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ﴾ [الأنْبِياءِ: ٢٦] وقَوْلِهِ: ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ﴾ وثالِثُها: وصْفُ طاعاتِهِمْ وذَلِكَ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى حِكايَةً عَنْهم ﴿ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ﴾ وقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: (p-١٥١)﴿وإنّا لَنَحْنُ الصّافُّونَ﴾ ﴿وإنّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ﴾ [الصّافّاتِ: ١٦٥ - ١٦٦] واللَّهُ تَعالى ما كَذَّبَهم في ذَلِكَ فَثَبَتَ بِها مُواظَبَتُهم عَلى العِبادَةِ. الثّانِي: مُبادَرَتُهم إلى امْتِثالِ أمْرِ اللَّهِ تَعْظِيمًا لَهُ وهو قَوْلُهُ: ﴿فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهم أجْمَعُونَ﴾ [الحِجْرِ: ٣٠] . الثّالِثُ: أنَّهم لا يَفْعَلُونَ شَيْئًا إلّا بِوَحْيِهِ وأمْرِهِ وهو قَوْلُهُ: ﴿لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وهم بِأمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنْبِياءِ: ٢٧] . ورابِعُها: وصْفُ قُدْرَتِهِمْ وذَلِكَ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ حَمَلَةَ العَرْشِ وهم ثَمانِيَةٌ يَحْمِلُونَ العَرْشَ والكُرْسِيَّ، ثُمَّ إنَّ الكُرْسِيَّ الَّذِي هو أصْغَرُ مِنَ العَرْشِ أعْظَمُ مِن جُمْلَةِ السَّماواتِ السَّبْعِ، لِقَوْلِهِ: ﴿وسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٥٥] فانْظُرْ إلى نِهايَةِ قُدْرَتِهِمْ وقُوَّتِهِمْ. الثّانِي: أنَّ عُلُوَّ العَرْشِ شَيْءٌ لا يُحِيطُ بِهِ الوَهْمُ ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿تَعْرُجُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ إلَيْهِ في يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ﴾ [المَعارِجِ: ٤] ثُمَّ إنَّهم لِشِدَّةِ قُدْرَتِهِمْ يَنْزِلُونَ مِنهُ في لَحْظَةٍ واحِدَةٍ، الثّالِثُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ونُفِخَ في الصُّورِ فَصَعِقَ مَن في السَّماواتِ ومَن في الأرْضِ إلّا مَن شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإذا هم قِيامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [الزُّمَرِ: ٦٨] فَصاحِبُ الصُّورِ يَبْلُغُ في القُوَّةِ إلى حَيْثُ أنَّ بِنَفْخَةٍ واحِدَةٍ مِنهُ يُصْعَقُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ، وبِالنَّفْخَةِ الثّانِيَةِ مِنهُ يَعُودُونَ أحْياءً. فاعْرِفْ مِنهُ عِظَمَ هَذِهِ القُوَّةِ. والرّابِعُ: أنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ بَلَغَ في قُوَّتِهِ إلى أنْ قَلَعَ جِبالَ آلِ لُوطٍ وبِلادَهم دَفْعَةً واحِدَةً. وخامِسُها: وصْفُ خَوْفِهِمْ ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: أنَّهم مَعَ كَثْرَةِ عِباداتِهِمْ وعَدَمِ إقْدامِهِمْ عَلى الزَّلّاتِ البَتَّةَ يَكُونُونَ خائِفِينَ وجِلِينَ حَتّى كَأنَّ عِبادَتَهم مَعاصِي قالَ تَعالى: ﴿يَخافُونَ رَبَّهم مِن فَوْقِهِمْ﴾ [النَّحْلِ: ٥٠] وقالَ: ﴿وهم مِن خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنْبِياءِ: ٢٨] . الثّانِي: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى إذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكم قالُوا الحَقَّ وهو العَلِيُّ الكَبِيرُ﴾ [سَبَأٍ: ٢٣] رُوِيَ في التَّفْسِيرِ أنَّ اللَّهَ تَعالى إذا تَكَلَّمَ بِالوَحْيِ سَمِعَهُ أهْلُ السَّماواتِ مِثْلَ صَوْتِ السِّلْسِلَةِ عَلى الصَّفْوانِ فَفَزِعُوا، فَإذا انْقَضى الوَحْيُ قالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: ماذا قالَ رَبُّكم ؟ قالُوا: الحَقُّ وهو العَلِيُّ الكَبِيرُ. الثّالِثُ: رَوى البَيْهَقِيُّ في ”شُعَبِ الإيمانِ“ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «بَيْنَما رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِناحِيَةٍ ومَعَهُ جِبْرِيلُ إذِ انْشَقَّ أُفُقُ السَّماءِ فَأقْبَلَ جِبْرِيلُ يَتَضاءَلُ ويَدْخُلُ بَعْضُهُ في بَعْضٍ ويَدْنُو مِنَ الأرْضِ، فَإذا مَلَكٌ قَدْ مَثُلَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: يا مُحَمَّدُ إنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلامَ ويُخَيِّرُكَ بَيْنَ أنْ تَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا وبَيْنَ أنْ تَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا، قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: فَأشارَ إلَيَّ جِبْرِيلُ بِيَدِهِ أنْ تَواضَعْ، فَعَرَفْتُ أنَّهُ لِي ناصِحٌ، فَقُلْتُ: عَبْدًا نَبِيًّا، فَعَرَجَ ذَلِكَ المَلَكُ إلى السَّماءِ فَقُلْتُ: يا جِبْرِيلُ قَدْ كُنْتُ أرَدْتُ أنْ أسْألَكَ عَنْ هَذا فَرَأيْتُ مِن حالِكَ ما شَغَلَنِي عَنِ المَسْألَةِ فَمَن هَذا يا جِبْرِيلُ ؟ فَقالَ: هَذا إسْرافِيلُ خَلَقَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ صافًّا قَدَمَيْهِ لا يَرْفَعُ طَرْفَهُ، وبَيْنَ الرَّبِّ وبَيْنَهُ سَبْعُونَ نُورًا ما مِنها نُورٌ يَدْنُو مِنهُ إلّا احْتَرَقَ، وبَيْنَ يَدَيْهِ اللَّوْحُ المَحْفُوظُ، فَإذا أذِنَ اللَّهُ لَهُ في شَيْءٍ مِنَ السَّماءِ أوْ مِنَ الأرْضِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ اللَّوْحُ بِقُرْبِ جَبِينِهِ فَيَنْظُرُ فِيهِ، فَإنْ كانَ مِن عَمَلِي أمَرَنِي بِهِ، وإنْ كانَ مِن عَمَلِ مِيكائِيلَ أمَرَهُ بِهِ، وإنْ كانَ مِن عَمَلِ مَلَكِ المَوْتِ أمَرَهُ بِهِ. قُلْتُ: يا جِبْرِيلُ عَلى أيِّ شَيْءٍ أنْتَ ؟ قالَ: عَلى الرِّياحِ والجُنُودِ. قُلْتُ: عَلى أيِّ شَيْءِ مِيكائِيلُ ؟ قالَ: عَلى النَّباتِ. قُلْتُ: عَلى أيِّ شَيْءٍ مَلَكُ المَوْتِ ؟ قالَ: عَلى قَبْضِ الأنْفُسِ، وما ظَنَنْتُ أنَّهُ هَبَطَ إلّا لِقِيامِ السّاعَةِ، وما ذاكَ الَّذِي رَأيْتَ مِنِّي إلّا خَوْفًا مِن قِيامِ السّاعَةِ» . واعْلَمْ أنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ كَلامِ اللَّهِ وكَلامِ رَسُولِهِ كَلامٌ في وصْفِ المَلائِكَةِ أعْلى وأجَلُّ مِن كَلامِ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ، قالَ في بَعْضِ خُطَبِهِ: ثُمَّ فَتَقَ ما بَيْنَ السَّماواتِ العُلا فَمَلَأهُنَّ أطْوارًا مِن مَلائِكَةٍ فَمِنهم سُجُودٌ لا يَرْكَعُونَ، ورُكُوعٌ لا يَنْتَصِبُونَ، وصافُّونَ لا يَتَزايَلُونَ، ومُسَبِّحُونَ لا يَسْأمُونَ، لا يَغْشاهم نَوْمُ العُيُونِ ولا سَهْوُ العُقُولِ، ولا فَتْرَةُ الأبْدانِ، ولا غَفْلَةُ النِّسْيانِ، ومِنهم أُمَناءُ عَلى وحْيِهِ وألْسِنَةٌ إلى رُسُلِهِ، ومُخْتَلِفُونَ بِقَضائِهِ وأمْرِهِ، ومِنهُمُ الحَفَظَةُ لِعِبادِهِ، والسَّدَنَةُ لِأبْوابِ جِنانِهِ، ومِنهُمُ الثّابِتَةُ في الأرَضِينَ (p-١٥٢)السُّفْلى أقْدامُهم، والمارِقَةُ مِنَ السَّماءِ العُلْيا أعْناقُهم، والخارِجَةُ مِنَ الأقْطارِ أرْكانُهم، والمُناسِبَةُ لِقَوائِمِ العَرْشِ أكْتافُهم، ناكِسَةً دُونَهُ أبْصارُهم، مُتَلَفِّعُونَ بِأجْنِحَتِهِمْ، مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهم وبَيْنَ مَن دُونَهم حُجُبُ العِزَّةِ وأسْتارُ القُدْرَةِ، لا يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهم بِالتَّصْوِيرِ، ولا يُجْرُونَ عَلَيْهِ صِفاتِ المَصْنُوعِينَ، ولا يَحُدُّونَهُ بِالأماكِنِ، ولا يُشِيرُونَ إلَيْهِ بِالنَّظائِرِ. * * * المَسْألَةُ الخامِسَةُ: اخْتَلَفُوا في أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: ﴿وإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ كُلُّ المَلائِكَةِ أوْ بَعْضُهم، فَرَوى الضَّحّاكُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى