قال تعالى: ﴿وهُوَ الَّذِي أنْشَأَ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ والنَّخْلَ والزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ والزَّيْتُونَ والرُّمّانَ مُتَشابِهًا وغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إذا أثْمَرَ وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ﴾ [الأنعام: ١٤١].
وقولُهُ تعالى: ﴿وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ﴾، يعني: زمنَ الحصادِ والصِّرامِ.
وجاء في تفسيرِ معنى ﴿حَقَّهُ﴾ معنيانِ: الأوَّلُ: زكاتُهُ، والثاني: الإطعامُ منه:
فأمّا الزكاةُ فواجبةٌ، وبه فسَّرَهُ ابنُ عبّاسٍ وأنسٌ[[«تفسير الطبري» (٩ /٥٩٥)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٥ /١٣٩٨).]].
حُكْم الإطعام عند الحصاد:
وأمّا الإطعامُ عندَ الحصادِ للعابرِ والمارِّ، فقد كان معروفًا في العربِ وغيرِهم، يجتمِعُ الفقراءُ والمساكينُ عندَ الزروعِ ليَنالوا منه، كما قال تعالى عن أصحابِ الجَنَّةِ: ﴿إنّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أصْحابَ الجَنَّةِ إذْ أقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ ولا يَسْتَثْنُونَ فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِن رَبِّكَ وهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كالصَّرِيمِ فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ فانْطَلَقُوا وهُمْ يَتَخافَتُونَ أنْ لا يَدْخُلَنَّها اليَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ﴾ [القلم: ١٧ ـ ٢٤]، وهذه الآيةُ تدُلُّ على أنّ الإطعامَ قبلَ الزكاةِ كان واجبًا، لأنّ اللهَ لا يُعاقِبُ ويُعذِّبُ بسببِ تركِ سُنَّةٍ ومُستحَبٍّ، ويكونُ الإطعامُ قبلَ كَيْلِهِ أو خَرْصِهِ، ثمَّ إنْ كالَهُ أو خرَصَهُ يَعْزِلُ زكاتَهُ ولا يحسُبُ إطعامَهُ مِن الزكاةِ، قالهُ عطاءٌ وسعيدُ بنُ جُبيرٍ ومجاهدٌ وغيرُهم[[«تفسير الطبري» (٩ /٦٠٠ ـ ٦٠٧)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٥ /١٣٩٨).]].
وقد كان النبيُّ ﷺ يأمُرُ بالصدقةِ عندَ الصِّرامِ والحَصادِ للفُقَراءِ والمُحتاجِين، كما روى أحمدُ، وأبو داودَ، عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ، أنّ النبيَّ ﷺ أمَرَ مِن كُلِّ جادِّ عَشَرَةِ أوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ، بِقِنْوٍ يُعَلَّقُ فِي المَسْجِدِ لِلْمَساكِينِ [[أخرجه أحمد (٣ /٣٥٩)، وأبو داود (١٦٦٢).]].
وكان ابنُ عمرَ يقولُ: «كانُوا يُعْطُونَ شَيْئًا سِوى الزَّكاةِ»[[«تفسير ابن كثير» (٣ /٣٤٨).]].
ومَن فسَّرَها بالإطعامِ جعَلَ الآيةَ منسوخةً بالعُشْرِ ونِصْفِ العُشْرِ، ويَبقى الإطعامُ سُنَّةً لا واجبًا كسائرِ الإطعامِ، وبنسخِ وجوبِ الإطعامِ قال عامَّةُ السلفِ، كابنِ المسيَّبِ وعِكْرِمةَ والنخَعيِّ والحسنِ، قال عِكْرِمةُ: «نسَخَتِ الزكاةُ كلَّ صدقةٍ في القرآنِ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٥ /١٣٩٨).]].
ومُرادُ عِكْرِمةَ كلُّ صدقةٍ واجبةٍ.
والأظهَرُ: أنّ النبيَّ ﷺ كان يأمُرُ بالإطعامِ عندَ الحَصادِ والصِّرامِ بلا تقديرٍ محدَّدٍ، ثمَّ أمَرَ به بتقديرٍ، وهو الزكاةُ، وذلك في ثاني سَنَةٍ مِن الهجرةِ، وقال بالنسخِ بعضُ السلفِ، حتى لا يُظَنَّ أنّ ثمَّةَ شيئًا واجبًا فوقَ الزكاةِ في ثمارِهم وزرعِهم.
الزكاةُ عند الحصادِ:
وزكاةُ الثِّمارِ والحبوبِ تكونُ عندَ حَصادِها وصِرامِها، وهذا هو حَوْلُها، ولا يُنتظَرُ حتى يَدُورَ عليها الحَوْلُ، ومَن زرَعَ في العامِ ثمرًا أكثَرَ مِن مرَّةٍ، فإنّه يُعطي زكاتَهُ عندَ كلِّ حصادٍ وصِرامٍ ولو في العامِ مرّاتٍ، لأنّ اللهَ قيَّدَ ذلك بيومِ الحصادِ، وهو حولُ الثِّمارِ.
مقدارُ الزكاةِ وأنواع الزروع:
وأمّا مِقدارُ الزكاةِ، فإنّ الزروعَ على نوعَيْنِ:
الأوَّلُ: ما سقَتْها السماءُ، أو كان عَثَرِيًّا يَشرَبُ بعُرُوقِهِ مِن ماءِ الأرضِ في باطنِها، أو ممّا يُزرَعُ على أطرافِ الأنهارِ، فيَشْرَبُ منها بلا سَقْيٍ مِن آبارٍ أو آلاتٍ، فهذا نِصابُهُ العُشْرِ.
الثاني: ما سُقِيَ مِن الآبارِ والنَّواضِحِ، فإنّ نِصابَ زكاتِهِ نِصْفُ العُشْرِ.
لما روى البخاري عن ابن عمر عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، أنه قالَ: «فِيما سَقَتِ السَّماءُ والعُيُونُ، أوْ كانَ عَثَرِيًّا العُشْرُ، وما سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ»[[البخاري (١٤٨٣)]].
وهذا مِن التخفيفِ على الناسِ في مُؤْنَتِهم، فلا يُحَمَّلُونَ ما لا يُطيقونَ، وإذا كانتِ العِلَّةُ كذلك، فما شَقَّ على الناسِ مِن الزروعِ التي تُسقى مِن السماءِ، فجاءتِ المَشقَّةُ والمَؤُونةُ بغيرِ السَّقْيِ، كمشقَّةِ السقيِ ومؤونتِهِ كالذين يَزْرَعُونَ زروعًا لا تَنْبُتُ وحدَها، وإنّما تحتاجُ إلى وضعِ محميّاتٍ تستُرُها مِن الشمسِ، لأنّها لا تنبُتُ إلاَّ في الظلِّ، ويُكلِّفُهم ذلك كما لو كُلِّفَ مَن سَقى بالماءِ، فإنّ زكاتَهُ نِصْفُ العُشرِ كما لو سقى بالآبارِ، لجامعِ العِلَّةِ، وهو مِن التخفيفِ وأقرَبُ إلى المقاصدِ، وإنْ كانتِ المشقَّةُ أخَفَّ وأيسَرَ مِن ذلك، فتجبُ كما لو سقَتْهُ السماءُ بلا مشقَّةٍ، إعمالًا للأدلةِ.
والإطلاقُ في إيجابِ إخراجِ حقِّ الثِّمارِ والزروعِ مقيَّدٌ بالمِقْدارِ الواردِ في السُّنَّةِ، فلا تجبُ الزكاةُ فيما كان دونَ خمسةِ أوْسُقٍ، كما قال ﷺ: (لَيْسَ فِيما دُونَ خَمْسَةِ أوْساقٍ مِن تَمْرٍ ولا حَبٍّ صَدَقَةٌ)[[[أخرجه مسلم (٩٧٩)]]].
{"ayah":"۞ وَهُوَ ٱلَّذِیۤ أَنشَأَ جَنَّـٰتࣲ مَّعۡرُوشَـٰتࣲ وَغَیۡرَ مَعۡرُوشَـٰتࣲ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّیۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَـٰبِهࣰا وَغَیۡرَ مُتَشَـٰبِهࣲۚ كُلُوا۟ مِن ثَمَرِهِۦۤ إِذَاۤ أَثۡمَرَ وَءَاتُوا۟ حَقَّهُۥ یَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوۤا۟ۚ إِنَّهُۥ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِینَ"}