الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وهُوَ الَّذِي أنْشَأ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ والنَّخْلَ والزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ والزَّيْتُونَ والرُّمّانَ مُتَشابِهًا وغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إذا أثْمَرَ وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ﴾ (p-١٧٣)فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى جَعَلَ مَدارَ هَذا الكِتابِ الشَّرِيفِ عَلى تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ والمَعادِ وإثْباتِ القَضاءِ والقَدَرِ، وأنَّهُ تَعالى بالَغَ في تَقْرِيرِ هَذِهِ الأُصُولِ، وانْتَهى الكَلامُ إلى شَرْحِ أحْوالِ السُّعَداءِ والأشْقِياءِ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنهُ إلى تَهْجِينِ طَرِيقَةِ مَن أنْكَرَ البَعْثَ والقِيامَةَ، ثُمَّ أتْبَعَهُ بِحِكايَةِ أقْوالِهِمُ الرَّكِيكَةِ، وكَلِماتِهِمُ الفاسِدَةِ في مَسائِلَ أرْبَعَةٍ، والمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلى ضَعْفِ عُقُولِهِمْ، وقِلَّةِ مَحْصُولِهِمْ، وتَنْفِيرِ النّاسِ عَنِ الِالتِفاتِ إلى قَوْلِهِمْ، والِاغْتِرارِ بَشُبُهاتِهِمْ. فَلَمّا تَمَّمَ هَذِهِ الأشْياءَ عادَ بَعْدَها إلى ما هو المَقْصُودُ الأصْلِيُّ، وهو إقامَةُ الدَّلائِلِ عَلى تَقْرِيرِ التَّوْحِيدِ فَقالَ: ﴿وهُوَ الَّذِي أنْشَأ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ قَدْ سَبَقَ ذِكْرُ هَذا الدَّلِيلِ في هَذِهِ السُّورَةِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿وهُوَ الَّذِي أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأخْرَجْنا مِنهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنهُ حَبًّا مُتَراكِبًا ومِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وجَنّاتٍ مِن أعْنابٍ والزَّيْتُونَ والرُّمّانَ مُشْتَبِهًا وغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إلى ثَمَرِهِ إذا أثْمَرَ ويَنْعِهِ إنَّ في ذَلِكم لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ فالآيَةُ المُتَقَدِّمَةُ ذَكَرَ تَعالى فِيها خَمْسَةَ أنْواعٍ، وهي: الزَّرْعُ والنَّخْلُ، وجَنّاتٌ مِن أعْنابٍ والزَّيْتُونُ والرُّمّانُ، وفي هَذِهِ الآيَةِ الَّتِي نَحْنُ في تَفْسِيرِها ذَكَرَ هَذِهِ الخَمْسَةَ بِأعْيانِها لَكِنْ عَلى خِلافِ ذَلِكَ التَّرْتِيبِ لِأنَّهُ ذَكَرَ العِنَبَ، ثُمَّ النَّخْلَ، ثُمَّ الزَّرْعَ، ثُمَّ الزَّيْتُونَ ثُمَّ الرُّمّانَ. وذَكَرَ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ ﴿مُشْتَبِهًا وغَيْرَ مُتَشابِهٍ﴾ وفي هَذِهِ الآيَةِ ﴿مُتَشابِهًا وغَيْرَ مُتَشابِهٍ﴾ ثُمَّ ذَكَرَ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ ﴿انْظُرُوا إلى ثَمَرِهِ إذا أثْمَرَ ويَنْعِهِ﴾ فَأمَرَ تَعالى هُناكَ بِالنَّظَرِ في أحْوالِها والِاسْتِدْلالِ بِها عَلى وُجُودِ الصّانِعِ الحَكِيمِ، وذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ ﴿كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إذا أثْمَرَ وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ﴾ فَأذِنَ في الِانْتِفاعِ بِها، وأمَرَ بِصَرْفِ جُزْءٍ مِنها إلى الفُقَراءِ، فالَّذِي حَصَلَ بِهِ الِامْتِيازُ بَيْنَ الآيَتَيْنِ أنَّ هُناكَ أمَرَ بِالِاسْتِدْلالِ بِها عَلى الصّانِعِ الحَكِيمِ. وهاهُنا أذِنَ في الِانْتِفاعِ بِها، وذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ الأمْرَ بِالِاسْتِدْلالِ بِها عَلى الصّانِعِ الحَكِيمِ مُقَدَّمٌ عَلى الإذْنِ في الِانْتِفاعِ بِها؛ لِأنَّ الحاصِلَ مِنَ الِاسْتِدْلالِ بِها سَعادَةٌ رُوحانِيَّةٌ أبَدِيَّةٌ، والحاصِلُ مِنَ الِانْتِفاعِ بِهَذِهِ سَعادَةٌ جُسْمانِيَّةٌ سَرِيعَةُ الِانْقِضاءِ، والأوَّلُ أوْلى بِالتَّقْدِيمِ، فَلِهَذا السَّبَبِ قَدَّمَ اللَّهُ تَعالى الأمْرَ بِالِاسْتِدْلالِ بِها عَلى الإذْنِ بِالِانْتِفاعِ بِها. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وهُوَ الَّذِي أنْشَأ﴾ أيْ خَلَقَ، يُقالُ: نَشَأ الشَّيْءُ يَنْشَأُ نَشْأةً ونَشاءَةً إذا ظَهَرَ وارْتَفَعَ، واللَّهُ يُنْشِئُهُ إنْشاءً أيْ يُظْهِرُهُ ويَرْفَعُهُ، وقَوْلُهُ: ﴿جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ﴾ يُقالُ عَرَّشْتُ الكَرْمَ أُعَرِّشُهُ عَرْشًا وعَرَّشْتُهُ تَعْرِيشًا، إذا عَطَفْتَ العِيدانَ الَّتِي يُرْسَلُ عَلَيْها قُضْبانُ الكَرْمِ، والواحِدُ عَرْشٌ، والجَمْعُ عُرُوشٌ، ويُقالُ: عَرِيشٌ وجَمْعُهُ عُرُشٌ، واعْتَرَشَ العِنَبُ العَرِيشَ اعْتِراشًا إذا عَلاهُ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: في قَوْلِهِ: ﴿مَعْرُوشاتٍ وغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ﴾ أقْوالٌ: الأوَّلُ: أنَّ المَعْرُوشاتِ وغَيْرَ المَعْرُوشاتِ كِلاهُما الكَرْمُ، فَإنَّ بَعْضَ الأعْنابِ يُعَرَّشُ وبَعْضُها لا يُعَرَّشُ، بَلْ يَبْقى عَلى وجْهِ الأرْضِ مُنْبَسِطًا. والثّانِي: المَعْرُوشاتُ العِنَبُ الَّذِي يُجْعَلُ لَها عُرُوشٌ، وغَيْرُ المَعْرُوشاتِ كُلُّ ما يَنْبُتُ مُنْبَسِطًا عَلى وجْهِ الأرْضِ مِثْلُ القَرْعِ والبِطِّيخِ. والثّالِثُ: المَعْرُوشاتُ ما يَحْتاجُ إلى أنْ يُتَّخَذَ لَهُ عَرِيشٌ يُحْمَلُ عَلَيْهِ فَيُمْسِكُهُ، وهو الكَرْمُ وما يَجْرِي مَجْراهُ، وغَيْرُ المَعْرُوشِ هو القائِمُ مِنَ الشَّجَرِ المُسْتَغْنِي بِاسْتِوائِهِ وذَهابِهِ عُلُوًّا لِقُوَّةِ ساقِهِ عَنِ التَّعْرِيشِ. والرّابِعُ: المَعْرُوشاتُ ما يَحْصُلُ في البَساتِينِ والعُمْراناتِ مِمّا يَغْرِسُهُ النّاسُ واهْتَمُّوا بِهِ فَعَرَّشُوهُ ﴿وغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ﴾ مِمّا أنْبَتَهُ اللَّهُ تَعالى وحْشِيًّا في البَرارِي والجِبالِ فَهو غَيْرُ مَعْرُوشٍ، وقَوْلُهُ: (p-١٧٤)﴿والنَّخْلَ والزَّرْعَ﴾ فَسَّرَ ابْنُ عَبّاسٍ ”الزَّرْعَ“ هاهُنا بِجَمِيعِ الحُبُوبِ الَّتِي يُقْتاتُ بِها ﴿مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ﴾ أيْ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنها طَعْمٌ غَيْرُ طَعْمِ الآخَرِ ”والأُكُلُ“ كُلُّ ما أُكِلَ، وهاهُنا المُرادُ ثَمَرُ النَّخْلِ والزَّرْعِ، ومَضى القَوْلُ في ”الأُكُلِ“ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ﴾ [البقرة: ٢٦٥] وقَوْلُهُ: (مُخْتَلِفًا) نُصِبَ عَلى الحالِ. أيْ أنْشَأهُ في حالِ اخْتِلافِ أُكُلِهِ، وهو قَدْ أنْشَأهُ مِن قَبْلِ ظُهُورِ أُكُلِهِ وأُكُلِ ثَمَرِهِ. الجَوابُ: أنَّهُ تَعالى أنْشَأها حالَ اخْتِلافِ ثَمَرِها، وصِدْقُ هَذا لا يُنافِي صِدْقَ أنَّهُ تَعالى أنْشَأها قَبْلَ ذَلِكَ أيْضًا. وأيْضًا نُصِبَ عَلى الحالِ مَعَ أنَّهُ يُؤْكَلُ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمانٍ؛ لِأنَّ اخْتِلافَ أُكُلِهِ مُقَدَّرٌ كَما تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مَعَهُ صَقْرٌ صائِدًا بِهِ غَدًا، أيْ مُقَدَّرًا لِلصَّيْدِ بِهِ غَدًا. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ونافِعٌ ”أُكْلُهُ“ بِتَخْفِيفِ الكافِ والباقُونَ ”أُكُلُهُ“ في كُلِّ القُرْآنِ. وأمّا تَوْحِيدُ الضَّمِيرِ في قَوْلِهِ: ﴿مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ﴾ فالسَّبَبُ فِيهِ: أنَّهُ اكْتَفى بِإعادَةِ الذِّكْرِ عَلى أحَدِهِما مِن إعادَتِهِ عَلَيْهِما جَمِيعًا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإذا رَأوْا تِجارَةً أوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْها﴾ [الجمعة: ١١] والمَعْنى: إلَيْهِما، وقَوْلُهُ: ﴿واللَّهُ ورَسُولُهُ أحَقُّ أنْ يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢] . * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿مُتَشابِهًا وغَيْرَ مُتَشابِهٍ﴾ فَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهُ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إذا أثْمَرَ﴾ وفِيهِ مَباحِثُ. البَحْثُ الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ كَيْفِيَّةَ خَلْقِهِ لِهَذِهِ الأشْياءِ ذَكَرَ ما هو المَقْصُودُ الأصْلِيُّ مِن خَلْقِها، وهو انْتِفاعُ المُكَلَّفِينَ بِها، فَقالَ: ﴿كُلُوا مِن ثَمَرِهِ﴾ واخْتَلَفُوا ما الفائِدَةُ مِنهُ ؟ فَقالَ بَعْضُهم: الإباحَةُ. وقالَ آخَرُونَ: بَلِ المَقْصُودُ مِنهُ إباحَةُ الأكْلِ قَبْلَ إخْراجِ الحَقِّ؛ لِأنَّهُ تَعالى لَمّا أوْجَبَ الحَقَّ فِيهِ كانَ يَجُوزُ أنْ يُحَرِّمَ عَلى المالِكِ تَناوُلَهُ لِمَكانِ شَرِكَةِ المَساكِينِ فِيهِ، بَلْ هَذا هو الظّاهِرُ فَأباحَ تَعالى هَذا الأكْلَ، وأخْرَجَ وُجُوبَ الحَقِّ فِيهِ مِن أنْ يَكُونَ مانِعًا مِن هَذا التَّصَرُّفِ. وقالَ بَعْضُهم: بَلْ أباحَ تَعالى ذَلِكَ لِيُبَيِّنَ أنَّ المَقْصِدَ بِخَلْقِ هَذِهِ النِّعَمِ؛ إمّا الأكْلُ وإمّا التَّصَدُّقُ، وإنَّما قَدَّمَ ذِكْرَ الأكْلِ عَلى التَّصَدُّقِ؛ لِأنَّ رِعايَةَ النَّفْسِ مُقَدَّمَةٌ عَلى رِعايَةِ الغَيْرِ. قالَ تَعالى: ﴿ولا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وأحْسِنْ كَما أحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ﴾ [القصص: ٧٧] . البَحْثُ الثّانِي: تَمَسَّكَ بَعْضُهم بِقَوْلِهِ: ﴿كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إذا أثْمَرَ﴾ بِأنَّ الأصْلَ في المَنافِعِ الإباحَةُ والإطْلاقُ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: (كُلُوا) خِطابٌ عامٌّ يَتَناوَلُ الكُلَّ، فَصارَ هَذا جارِيًا مَجْرى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿خَلَقَ لَكم ما في الأرْضِ جَمِيعًا﴾ وأيْضًا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِهِ عَلى أنَّ الأصْلَ عَدَمُ وُجُوبِ الصَّدَقَةِ، وأنَّ مَنِ ادَّعى إيجابَهُ كانَ هو المُحْتاجُ إلى الدَّلِيلِ، فَيُتَمَسَّكُ بِهِ في أنَّ المَجْنُونَ إذا أفاقَ في أثْناءِ الشَّهْرِ، لا يَلْزَمُهُ قَضاءُ ما مَضى، وفي أنَّ الشّارِعَ في صَوْمِ النَّفْلِ لا يَجِبُ عَلَيْهِ الإتْمامُ. البَحْثُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ: ﴿كُلُوا مِن ثَمَرِهِ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّ صِيغَةَ الأمْرِ قَدْ تَرِدُ في غَيْرِ مَوْضِعِ الوُجُوبِ وفي غَيْرِ مَوْضِعِ النَّدْبِ، وعِنْدَ هَذا قالَ بَعْضُهم: الأصْلُ في الِاسْتِعْمالِ الحَقِيقَةُ، فَوَجَبَ جَعْلُ هَذِهِ الصِّيغَةِ مُفِيدَةً لِرَفْعِ الحَجْرِ، فَلِهَذا قالُوا: الأمْرُ مُقْتَضاهُ الإباحَةُ، إلّا أنّا نَقُولُ: نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ مِن لُغَةِ العَرَبِ أنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ تُفِيدُ تَرْجِيحَ جانِبِ الفِعْلِ، وأنَّ حَمْلَها عَلى الإباحَةِ لا يُصارُ إلَيْهِ إلّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ﴾ فَفِيهِ أبْحاثٌ: البَحْثُ الأوَّلُ: قَرَأ ابْنُ عامِرٍ وأبُو عَمْرٍو وعاصِمٌ ”حَصادِهِ“ بِفَتْحِ الحاءِ والباقُونَ بِكَسْرِ الحاءِ قالَ (p-١٧٥)الواحِدِيُّ: قالَ جَمِيعُ أهْلِ اللُّغَةِ يُقالُ: حَصادٌ وحِصادٌ، وجَدادٌ وجِدادٌ، وقَطافٌ وقِطافٌ، وجَذاذٌ وجِذاذٌ، وقالَ سِيبَوَيْهِ: جاءُوا بِالمَصادِرِ حِينَ أرادُوا انْتِهاءَ الزَّمانِ عَلى مِثالِ فَعالٍ، ورُبَّما قالُوا فِيهِ فِعالٌ. البَحْثُ الثّانِي: في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿وآتُوا حَقَّهُ﴾ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: القَوْلُ الأوَّلُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ في رِوايَةِ عَطاءٍ يُرِيدُ بِهِ العُشْرَ فِيما سَقَتِ السَّماءُ، ونِصْفَ العُشْرِ فِيما سُقِيَ بِالدَّوالِيبِ، وهو قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ والحَسَنِ وطاوُسٍ والضَّحّاكِ. فَإنْ قالُوا: كَيْفَ يُؤَدِّي الزَّكاةَ يَوْمَ الحَصادِ والحَبُّ في السُّنْبُلِ ؟ وأيْضًا هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وإيجابُ الزَّكاةِ مَدَنِيٌّ. قُلْنا: لَمّا تَعَذَّرَ إجْراءُ قَوْلِهِ: ﴿وآتُوا حَقَّهُ﴾ عَلى ظاهِرِهِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ. لا جَرَمَ حَمَلْناهُ عَلى تَعَلُّقِ حَقِّ الزَّكاةِ بِهِ في ذَلِكَ الوَقْتِ، والمَعْنى: اعْزِمُوا عَلى إيتاءِ الحَقِّ يَوْمَ الحَصادِ ولا تُؤَخِّرُوهُ عَنْ أوَّلِ وقْتٍ يُمْكِنُ فِيهِ الإيتاءُ. والجَوابُ عَنِ السُّؤالِ الثّانِي: لا نُسَلِّمُ أنَّ الزَّكاةَ ما كانَتْ واجِبَةً في مَكَّةَ، بَلْ لا نِزاعَ أنَّ الآيَةَ المَدَنِيَّةَ ورَدَتْ بِإيجابِها، إلّا أنَّ ذَلِكَ لا يَمْنَعُ أنَّها كانَتْ واجِبَةً بِمَكَّةَ. وقِيلَ أيْضًا: هَذِهِ الآيَةُ مَدَنِيَّةٌ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ هَذا حَقٌّ في المالِ سِوى الزَّكاةِ. وقالَ مُجاهِدٌ: إذا حَصَدْتَ فَحَضَرَتِ المَساكِينُ فاطْرَحْ لَهم مِنهُ، وإذا دَرَسْتَهُ وذَرَّيْتَهُ فاطْرَحْ لَهم مِنهُ، وإذا كَرْبَلْتَهُ فاطْرَحْ لَهم مِنهُ، وإذا عَرَفْتَ كَيْلَهُ فاعْزِلْ زَكاتَهُ. والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ هَذا كانَ قَبْلَ وُجُوبِ الزَّكاةِ، فَلَمّا فُرِضَتِ الزَّكاةُ نُسِخَ هَذا، وهَذا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، والأصَحُّ هو القَوْلُ الأوَّلُ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وآتُوا حَقَّهُ﴾ إنَّما يَحْسُنُ ذِكْرُهُ لَوْ كانَ ذَلِكَ الحَقُّ مَعْلُومًا قَبْلَ وُرُودِ هَذِهِ الآيَةِ لِئَلّا تَبْقى هَذِهِ الآيَةُ مُجْمَلَةً. وقَدْ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”لَيْسَ في المالِ حَقٌّ سِوى الزَّكاةِ“ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهَذا الحَقِّ حَقَّ الزَّكاةِ. البَحْثُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ﴾ بَعْدَ ذِكْرِ الأنْواعِ الخَمْسَةِ، وهو العِنَبُ والنَّخْلُ، والزَّيْتُونُ، والرُّمّانُ؛ يَدُلُّ عَلى وُجُوبِ الزَّكاةِ في الكُلِّ، وهَذا يَقْتَضِي وُجُوبَ الزَّكاةِ في الثِّمارِ، كَما كانَ يَقُولُهُ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. فَإنْ قالُوا: لَفْظُ الحَصادِ مَخْصُوصٌ بِالزَّرْعِ. فَنَقُولُ: لَفْظُ الحَصْدِ في أصْلِ اللُّغَةِ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِالزَّرْعِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ، أنَّ الحَصْدَ في اللُّغَةِ عِبارَةٌ عَنِ القَطْعِ، وذَلِكَ يَتَناوَلُ الكُلَّ وأيْضًا الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ ”حَصادِهِ“ يَجِبُ عَوْدُهُ إلى أقْرَبِ المَذْكُوراتِ وذَلِكَ هو الزَّيْتُونُ والرُّمّانُ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عائِدًا إلَيْهِ. البَحْثُ الرّابِعُ: قالَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: العُشْرُ واجِبٌ في القَلِيلِ والكَثِيرِ. وقالَ الأكْثَرُونَ إنَّهُ لا يَجِبُ إلّا إذا بَلَغَ خَمْسَةَ أوْسُقٍ. واحْتَجَّ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الآيَةِ، فَقالَ: قَوْلُهُ: ﴿وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ﴾ يَقْتَضِي ثُبُوتَ حَقٍّ في القَلِيلِ والكَثِيرِ، فَإذا كانَ ذَلِكَ الحَقُّ هو الزَّكاةَ وجَبَ القَوْلُ بِوُجُوبِ الزَّكاةِ في