إنَّما قالَ هَذا القَوْلَ لِلْمَلائِكَةِ الَّذِينَ كانُوا مُحارِبِينَ مَعَ إبْلِيسَ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا أسْكَنَ الجِنَّ الأرْضَ فَأفْسَدُوا فِيها وسَفَكُوا الدِّماءَ وقَتَلَ بَعْضُهم بَعْضًا، بَعَثَ اللَّهُ إبْلِيسَ في جُنْدٍ مِنَ المَلائِكَةِ فَقَتَلَهم إبْلِيسُ بِعَسْكَرِهِ حَتّى أخْرَجُوهم مِنَ الأرْضِ، وألْحَقُوهم بِجَزائِرِ البَحْرِ فَقالَ تَعالى لَهم: ﴿إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ . وقالَ الأكْثَرُونَ مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ: إنَّهُ تَعالى قالَ ذَلِكَ لِجَماعَةِ المَلائِكَةِ مِن غَيْرِ تَخْصِيصٍ؛ لِأنَّ لَفْظَ المَلائِكَةِ يُفِيدُ العُمُومَ فَيَكُونُ التَّخْصِيصُ خِلافَ الأصْلِ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: جاعِلٌ مِن جَعَلَ الَّذِي لَهُ مَفْعُولانِ دَخَلَ عَلى المُبْتَدَأِ والخَبَرِ وهُما قَوْلُهُ: ﴿فِي الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ فَكانا مَفْعُولَيْنِ، ومَعْناهُ مُصَيِّرٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً. المَسْألَةُ السّابِعَةُ: الظّاهِرُ أنَّ الأرْضَ الَّتِي في الآيَةِ جَمِيعُ الأرْضِ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ، ورَوى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سابِطٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «دُحِيَتِ الأرْضُ مِن مَكَّةَ وكانَتِ المَلائِكَةُ تَطُوفُ بِالبَيْتِ، وهم أوَّلُ مَن طافَ بِهِ، وهو في الأرْضِ الَّتِي قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً»﴾ والأوَّلُ أقْرَبُ إلى الظّاهِرِ. المَسْألَةُ الثّامِنَةُ: الخَلِيفَةُ مَن يَخْلُفُ غَيْرَهُ ويَقُومُ مَقامَهُ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْناكم خَلائِفَ في الأرْضِ﴾ [يُونُسَ: ١٤] . ﴿واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكم خُلَفاءَ﴾ [الأعْرافِ: ٦٩] فَأمّا أنَّ المُرادَ بِالخَلِيفَةِ مَن ؟ فَفِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ. وقَوْلُهُ: ﴿أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها﴾ المُرادُ ذُرِّيَّتُهُ لا هو. والثّانِي: أنَّهُ ولَدُ آدَمَ، أمّا الَّذِينَ قالُوا: المُرادُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا في أنَّهُ تَعالى لِمَ سَمّاهُ خَلِيفَةً ؟ وذَكَرُوا فِيهِ وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: بِأنَّهُ تَعالى لَمّا نَفى الجِنَّ مِنَ الأرْضِ وأسْكَنَ آدَمَ الأرْضَ كانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ خَلِيفَةً لِأُولَئِكَ الجِنِّ الَّذِينَ تَقَدَّمُوهُ، يُرْوى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. الثّانِي: إنَّما سَمّاهُ اللَّهُ خَلِيفَةً؛ لِأنَّهُ يَخْلُفُ اللَّهَ في الحُكْمِ بَيْنَ المُكَلَّفِينَ مِن خَلْقِهِ وهو المَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وابْنِ عَبّاسٍ، والسُّدِّيِّ، وهَذا الرَّأْيُ مُتَأكَّدٌ بِقَوْلِهِ: ﴿إنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً في الأرْضِ فاحْكم بَيْنَ النّاسِ بِالحَقِّ﴾ [ص: ٢٦] أمّا الَّذِينَ قالُوا: المُرادُ ولَدُ آدَمَ، فَقالُوا: إنَّما سَمّاهم خَلِيفَةً؛ لِأنَّهم يَخْلُفُ بَعْضُهم بَعْضًا، وهو قَوْلُ الحَسَنِ ويُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ: ﴿وهُوَ الَّذِي جَعَلَكم خَلائِفَ الأرْضِ﴾ [الأنْعامِ: ١٦٥]، والخَلِيفَةُ اسْمٌ يَصْلُحُ لِلْواحِدِ والجَمْعِ كَما يَصْلُحُ لِلذَّكَرِ والأُنْثى، وقُرِئَ خَلِيقَةً بِالقافِ، فَإنْ قِيلَ: ما الفائِدَةُ في أنْ قالَ اللَّهُ تَعالى لِلْمَلائِكَةِ: ﴿إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ مَعَ أنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الحاجَةِ إلى المَشُورَةِ ؟ والجَوابُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى عَلِمَ أنَّهم إذا اطَّلَعُوا عَلى ذَلِكَ السِّرِّ أوْرَدُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ السُّؤالَ، فَكانَتِ المَصْلَحَةُ تَقْتَضِي إحاطَتَهم بِذَلِكَ الجَوابِ، فَعَرَّفَهم هَذِهِ الواقِعَةَ لِكَيْ يُورِدُوا ذَلِكَ السُّؤالَ ويَسْمَعُوا ذَلِكَ الجَوابَ. الوَجْهُ الثّانِي: أنَّهُ تَعالى عَلَّمَ عِبادَهُ المُشاوَرَةَ. * * * وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالُوا أتَجْعَلُ فِيها﴾ إلى آخِرِ الآيَةِ، فَفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: الجُمْهُورُ الأعْظَمُ مِن عُلَماءِ الدِّينِ اتَّفَقُوا عَلى عِصْمَةِ كُلِّ المَلائِكَةِ عَنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ ومِنَ الحَشْوِيَّةِ مَن خالَفَ في ذَلِكَ ولَنا وُجُوهٌ:(p-١٥٣) الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أمَرَهم ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ [التَّحْرِيمِ: ٦] إلّا أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مُخْتَصَّةٌ بِمَلائِكَةِ النّارِ، فَإذا أرَدْنا الدَّلالَةَ العامَّةَ تَمَسَّكْنا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَخافُونَ رَبَّهم مِن فَوْقِهِمْ ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ [النَّحْلِ: ٥٠] فَقَوْلُهُ: ﴿ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ يَتَناوَلُ جَمِيعَ فِعْلِ المَأْمُوراتِ وتَرْكَ المَنهِيّاتِ؛ لِأنَّ المَنهِيَّ عَنِ الشَّيْءِ مَأْمُورٌ بِتَرْكِهِ، فَإنْ قِيلَ: ما الدَّلِيلُ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ يُفِيدُ العُمُومَ ؟ قُلْنا: لِأنَّهُ لا شَيْءَ مِنَ المَأْمُوراتِ إلّا ويَصِحُّ الِاسْتِثْناءُ مِنهُ، والِاسْتِثْناءُ يُخْرِجُ مِنَ الكَلامِ ما لَوْلاهُ لَدَخَلَ عَلى ما بَيَّنّاهُ في أُصُولِ الفِقْهِ. والثّانِي: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ﴾ ﴿لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وهم بِأمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنْبِياءِ: ٢٦ - ٢٧ ] فَهَذا صَرِيحٌ في بَراءَتِهِمْ عَنِ المَعاصِي، وكَوْنِهِمْ مُتَوَقِّفِينَ في كُلِّ الأُمُورِ إلّا بِمُقْتَضى الأمْرِ والوَحْيِ. والثّالِثُ: أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْهم أنَّهم طَعَنُوا في البَشَرِ بِالمَعْصِيَةِ ولَوْ كانُوا مِنَ العُصاةِ لَما حَسُنَ مِنهم ذَلِكَ الطَّعْنُ. الرّابِعُ: أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْهم أنَّهم يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ، ومَن كانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ صُدُورُ المَعْصِيَةِ مِنهُ، واحْتَجَّ المُخالِفُ بِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى حَكى عَنْهم أنَّهم قالُوا: ﴿أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ﴾ وهَذا يَقْتَضِي صُدُورَ الذَّنْبِ عَنْهم، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّ قَوْلَهم: أتَجْعَلُ فِيها هَذا اعْتِراضٌ عَلى اللَّهِ تَعالى، وذَلِكَ مِن أعْظَمِ الذُّنُوبِ. وثانِيها: أنَّهم طَعَنُوا في بَنِي آدَمَ بِالفَسادِ والقَتْلِ وذَلِكَ غِيبَةٌ، والغِيبَةُ مِن كَبائِرِ الذُّنُوبِ. وثالِثُها: أنَّهم بَعْدَ أنْ طَعَنُوا في بَنِي آدَمَ مَدَحُوا أنْفُسَهم بِقَوْلِهِمْ: ﴿ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ﴾ وأنَّهم قالُوا: ﴿وإنّا لَنَحْنُ الصّافُّونَ﴾ ﴿وإنّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ﴾ [الصّافّاتِ: ١٦٥- ١٦٦] وهَذا لِلْحَصْرِ، فَكَأنَّهم نَفَوْا كَوْنَ غَيْرِهِمْ كَذَلِكَ، وهَذا يُشْبِهُ العُجْبَ والغِيبَةَ وهو مِنَ الذُّنُوبِ المُهْلِكَةِ، قالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: («ثَلاثٌ مُهْلِكاتٌ، وذَكَرَ فِيها إعْجابَ المَرْءِ بِنَفْسِهِ» ) . وقالَ تَعالى: ﴿فَلا تُزَكُّوا أنْفُسَكُمْ﴾ [النَّجْمِ: ٣٢] . ورابِعُها: أنَّ قَوْلَهم: لا عِلْمَ لَنا إلّا ما عَلَّمْتَنا يُشْبِهُ الِاعْتِذارَ فَلَوْلا تَقَدُّمُ الذَّنْبِ وإلّا لَما اشْتَغَلُوا بِالعُذْرِ. وخامِسُها: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿أنْبِئُونِي بِأسْماءِ هَؤُلاءِ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [البَقَرَةِ: ٣١] يَدُلُّ عَلى أنَّهم كانُوا كاذِبِينَ فِيما قالُوهُ أوَّلًا. وسادِسُها: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ألَمْ أقُلْ لَكم إنِّي أعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ والأرْضِ وأعْلَمُ ما تُبْدُونَ وما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البَقَرَةِ: ٣٣] يَدُلُّ عَلى أنَّ المَلائِكَةَ ما كانُوا عالِمِينَ بِذَلِكَ قَبْلَ هَذِهِ الواقِعَةِ، وأنَّهم كانُوا شاكِّينَ في كَوْنِ اللَّهِ تَعالى عالِمًا بِكُلِّ المَعْلُوماتِ. وسابِعُها: أنَّ عِلْمَهم يُفْسِدُونَ ويَسْفِكُونَ الدِّماءَ، إمّا أنْ يَكُونَ قَدْ حَصَلَ بِالوَحْيِ إلَيْهِمْ في ذَلِكَ أوْ قالُوهُ اسْتِنْباطًا، والأوَّلُ بَعِيدٌ؛ لِأنَّهُ إذا أوْحى اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ إلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ لِإعادَةِ ذَلِكَ الكَلامِ فائِدَةٌ، فَثَبَتَ أنَّهم قالُوهُ عَنِ الِاسْتِنْباطِ والظَّنِّ، والقَدْحُ في الغَيْرِ عَلى سَبِيلِ الظَّنِّ غَيْرُ جائِزٍ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسْراءِ: ٣٦] وقالَ: ﴿وإنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا﴾ [النَّجْمِ: ٢٨] . وثامِنُها: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ما أنَّهُ قالَ: إنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى قالَ لِلْمَلائِكَةِ الَّذِينَ كانُوا جُنْدَ إبْلِيسَ في مُحارَبَةِ الجِنِّ: ﴿إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ فَقالَتِ المَلائِكَةُ مُجِيبِينَ لَهُ سُبْحانَهُ: (p-١٥٤)﴿أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها﴾ ثُمَّ عَلِمُوا غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَقالُوا: ﴿سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا﴾ [البَقَرَةِ: ٣٢] ورُوِيَ عَنِ الجِنِّ وقَتادَةَ أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا أخَذَ في خَلْقِ آدَمَ هَمَسَتِ المَلائِكَةُ فِيما بَيْنَهم وقالُوا: لِيَخْلُقْ رَبُّنا ما شاءَ أنْ يَخْلُقَ فَلَنْ يَخْلُقَ خَلْقًا إلّا كُنّا أعْظَمَ مِنهُ وأكْرَمَ عَلَيْهِ، فَلَمّا خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وفَضَّلَهُ عَلَيْهِمْ ﴿وعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهم عَلى المَلائِكَةِ فَقالَ أنْبِئُونِي بِأسْماءِ هَؤُلاءِ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [البَقَرَةِ: ٣١] في أنِّي لا أخْلُقُ خَلْقًا إلّا وأنْتُمْ أفْضَلُ مِنهُ فَفَزِعَ القَوْمُ عِنْدَ ذَلِكَ إلى التَّوْبَةِ و﴿قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا﴾ [البَقَرَةِ: ٣٢] وفي بَعْضِ الرِّواياتِ أنَّهم لَمّا قالُوا: أتَجْعَلُ فِيها، أرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نارًا فَأحْرَقَتْهم. الشُّبْهَةُ الثّانِيَةُ: تَمَسَّكُوا بِقِصَّةِ هارُوتَ ومارُوتَ، وزَعَمُوا أنَّهُما كانا مَلَكَيْنِ مِنَ المَلائِكَةِ، وأنَّهُما لَمّا نَظَرا إلى ما يَصْنَعُ أهْلُ الأرْضِ مِنَ المَعاصِي أنْكَرا ذَلِكَ وأكْبَراهُ ودَعَوا عَلى أهْلِ الأرْضِ، فَأوْحى اللَّهُ تَعالى إلَيْهِما إنِّي لَوِ ابْتَلَيْتُكُما بِما ابْتَلَيْتُ بِهِ بَنِي آدَمَ مِنَ الشَّهَواتِ لَعَصَيْتُمانِي، فَقالا: يا رَبِّ لَوِ ابْتَلَيْتَنا لَمْ نَفْعَلْ فَجَرِّبْنا، فَأهْبَطَهُما إلى الأرْضِ وابْتَلاهُما اللَّهُ بِشَهَواتِ بَنِي آدَمَ، فَمَكَثا في الأرْضِ، وأمَرَ اللَّهُ الكَوْكَبَ المُسَمّى بِالزُّهَرَةِ والمَلَكَ المُوَكَّلَ بِهِ فَهَبَطا إلى الأرْضِ، فَجُعِلَتِ الزُّهَرَةُ في صُورَةِ امْرَأةٍ والمَلَكُ في صُورَةِ رَجُلٍ، ثُمَّ إنَّ الزُّهَرَةَ اتَّخَذَتْ مَنزِلًا وزَيَّنَتْ نَفْسَها ودَعَتْهُما إلى نَفْسِها، ونَصَبَ المَلَكُ نَفْسَهُ في مَنزِلِها في مِثالِ صَنَمٍ، فَأقْبَلا إلى مَنزِلِها ودَعَواها إلى الفاحِشَةِ، فَأبَتْ عَلَيْهِما إلّا أنْ يَشْرَبا خَمْرًا، فَقالا: لا نَشْرَبُ الخَمْرَ، ثُمَّ غَلَبَتِ الشَّهْوَةُ عَلَيْهِما فَشَرِبا، ثُمَّ دَعَواها إلى ذَلِكَ، فَقالَتْ: بَقِيَتْ خَصْلَةٌ لَسْتُ أُمْكِنُكُما مِن نَفْسِي حَتّى تَفْعَلاها، قالا: وما هي ؟ قالَتْ: تَسْجُدانِ لِهَذا الصَّنَمِ، فَقالا: لا نُشْرِكُ بِاللَّهِ، ثُمَّ غَلَبَتِ الشَّهْوَةُ عَلَيْهِما فَقالا: نَفْعَلُ ثُمَّ نَسْتَغْفِرُ، فَسَجَدا لِلصَّنَمِ فارْتَفَعَتِ الزُّهَرَةُ ومَلَكُها إلى مَوْضِعِهِما مِنَ السَّماءِ، فَعَرَفا حِينَئِذٍ أنَّهُ إنَّما أصابَهُما ذَلِكَ بِسَبَبِ تَعْيِيرِ بَنِي آدَمَ، وفي رِوايَةٍ أُخْرى أنَّ الزُّهَرَةَ كانَتْ فاجِرَةً مِن أهْلِ الأرْضِ، وإنَّما واقَعاها بَعْدَ أنْ شَرِبا الخَمْرَ، وقَتَلا النَّفْسَ، وسَجَدا لِلصَّنَمِ، وعَلَّماها الِاسْمَ الأعْظَمَ الَّذِي كانا بِهِ يَعْرُجانِ إلى السَّماءِ، فَتَكَلَّمَتِ المَرْأةُ بِذَلِكَ الِاسْمِ وعَرَجَتْ إلى السَّماءِ، فَمَسَخَها اللَّهُ تَعالى وصَيَّرَها هَذا الكَوْكَبَ المُسَمّى بِالزُّهَرَةِ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعالى عَرَّفَ هارُوتَ ومارُوتَ قَبِيحَ ما فِيهِ وقَعا، ثُمَّ خَيَّرَهُما بَيْنَ عَذابِ الآخِرَةِ آجِلًا وبَيْنَ عَذابِ الدُّنْيا عاجِلًا، فاخْتارا عَذابَ الدُّنْيا، فَجَعَلَهُما بِبابِلَ مَنكُوسَيْنِ في بِئْرٍ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وهُما يُعَلِّمانِ النّاسَ السِّحْرَ ويَدْعُوانِ إلَيْهِ ولا يَراهُما أحَدٌ إلّا مَن ذَهَبَ إلى ذَلِكَ المَوْضِعِ لِتَعَلُّمِ السِّحْرِ خاصَّةً، وتَعَلَّقُوا في ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واتَّبَعُوا ما تَتْلُو الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ﴾ [البَقَرَةِ: ١٠٢] . الشُّبْهَةُ الثّالِثَةُ: أنَّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ المَلائِكَةِ المُقَرَّبِينَ، ثُمَّ إنَّهُ عَصى اللَّهَ تَعالى وكَفَرَ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى صُدُورِ المَعْصِيَةِ مِن جِنْسِ المَلائِكَةِ. الشُّبْهَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما جَعَلْنا أصْحابَ النّارِ إلّا مَلائِكَةً﴾ [المُدَّثِّرِ: ٣١] قالُوا: فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّ المَلائِكَةَ يُعَذَّبُونَ، لِأنَّ أصْحابَ النّارِ لا يَكُونُونَ إلّا مِمَّنْ يُعَذَّبُ فِيها كَما قالَ: ﴿أُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ والجَوابُ عَنِ الشُّبْهَةِ الأُولى أنْ نَقُولَ: أمّا الوَجْهُ الأوَّلُ وهو قَوْلُهم: إنَّهُمُ اعْتَرَضُوا عَلى اللَّهِ تَعالى، وهَذا مِن أعْظَمِ الذُّنُوبِ، فَنَقُولُ: إنَّهُ لَيْسَ غَرَضُهم مِن ذَلِكَ السُّؤالِ تَنْبِيهُ اللَّهِ عَلى شَيْءٍ كانَ غافِلًا عَنْهُ، فَإنَّ مَنِ اعْتَقَدَ ذَلِكَ في اللَّهِ فَهو كافِرٌ، ولا الإنْكارُ عَلى اللَّهِ تَعالى في فِعْلٍ فَعَلَهُ، بَلِ المَقْصُودُ مِن ذَلِكَ السُّؤالِ أُمُورٌ: (p-١٥٥)أحَدُها: أنَّ الإنْسانَ إذا كانَ قاطِعًا بِحِكْمَةِ غَيْرِهِ، ثُمَّ رَأى أنَّ ذَلِكَ الغَيْرَ يَفْعَلُ فِعْلًا لا يَقِفُ عَلى وجْهِ الحِكْمَةِ فِيهِ، فَيَقُولُ لَهُ: أتَفْعَلُ هَذا كَأنَّهُ يَتَعَجَّبُ مِن كَمالِ حِكْمَتِهِ وعِلْمِهِ، ويَقُولُ: إعْطاءُ هَذِهِ النِّعَمِ لِمَن يُفْسِدُ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي لا تَهْتَدِي العُقُولُ فِيها إلى وجْهِ الحِكْمَةِ، فَإذا كُنْتَ تَفْعَلُها واعْلَمْ أنَّكَ لا تَفْعَلُها إلّا لِوَجْهٍ دَقِيقٍ وسِرٍّ غامِضٍ أنْتَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، فَما أعْظَمَ حِكْمَتَكَ وأجَلَّ عِلْمَكَ، فالحاصِلُ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها﴾ كَأنَّهُ تَعَجُّبٌ مِن كَمالِ عِلْمِ اللَّهِ تَعالى وإحاطَةِ حِكْمَتِهِ بِما خَفِيَ عَلى كُلِّ العُقَلاءِ. وثانِيها: أنَّ إيرادَ الإشْكالِ طَلَبًا لِلْجَوابِ غَيْرُ مَحْذُورٍ، فَكَأنَّهم قالُوا: إلَهَنا أنْتَ الحَكِيمُ الَّذِي لا يَفْعَلُ السَّفَهَ البَتَّةَ، ونَحْنُ نَرى في العُرْفِ أنَّ تَمْكِينَ السَّفِيهِ مِنَ السَّفَهِ سَفَهٌ، فَإذا خَلَقْتَ قَوْمًا يُفْسِدُونَ ويَقْتُلُونَ وأنْتَ مَعَ عِلْمِكَ أنَّ حالَهم كَذَلِكَ خَلَقْتَهم ومَكَّنْتَهم وما مَنَعْتَهم عَنْ ذَلِكَ فَهَذا يُوهِمُ السَّفَهَ، وأنْتَ الحَكِيمُ المُطْلَقُ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ الجَمْعُ بَيْنَ الأمْرَيْنِ ؟ فَكَأنَّ المَلائِكَةَ أوْرَدُوا هَذا السُّؤالَ طَلَبًا لِلْجَوابِ، وهَذا جَوابُ المُعْتَزِلَةِ قالُوا: وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ المَلائِكَةَ لَمْ يُجَوِّزُوا صُدُورَ القَبِيحِ مِنَ اللَّهِ تَعالى، وكانُوا عَلى مَذْهَبِ أهْلِ العَدْلِ، قالُوا: والَّذِي يُؤَكِّدُ هَذا الجَوابَ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّهم أضافُوا الفَسادَ وسَفْكَ الدِّماءِ إلى المَخْلُوقِينَ لا إلى الخالِقِ. والثّانِي: أنَّهم قالُوا: ﴿ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ﴾ لِأنَّ التَّسْبِيحَ تَنْزِيهُ ذاتِهِ عَنْ صِفَةِ الأجْسامِ، والتَّقْدِيسَ تَنْزِيهُ أفْعالِهِ عَنْ صِفَةِ الذَّمِّ ونَعْتِ السَّفَهِ. وثالِثُها: أنَّ الشُّرُورَ وإنْ كانَتْ حاصِلَةً في تَرْكِيبِ هَذا العالِمِ السُّفْلِيِّ إلّا أنَّها مِن لَوازِمِ الخَيْراتِ الحاصِلَةِ فِيهِ، وخَيْراتُها غالِبَةٌ عَلى شُرُورِها، وتَرْكُ الخَيْرِ الكَثِيرِ لِأجْلِ الشَّرِّ القَلِيلِ شَرٌّ كَثِيرٌ، فالمَلائِكَةُ ذَكَرُوا تِلْكَ الشُّرُورَ، فَأجابَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿إنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ يَعْنِي أنَّ الخَيْراتِ الحاصِلَةَ مِن أجْلِ تَراكِيبِ العالَمِ السُّفْلِيِّ أكْثَرُ مِنَ الشُّرُورِ الحاصِلَةِ فِيها، والحِكْمَةُ تَقْتَضِي إيجادَ ما هَذا شَأْنُهُ لا تَرْكَهُ، وهَذا جَوابُ الحُكَماءِ. ورابِعُها: أنَّ سُؤالَهم كانَ عَلى وجْهِ المُبالَغَةِ في إعْظامِ اللَّهِ تَعالى فَإنَّ العَبْدَ المُخْلِصَ لِشِدَّةِ حُبِّهِ لِمَوْلاهُ يَكْرَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ عَبْدٌ يَعْصِيهِ. وخامِسُها: أنَّ قَوْلَ المَلائِكَةِ: ﴿أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها﴾ مَسْألَةٌ مِنهم أنْ يَجْعَلَ الأرْضَ أوْ بَعْضَها لَهم إنْ كانَ ذَلِكَ صَلاحًا، فَكَأنَّهم قالُوا: يا إلَهَنا اجْعَلِ الأرْضَ لَنا لا لَهم كَما قالَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿أتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا﴾ [الأعْرافِ: ١٥٥] والمَعْنى لا تُهْلِكْنا، فَقالَ تَعالى: ﴿إنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ مِن صَلاحِكم وصَلاحِ هَؤُلاءِ الَّذِينَ أجْعَلُهم في الأرْضِ، فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أنَّهُ اخْتارَ لَهُمُ السَّماءَ خاصَّةً، ولِهَؤُلاءِ الأرْضَ خاصَّةً لِعِلْمِهِ بِصَلاحِ ذَلِكَ في أدْيانِهِمْ لِيَرْضى كُلُّ فَرِيقٍ بِما اخْتارَهُ اللَّهُ لَهُ. سادِسُها: أنَّهم طَلَبُوا الحِكْمَةَ الَّتِي لِأجْلِها خَلَقَهم مَعَ هَذا الفَسادِ والقَتْلِ. وسابِعُها: قالَ القَفّالُ يُحْتَمَلُ أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا أخْبَرَهم أنَّهُ يَجْعَلُ في الأرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أتَجْعَلُ فِيها، أيْ سَتَفْعَلُ ذَلِكَ فَهو إيجابٌ خَرَجَ مَخْرَجَ الِاسْتِفْهامِ قالَ جَرِيرٌ: ؎ألَسْتُمْ خَيْرَ مَن رَكِبَ المَطايا وأنْدى العالَمِينَ بُطُونَ راحِ أيْ أنْتُمْ كَذَلِكَ، ولَوْ كانَ اسْتِفْهامًا لَمْ يَكُنْ مَدْحًا، ثُمَّ قالَتِ المَلائِكَةُ: إنَّكَ تَفْعَلُ ذَلِكَ، ونَحْنُ مَعَ هَذا نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لِما أنّا نَعْلَمُ أنَّكَ لا تَفْعَلُ إلّا الصَّوابَ والحِكْمَةَ، فَلَمّا قالُوا ذَلِكَ قالَ اللَّهُ تَعالى لَهم: ﴿إنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ كَأنَّهُ قالَ - واللَّهُ أعْلَمُ - نِعْمَ ما فَعَلْتُمْ حَيْثُ لَمْ تَجْعَلُوا ذَلِكَ قادِحًا في حِكْمَتِي، فَإنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ، فَأنْتُمْ عَلِمْتُمْ ظاهِرَهم وهو الفَسادُ والقَتْلُ، وما عَلِمْتُمْ باطِنَهم، وأنا أعْلَمُ ظاهِرَهم وباطِنَهم (p-١٥٦)فَأعْلَمُ مِن بَواطِنِهِمْ أسْرارًا خَفِيَّةً وحِكَمًا بالِغَةً تَقْتَضِي خَلْقَهم وإيجادَهم. أمّا الوَجْهُ الثّانِي: وهو أنَّهم ذَكَرُوا بَنِي آدَمَ بِما لا يَنْبَغِي وهو الغِيبَةُ، فالجَوابُ أنَّ مَحَلَّ الإشْكالِ في خَلْقِ بَنِي آدَمَ إقْدامُهم عَلى الفَسادِ والقَتْلِ، ومَن أرادَ إيرادَ السُّؤالِ وجَبَ أنْ يَتَعَرَّضَ لِمَحَلِّ الإشْكالِ لا لِغَيْرِهِ، فَلِهَذا السَّبَبِ ذَكَرُوا مِن بَنِي آدَمَ هاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، وما ذَكَرُوا مِنهم عِبادَتَهم وتَوْحِيدَهم؛ لِأنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مَحَلَّ الإشْكالِ. أمّا الوَجْهُ الثّالِثُ: وهو أنَّهم مَدَحُوا أنْفُسَهم، وذَلِكَ يُوجِبُ العُجْبَ وتَزْكِيَةَ النَّفْسِ. فالجَوابُ: أنَّ مَدْحَ النَّفْسِ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنهُ مُطْلَقًا لِقَوْلِهِ: ﴿وأمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضُّحى: ١١] وأيْضًا فَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهم: ﴿ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ﴾ لَيْسَ المُرادُ مَدْحَ النَّفْسِ، بَلِ المُرادُ بَيانُ أنَّ هَذا السُّؤالَ ما أوْرَدْناهُ لِنَقْدَحَ بِهِ في حِكْمَتِكَ يا رَبِّ، فَإنّا نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونَعْتَرِفُ لَكَ بِالإلَهِيَّةِ والحِكْمَةِ، فَكَأنَّ الغَرَضَ مِن ذَلِكَ بَيانُ أنَّهم ما أوْرَدُوا السُّؤالَ لِلطَّعْنِ في الحِكْمَةِ والإلَهِيَّةِ، بَلْ لِطَلَبِ وجْهِ الحِكْمَةِ عَلى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ. أمّا الوَجْهُ الرّابِعُ: وهو أنَّ قَوْلَهم: ﴿لا عِلْمَ لَنا إلّا ما عَلَّمْتَنا﴾ [البَقَرَةِ: ٣٢]، يُشْبِهُ الِاعْتِذارَ فَلا بُدَّ مِن سَبْقِ الذَّنْبِ، قُلْنا: نَحْنُ نُسَلِّمُ أنَّ الأوْلى لِلْمَلائِكَةِ أنْ لا يُورِدُوا ذَلِكَ السُّؤالَ، فَلَمّا تَرَكُوا هَذا الأوْلى كانَ ذَلِكَ الِاعْتِذارُ اعْتِذارًا مِن تَرْكِ الأوْلى، فَإنْ قِيلَ: ألَيْسَ أنَّهُ تَعالى قالَ: (﴿لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ﴾ [الأنْبِياءِ: ٢٧] فَهَذا السُّؤالُ وجَبَ أنْ يَكُونَ بِإذْنِ اللَّهِ تَعالى، وإذا كانُوا مَأْذُونِينَ في هَذا السُّؤالِ فَكَيْفَ اعْتَذَرُوا عَنْهُ ؟ قُلْنا العامُّ قَدْ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ التَّخْصِيصُ. أمّا الوَجْهُ الخامِسُ: وهو أنَّ إخْبارَ المَلائِكَةِ عَنِ الفَسادِ وسَفْكِ الدِّماءِ، إمّا أنْ يَكُونَ حَصَلَ عَنِ الوَحْيِ أوْ قالُوهُ اسْتِنْباطًا وظَنًّا، قُلْنا: اخْتَلَفَ العُلَماءُ فِيهِ، فَمِنهم مَن قالَ: إنَّهم ذَكَرُوا ذَلِكَ ظَنًّا ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: وهو مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والكَلْبِيِّ أنَّهم قاسُوهُ عَلى حالِ الجِنِّ الَّذِينَ كانُوا قَبْلَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ في الأرْضِ. الثّانِي: أنَّهم عَرَفُوا خِلْقَتَهُ وعَرَفُوا أنَّهُ مُرَكَّبٌ مِن هَذِهِ الأخْلاطِ الأرْبَعَةِ فَلا بُدَّ وأنْ تَتَرَكَّبَ فِيهِ الشَّهْوَةُ والغَضَبُ، فَيَتَوَلَّدَ الفَسادُ عَنِ الشَّهْوَةِ، وسَفْكُ الدِّماءِ عَنِ الغَضَبِ، ومِنهم مَن قالَ: إنَّهم قالُوا ذَلِكَ عَلى اليَقِينِ وهو مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وناسٍ مِنَ الصَّحابَةِ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: أحَدُها: أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ لِلْمَلائِكَةِ: ﴿إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ قالُوا: رَبَّنا وما يَكُونُ ذَلِكَ الخَلِيفَةُ ؟ قالَ: يَكُونُ لَهُ ذُرِّيَّةٌ يُفْسِدُونَ في الأرْضِ ويَتَحاسَدُونَ، ويَقْتُلُ بَعْضُهم بَعْضًا، فَعِنْدَ ذَلِكَ قالُوا: رَبَّنا أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ ؟ . وثانِيها: أنَّهُ تَعالى كانَ قَدْ أعْلَمَ المَلائِكَةَ أنَّهُ إذا كانَ في الأرْضِ خَلْقٌ عَظِيمٌ أفْسَدُوا فِيها وسَفَكُوا الدِّماءَ. وثالِثُها: قالَ ابْنُ زَيْدٍ لَمّا خَلَقَ اللَّهُ تَعالى النّارَ خافَتِ المَلائِكَةُ خَوْفًا شَدِيدًا فَقالُوا: رَبَّنا لِمَن خَلَقْتَ هَذِهِ النّارَ ؟ قالَ لِمَن عَصانِي مِن خَلْقِي، ولَمْ يَكُنِ لِلَّهِ يَوْمَئِذٍ خَلْقٌ إلّا المَلائِكَةَ، ولَمْ يَكُنْ في الأرْضِ خَلْقٌ البَتَّةَ، فَلَمّا قالَ: ﴿إنِّي جاعِلٌ في الأرْضِ خَلِيفَةً﴾ عَرَفُوا أنَّ المَعْصِيَةَ تَظْهَرُ مِنهم. ورابِعُها: لَمّا كَتَبَ القَلَمُ في اللَّوْحِ ما هو كائِنٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، فَلَعَلَّهم طالَعُوا اللَّوْحَ فَعَرَفُوا ذَلِكَ. وخامِسُها: إذا كانَ مَعْنى الخَلِيفَةِ مَن يَكُونُ نائِبًا لِلَّهِ تَعالى في الحُكْمِ والقَضاءِ، والِاحْتِجاجُ إلى الحاكِمِ والقاضِي إنَّما يَكُونُ عِنْدَ التَّنازُعِ والتَّظالُمِ، كانَ الإخْبارُ عَنْ وُجُودِ الخَلِيفَةِ إخْبارًا عَنْ وُقُوعِ الفَسادِ والشَّرِّ بِطَرِيقِ (p-١٥٧)الِالتِزامِ، قالَ أهْلُ التَّحْقِيقِ: والقَوْلُ بِأنَّهُ كانَ هَذا الإخْبارُ عَنْ مُجَرَّدِ الظَّنِّ - باطِلٌ؛ لِأنَّهُ قَدْحٌ في الغَيْرِ بِما لا يَأْمَنُ أنْ يَكُونَ كاذِبًا فِيهِ، وذَلِكَ يُنافِي العِصْمَةَ والطَّهارَةَ. أمّا الوَجْهُ السّادِسُ: هو الأخْبارُ الَّتِي ذَكَرُوها، فَهي مِن بابِ أخْبارِ الآحادِ فَلا تُعارِضُ الدَّلائِلَ الَّتِي ذَكَرْناها. أمّا الشُّبْهَةُ الثّانِيَةُ: وهي قِصَّةُ هارُوتَ ومارُوتَ، فالجَوابُ عَنْها أنَّ القِصَّةَ الَّتِي ذَكَرُوها باطِلَةٌ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّهم ذَكَرُوا في القِصَّةِ أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ لَهُما: لَوِ ابْتَلَيْتُكُما بِما ابْتَلَيْتُ بِهِ بَنِي آدَمَ لَعَصَيْتُمانِي، فَقالا: لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِنا يا رَبِّ لَما عَصَيْناكَ، وهَذا مِنهم تَكْذِيبٌ لِلَّهِ تَعالى وتَجْهِيلٌ لَهُ، وذَلِكَ مِن صَرِيحِ الكُفْرِ، والحَشْوِيَّةُ سَلَّمُوا أنَّهُما كانا قَبْلَ الهُبُوطِ إلى الأرْضِ مَعْصُومَيْنِ. وثانِيها: في القِصَّةِ أنَّهُما خُيِّرا بَيْنَ عَذابِ الدُّنْيا وعَذابِ الآخِرَةِ، وذَلِكَ فاسِدٌ بَلْ كانَ الأوْلى أنْ يُخَيَّرا بَيْنَ التَّوْبَةِ، وبَيْنَ العَذابِ، واللَّهُ تَعالى خَيَّرَ بَيْنَهُما مَن أشْرَكَ بِهِ طُولَ عُمْرِهِ وبالَغَ في إيذاءِ أنْبِيائِهِ. وثالِثُها: في القِصَّةِ أنَّهُما يُعَلِّمانِ السِّحْرَ حالَ كَوْنِهِما مُعَذَّبَيْنِ ويَدْعُوانِ إلَيْهِ وهُما مُعاقَبانِ عَلى المَعْصِيَةِ. ورابِعُها: أنَّ المَرْأةَ الفاجِرَةَ كَيْفَ يُعْقَلُ أنَّها لَمّا فَجَرَتْ صَعِدَتْ إلى السَّماءِ، وجَعَلَها اللَّهُ تَعالى كَوْكَبًا مُضِيئًا وعَظَّمَ قَدْرَهُ بِحَيْثُ أقْسَمَ بِهِ حَيْثُ قالَ: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِالخُنَّسِ﴾ ﴿الجَوارِي الكُنَّسِ﴾ [التَّكْوِيرِ: ١٥ - ١٦] فَهَذِهِ القِصَّةُ قِصَّةٌ رَكِيكَةٌ يَشْهَدُ كُلُّ عَقْلٍ سَلِيمٍ بِنِهايَةِ رَكاكَتِها، وأمّا الكَلامُ في تَعْلِيمِ السِّحْرِ فَسَيَأْتِي في تَفْسِيرِ تِلْكَ الآيَةِ في مَوْضِعِها إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. وأمّا الشُّبْهَةُ الثّالِثَةُ: فَسَنَتَكَلَّمُ في بَيانِ أنَّ إبْلِيسَ ما كانَ مِنَ المَلائِكَةِ. وأمّا الشُّبْهَةُ الرّابِعَةُ: وهي قَوْلُهُ: ﴿وما جَعَلْنا أصْحابَ النّارِ إلّا مَلائِكَةً﴾ [المُدَّثِّرِ: ٣١] فَهَذا لا يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِمْ مُعَذَّبِينَ في النّارِ، وقَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ [يُونُسَ: ٢٧] لا يَدُلُّ أيْضًا عَلى كَوْنِهِمْ مُعَذَّبِينَ بِالنّارِ بِمُجَرَّدِ هَذِهِ الآيَةِ، بَلْ إنَّما عُرِفَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ آخَرَ فَقَوْلُهُ: ﴿وما جَعَلْنا أصْحابَ النّارِ إلّا مَلائِكَةً﴾ [المُدَّثِّرِ: ٣١] يُرِيدُ بِهِ خَزَنَةَ النّارِ والمُتَصَرِّفِينَ فِيها والمُدَبِّرِينَ لِأمْرِها، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في أنَّ المَلائِكَةَ هَلْ هم قادِرُونَ عَلى المَعاصِي والشُّرُورِ أمْ لا ؟ فَقالَ جُمْهُورُ الفَلاسِفَةِ وكَثِيرٌ مِن أهْلِ الجَبْرِ: إنَّهم خَيْراتٌ مَحْضٌ ولا قُدْرَةَ لَهُمُ البَتَّةَ عَلى الشُّرُورِ والفَسادِ. وقالَ جُمْهُورُ المُعْتَزِلَةِ وكَثِيرٌ مِنَ الفُقَهاءِ: إنَّهم قادِرُونَ عَلى الأمْرَيْنِ واحْتَجُّوا عَلى ذَلِكَ بِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ قَوْلَهم: ﴿أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها﴾ إمّا أنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً أوْ تَرْكَ الأوْلى وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فالمَقْصُودُ حاصِلٌ. وثانِيها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن يَقُلْ مِنهم إنِّي إلَهٌ مِن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾ [الأنْبِياءِ: ٢٩]، وذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهم مَزْجُورِينَ مَمْنُوعِينَ وقالَ أيْضًا: ﴿لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ﴾ [الأعْرافِ: ٢٠٦]، والمَدْحُ بِتَرْكِ الِاسْتِكْبارِ إنَّما يَجُوزُ لَوْ كانَ قادِرًا عَلى فِعْلِ الِاسْتِكْبارِ. وثالِثُها: أنَّهم لَوْ لَمْ يَكُونُوا قادِرِينَ عَلى تَرْكِ الخَيْراتِ لَما كانُوا مَمْدُوحِينَ بِفِعْلِها، لِأنَّ المَلْجَأ إلى الشَّيْءِ، ومَن لا يَقْدِرُ عَلى تَرْكِ الشَّيْءِ لا يَكُونُ مَمْدُوحًا بِفِعْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، ولَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذا بَعْضُ المُعْتَزِلَةِ فَقُلْتُ لَهُ: ألَيْسَ أنَّ الثَّوابَ والعِوَضَ واجِبانِ عَلى اللَّهِ تَعالى ؟ ومَعْنى كَوْنِهِ واجِبًا عَلَيْهِ أنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ لَلَزِمَ مِن تَرْكِهِ إمّا الجَهْلُ وإمّا الحاجَةُ، وهُما مُحالانِ، والمُفْضِي إلى المُحالِ مُحالٌ، فَيَكُونُ ذَلِكَ التَّرْكُ مُحالًا مِنَ اللَّهِ تَعالى، وإذا كانَ التَّرْكُ مُحالًا كانَ الفِعْلُ واجِبًا، فَيَكُونُ اللَّهُ تَعالى فاعِلًا لِلثَّوابِ، والعِوَضُ واجِبٌ وتَرْكُهُ مُحالٌ مَعَ أنَّهُ تَعالى مَمْدُوحٌ عَلى فِعْلِ ذَلِكَ، فَثَبَتَ أنَّ امْتِناعَ التَّرْكِ لا يَقْدَحُ في (p-١٥٨)حُصُولِ المَدْحِ فانْقَطَعَ، وما قَدَرَ عَلى الجَوابِ. * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الواوُ في ﴿ونَحْنُ﴾ لِلْحالِ كَما تَقُولُ: أتُحْسِنُ إلى فُلانٍ وأنا أحَقُّ بِالإحْسانِ، والتَّسْبِيحُ تَبْعِيدُ اللَّهِ تَعالى مِنَ السُّوءِ وكَذا التَّقْدِيسُ، مِن سَبَحَ في الماءِ وقَدَّسَ في الأرْضِ إذا ذَهَبَ فِيها وأبْعَدَ، واعْلَمْ أنَّ التَّبْعِيدَ إنْ أُرِيدَ بِهِ التَّبْعِيدُ عَنِ السُّوءِ فَهو التَّسْبِيحُ، وإنْ أُرِيدَ بِهِ التَّبْعِيدُ عَنِ الخَيْراتِ فَهو اللَّعْنُ، فَنَقُولُ: التَّبْعِيدُ عَنِ السُّوءِ يَدْخُلُ فِيهِ التَّبْعِيدُ عَنِ السُّوءِ في الذّاتِ والصِّفاتِ والأفْعالِ، أمّا في الذّاتِ فَأنْ لا تَكُونَ مَحَلًّا لِلْإمْكانِ، فَإنَّ مَنعَ السُّوءِ وإمْكانَهُ هو العَدَمُ، ونَفْيُ الإمْكانِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الكَثْرَةِ، ونَفْيُها يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الجِسْمِيَّةِ والعَرَضِيَّةِ، ونَفْيَ الضِّدِّ والنِّدِّ، وحُصُولَ الوَحْدَةِ المُطْلَقَةِ، والوُجُوبَ الذّاتِيَّ، وأمّا في الصِّفاتِ فَأنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنِ الجَهْلِ فَيَكُونَ مُحِيطًا بِكُلِّ المَعْلُوماتِ، وقادِرًا عَلى كُلِّ المَقْدُوراتِ، وتَكُونَ صِفاتُهُ مُنَزَّهَةً عَنِ التَّغْيِيراتِ، وأمّا في الأفْعالِ فَأنْ لا تَكُونَ أفْعالُهُ لِجَلْبِ المَنافِعِ ودَفْعِ المَضارِّ، وأنْ لا يَسْتَكْمِلَ بِشَيْءٍ مِنها، ولا يَنْتَقِصَ بِعَدَمِ شَيْءٍ مِنها، فَيَكُونَ مُسْتَغْنِيًا عَنْ كُلِّ المَوْجُوداتِ والمَعْدُوماتِ، مُسْتَوْلِيًا بِالإعْدامِ والإيجادِ عَلى كُلِّ المَوْجُوداتِ والمَعْدُوماتِ، وقالَ أهْلُ التَّذْكِيرِ: التَّسْبِيحُ جاءَ تارَةً في القُرْآنِ بِمَعْنى التَّنْزِيهِ وأُخْرى بِمَعْنى التَّعَجُّبِ. أمّا الأوَّلُ فَجاءَ عَلى وُجُوهٍ: (أ) أنا المُنَزَّهُ عَنِ النَّظِيرِ والشَّرِيكِ، هو اللَّهُ الواحِدُ القَهّارُ. (ب) أنا المُدَبِّرُ لِلسَّماواتِ والأرْضِ سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ والأرْضِ. (ج) أنا المُدَبِّرُ لِكُلِّ العالَمِينَ سُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ العالَمِينَ. (د) أنا المُنَزَّهُ عَنْ قَوْلِ الظّالِمِينَ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ. (ه) أنا المُسْتَغْنِي عَنِ الكُلِّ سُبْحانَهُ هو الغَنِيُّ. (و) أنا السُّلْطانُ الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ سِوائِي فَهو تَحْتَ قَهْرِي وتَسْخِيرِي، فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ. (ز) أنا العالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمّا يَصِفُونَ عالِمِ الغَيْبِ. (ح) أنا المُنَزَّهُ عَنِ الصّاحِبَةِ والوَلَدِ سُبْحانَهُ أنّى يَكُونُ لَهُ ولَدٌ. (ط) أنا المُنَزَّهُ عَنْ وصْفِهِمْ وقَوْلِهِمْ، سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ، عَمّا يَقُولُونَ، عَمّا يَصِفُونَ. أمّا التَّعَجُّبُ فَكَذَلِكَ: (أ) أنا الَّذِي سَخَّرْتُ البَهائِمَ القَوِيَّةَ لِلْبَشَرِ الضَّعِيفِ، سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا. (ب) أنا الَّذِي خَلَقْتُ العالَمَ وكُنْتُ مُنَزَّهًا عَنِ التَّعَبِ والنَّصَبِ، سُبْحانَهُ إذا قَضى أمْرًا. (ج) أنا الَّذِي أعْلَمُ لا بِتَعْلِيمِ المُعَلِّمِينَ ولا بِإرْشادِ المُرْشِدِينَ، سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إلّا ما عَلَّمْتَنا. (د) أنا الَّذِي أُزِيلُ مَعْصِيَةَ سَبْعِينَ سَنَةً بِتَوْبَةِ ساعَةٍ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، ثُمَّ يَقُولُ: إنْ أرَدْتَ رِضْوانَ اللَّهِ فَسَبِّحْ، وسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأصِيلًا، وإنْ أرَدْتَ الفَرَجَ مِنَ البَلاءِ فَسَبِّحْ، لا إلَهَ أنْتَ سُبْحانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ، وإنْ أرَدْتَ رِضا الحَقِّ فَسَبِّحْ: ومِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وأطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى، وإنْ أرَدْتَ الخَلاصَ مِنَ النّارِ فَسَبِّحْ، سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ، أيُّها العَبْدُ واظِبْ عَلى تَسْبِيحِي، فَسُبْحانَ اللَّهِ فَسَبِّحْ وسَبِّحُوهُ، فَإنْ لَمْ تَفْعَلْ تَسْبِيحِي فالضَّرَرُ عائِدٌ إلَيْكَ؛ لِأنَّ لِي مَن يُسَبِّحُنِي، ومِنهم حَمَلَةُ العَرْشِ ﴿فَإنِ اسْتَكْبَرُوا فالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ﴾ [فُصِّلَتْ: ٣٨] ومِنهُمُ المُقَرَّبُونَ ﴿قالُوا سُبْحانَكَ أنْتَ ولِيُّنا﴾ [سَبَأٍ: ٤١]، ومِنهم سائِرُ المَلائِكَةِ ﴿قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا﴾ [الفُرْقانِ: ١٨] ومِنهُمُ الأنْبِياءُ كَما قالَ ذُو النُّونِ: ﴿لا إلَهَ إلّا أنْتَ سُبْحانَكَ﴾ [الأنْبِياءِ: ٨٧] وقالَ مُوسى: ﴿سُبْحانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ﴾ [الأعْرافِ: ١٤٣] والصَّحابَةُ يُسَبِّحُونَ في قَوْلِهِ: ﴿سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١٩١] والكُلُّ يُسَبِّحُونَ ومِنهُمُ الحَشَراتُ والدَّوابُّ والذَّرّاتُ ﴿وإنْ مِن شَيْءٍ إلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسْراءِ: ٤٤] وكَذا الحَجَرُ والمَدَرُ والرِّمالُ والجِبالُ واللَّيْلُ والنَّهارُ والظُّلُماتُ والأنْوارُ والجَنَّةُ والنّارُ والزَّمانُ والمَكانُ والعَناصِرُ والأرْكانُ والأرْواحُ والأجْسامُ عَلى ما قالَ: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ ما في السَّماواتِ﴾ [الحَدِيدِ: ١] ثُمَّ يَقُولُ: (p-١٥٩)أيُّها العَبْدُ: أنا الغَنِيُّ عَنْ تَسْبِيحِ هَذِهِ الأشْياءِ، وهَذِهِ الأشْياءُ لَيْسَتْ مِنَ الأحْياءِ، فَلا حاجَةَ بِها إلى ثَوابِ هَذا التَّسْبِيحِ، فَقَدْ صارَ ثَوابُ هَذِهِ التَّسْبِيحاتِ ضائِعًا وذَلِكَ لا يَلِيقُ بِي ﴿وما خَلَقْنا السَّماءَ والأرْضَ وما بَيْنَهُما باطِلًا﴾ [ص: ٢٧] لَكِنِّي أُوصِلُ ثَوابَ هَذِهِ الأشْياءِ إلَيْكَ لِيَعْرِفَ كُلُّ أحَدٍ أنَّ مَنِ اجْتَهَدَ في خِدْمَتِي أجْعَلُ كُلَّ العالَمِ في خِدْمَتِهِ. والنُّكْتَةُ الأُخْرى اذْكُرْنِي بِالعُبُودِيَّةِ لِتَنْتَفِعَ بِهِ لا أنا ﴿سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ﴾ [الصّافّاتِ: ١٨٠] فَإنَّكَ إذا ذَكَرْتَنِي بِالتَّسْبِيحِ طَهَّرْتُكَ عَنِ المَعاصِي ﴿وسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وأصِيلًا﴾ [الأحْزابِ: ٤٢] أقْرِضْنِي ﴿وأقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ [الحَدِيدِ: ١٨] وإنْ كُنْتُ أنا الغَنِيُّ حَتّى أرُدَّ الواحِدَ عَلَيْكَ عَشَرَةً ﴿مَن ذا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضاعِفَهُ لَهُ﴾ [الحَدِيدِ: ١١] كُنْ مُعِينًا لِي وإنْ كُنْتُ غَنِيًّا عَنْ إعانَتِكَ ﴿ولِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الفَتْحِ: ٤] وأيْضًا فَلا حاجَةَ بِي إلى العَسْكَرِ ﴿ولَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنهُمْ﴾ [مُحَمَّدٍ: ٤] لَكِنَّكَ إذا نَصَرْتَنِي نَصَرْتُكَ ﴿إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ [مُحَمَّدٍ: ٧] كُنْ مُواظِبًا عَلى ذِكْرِي ﴿واذْكُرُوا اللَّهَ في أيّامٍ مَعْدُوداتٍ﴾ [البَقَرَةِ: ٢٠٣] ولا حاجَةَ بِي إلى ذِكْرِكَ؛ لِأنَّ الكُلَّ يَذْكُرُونِي ﴿ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لُقْمانَ: ٢٥] لَكِنَّكَ إذا ذَكَرْتَنِي ذَكَرْتُكَ ﴿فاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ﴾ [البَقَرَةِ: ١٥٢] اخْدِمْنِي: ﴿ياأيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ [البَقَرَةِ: ٢١] لا لِأنِّي أحْتاجُ إلى خِدْمَتِكَ فَإنِّي أنا المَلِكُ ﴿ولِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ١٨٩] . ﴿ولِلَّهِ يَسْجُدُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الرَّعْدِ: ١٥] ولَكِنِ انْصَرِفْ إلى خِدْمَتِي هَذِهِ الأيّامَ القَلِيلَةَ لِتَنالَ الرّاحاتِ الكَثِيرَةَ ﴿قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ﴾ [الأنْعامِ: ٩١] . * * * المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿بِحَمْدِكَ﴾ قالَ صاحِبُ الكَشّافِ: بِحَمْدِكَ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ نُسَبِّحُ لَكَ حامِدِينَ لَكَ، ومُتَلَبِّسِينَ بِحَمْدِكَ، وأمّا المَعْنى فَفِيهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنّا إذا سَبَّحْناكَ فَنَحْمَدُكَ سُبْحانَكَ يَعْنِي لَيْسَ تَسْبِيحُنا تَسْبِيحًا مِن غَيْرِ اسْتِحْقاقٍ، بَلْ تَسْتَحِقُّ بِحَمْدِكَ وجَلالِكَ هَذا التَّسْبِيحَ. الثّانِي: أنّا نُسَبِّحُكَ بِحَمْدِكَ فَإنَّهُ لَوْلا إنْعامُكَ عَلَيْنا بِالتَّوْفِيقِ لَمْ نَتَمَكَّنْ مِن ذَلِكَ كَما قالَ داوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ: يا رَبِّ كَيْفَ أقْدِرُ أنْ أشْكُرَكَ وأنا لا أصِلُ إلى شُكْرِ نِعْمَتِكَ إلّا بِنِعْمَتِكَ، فَأوْحى اللَّهُ تَعالى إلَيْهِ: ”الآنَ قَدْ شَكَرْتَنِي حَيْثُ عَرَفْتَ أنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنِّي“، واخْتَلَفَ العُلَماءُ في المُرادِ مِن هَذا التَّسْبِيحِ فَرُوِيَ «أنَّ أبا ذَرٍّ دَخَلَ بِالغَداةِ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أوْ بِالعَكْسِ، فَقالَ يا رَسُولَ اللَّهِ بِأبِي أنْتَ وأُمِّي: أيُّ الكَلامِ أحَبُّ إلى اللَّهِ ؟ قالَ: ما اصْطَفاهُ اللَّهُ لِمَلائِكَتِهِ: ”سُبْحانَ اللَّهِ وبِحَمْدِهِ“» رَواهُ مُسْلِمٌ، ورَوى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قالَ: ”«كانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي فَمَرَّ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ عَلى رَجُلٍ مِنَ المُنافِقِينَ فَقالَ لَهُ: رَسُولُ اللَّهِ يُصَلِّي وأنْتَ جالِسٌ لا تُصَلِّي، فَقالَ لَهُ: امْضِ إلى عَمَلِكَ إنْ كانَ لَكَ عَمَلٌ، فَقالَ ما أظُنُّ إلّا سَيَمُرُّ بِكَ مَن يُنْكِرُ عَلَيْكَ، فَمَرَّ عَلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ قالَ: يا فُلانُ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ يُصَلِّي وأنْتَ جالِسٌ، فَقالَ لَهُ مِثْلَها فَوَثَبَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ، وقالَ: هَذا مِن عَمَلِي ثُمَّ دَخَلَ المَسْجِدَ وصَلّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ مِن صِلاتِهِ قامَ إلَيْهِ عُمَرُ فَقالَ: يا نَبِيَّ اللَّهِ مَرَرْتُ آنِفًا عَلى فُلانٍ وأنْتَ تُصَلِّي وهو جالِسٌ، فَقُلْتُ لَهُ: نَبِيُّ اللَّهِ يُصَلِّي وأنْتَ جالِسٌ، فَقالَ لِي: مُرَّ إلى عَمَلِكَ، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: هَلّا ضَرَبْتَ عُنُقَهُ، فَقامَ عُمَرُ مُسْرِعًا لِيَلْحَقَهُ فَيَقْتُلَهُ، فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: يا عُمَرُ ارْجِعْ فَإنَّ غَضَبَكَ عِزٌّ ورِضاكَ حُكْمٌ، إنَّ لِلَّهِ في السَّماواتِ مَلائِكَةً لَهُ غِنًى بِصَلاتِهِمْ عَنْ صَلاةِ فُلانٍ، فَقالَ عُمَرُ يا رَسُولَ اللَّهِ وما صَلاتُهم ؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَأتاهُ جِبْرِيلُ، فَقالَ: يا نَبِيَّ اللَّهِ سَألَكَ عُمَرُ عَنْ صَلاةِ أهْلِ السَّماءِ ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: أقْرِئْهُ مِنِّي السَّلامَ وأخْبِرْهُ بِأنَّ أهْلَ سَماءِ الدُّنْيا سُجُودٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، يَقُولُونَ: سُبْحانَ ذِي المُلْكِ والمَلَكُوتِ، وأهْلَ السَّماءِ الثّانِيَةِ قِيامٌ إلى يَوْمِ (p-١٦٠)القِيامَةِ يَقُولُونَ: سُبْحانَ ذِي العِزَّةِ والجَبَرُوتِ، وأهْلَ السَّماءِ الثّالِثَةِ رُكُوعٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ يَقُولُونَ: سُبْحانَ الحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ، فَهَذا هو تَسْبِيحُ المَلائِكَةِ» “ . القَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿نُسَبِّحُ﴾ أيْ نُصَلِّي والتَّسْبِيحُ هو الصَّلاةُ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ مَسْعُودٍ. * * * المَسْألَةُ الخامِسَةُ: التَّقْدِيسُ التَّطْهِيرُ، ومِنهُ الأرْضُ المُقَدَّسَةُ ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلى وُجُوهٍ: أحَدُها: نُطَهِّرُكَ أيْ نَصِفُكَ بِما يَلِيقُ بِكَ مِنَ العُلُوِّ والعِزَّةِ. وثانِيها: قَوْلُ مُجاهِدٍ: نُطَهِّرُ أنْفُسَنا مِن ذُنُوبِنا وخَطايانا ابْتِغاءً لِمَرْضاتِكَ. وثالِثُها: قَوْلُ أبِي مُسْلِمٍ نُطَهِّرُ أفْعالَنا مِن ذُنُوبِنا حَتّى تَكُونَ خالِصَةً لَكَ. ورابِعُها: نُطَهِّرُ قُلُوبَنا عَنِ الِالتِفاتِ إلى غَيْرِكَ حَتّى تَصِيرَ مُسْتَغْرِقَةً في أنْوارِ مَعْرِفَتِكَ. قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى العَدْلِ مِن وُجُوهٍ: أحَدُها: قَوْلُهم: ﴿ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ﴾ أضافُوا هَذِهِ الأفْعالَ إلى أنْفُسِهِمْ فَلَوْ كانَتْ أفْعالًا لِلَّهِ تَعالى لَما حَسُنَ التَّمَدُّحُ بِذَلِكَ، ولا فَضْلَ لِذَلِكَ عَلى سَفْكِ الدِّماءِ؛ إذْ كُلُّ ذَلِكَ مِن فِعْلِ اللَّهِ تَعالى. وثانِيها: لَوْ كانَ الفَسادُ والقَتْلُ فِعْلًا لِلَّهِ تَعالى لَكانَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ الجَوابُ أنْ يَقُولَ: إنِّي مالِكٌ أفْعَلُ ما أشاءُ. وثالِثُها: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ يَقْتَضِي التَّبَرِّيَ مِنَ الفَسادِ والقَتْلِ، لَكِنَّ التَّبَرِّيَ مِن فِعْلِ نَفْسِهِ مُحالٌ. ورابِعُها: إذا كانَ لا فاحِشَةَ ولا قُبْحَ ولا جَوْرَ ولا ظُلْمَ ولا فَسادَ إلّا بِصُنْعِهِ وخَلْقِهِ ومَشِيئَتِهِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ التَّنْزِيهُ والتَّقْدِيسُ ؟ وخامِسُها: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ يَدُلُّ عَلى مَذْهَبِ العَدْلِ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ خالِقًا لِلْكُفْرِ لَكانَ خَلَقَهم لِذَلِكَ الكُفْرِ، فَكانَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ الجَوابُ نَعَمْ خَلَقَهم لِيُفْسِدُوا ولِيَقْتُلُوا، فَلَمّا لَمْ يَرْضَ بِهَذا الجَوابِ سَقَطَ هَذا المَذْهَبُ. وسادِسُها: لَوْ كانَ الفَسادُ والقَتْلُ مِن فِعْلِ اللَّهِ تَعالى لَكانَ ذَلِكَ جارِيًا مَجْرى ألْوانِهِمْ وأجْسامِهِمْ، وكَما لا يَصِحُّ التَّعَجُّبُ مِن هَذِهِ الأشْياءِ فَكَذا مِنَ الفَسادِ والقَتْلِ، والجَوابُ عَنْ هَذِهِ الوُجُوهِ المُعارَضَةِ بِمَسْألَةِ الدّاعِي والعِلْمِ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المَسْألَةُ السّادِسَةُ: إنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: ﴿إنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ كَيْفَ يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ جَوابًا عَنِ السُّؤالِ الَّذِي ذَكَرُوهُ ؟ قُلْنا: قَدْ ذَكَرْنا أنَّ السُّؤالَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أحَدُها: أنَّهُ لِلتَّعَجُّبِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ جَوابًا لَهُ مِن حَيْثُ إنَّهُ قالَ تَعالى: لا تَتَعَجَّبُوا مِن أنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَن يُفْسِدُ ويَقْتُلُ، فَإنِّي أعْلَمُ مَعَ هَذا بِأنَّ فِيهِمْ جَمْعًا مِنَ الصّالِحِينَ والمُتَّقِينَ، وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. وثانِيها: أنَّهُ لِلْغَمِّ فَيَكُونُ الجَوابُ لا تَغْتَمُّوا بِسَبَبِ وُجُودِ المُفْسِدِينَ فَإنِّي أعْلَمُ أيْضًا أنَّ فِيهِمْ جَمْعًا مِنَ المُتَّقِينَ، ومَن لَوْ أقْسَمَ عَلَيَّ لَأبَرَّهُ. وثالِثُها: أنَّهُ طَلَبُ الحِكْمَةِ فَجَوابُهُ أنَّ مَصْلَحَتَكم فِيهِ أنْ تَعْرِفُوا وجْهَ الحِكْمَةِ فِيهِ عَلى الإجْمالِ دُونَ التَّفْصِيلِ، بَلْ رُبَّما كانَ ذَلِكَ التَّفْصِيلُ مَفْسَدَةً لَكم. ورابِعُها: أنَّهُ التِماسٌ؛ لِأنْ يَتْرُكَهم في الأرْضِ وجَوابُهُ: إنِّي أعْلَمُ أنَّ مَصْلَحَتَكم أنْ تَكُونُوا في السَّماءِ لا في الأرْضِ، وفِيهِ وجْهٌ خامِسٌ: وهو أنَّهم لَمّا قالُوا: ﴿نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ﴾ قالَ تَعالى: ﴿إنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ وهو أنَّ مَعَكم إبْلِيسَ، وأنَّ في قَلْبِهِ حَسَدًا وكِبْرًا ونِفاقًا. ووَجْهٌ سادِسٌ: وهو أنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ، فَإنَّكم لَمّا وصَفْتُمْ أنْفُسَكم بِهَذِهِ المَدائِحِ فَقَدِ اسْتَعْظَمْتُمْ أنْفُسَكم فَكَأنَّكم أنْتُمْ بِهَذا الكَلامِ في تَسْبِيحِ أنْفُسِكم لا في تَسْبِيحِي، ولَكِنِ اصْبِرُوا حَتّى يَظْهَرَ البَشَرُ فَيَتَضَرَّعُونَ إلى اللَّهِ بِقَوْلِهِمْ: ﴿رَبَّنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا﴾ [الأعْرافِ: ٢٣] وبِقَوْلِهِ: ﴿والَّذِي أطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي﴾ [الشُّعَراءِ: ٨٢] وبِقَوْلِهِ: ﴿وأدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ في عِبادِكَ الصّالِحِينَ﴾ [النَّمْلِ: ١٩] . (p-١٦١)﴿وعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهم عَلى المَلائِكَةِ فَقالَ أنْبِئُونِي بِأسْماءِ هَؤُلاءِ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهم عَلى المَلائِكَةِ فَقالَ أنْبِئُونِي بِأسْماءِ هَؤُلاءِ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ أعْلَمَ أنَّ المَلائِكَةَ لَمّا سَألُوا عَنْ وجْهِ الحِكْمَةِ في خَلْقِ آدَمَ وذُرِّيَّتِهِ وإسْكانِهِ تَعالى إيّاهم في الأرْضِ، وأخْبَرَ اللَّهُ تَعالى عَنْ وجْهِ الحِكْمَةِ في ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الإجْمالِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ أرادَ تَعالى أنْ يَزِيدَهم بَيانًا، وأنْ يُفَصِّلَ لَهم ذَلِكَ المُجْمَلَ، فَبَيَّنَ تَعالى لَهم مِن فَضْلِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ما لَمْ يَكُنْ مِن ذَلِكَ مَعْلُومًا لَهم، وذَلِكَ بِأنْ عَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهم عَلَيْهِمْ لِيُظْهِرَ بِذَلِكَ كَمالَ فَضْلِهِ وقُصُورَهم عَنْهُ في العِلْمِ، فَيَتَأكَّدَ ذَلِكَ الجَوابُ الإجْمالِيُّ بِهَذا الجَوابِ التَّفْصِيلِيِّ وهَهُنا مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ الأشْعَرِيُّ والجُبّائِيُّ والكَعْبِيُّ: اللُّغاتُ كُلُّها تَوْقِيفِيَّةٌ، بِمَعْنى أنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِتِلْكَ الألْفاظِ، وتِلْكَ المَعانِي، وبِأنَّ تِلْكَ الألْفاظَ مَوْضُوعَةٌ لِتِلْكَ المَعانِي، واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها﴾ والكَلامُ عَلى التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الآيَةِ سُؤالًا وجَوابًا ذَكَرْناهُ في أُصُولِ الفِقْهِ. وقالَ أبُو هاشِمٍ: إنَّهُ لا بُدَّ مِن تَقَدُّمِ لُغَةٍ اصْطِلاحِيَّةٍ، واحْتَجَّ عَلى أنَّهُ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ الوَضْعُ مَسْبُوقًا بِالِاصْطِلاحِ بِأُمُورٍ: أحَدُها: أنَّهُ لَوْ حَصَلَ العِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِأنَّهُ تَعالى وضَعَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لِهَذا المَعْنى لَكانَ ذَلِكَ العِلْمُ إمّا أنْ يَحْصُلَ لِلْعاقِلِ أوْ لِغَيْرِ العاقِلِ، لا جائِزٌ أنْ يَحْصُلَ لِلْعاقِلِ؛ لِأنَّهُ لَوْ حَصَلَ العِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِأنَّهُ تَعالى وضَعَ ذَلِكَ اللَّفْظَ لِذَلِكَ المَعْنى لَصارَتْ صِفَةُ اللَّهِ تَعالى مَعْلُومَةً بِالضَّرُورَةِ مَعَ أنَّ ذاتَهُ مَعْلُومَةٌ بِالِاسْتِدْلالِ، وذَلِكَ مُحالٌ، ولا جائِزَ أنْ يَحْصُلَ لِغَيْرِ العاقِلِ؛ لِأنَّهُ يَبْعُدُ في العُقُولِ أنْ يَحْصُلَ العِلْمُ بِهَذِهِ اللُّغاتِ مَعَ ما فِيها مِنَ الحِكَمِ العَجِيبَةِ لِغَيْرِ العاقِلِ، فَثَبَتَ أنَّ القَوْلَ بِالتَّوْقِيفِ فاسِدٌ. وثانِيها: أنَّهُ تَعالى خاطَبَ المَلائِكَةَ وذَلِكَ يُوجِبُ تَقَدُّمَ لُغَةٍ عَلى ذَلِكَ التَّكَلُّمِ. وثالِثُها: أنَّ قَوْلَهُ ﴿وعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها﴾ يَقْتَضِي إضافَةَ التَّعْلِيمِ إلى الأسْماءِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي في تِلْكَ الأسْماءِ أنَّها كانَتْ أسْماءً قَبْلَ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَتِ اللُّغاتُ حاصِلَةً قَبْلَ ذَلِكَ التَّعْلِيمِ. ورابِعُها: أنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا تَحَدّى المَلائِكَةَ بِعِلْمِ الأسْماءِ فَلا بُدَّ وأنْ تَعْلَمَ المَلائِكَةُ كَوْنَهُ صادِقًا في تَعْيِينِ تِلْكَ الأسْماءِ لِتِلْكَ المُسَمَّياتِ، وإلّا لَمْ يَحْصُلِ العِلْمُ بِصِدْقِهِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ وضْعُ تِلْكَ الأسْماءِ لِتِلْكَ المُسَمَّياتِ مُتَقَدِّمًا عَلى ذَلِكَ التَّعْلِيمِ. والجَوابُ عَنِ الأوَّلِ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ بِخَلْقِ العِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِأنَّ واضِعًا وضَعَ هَذِهِ الأسْماءَ لِهَذِهِ المُسَمَّياتِ مِن غَيْرِ تَعْيِينٍ أنَّ ذَلِكَ الواضِعَ هو اللَّهُ تَعالى أوِ النّاسُ ؟ وعَلى هَذا لا يَلْزَمُ أنْ تَصِيرَ الصِّفَةُ مَعْلُومَةً بِالضَّرُورَةِ حالَ كَوْنِ الذّاتِ مَعْلُومَةً بِالدَّلِيلِ، سَلَّمْنا أنَّهُ تَعالى ما خَلَقَ هَذا العِلْمَ في العاقِلِ، فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ (p-١٦٢)يُقالَ: إنَّهُ تَعالى خَلَقَهُ في غَيْرِ العاقِلِ، والتَّعْوِيلُ عَلى الِاسْتِعْبادِ في هَذا المَقامِ مُسْتَبْعَدٌ، وعَنِ الثّانِي: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: خاطَبَ المَلائِكَةَ بِطَرِيقٍ آخَرَ بِالكِتابَةِ وغَيْرِها، وعَنِ الثّالِثِ: لا شَكَّ أنَّ إرادَةَ اللَّهِ تَعالى وضْعَ تِلْكَ الألْفاظِ لِتِلْكَ المَعانِي سابِقَةٌ عَلى التَّعْلِيمِ، فَكَفى ذَلِكَ في إضافَةِ التَّعْلِيمِ إلى الأسْماءِ، وعَنِ الرّابِعِ: ما سَيَأْتِي بَيانُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب