الباحث القرآني
فِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى: {أَنْشَأَ} [الأنعام: 141]: أَيْ: ابْتَدَأَ الْفِعْلَ مِنْ غَيْرِ احْتِذَاءِ مِثَالٍ؛ وَكَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ، وَأَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ أَنْشَأَ فِي كُلِّ فِعْلٍ كَانَ عَلَى مِثَالٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْجَنَّاتُ: هِيَ: الْبَسَاتِينُ الَّتِي يَجِنُّهَا الشَّجَرُ، أَيْ: يَسْتُرُهَا؛ وَمِنْهُ جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْجِنُّ، لِاجْتِنَانِهِمْ عَنْ الْأَبْصَارِ، وَكَذَلِكَ الْجِنَّةُ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158]؛ سُمُّوا بِذَلِكَ لِاجْتِنَانِهِمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام: 141]
يَعْنِي: رُفِعَتْ عَلَى الْأَعْوَادِ، وَصِينَتْ عَنْ تَدَلِّي الثَّمَرِ عَلَى الْأَرْضِ، وَأُظْهِرَتْ لِلْإِدْرَاكِ، وَسَهُلَ جَمْعُهَا دُونَ انْحِنَاءٍ.
وَالْعَرْشُ: كُلُّ مَا ارْتَفَعَ فَوْقَ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: تَعْرِيشُهَا حِيَاطَتُهَا بِالْجُدُرِ، وَمَا قَامَ مَقَامَهَا، حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهَا مَدْخَلٌ لِأَحَدٍ؛ وَالْأَوَّلُ أَقْوَى فِي الِاشْتِقَاقِ. وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ: {خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة: 259]: يَعْنِي عَلَى أَعَالِيهَا، وَلَعَلَّهُ عَلَى جُدْرَانِهَا، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى حَدَائِقِ الْأَعْنَابِ الَّتِي هِيَ الْكُرُومُ فِي أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ،
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ} [الأنعام: 141] وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا أَصْلَا الْمَعَاشِ، وَعِمَادَا الْقُوتِ، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ فِي وِزَانٍ آخَرَ وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَوَصْفُهَا بِأَنَّهَا مُتَشَابِهَةٌ وَغَيْرُ مُتَشَابِهَةٍ؛ يَعْنِي: أَنَّ مِنْهَا مَا يَتَشَابَهُ فِي الظَّاهِرِ، وَيُخَالِفُهُ فِي الْبَاطِنِ؛ وَمِنْهَا مَا يَشْتَبِهُ فِي اللَّوْنِ، وَيَخْتَلِفُ فِي الطَّعْمِ؛ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلَانِ عَظِيمَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى الْمِنَّةِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا وَالنِّعْمَةِ الَّتِي هَيَّأَهَا لَنَا وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فَلَوْ شَاءَ رَبُّنَا إنْ خَلَقَنَا أَحْيَاءً أَلَّا يَخْلُقَ لَنَا غِذَاءً، أَوْ إذَا خَلَقَهُ أَلَّا يَكُونَ جَمِيلَ الْمَنْظَرِ طَيِّبَ الطَّعْمِ، أَوْ إذَا خَلَقَهُ كَذَلِكَ أَلَّا يَكُونَ سَهْلَ الْجَنْيِ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَإِنْ فَعَلَهُ فَبِفَضْلِهِ، كَابْتِدَاءِ خَلْقِهِ: فِي تَعْدِيدِ النِّعَمِ وَتَقْرِيرِ الْفَضْلِ وَالْكَرْمِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِالثَّوَابِ قَبْلَ الْعِقَابِ، وَبِالْعَطَاءِ قَبْلَ الْعَمَلِ.
الدَّلِيلُ الثَّانِي عَلَى الْقُدْرَةِ فِي أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ الرُّسُوبُ يَصْعَدُ بِقُدْرَةِ الْوَاحِدِ الْقَادِرِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ مِنْ أَسَافِلِ الشَّجَرِ إلَى أَعَالِيهَا، وَيَتَرَقَّى مِنْ أُصُولِهَا إلَى فُرُوعِهَا، حَتَّى إذَا انْتَهَى إلَى آخِرِهَا نَشَأَ فِيهَا أَوْرَاقٌ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِهَا، وَثِمَارٌ خَارِجَةٌ عَنْ صِفَتِهَا، فِيهَا الْجِرْمُ الْوَافِرُ، وَاللَّوْنُ الزَّاهِرُ، وَالْجَنْيُ الْجَدِيدُ، وَالطَّعْمُ اللَّذِيذُ؛ فَأَيْنَ الطَّبَائِعُ وَأَجْنَاسُهَا؟ وَأَيْنَ الْفَلَاسِفَةُ وَأُنَاسُهَا؟ هَلْ فِي قُدْرَةِ الطَّبِيعَةِ إذَا سَلَّمْنَا وَقُلْنَا لَهَا قُدْرَةٌ عَلَى طَرِيقِ الْجَدَلِ أَنْ تُتْقِنَ هَذَا الْإِتْقَانَ الْبَدِيعَ، أَوْ تُرَتِّبَ هَذَا التَّرْتِيبَ الْعَجِيبَ؟ كَلًّا، لَا يَتِمُّ ذَلِكَ فِي الْمَعْقُولِ إلَّا لِحَيٍّ عَالِمٍ قَادِرٍ مُرِيدٍ، فَقَدْ عَلِمَ الْأَلِبَّاءُ أَنَّ أُمِّيًّا لَا يَنْظِمُ سُطُورَ الْكِتَابَةِ، وَأَنَّ سَوَادِيًّا لَا يَقْدِرُ عَلَى مَا فِي الدِّيبَاجِ مِنْ التَّزَيُّنِ وَالنِّسَاجَةِ؛ فَسُبْحَانَ مَنْ لَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ آيَةُ بِدَايَةٍ وَنِهَايَةٍ، فَمِنْ اللَّهِ الِابْتِدَاءُ، وَإِنَّ إلَى رَبِّك الْمُنْتَهَى، تَقَدَّسَ وَتَعَالَى.
[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ]
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] فَهَذَانِ بِنَاءَانِ جَاءَا بِصِيغَةِ أَفْعَلَ، وَأَحَدُهُمَا مُبَاحٌ لِقَوْلِهِ: {فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10]. وَالثَّانِي: وَاجِبٌ عَلَى مَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ فِي الشَّرِيعَةِ اقْتِرَانُ الْمُبَاحِ وَالْوَاجِبِ؛ لِمَا يَأْتِي فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَوَائِدِ، وَيَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ، فَأَمَّا الْأَكْلُ فَلِقَضَاءِ اللَّذَّةِ، وَأَمَّا إيتَاءُ الْحَقِّ فَلِقَضَاءِ حَقِّ النِّعْمَةِ، فَلِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ نِعْمَةٌ فِي الْبَدَنِ بِالصِّحَّةِ، وَاسْتِقَامَةِ الْأَعْضَاءِ، وَسَلَامَةِ الْحَوَاسِّ، وَنِعْمَةٌ فِي الْمَالِ بِالتَّمْلِيكِ وَالِاسْتِغْنَاءِ، وَقَضَاءِ اللَّذَّاتِ، وَبُلُوغِ الْآمَالِ؛ فَفَرْضُ الصَّلَاةِ كِفَاءُ نِعْمَةِ الْبَدَنِ، وَفَرْضُ الزَّكَاةِ كِفَاءُ نِعْمَةِ الْمَالِ، وَبَدَأَ بِذِكْرِ نِعْمَةِ الْأَكْلِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِإِيتَاءِ الْحَقِّ؛ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالنِّعْمَةِ كَانَ مِنْ فَضْلِهِ قَبْلَ التَّكْلِيفِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ} [الأنعام: 141]
اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَقِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلِ: أَنَّهُ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ؛ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرُهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ.
الثَّانِي: أَنَّهَا الصَّدَقَةُ غَيْرُ الْمَفْرُوضَةِ تَكُونُ يَوْمَ الْحَصَادِ وَعِنْدَ الصِّرَامِ؛ وَهِيَ إطْعَامُ مَنْ حَضَرَ وَالْإِيتَاءُ لِمَنْ غَبَرَ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الثَّالِثِ: أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِالزَّكَاةِ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُجْمَلٌ وَلَمْ يَخْلُصُوا الْقَوْلَ فِيهِ، وَحَقِيقَةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ: آتُوا مُفَسَّرٌ، وَقَوْلُهُ: {حَقَّهُ} [الأنعام: 141] مُفَسَّرٌ فِي الْمُؤْتَى، مُجْمَلٌ فِي الْمِقْدَارِ؛ إنَّمَا يَقَعُ النَّظَرُ فِي رَفْعِ الْإِشْكَالِ الَّذِي أَنْشَأَهُ احْتِمَالُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ: وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ وَجْهَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ، وَتَحْقِيقُهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ، وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ هَذَا التَّأْلِيفِ، وَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ هَاهُنَا الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ.
وَقَدْ أَفَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيمَا سَمَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَأَفَادَتْ بَيَانَ مَا يَجِبُ فِيهِ مِنْ مُخْرَجَاتِ الْأَرْضِ الَّتِي أَجْمَلهَا فِي قَوْلِهِ: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267]، وَفَسَّرَهَا هَاهُنَا؛ فَكَانَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ عَامَّةً فِي الْمُخْرَجِ كُلِّهِ مُجْمَلَةً فِي الْقَدْرِ؛ وَهَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ فِي مُخْرَجَاتِ الْأَرْضِ مُجْمَلَةٌ فِي الْقَدْرِ، فَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي أُمِرَ بِأَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ، فَقَالَ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ دَالِيَةٍ نِصْفُ الْعُشْرِ»؛ فَكَانَ هَذَا بَيَانًا لِمِقْدَارِ الْحَقِّ الْمُجْمَلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَالَ أَيْضًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ حَبٍّ أَوْ تَمْرٍ صَدَقَةٌ». خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، فَكَانَ هَذَا بَيَانًا لِلْمِقْدَارِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ الْحَقُّ، وَاَلَّذِي يُسَمَّى فِي أَلْسِنَةِ الْعُلَمَاءِ نِصَابًا.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا قَدِيمًا وَحَدِيثًا؛ فَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ: أَنَّ الزَّكَاةَ فِي كُلِّ مُقْتَاتٍ لَا قَوْلَ لَهُ سِوَاهُ. وَقَدْ أَوْرَدْنَاهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَشَرَحْنَاهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ فِي كُلِّ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ مِنْ الْقُوتِ وَالْفَاكِهَةِ وَالْخُضَرِ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ فِي أُصُولِ الثِّمَارِ دُونَ الْبُقُولِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ أَقْوَالًا؛ أَظْهَرُهَا أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي كُلِّ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا كَانَ يُوسَقُ، فَأَوْجَبَهَا فِي اللَّوْزِ؛ لِأَنَّهُ مَكِيلٌ دُونَ الْجَوْزِ لِأَنَّهُ مَعْدُودٌ، مُعَوِّلًا عَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ حَبٍّ صَدَقَةٌ»؛ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مَحَلَّ الْوَاجِبِ هُوَ الْمُوسَقُ، وَبَيَّنَ الْقَدْرَ الَّذِي يَجِبُ إخْرَاجُ الْحَقِّ مِنْهُ.
وَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِالْقُوتِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّوْسِيقَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمُقْتَاتِ غَالِبًا دَائِمًا. وَأَمَّا الْخُضَرُ فَأَمْرُهَا نَادِرٌ.
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ «فَتَعَلَّقَتْ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْخُذْ مِنْ خُضَرِ الْمَدِينَةِ صَدَقَةً».
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَجَعَلَ الْآيَةَ مِرْآتَهُ فَأَبْصَرَ الْحَقَّ، وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْمَأْكُولِ قُوتًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ وَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ»: وَقَدْ أَشَرْنَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ إلَى مَسَالِكِ النَّظَرِ فِيهَا فِي كِتَابِ الْإِنْصَافِ وَالتَّخْلِيصِ. وَقَدْ آنَ تَحْدِيدُ النَّظَرِ فِيهَا كَمَا يَلْزَمُ كُلَّ مُجْتَهِدٍ.
فَاَلَّذِي لَاحَ بَعْدَ التَّرَدُّدِ فِي مَسَالِكِهِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَّرَ الْإِنْسَانَ بِنِعَمِهِ فِي الْمَأْكُولَاتِ الَّتِي هِيَ قِوَامُ الْأَبْدَانِ وَأَصْلُ اللَّذَّاتِ فِي الْإِنْسَانِ، عَلَيْهَا تَنْبَنِي الْحَيَاةُ، وَبِهَا يَتِمُّ طِيبُ الْمَعِيشَةِ عَدَّدَ أُصُولَهَا تَنْبِيهًا عَلَى تَوَابِعِهَا، فَذَكَرَ مِنْهَا خَمْسَةً: الْكَرْمَ، وَالنَّخْلَ، وَالزَّرْعَ، وَالزَّيْتُونَ، وَالرُّمَّانَ. فَالْكَرْمُ وَالنَّخْلُ: يُؤْكَلُ فِي حَالَيْنِ فَاكِهَةً وَقُوتًا.
وَالزَّرْعُ يُؤْكَلُ فِي نَوْعَيْنِ: فَاكِهَةً وَقُوتًا. وَالزَّيْتُ: يُؤْكَلُ قُوتًا وَاسْتِصْبَاحًا. وَالرُّمَّانُ: يُؤْكَلُ فَاكِهَةً مَحْضَةً. وَمَا لَمْ يُذْكَرْ مِمَّا يُؤْكَلُ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ.
فَقَالَ تَعَالَى: هَذِهِ نِعْمَتِي فَكُلُوهَا طَيِّبَةً شَرْعًا بِالْحِلِّ طَيِّبَةً حِسًّا بِاللَّذَّةِ، وَآتُوا الْحَقَّ مِنْهَا يَوْمَ الْحَصَادِ، وَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِوَقْتِ الْإِخْرَاجِ، وَجَعَلَ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ الْحَقَّ الْوَاجِبَ مُخْتَلِفًا بِكَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ وَقِلَّتِهَا، فَمَا كَانَ خَفِيفَ الْمُؤْنَةِ قَدْ تَوَلَّى اللَّهُ سَقْيَهُ فَفِيهِ الْعُشْرُ، وَمَا عَظُمَتْ مُؤْنَتُهُ بِالسَّقْيِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِتْيَانِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ.
فَأَمَّا قَوْلُ أَحْمَدَ: إنَّهُ فِيمَا يُوسَقُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ حَبٍّ أَوْ تَمْرٍ صَدَقَةٌ»، فَضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَقْتَضِي ظَاهِرَ الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ النِّصَابُ مُعْتَبَرًا فِي التَّمْرِ وَالْحَبِّ. فَأَمَّا سُقُوطُ الْحَقِّ عَمَّا عَدَاهَا فَلَيْسَ فِي قُوَّةِ الْكَلَامِ. وَأَمَّا التَّعْلِيقُ بِالْقُوتِ فَدَعْوَى وَمَعْنَى لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يَرْجِعُ إلَيْهِ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمَعَانِي مُوجِبَةً لِأَحْكَامِهَا بِأُصُولِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْقِيَاسِ.