القَلِيلِ والكَثِيرِ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: (ولا تُسْرِفُوا) فاعْلَمْ أنَّ لِأهْلِ اللُّغَةِ في تَفْسِيرِ الإسْرافِ قَوْلَيْنِ: الأوَّلُ: قالَ ابْنُ الأعْرابِيِّ: السَّرَفُ تَجاوُزُ ما حُدَّ لَكَ. الثّانِي: قالَ شِمْرٌ: سَرْفُ المالِ، ما ذَهَبَ مِنهُ مِن غَيْرِ مَنفَعَةٍ. (p-١٧٦)إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ أقْوالٌ: الأوَّلُ: أنَّ الإنْسانَ إذا أعْطى كُلَّ مالِهِ ولَمْ يُوَصِّلْ إلى عِيالِهِ شَيْئًا فَقَدْ أسْرَفَ؛ لِأنَّهُ جاءَ في الخَبَرِ، ”«ابْدَأْ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَن تَعُولُ» “ . ورُوِيَ أنَّ ثابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ عَمَدَ إلى خَمْسِمِائَةِ نَخْلَةٍ فَجَذَّها، ثُمَّ قَسَّمَها في يَوْمٍ واحِدٍ ولَمْ يُدْخِلْ مِنها إلى مَنزِلِهِ شَيْئًا فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى قَوْلَهُ: ﴿وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ولا تُسْرِفُوا﴾ أيْ ولا تُعْطُوا كُلَّهُ. والثّانِي: قالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ: ”لا تُسْرِفُوا“ أيْ لا تَمْنَعُوا الصَّدَقَةَ، وهَذانِ القَوْلانِ يَشْتَرِكانِ في أنَّ المُرادَ مِنَ الإسْرافِ مُجاوَزَةُ الحَدِّ، إلّا أنَّ الأوَّلَ مُجاوَزَةٌ في الإعْطاءِ، والثّانِيَ مُجاوَزَةٌ في المَنعِ. الثّالِثُ: قالَ مُقاتِلٌ: مَعْناهُ: لا تُشْرِكُوا الأصْنامَ في الحَرْثِ والأنْعامِ، وهَذا أيْضًا مِن بابِ المُجاوَزَةِ؛ لِأنَّ مَن أشْرَكَ الأصْنامَ في الحَرْثِ والأنْعامِ، فَقَدْ جاوَزَ ما حُدَّ لَهُ. الرّابِعُ: قالَ الزُّهْرِيُّ مَعْناهُ: لا تُنْفِقُوا في مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعالى. قالَ مُجاهِدٌ: لَوْ كانَ أبُو قُبَيْسٍ ذَهَبًا، فَأنْفَقَهُ رَجُلٌ في طاعَةِ اللَّهِ تَعالى لَمْ يَكُنْ مُسْرِفًا. ولَوْ أنْفَقَ دِرْهَمًا في مَعْصِيَةِ اللَّهِ كانَ مُسْرِفًا. وهَذا المَعْنى أرادَهُ حاتِمٌ الطّائِيُّ حِينَ قِيلَ لَهُ: لا خَيْرَ في السَّرَفِ. فَقالَ لا سَرَفَ في الخَيْرِ، وهَذا عَلى القَوْلِ الثّانِي في مَعْنى السَّرَفِ، فَإنَّ مَن أنْفَقَ في مَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَقَدْ أنْفَقَ فِيما لا نَفْعَ فِيهِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ﴾ والمَقْصُودُ مِنهُ الزَّجْرُ؛ لِأنَّ كُلَّ مُكَلَّفٍ لا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعالى فَهو مِن أهْلِ النّارِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقالَتِ اليَهُودُ والنَّصارى نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكم بِذُنُوبِكُمْ﴾ [المائدة: ١٨] فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّ كُلَّ مَن أحَبَّهُ اللَّهُ فَلَيْسَ هو مِن أهْلِ النّارِ. وذَلِكَ يُفِيدُ مِن بَعْضِ الوُجُوهِ أنَّ مَن لَمْ يُحِبُّهُ اللَّهُ فَهو مِن أهْلِ النّارِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب