ثُمَّ احْتَجَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ونَبَّهَ عَلى عِظَمِ ما أتَوْهُ في أنْ أقْدَمُوا عَلى الكَذِبِ عَلى اللَّهِ، وأقْدَمُوا عَلى أنْ شَرَعُوا مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، فَقالَ: ﴿وَهُوَ الَّذِي أنْشَأ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ﴾، فَكَأنَّهُ قالَ: ”اِفْتَرَوْا عَلى اللَّهِ وهو المُحْدِثُ لِلْأشْياءِ، الفاعِلُ ما لا يَقْدِرُ أحَدٌ عَلى الإتْيانِ بِمِثْلِهِ“، فَقالَ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَهُوَ الَّذِي أنْشَأ﴾، أيْ: اِبْتَدَعَ جَنّاتٍ مَعْرُوشاتٍ، و”اَلْجَنّاتُ“: اَلْبَساتِينُ، ﴿وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ﴾، ومَعْنى ”اَلْمَعْرُوشاتُ“، هَهُنا: اَلْكُرُومُ، ﴿والنَّخْلَ والزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ﴾، في حالِ اخْتِلافِ أُكُلِهِ، وهَذِهِ مَسْألَةٌ شَدِيدَةٌ في النَّحْوِ، إلّا عَلى مَن عَرَفَ حَقِيقَتَها، لِأنَّ لِلْقائِلِ أنْ يَقُولَ: كَيْفَ أنْشَأهُ في حالِ اخْتِلافِ أُكُلِهِ، وهو قَدْ نَشَأ مِن قَبْلِ وُقُوعِ أُكُلِهِ - و”أُكُلُهُ“: ثَمَرُهُ -؟ فالجَوابُ في ذَلِكَ أنَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - قَدَّرَ إنْشاءَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٠٢]، فَأعْلَمَ - عَزَّ وجَلَّ - أنَّهُ المُنْشِئُ لَهُ في حالِ اخْتِلافِ أُكُلِهِ، ويَجُوزُ ”أنْشَأهُ ولا أُكُلَ فِيهِ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ“، لِأنَّ المَعْنى: ”مُقَدِّرًا ذَلِكَ فِيهِ“، كَما تَقُولُ: ”لَتَدْخُلُنَّ مَنزِلَ زَيْدٍ آكِلِينَ شارِبِينَ“، اَلْمَعْنى: ”تَدْخُلُونَ مُقَدِّرِينَ ذَلِكَ“، وسِيبَوَيْهِ دَلَّ عَلى ذَلِكَ، وبَيَّنَهُ في قَوْلِهِ: ”مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مَعَهُ صَقْرٌ صائِدًا بِهِ غَدًا“، فَنَصَبَ ”صائِدًا“، عَلى الحالِ، والمَعْنى: ”مُقَدِّرًا الصَّيْدَ“، ومَعْنى ﴿مُتَشابِهًا وغَيْرَ مُتَشابِهٍ﴾، (p-٢٩٧)عَلى ضَرْبَيْنِ، فَأحَدُهُما أنَّ بَعْضَهُ يُشْبِهُ بَعْضًا، وبَعْضَهُ يُخالِفُ بَعْضًا، ويَكُونُ أنْ يَكُونَ مُتَشابِهًا وغَيْرَ مُتَشابِهٍ، أنْ تَكُونَ الثِّمارُ يُشْبِهُ بَعْضُها بَعْضًا في النَّظَرِ، وتَخْتَلِفُ في الطَّعُومِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إذا أثْمَرَ﴾، ”ثَمَرٌ“: جَمْعُ ”ثَمَرَةٌ“، ويَجُوزُ ”مِن ثُمُرِهِ“، ويَكُونُ ”اَلثُّمُرُ“، جَمْعَ ”ثِمارٌ“، فَيَكُونُ بِمَنزِلَةِ ”حُمُرٌ“، جَمْعُ ”حِمارٌ“، ويَجُوزُ ”مِن ثَمْرِهِ“، بِإسْكانِ المِيمِ.
وَقَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ﴾، يَجُوزُ ”اَلْحَصادُ“، و”اَلْحِصادُ“، وتُقْرَأُ بِهِما جَمِيعًا، ومِثْلُهُ ”اَلْجَدادُ“، و”اَلْجِدادُ“، لِصِرامِ النَّخْلِ، اخْتَلَفَ النّاسُ في تَأْوِيلِ ”﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ﴾“، فَقِيلَ: إنَّ الآيَةَ مَكِّيَّةٌ، ورُوِيَ أنَّ ثابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ صَرَمَ خَمْسَمِائَةِ نَخْلَةٍ، فَفَرَّقَ ثِمارَها كُلَّهُ، ولَمْ يُدْخِلْ مِنهُ شَيْئًا إلى مَنزِلِهِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ ولا تُسْرِفُوا﴾، فَيَكُونُ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ أنَّ الإنْسانَ إذا أعْطى كُلَّ مالِهِ ولَمْ يُوَصِّلْ إلى عِيالِهِ وأهْلِهِ مِنهُ شَيْئًا فَقَدْ أسْرَفَ، لِأنَّهُ جاءَ في الخَبَرِ: ”اِبْدَأْ بِمَن تَعُولُ“، وقالَ قَوْمٌ: إنَّها مَدَنِيَّةٌ، ومَعْنى ”وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ“: أدُّوا ما افْتُرِضَ عَلَيْكم في صَدَقَتِهِ، ولا اخْتِلافَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ في أمْرِ الزَّكَواتِ أنَّ الثِّمارَ إذا (p-٢٩٨)حُصِدَتْ وجَبَ إخْراجُ ما يَجِبُ فِيها مِنَ الصَّدَقَةِ فِيما فُرِضَ فِيهِ الصَّدَقَةُ، فَعَلى هَذا التَّأْوِيلِ يَكُونُ ”وَلا تُسْرِفُوا“، أيْ: ”لا تُنْفِقُوا أمْوالكم وصَدَقاتِكم عَلى غَيْرِ الجِهَةِ الَّتِي افْتُرِضَتْ عَلَيْكم“، كَما قالَ المُشْرِكُونَ: ”هَذا لَيْسَ كائِنًا“، وحَرَّمُوا ما أحَلَّ اللَّهُ، فَلا يَكُونُ إسْرافٌ أبْيَنَ مِن صَرْفِ الأمْوالِ فِيما يُسْخِطُ اللَّهَ.
{"ayah":"۞ وَهُوَ ٱلَّذِیۤ أَنشَأَ جَنَّـٰتࣲ مَّعۡرُوشَـٰتࣲ وَغَیۡرَ مَعۡرُوشَـٰتࣲ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّیۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَـٰبِهࣰا وَغَیۡرَ مُتَشَـٰبِهࣲۚ كُلُوا۟ مِن ثَمَرِهِۦۤ إِذَاۤ أَثۡمَرَ وَءَاتُوا۟ حَقَّهُۥ یَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوۤا۟ۚ إِنَّهُۥ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِینَ"}