وَكَيْفَ يَذْكُرُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النِّعْمَةَ فِي الْقُوتِ وَالْفَاكِهَةِ، وَأَوْجَبَ الْحَقَّ مِنْهَا كُلِّهَا فِيمَا تَنَوَّعَ حَالُهُ كَالْكَرْمِ وَالنَّخِيلِ، وَفِيمَا تَنَوَّعَ جِنْسُهُ كَالزَّرْعِ، وَفِيمَا يَنْضَافُ إلَى الْقُوتِ مِنْ الِاسْتِسْرَاجِ الَّذِي بِهِ تَمَامُ النِّعْمَةِ فِي الْمَتَاعِ بِلَذَّةِ الْبَصَرِ إلَى اسْتِيفَاءِ النِّعَمِ فِي الظُّلَمِ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمُقْتَاتِ الَّذِي يَدُومُ، فَأَمَّا فِي الْخُضَرِ فَلَا بَقَاءَ لَهَا؛ وَلِذَلِكَ لَمْ تُؤْخَذْ الزَّكَاةُ فِي الْأَقْوَاتِ مِنْ أَخْضَرِهَا، وَإِنَّمَا أُخِذَتْ مِنْ يَابِسِهَا.
قُلْنَا: إنَّمَا تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ عِنْدَ انْتِهَائِهِ، بِالْيُبْسِ، وَانْتِهَاءُ الْيَابِسِ وَالطَّيِّبِ انْتِهَاءُ الْأَخْضَرِ؛ وَلِذَلِكَ إذَا كَانَ الرَّطْبُ لَا يُثْمِرُ، وَالْعِنَبُ لَا يَتَزَبَّبُ تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْهُمَا عَلَى حَالِهِمَا، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْفَاكِهَةُ الْخُضَرِيَّةُ أَصْلًا فِي اللَّذَّةِ وَرُكْنًا فِي النِّعْمَةِ مَا وَقَعَ الِامْتِنَانُ بِهَا فِي الْجَنَّةِ. أَلَا تَرَاهُ وَصَفَ جَمَالَهَا وَلَذَّتَهَا، فَقَالَ: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] فَذَكَرَ النَّخْلَ أَصْلًا فِي الْمُقْتَاتِ، وَالرُّمَّانَ أَصْلًا فِي الْخَضْرَاوَاتِ.
أَوَلَا يَنْظُرُونَ إلَى وَجْهِ امْتِنَانِهِ عَلَى الْعُمُومِ لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ بِقَوْلِهِ: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} [عبس: 25] {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا} [عبس: 26] {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} [عبس: 27] {وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [عبس: 28] {وَزَيْتُونًا وَنَخْلا} [عبس: 29] {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} [عبس: 30] {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31].
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]. وَاَلَّذِي يُحْصَدُ الزَّرْعُ.
قُلْنَا: جَهِلْتُمْ؛ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ نَبْتٍ فِي الْأَرْضِ. وَأَصْلُ الْحَصَادِ إذْهَابُ الشَّيْءِ عَنْ مَوْضِعِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ؛ قَالَ تَعَالَى: {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} [هود: 100]. وَقَالَ: {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} [الأنبياء: 15]. وَقَالَ: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} [يونس: 24]. وَفِي الْحَدِيثِ: «وَهَلْ يُكِبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ».
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مَجَازٌ؛ وَأَصْلُهُ فِي الزَّرْعِ.
قُلْنَا: هَذَا كُلُّهُ حَقِيقَةٌ؟ وَأَصْلُهَا الذَّهَابُ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ يُقَالُ جِدَادُ النَّخْلِ، وَحَصَادُ الزَّرْعِ، جُذَاذُ الْبَقْلِ؟
قُلْنَا: الِاسْمُ الْعَامُّ الْحَصَادُ؛ وَهَذِهِ خَوَاصُّ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مُتَنَاوَلَاتِهِ. وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهُ ذَكَرَ الْحَصَادَ فِيمَا يُحْصَدُ دَلِيلًا عَلَى الْجِدَادِ فِيمَا يُجَدُّ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَكْفِي عَنْ الْآخَرِ، وَلَكِنَّ النَّبَاتَ كَانَ أَصْلًا لِقَوْلِهِ: فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ [فَجَعَلَهَا قِسْمًا] وَحَبَّ الْحَصِيدِ، فَجَعَلَهُ قِسْمًا آخَرَ؛ فَلَمَّا عَادَلَ الْجَمِيعَ اكْتَفَى بِذِكْرِهِ عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ أَخَذَ الزَّكَاةَ مِنْ خُضَرِ الْمَدِينَةِ وَلَا خَيْبَرَ.
قُلْنَا: كَذَلِكَ عَوَّلَ عُلَمَاؤُنَا. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ عَدَمُ دَلِيلٍ لَا وُجُودُ دَلِيلٍ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ أَخَذَهَا لَنُقِلَ.
قُلْنَا: وَأَيُّ حَاجَةٍ إلَى نَقْلِهِ، وَالْقُرْآنُ يَكْفِي عَنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَ [آيَةُ] الزَّكَاةِ مَدَنِيَّةٌ.
قُلْنَا: قَدْ قَالَ مَالِكٌ: إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ. وَتَحْقِيقُهُ: فِي نُكْتَةٍ بَدِيعَةٍ؛ وَهِيَ أَنَّ الْقَوْلَ فِي أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ أَوْ مَدَنِيَّةٌ يَطُولُ. فَهَبْكُمْ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ؛ إنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ بِهَا إيجَابًا مُجْمَلًا فَتَعَيَّنَ فَرْضُ اعْتِقَادِهَا، وَوَقَفَ الْعَمَلُ بِهَا عَلَى بَيَانِ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَالْوَقْتِ، فَلَمْ تَكُنْ بِمَكَّةَ حَتَّى تَمَهَّدَ الْإِسْلَامُ بِالْمَدِينَةِ؛ فَوَقَعَ الْبَيَانُ، فَتَعَيَّنَ الِامْتِثَالُ، وَهَذَا لَا يَفْقُهُهُ إلَّا الْعُلَمَاءُ بِالْأُصُولِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ وَفِيمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ دَالِيَةٍ نِصْفُ الْعُشْرِ» كَلَامٌ جَاءَ لِبَيَانِ تَفْصِيلِ قَدْرِ الْوَاجِبِ بِحَالِ الْمُوجِبِ فِيهِ، وَلَيْسَ الْقَصْدُ مِنْهُ الْعُمُومَ حَتَّى يَقَعَ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي اسْتِعْمَامِ مَا سَقَتْ السَّمَاءُ.
قُلْنَا: هَذَا هُوَ كَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَهُوَ مِنْ مُذْهَبَاتِهِ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا كِتَابَ الْبُرْهَانِ، وَظَنَّ أَنَّهَا لَمْ تُدْرَكْ فِي غَابِرِ الْأَزْمَانِ، وَلَيْسَ لَهَا فِي الدَّلَائِلِ مَكَانٌ.
نَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْحَدِيثَ جَاءَ لِلْعُمُومِ فِي كُلِّ مَسْقِيٍّ، وَلِتَفْصِيلِ قَدْرِ الْوَاجِبِ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُوجِبِ فِيهِ، وَلَا يَتَعَارَضُ ذَلِكَ؛ فَيَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهُ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ خَصَّصْتُمْ الْحَدِيثَ فِي الْمَأْكُولَاتِ مِنْ الْمُقْتَاتِ، فَنَحْنُ نَخُصُّهُ فِي الْمَأْكُولَاتِ أَيْضًا.
قُلْنَا: نَحْنُ خَصَّصْنَاهُ فِي الْمَأْكُولَاتِ مِنْ الْمُقْتَاتِ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ، وَلَا دَلِيلَ لَكُمْ عَلَى تَخْصِيصِهِ فِي الْمُقْتَاتِ؛ فَإِنْ أَعَادُوا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ أَعَدْنَا مَا سَبَقَ عَلَيْهَا مِنْ الْأَجْوِبَةِ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ:
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا زَكَاةَ فِي الزَّيْتُونِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ؛ قَالَ: لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ إدَامًا، وَأَيْضًا فَإِنَّ التِّينَ أَنْفَعُ مِنْهُ فِي الْقُوتِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ.
قُلْنَا لَهُ: الزَّكَاةُ تَجِبُ عِنْدَنَا فِي التِّينِ، فَلَا قَوْلَ لَك فِي ذَلِكَ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ التِّينِ وَالزَّبِيبِ، وَالزَّيْتُونُ قُوتٌ يُدَّخَرُ ذَاتُهُ وَيُدَّخَرُ زَيْتُهُ؛ فَلَا كَلَامَ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ:
قَالَ مَالِكٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ: إنَّمَا تَكُونُ الزَّكَاةُ فِيمَا يُقْتَاتُ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ دُونَ مَا يُقْتَاتُ بِهِ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ، فَلَا زَكَاةَ فِي الْقَطَّانِي، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي التِّينِ، فَكَانَ لَا يُوجِبُ فِيهِ الزَّكَاةَ، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِيهِ، فَإِذَا أُخْبِرَ عَنْهُ وَرَأَى مَوْقِعَهُ فِي بِلَادِهِ أَوْجَبَ فِيهِ الزَّكَاةَ؛ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ؛ وَهُوَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا وَرَدَ، هَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ الْمُطْلَقِ أَوْ الْغَالِبِ مِنْ الْمُتَنَاوَلِ فِيهِ؟ وَالصَّحِيحُ حَمْلُهُ: عَلَى الْعُمُومِ الْمُطْلَقِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَة وَقْتِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ النَّبَاتِيَّةِ]
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]:
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَقْتِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ النَّبَاتِيَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلِ: أَنَّهَا تَجِبُ وَقْتَ الْجِدَادِ؛ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ؛ بِقَوْلِهِ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141].
الثَّانِي: أَنَّهَا تَجِبُ يَوْمَ الطِّيبِ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الطِّيبِ يَكُونُ عَلَفًا لَا قُوتًا وَلَا طَعَامًا؛ فَإِذَا طَابَتْ وَكَانَ الْأَكْلُ الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ وَجَبَ الْحَقُّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، إذْ بِتَمَامِ النِّعْمَةِ يَجِبُ شُكْرُ النِّعْمَةِ، وَيَكُونُ الْإِيتَاءُ يَوْمَ الْحَصَادِ لِمَا قَدْ وَجَبَ يَوْمَ الطِّيبِ.
الثَّالِثِ: أَنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الْخَرْصِ؛ قَالَهُ الْمُغِيرَةُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ الْوَاجِبُ فِيهِ مِنْ الزَّكَاةِ، فَيَكُونُ شَرْطًا لِوُجُوبِهَا، أَصْلُهُ مَجِيءُ السَّاعِي فِي الْغَنَمِ.
وَلِكُلِّ قَوْلٍ وَجْهٌ كَمَا تَرَوْنَ؛ لَكِنَّ الصَّحِيحَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِالطِّيبِ، لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ الدَّلِيلِ؛ وَإِنَّمَا خَرَصَ عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمَ قَدْرَ الْوَاجِبِ فِي ثِمَارِهِمْ.
وَالْأَصْلُ فِي الْخَرْصِ حَدِيثُ الْمُوَطَّإِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إلَى أَهْلِ خَيْبَرَ فَخَرَصَ عَلَيْهِمْ وَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوا وَلَهُ مَا قَالَ، أَوْ يَنْخُلُوا وَلَهُمْ مَا قَالَ: فَقَالُوا: بِهَذَا قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ». وَيَا وَيْحَ الْبُخَارِيَّ يَتَخَيَّرُ عَلَى مَالِكٍ، وَلَا يُدْخِلُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي بَابِ الْخَرْصِ، وَيُدْخِلُ مِنْهُ حَدِيثَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ مَرَّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بِحَدِيقَةٍ فَقَالَ: اُخْرُصُوا هَذِهِ فَخَرَصُوا؛ فَلَمَّا رَجَعَ عَنْ الْغَزْوِ وَسَأَلَ الْمَرْأَةَ كَمْ جَاءَتْ حَدِيقَتُك؟ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ كَمَا قَالَ؟» فَكَانَتْ إحْدَى مُعْجِزَاتِهِ فِي قَوْلٍ.
فَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ الطِّيبِ فَلَا شَيْءَ فِيهَا عَلَى الْمَالِكِ، وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إنَّ اللَّهَ ذَهَبَ بِمَالِهِ وَمَا عَلَيْهِ، وَلَمْ يُلْزِمْهُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ الْخَرْصِ وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: فَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى تَلَفِهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَحْلِفُ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ عِنْدَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، فَلَا يُبَرِّئُهُ مِنْهَا إلَّا إيجَادُ الْبَرَاءَةِ؛ وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْأَمَانَاتِ الَّتِي تَكُونُ مُسْتَحْفَظَةً عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِهِ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ ذَكَرَهُ: فِي الْفُرُوعِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ:
تَرَكَّبَتْ عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ مَسْأَلَةٌ؛ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْكَرْمِ وَالْفُرُوعِ وَالنَّخْلِ مُطْلَقًا، ثُمَّ فَسَّرَ النِّصَابَ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَا حَبٍّ صَدَقَةٌ. فَمَنْ حَصَلَ لَهُ مِنْ تَمْرٍ وَزَبِيبٍ مَعًا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، أَوْ مِنْ زَبِيبٍ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِيهَا، فَإِنْ حَصَلَ لَهُ مِنْ تَمْرٍ وَزَبِيبٍ مَعًا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ لَمْ تَلْزَمْهُ زَكَاتُهُ إجْمَاعًا فِي الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا صِنْفَانِ مُخْتَلِفَانِ. فَإِنْ حَصَلَ لَهُ مِنْ طَعَامٍ بُرٍّ وَشَعِيرٍ مَعًا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ زَكَّاهُمَا [مَعًا] عِنْدَ مَالِكٍ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُجْمَعَانِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمَا، وَإِنَّمَا هِيَ أَنْوَاعٌ كُلُّهَا يُعْتَبَرُ النِّصَابُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى الِانْفِرَادِ؛ لِأَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ؛ وَفِي حَالَةِ الطَّعْمِ.
وَالصَّحِيحُ ضَمُّهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا قُوَّتَانِ يَتَقَارَبَانِ، فَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُ الِاسْمِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ.
[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] الْإِسْرَافُ: هُوَ الزِّيَادَةُ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَا تُسْرِفُوا فِي الْأَكْلِ بِزِيَادَةِ الْحَرَامِ عَلَى مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تُسْرِفُوا فِي أَخْذِ زِيَادَةٍ عَلَى حَقِّكُمْ، وَهُوَ التِّسْعَةُ الْأَعْشَارُ، حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ، وَأَدُّوا مَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْكُمْ بِالْخَرْصِ أَوْ بِالْجِذَاذِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
{"ayah":"۞ وَهُوَ ٱلَّذِیۤ أَنشَأَ جَنَّـٰتࣲ مَّعۡرُوشَـٰتࣲ وَغَیۡرَ مَعۡرُوشَـٰتࣲ وَٱلنَّخۡلَ وَٱلزَّرۡعَ مُخۡتَلِفًا أُكُلُهُۥ وَٱلزَّیۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَـٰبِهࣰا وَغَیۡرَ مُتَشَـٰبِهࣲۚ كُلُوا۟ مِن ثَمَرِهِۦۤ إِذَاۤ أَثۡمَرَ وَءَاتُوا۟ حَقَّهُۥ یَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ وَلَا تُسۡرِفُوۤا۟ۚ إِنَّهُۥ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











