الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ﴾ الآيَةَ. اخْتَلَفَ العُلَماءُ في المُرادِ بِهَذا الحَقِّ المَذْكُورِ هُنا، وهَلْ هو مَنسُوخٌ أوْ لا ؟ فَقالَ جَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ: هَذا الحَقُّ هو الزَّكاةُ المَفْرُوضَةُ، ومِمَّنْ قالَ بِهَذا أنَسُ بْنُ مالِكٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، وطاوُسٌ، والحَسَنُ، وابْنُ زَيْدٍ، وابْنُ الحَنَفِيَّةِ، والضَّحّاكُ، وسَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، ومالِكٌ، ونَقَلَهُ عَنْهُمُ القُرْطُبِيُّ، نَقَلَهُ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ أنَسٍ وسَعِيدٍ، وغَيْرِهِما، ونَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وأنَسٌ، والحَسَنُ، وجابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وسَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، وقَتادَةُ، وطاوُسٌ، ومُحَمَّدُ ابْنُ الحَنَفِيَّةِ، والضَّحّاكُ، وابْنُ زَيْدٍ. وَقالَ قَوْمٌ: لَيْسَ المُرادُ بِهِ الزَّكاةَ، وإنَّما المُرادُ بِهِ أنَّهُ يُعْطِي مَن حَضَرَ مِنَ المَساكِينِ يَوْمَ الحَصادِ القَبْضَةَ، والضِّغْثَ، ونَحْوَ ذَلِكَ، وحَمَلَهُ بَعْضُهم عَلى الوُجُوبِ، وحَمَلَهُ بَعْضُهم عَلى النَّدْبِ، قالَ القُرْطُبِيُّ: وقالَ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ، وعَطاءٌ، والحَكَمُ، وحَمّادٌ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، ومُجاهِدٌ: هو حَقٌّ في المالِ سِوى الزَّكاةِ، أمَرَ اللَّهُ بِهِ نَدْبًا، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، ومُحَمَّدِ ابْنِ الحَنَفِيَّةِ أيْضًا، ورَواهُ أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ عَنْهُ ﷺ قالَ مُجاهِدٌ: إذا حَصَدْتَ فَحَضَرَكَ المَساكِينُ فاطْرَحْ لَهم مِنَ السُّنْبُلِ، وإذا جَذَذْتَ فَألْقِ لَهم مِنَ الشَّمارِيخِ، وإذا دَرَسْتَهُ وذَرَيْتَهُ فاطْرَحْ لَهم مِنهُ، وإذا عَرَفْتَ كَيْلَهُ فَأخْرِجْ مِنهُ زَكاتَهُ. وَقالَ قَوْمٌ: هو حَقٌّ واجِبٌ غَيْرُ الزَّكاةِ، وهو غَيْرُ مُحَدَّدٍ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ، ومِمَّنْ قالَ بِهِ عَطاءٌ، كَما نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقالَ قَوْمٌ: هي مَنسُوخَةٌ بِالزَّكاةِ، واخْتارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وعَزاهُ الشَّوْكانِيُّ في ”تَفْسِيرِهِ“ لِجُمْهُورِ العُلَماءِ، وأيَّدَهُ بِأنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وآيَةُ الزَّكاةِ نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ في السَّنَةِ الثّانِيَةِ بَعْدَ الهِجْرَةِ. وَقالَ ابْنُ كَثِيرٍ: في القَوْلِ بِالنَّسْخِ نَظَرٌ؛ لِأنَّهُ قَدْ كانَ شَيْئًا واجِبًا في الأصْلِ، ثُمَّ إنَّهُ فَصَّلَ بَيانَهُ، وبَيَّنَ مِقْدارَ المُخْرَجِ وكَمِّيَّتَهُ، قالُوا: وكانَ هَذا في السَّنَةِ الثّانِيَةِ مِنَ الهِجْرَةِ، واللَّهُ أعْلَمُ، انْتَهى مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ. وَمُرادُهُ أنَّ شَرْعَ الزَّكاةِ بَيانٌ لِهَذا الحَقِّ لا نَسْخٌ لَهُ، ومِمَّنْ رَوى عَنْهُ القَوْلَ بِالنُّسَخِ ابْنُ (p-٤٩٥)عَبّاسٍ، ومُحَمَّدُ ابْنُ الحَنَفِيَّةِ، والحَسَنُ، والنَّخَعِيُّ، وطاوُسٌ، وأبُو الشَّعْثاءِ، وقَتادَةُ والضَّحّاكُ، وابْنُ جُرَيْجٍ، نَقَلَهُ عَنْهُمُ الشَّوْكانِيُّ، والقُرْطُبِيُّ أيْضًا ونَقَلَهُ عَنِ السُّدِّيِّ وعَطِيَّةَ، ونَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ أيْضًا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنِ الحَنَفِيَّةِ، وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وإبْراهِيمَ، والحَسَنِ، والسُّدِّيِّ، وعَطِيَّةَ، واسْتَدَلَّ ابْنُ جَرِيرٍ لِلنَّسْخِ بِالإجْماعِ عَلى أنَّ زَكاةَ الحَرْثِ لا تُؤْخَذُ إلّا بَعْدَ التَّذْرِيَةِ والتَّنْقِيَةِ، وزَكاةَ التَّمْرِ لا تُؤْخَذُ إلّا بَعْدَ الجِذاذِ، فَدَلَّ عَلى عَدَمِ الأخْذِ يَوْمَ الحَصادِ، فَعُلِمَ أنَّ الآيَةَ مَنسُوخَةٌ، أوْ أنَّها عَلى سَبِيلِ النَّدْبِ، فالأمْرُ واضِحٌ. وَعَلى أنَّ المُرادَ بِها الزَّكاةُ، فَقَدْ أُشِيرَ إلى أنَّ هَذا الحَقَّ المَذْكُورَ هو جُزْءُ المالِ الواجِبُ في النِّصابِ في آياتِ الزَّكاةِ، وهو المَذْكُورُ في قَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِن طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ ومِمّا أخْرَجْنا لَكم مِنَ الأرْضِ﴾ الآيَةَ [البقرة: ٢٦٧]، وبَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ، فَإذا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فاعْلَمْ أنَّهُ يُحْتاجُ هُنا إلى بَيانِ ثَلاثَةِ أشْياءَ: الأوَّلُ: تَعْيِينُ ما تَجِبُ فِيهِ الزَّكاةُ مِمّا تُنْبِتُهُ الأرْضُ. الثّانِي: تَعْيِينُ القَدْرِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ الزَّكاةُ مِنهُ. الثّالِثُ: تَعْيِينُ القَدْرِ الواجِبِ فِيهِ وسَنُبَيِّنُها إنْ شاءَ اللَّهُ مُفَصَّلَةً. اعْلَمْ أوَّلًا أنَّهُ لا خِلافَ بَيْنِ العُلَماءِ في وُجُوبِ الزَّكاةِ في الحِنْطَةِ، والشَّعِيرِ، والتَّمْرِ، والزَّبِيبِ. واخْتُلِفَ فِيما سِواها مِمّا تُنْبِتُهُ الأرْضُ، فَقالَ قَوْمٌ: لا زَكاةَ في غَيْرِها مِن جَمِيعِ ما تُنْبِتُهُ الأرْضُ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِالحَسَنِ، وابْنِ سِيرِينَ، والشَّعْبِيِّ. وَقالَ بِهِ مِنَ الكُوفِيِّينَ ابْنُ أبِي لَيْلى، والثَّوْرِيُّ، والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ، وابْنُ المُبارَكِ، ويَحْيى بْنُ آدَمَ، وإلَيْهِ ذَهَبَ أبُو عُبَيْدٍ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أبِي مُوسى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وهو مَذْهَبُ أبِي مُوسى، فَإنَّهُ كانَ لا يَأْخُذُ الزَّكاةَ إلّا مِنَ الحِنْطَةِ، والشَّعِيرِ، والتَّمْرِ، والزَّبِيبِ، ذَكَرَهُ وكِيعٌ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيى، عَنْ أبِي بُرْدَةَ، عَنْ أبِيهِ، كَما نَقَلَهُ عَنْهُمُ القُرْطُبِيُّ. واسْتَدَلَّ أهْلُ هَذا القَوْلِ بِما رَواهُ الدّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أنَّهُ قالَ: إنَّما سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الزَّكاةَ في الحِنْطَةِ، والشَّعِيرِ، والتَّمْرِ، والزَّبِيبِ، وفي رِوايَةٍ عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «والعُشْرُ في التَّمْرِ (p-٤٩٦)والزَّبِيبِ والحِنْطَةِ والشَّعِيرِ»، وعَنْ مُوسى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عُمَرَ أنَّهُ قالَ: «إنَّما سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الزَّكاةَ في هَذِهِ الأرْبَعَةِ: الحِنْطَةِ، والشَّعِيرِ، والتَّمْرِ، والزَّبِيبِ» . وَعَنْ أبِي بُرْدَةَ، «عَنْ أبِي مُوسى، ومُعاذٍ: ”أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَهُما إلى اليَمَنِ يُعَلِّمانِ النّاسَ أمْرَ دِينِهِمْ، فَأمَرَهم ألّا يَأْخُذُوا الصَّدَقَةَ إلّا مِن هَذِهِ الأرْبَعَةِ، الحِنْطَةِ، والشَّعِيرِ، والتَّمْرِ، والزَّبِيبِ“»، رَواها كُلَّها الدّارَقُطْنِيُّ، قالَهُ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“ . قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ: أمّا ما رَواهُ الدّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مِن أنَّهُ ﷺ إنَّما سَنَّ الزَّكاةَ في الأرْبَعَةِ المَذْكُورَةِ، فَإسْنادُهُ واهٍ؛ لِأنَّهُ مِن رِوايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ العَزْرَمِيِّ، وهو مَتْرُوكٌ، قالَهُ ابْنُ حَجَرٍ في ”التَّلْخِيصِ“، وما رَواهُ الدّارَقُطْنِيُّ مِن حَدِيثِ مُوسى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ عُمَرَ أنَّهُ ﷺ إنَّما سَنَّ الزَّكاةَ في الأرْبَعَةِ المَذْكُورَةِ، قالَ فِيهِ أبُو زُرْعَةَ: مُوسى عَنْ عُمَرَ مُرْسَلٌ، قالَهُ ابْنُ حَجَرٍ أيْضًا، وما عَزاهُ لِلدّارَقُطْنِيِّ عَنْ أبِي بُرْدَةَ، عَنْ أبِي مُوسى، ومُعاذٍ، رَواهُ الحاكِمُ، والبَيْهَقِيُّ، عَنْ أبِي بُرْدَةَ، عَنْهُما. وَقالَ البَيْهَقِيُّ: رُواتُهُ ثِقاتٌ، وهو مُتَّصِلٌ، قالَهُ ابْنُ حَجَرٍ أيْضًا، وقالَ مالِكٌ وأصْحابُهُ: تَجِبُ الزَّكاةُ في كُلِّ مُقْتاتٍ مُدَّخَرٍ، وذَلِكَ عِنْدَهُ في ثِمارِ الأشْجارِ، إنَّما هو التَّمْرُ والزَّبِيبُ فَقَطْ، ومَشْهُورُ مَذْهَبِهِ وُجُوبُ الزَّكاةِ في الزَّيْتُونِ، إذا بَلَغَ حَبُّهُ خَمْسَةَ أوْسُقٍ، ولَكِنَّها تُخْرَجُ مِن زَيْتِهِ بَعْدَ العَصْرِ، فَيُخْرَجُ عُشْرُهُ أوْ نِصْفُ عُشْرِهِ عَلى ما سَيَأْتِي، فَإنْ لَمْ يَبْلُغْ حَبُّهُ خَمْسَةَ أوْسُقٍ، فَلا زَكاةَ عِنْدَهُ في زَيْتِهِ، وحُكْمُ السِّمْسِمِ، وبَزْرِ الفُجْلِ الأحْمَرِ، والقُرْطُمِ حُكْمُ الزَّيْتُونِ في مَشْهُورِ مَذْهَبِهِ، يُخْرَجُ مِن زَيْتِها إنْ بَلَغَ حَبُّها النِّصابَ. وَقالَ اللَّخْمِيُّ: لا يُضَمُّ زَيْتُ بَعْضِها إلى بَعْضٍ لِاخْتِلافِ أجْناسِها، ومَشْهُورُ مَذْهَبِهِ عَدَمُ وُجُوبِها في التِّينِ، وأوْجَبَها فِيهِ جَماعَةٌ مِن أصْحابِهِ بِمُقْتَضى أُصُولِهِ، وقالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: أظُنُّ مالِكًا ما كانَ يَعْلَمُ أنَّ التِّينَ يَيْبَسُ، ويُقْتاتُ، ويُدَّخَرُ، ولَوْ كانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ لَجَعَلَهُ كالزَّبِيبِ، ولَما عَدَّهُ مَعَ الفَواكِهِ الَّتِي لا تَيْبَسُ، ولا تُدَّخَرُ كالرُّمّانِ، والفِرْسِكِ، والَّذِي تَجِبُ فِيهِ مِنَ الحُبُوبِ عِنْدَهُ هو ما يُقْتاتُ ويُدَّخَرُ، وذَلِكَ الحِنْطَةُ، والشَّعِيرُ، والسُّلْتُ والعَلَسُ، والدُّخْنُ، والذُّرَةُ، والأرُزُّ، والعَدَسُ، والجُلُبّانُ، واللُّوبِيا، والجُلْجُلانِ، والتُّرْمُسُ، والفُولُ، والحِمَّصُ، والبَسِيلَةُ. وَمَشْهُورُ مَذْهَبِهِ أنَّ الكِرْسِنَّةَ لا زَكاةَ فِيها؛ لِأنَّها عَلَفٌ، وعَنْ أشْهَبَ وُجُوبُ الزَّكاةِ فِيها، وهي مِنَ القَطانِيِّ عَلى مَشْهُورِ مَذْهَبِهِ في بابِ الرِّبا، دُونَ بابِ الزَّكاةِ. (p-٤٩٧)وَقِيلَ هي البَسِيلَةُ، وجَمِيعُ أنْواعِ القَطانِيِّ عِنْدَ مالِكٍ جِنْسٌ واحِدٌ في الزَّكاةِ، فَلَوْ حَصَدَ وسْقًا مِن فُولٍ، ووَسْقًا مِن حِمَّصٍ، وآخَرَ مِن عَدَسٍ، وآخَرَ مِن جُلُبّانٍ، وآخَرَ مَن لُوبِيا، وجَبَ عَلَيْهِ أنْ يَضُمَّ بَعْضَها إلى بَعْضٍ، ويُخْرِجَ الزَّكاةَ مِنها كُلُّ واحِدٍ بِحَسَبِهِ، وكَذَلِكَ يُضَمُّ عِنْدَهُ القَمْحُ، والشَّعِيرُ، والسُّلْتُ بَعْضُها إلى بَعْضٍ، كالصِّنْفِ الواحِدِ، وتُخْرَجُ الزَّكاةُ مِنها كُلٌّ بِحَسَبِهِ، ولا يُضَمُّ عِنْدَهُ تَمْرٌ إلى زَبِيبٍ، ولا حِنْطَةٌ إلى قُطْنِيَّةٍ، ولا تَمْرٍ إلى حِنْطَةٍ، ولا أيُّ جِنْسٍ إلى جِنْسٍ آخَرَ، غَيْرَ ما ذَكَرْنا عَنْهُ ضَمَّهُ لِتَقارُبِ المَنفَعَةِ فِيهِ عِنْدَهُ، والنَّوْعُ الواحِدُ، كالتَّمْرِ، والزَّبِيبِ، والحِنْطَةِ يُضَمُّ بَعْضُ أنْواعِهِ إلى بَعْضٍ كَصَيْحانِيٍّ، وبَرْنِيٍّ، وسَمْراءَ، ومَحْمُولَةٍ، وزَبِيبٍ أسْوَدَ، وزَبِيبٍ أحْمَرَ، ونَحْوِ ذَلِكَ. وَلا زَكاةَ عِنْدَ مالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في شَيْءٍ مِنَ الفَواكِهِ غَيْرَ ما ذَكَرْنا، كالرُّمّانِ - والتُّفّاحِ - والخَوْخِ والإجّاصِ، والكُمَّثْرى، واللَّوْزِ، والجَوْزِ، والجِلَّوْزِ، ونَحْوِ ذَلِكَ كَما لا زَكاةَ عِنْدَهُ في شَيْءٍ مِنَ الخُضْراواتِ، قالَ في ”المُوَطَّإ“: السُّنَّةُ الَّتِي لا اخْتِلافَ فِيها عِنْدَنا، والَّذِي سَمِعْتُ مِن أهْلِ العِلْمِ: أنَّهُ لَيْسَ في شَيْءٍ مِنَ الفَواكِهِ كُلِّها صَدَقَةٌ، الرُّمّانُ، والفِرْسِكُ، والتِّينُ، وما أشْبَهَ ذَلِكَ، وما لَمْ يُشْبِهْهُ إذا كانَ مِنَ الفَواكِهِ. قالَ: ولا في القَضْبِ، ولا في البُقُولِ كُلِّها صَدَقَةٌ، ولا في أثْمانِها إذا بِيعَتْ صَدَقَةٌ، حَتّى يَحُولَ عَلى أثْمانِها الحَوْلُ مِن يَوْمِ بَيْعِها، ويَقْبِضُ صاحِبُها ثَمَنَها وهو نِصابٌ. اهـ. والفِرْسِكُ: بِكَسْرِ الفاءِ والسِّينِ بَيْنَها راءٌ ساكِنَةٌ آخِرُهُ كافٌ - الخَوْخُ، وهي لُغَةٌ يَمانِيَةٌ، وقِيلَ: نَوْعٌ مِثْلُهُ في القَدْرِ، وهو أجْرَدُ أمْلَسُ أحْمَرُ وأصْفَرُ جَيِّدٌ، وقِيلَ: ما لَيْسَ يَنْفَلِقُ عَنْ نَواةٍ مِنَ الخَوْخِ. وإذا كانَ الزَّرْعُ أوِ الثَّمَرُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأكْثَرَ، فَقَدْ قالَ فِيهِ مالِكٌ في ”المُوَطَّإ“: في النَّخِيلِ يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فَيَجُذّانِ مِنهُ ثَمانِيَةَ أوْسُقٍ مِنَ التَّمْرِ أنَّهُ لا صَدَقَةَ عَلَيْهِما فِيها، وأنَّهُ إنْ كانَ لِأحَدِهِما مِنها ما يَجُذُّ مِنهُ خَمْسَةَ أوْسُقٍ، ولِلْآخَرِ ما يَجُذُّ أرْبَعَةَ أوْسُقٍ، أوْ أقَلَّ مِن ذَلِكَ في أرْضٍ واحِدَةٍ، كانَتِ الصَّدَقَةُ عَلى صاحِبِ الخَمْسَةِ الأوْسُقِ، ولَيْسَ عَلى الَّذِي جَذَّ أرْبَعَةَ أوْسُقٍ أوْ أقَلَّ مِنها صَدَقَةٌ، وكَذَلِكَ العَمَلُ في الشُّرَكاءِ كُلِّهِمْ في كُلِّ زَرْعٍ مِنَ الحُبُوبِ كُلِّها يُحْصَدُ، أوِ النَّخْلِ يُجَذُّ، أوِ الكَرْمِ يُقْطَفُ، فَإنَّهُ إذا كانَ كُلُّ رَجُلٍ مِنهم يَجُذُّ مِنَ التَّمْرِ، أوْ يَقْطِفُ مِنَ الزَّبِيبِ خَمْسَةَ أوْسُقٍ، أوْ يَحْصُدُ مِنَ الحِنْطَةِ خَمْسَةَ أوْسُقٍ، فَعَلَيْهِ الزَّكاةُ، ومَن كانَ حَقُّهُ أقَلَّ مِن خَمْسَةِ أوْسُقٍ، فَلا صَدَقَةَ عَلَيْهِ. وَإنَّما تَجِبُ الصَّدَقَةُ عَلى مَن بَلَغَ جِذاذَهُ، أوْ قِطافَهُ، أوْ حَصادَهُ خَمْسَةَ أوْسُقٍ، انْتَهى مِن (p-٤٩٨)”مُوَطَّإ“ مالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ. وَإذا أمْسَكَ ذَلِكَ الحَبَّ أوِ التَّمْرَ الَّذِي أخْرَجَ زَكاتَهُ سِنِينَ، ثُمَّ باعَهُ - فَحُكْمُهُ عِنْدَ مالِكٍ ما ذَكَرَهُ في ”مُوَطَّئِهِ“ حَيْثُ قالَ: السُّنَّةُ عِنْدَنا أنَّ كُلَّ ما أُخْرِجَتْ زَكاتُهُ مِن هَذِهِ الأصْنافِ كُلِّها الحِنْطَةِ، والتَّمْرِ، والزَّبِيبِ، والحُبُوبِ كُلِّها، ثُمَّ أمْسَكَهُ صاحِبُهُ بَعْدَ أنْ أدّى صَدَقَتَهُ سِنِينَ، ثُمَّ باعَهُ، أنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ في ثَمَنِهِ زَكاةٌ، حَتّى يَحُولَ عَلى ثَمَنِهِ الحَوْلُ مِن يَوْمِ باعَهُ، إذا كانَ أصْلُ تِلْكَ الأصْنافِ مِن فائِدَةٍ أوْ غَيْرِها، وأنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلتِّجارَةِ. وَإنَّما ذَلِكَ بِمَنزِلَةِ الطَّعامِ، والحُبُوبِ، والعُرُوضِ يُفِيدُها الرَّجُلُ، ثُمَّ يُمْسِكُها سِنِينَ، ثُمَّ يَبِيعُها بِذَهَبٍ أوْ ورِقٍ، فَلا يَكُونُ عَلَيْهِ في ثَمَنِها زَكاةٌ حَتّى يَحُولَ عَلَيْها الحَوْلُ مِن يَوْمِ باعَها، فَإنْ كانَ أصْلُ تِلْكَ العُرُوضِ لِلتِّجارَةِ؛ فَعَلى صاحِبِها فِيها الزَّكاةُ حِينَ يَبِيعُها، إذا كانَ حَبَسَها سَنَةً مِن يَوْمِ زَكّى المالَ الَّذِي ابْتاعَها بِهِ، انْتَهى في ”المُوَطَّإ“، وهَذا في المُحْتَكِرِ، أمّا المُدِيرُ فَإنَّهُ يُقَوِّمُها بَعْدَ حَوْلٍ مِن زَكاتِهِ، كَما في ”المُدَوَّنَةِ“ عَنِ ابْنِ القاسِمِ. هَذا هو حاصِلُ مَذْهَبِ مالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيما تَجِبُ فِيهِ الزَّكاةُ مِنَ الثِّمارِ والحُبُوبِ، ومَذْهَبُ الشّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أنَّهُ لا تَجِبُ الزَّكاةُ في شَيْءٍ مِن ثِمارِ الأشْجارِ أيْضًا، إلّا فِيما كانَ قُوتًا يُدَّخَرُ، وذَلِكَ عِنْدَهُ التَّمْرُ والزَّبِيبُ فَقَطْ، كَما تَقَدَّمَ عَنْ مالِكٍ، ولا تَجِبُ عِنْدَهُ في سِواهُما مِنَ الثِّمارِ كالتِّينِ، والتُّفّاحِ، والسَّفَرْجَلِ، والرُّمّانِ، ونَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ مِنَ الأقْواتِ ولا مِنَ الأمْوالِ المُدَّخَرَةِ، ولا تَجِبُ عِنْدَهُ في طَلْعِ الفُحّالِ؛ لِأنَّهُ لا يَجِيءُ مِنهُ الثِّمارُ. واخْتَلَفَ قَوْلُهُ في الزَّيْتُونِ، فَقالَ في القَدِيمِ، تَجِبُ فِيهِ الزَّكاةُ؛ لِما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّهُ جَعَلَ في الزَّيْتِ العُشْرَ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - أنَّهُ قالَ: في الزَّيْتُونِ الزَّكاةُ، وقالَ في الجَدِيدِ: لا زَكاةَ في الزَّيْتُونِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ بِقُوتٍ فَهو كالخُضْراواتِ. * * * واخْتَلَفَ قَوْلُ الشّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيْضًا في الوَرْسِ، فَقالَ في القَدِيمِ: تَجِبُ فِيهِ الزَّكاةُ، لِما رُوِيَ أنَّ أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَتَبَ إلى بَنِي خُفّاشٍ، أنْ أدُّوا زَكاةَ الذُّرَةِ والوَرْسِ، وقالَ في الجَدِيدِ: لا زَكاةَ فِيهِ؛ لِأنَّهُ نَبْتٌ لا يُقْتاتُ، فَأشْبَهَ الخُضْراواتِ، وقالَ الشّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَن قالَ: لا عُشْرَ في الوَرْسِ لَمْ يُوجِبْ في الزَّعْفَرانِ، ومَن قالَ: يَجِبُ في الوَرْسِ، فَيُحْتَمَلُ أنْ يُوجِبَ في الزَّعْفَرانِ؛ لِأنَّهُما (p-٤٩٩)طَيِّبانِ، ويُحْتَمَلُ ألّا يُوجِبَ في الزَّعْفَرانِ، ويُفَرِّقَ بَيْنَهُما بِأنَّ الوَرْسَ شَجَرٌ لَهُ ساقٌ، والزَّعْفَرانَ نَباتٌ، واخْتَلَفَ قَوْلُهُ أيْضًا في العَسَلِ فَقالَ في القَدِيمِ: يَحْتَمِلُ أنْ تَجِبَ فِيهِ، ووَجْهُهُ ما رُوِيَ أنَّ بَنِي شَبابَةَ ”بَطْنٌ مِن فَهْمٍ“ كانُوا يُؤَدُّونَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن نَحْلٍ كانَ عِنْدَهُمُ العُشْرَ، مِن عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةً، وقالَ في الجَدِيدِ: لا تَجِبُ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ بِقُوتٍ فَلا يَجُبْ فِيهِ العُشْرُ كالبَيْضِ. واخْتَلَفَ قَوْلُهُ أيْضًا في القُرْطُمِ، وهو حَبُّ العُصْفُرِ، فَقالَ في القَدِيمِ: تَجِبُ إنْ صَحَّ فِيهِ حَدِيثُ أبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقالَ في الجَدِيدِ: لا تَجِبُ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ بِقُوتٍ، فَأشْبَهَ الخُضْراواتِ، قالَهُ كُلَّهُ صاحِبُ ”المُهَذَّبِ“، وقالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“: الأثَرُ المَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ: ”أنَّهُ جَعَلَ في الزَّيْتِ العُشْرَ“، ضَعِيفٌ، رَواهُ البَيْهَقِيُّ، وقالَ: إسْنادُهُ مُنْقَطِعٌ، وراوِيهِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ، قالَ: وأصَحُّ ما رُوِيَ في الزَّيْتُونِ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ: مَضَتِ السُّنَّةُ في زَكاةِ الزَّيْتُونِ، أنْ يُؤْخَذَ مِمَّنْ عَصَرَ زَيْتُونَهُ حِينَ يَعْصِرُهُ، فِيما سَقَتِ السَّماءُ أوْ كانَ بَعْلًا العُشْرُ، وفِيما سُقِيَ بِرَشِّ النّاضِحِ نِصْفُ العُشْرِ، وهَذا مَوْقُوفٌ لا يُعْلَمُ اشْتِهارُهُ، ولا يُحْتَجُّ بِهِ عَلى الصَّحِيحِ. وَقالَ البَيْهَقِيُّ: وحَدِيثُ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ، وأبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - أعْلى، وأوْلى أنْ يُؤْخَذَ بِهِ، يَعْنِي رِوايَتَهُما: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ لَهُما، لَمّا بَعَثَهُما إلى اليَمَنِ: «لا تَأْخُذا في الصَّدَقَةِ إلّا مِن هَذِهِ الأصْنافِ الأرْبَعَةِ: الشَّعِيرِ، والحِنْطَةِ، والتَّمْرِ، والزَّبِيبِ» . وَأمّا الأثَرُ المَذْكُورُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ فَضَعِيفٌ أيْضًا، والأثَرُ المَذْكُورُ عَنْ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضَعِيفٌ أيْضًا، ذَكَرَهُ الشّافِعِيُّ وضَعَّفَهُ هو وغَيْرُهُ، واتَّفَقَ الحُفّاظُ عَلى ضَعْفِهِ، واتَّفَقَ أصْحابُنا في كُتُبِ المَذْهَبِ عَلى ضَعْفِهِ، قالَ البَيْهَقِيُّ: ولَمْ يَثْبُتْ في هَذا إسْنادٌ تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، قالَ: والأصْلُ عَدَمُ الوُجُوبِ فَلا زَكاةَ فِيما لَمْ يَرِدْ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أوْ كانَ في مَعْنى ما ورَدَ بِهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وأمّا حَدِيثُ بَنِي شَبابَةَ في العَسَلِ فَرَواهُ أبُو داوُدَ، والبَيْهَقِيُّ، وغَيْرُهُما مِن رِوايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ بِإسْنادٍ ضَعِيفٍ، قالَ التِّرْمِذِيُّ في جامِعِهِ: لا يَصِحُّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في هَذا كَبِيرُ شَيْءٍ، قالَ البَيْهَقِيُّ: قالَ التِّرْمِذِيُّ في كِتابِ ”العِلَلِ“: قالَ البُخارِيُّ: لَيْسَ في زَكاةِ العَسَلِ شَيْءٌ يَصِحُّ. فالحاصِلُ أنَّ جَمِيعَ الآثارِ، والأحادِيثِ الَّتِي في هَذا الفَصْلِ ضَعِيفَةٌ، انْتَهى كَلامُ (p-٥٠٠)النَّوَوِيِّ. وَقالَ ابْنُ حَجَرٍ في ”التَّلْخِيصِ“ في أثَرِ عُمَرَ المَذْكُورِ في الزَّيْتُونِ: رَواهُ البَيْهَقِيُّ بِإسْنادٍ مُنْقَطِعٍ، والرّاوِي لَهُ عُثْمانُ بْنُ عَطاءٍ ضَعِيفٌ، قالَ: وأصَحُّ ما في البابِ قَوْلُ ابْنِ شِهابٍ: ”مَضَتِ السُّنَّةُ في زَكاةِ الزَّيْتُونِ“ إلَخْ. وَقالَ في ”التَّلْخِيصِ“ أيْضًا، في أثَرِ ابْنِ عَبّاسٍ المَذْكُورِ في الزَّيْتُونِ: ذَكَرَهُ ”صاحِبُ المُهَذَّبِ“، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وضَعَّفَهُ النَّوَوِيُّ، وقَدْ أخْرَجَهُ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وفي إسْنادِهِ لَيْثُ بْنُ أبِي سُلَيْمٍ. وَقالَ ابْنُ حَجَرٍ أيْضًا: رَوى الحاكِمُ في تارِيخِ ”نَيْسابُورَ“ مِن طَرِيقِ عُرْوَةَ، عَنْ عائِشَةَ مَرْفُوعًا: «الزَّكاةُ في خَمْسٍ: في البُرِّ، والشَّعِيرِ، والأعْنابِ، والنَّخِيلِ، والزَّيْتُونِ»، وفي إسْنادِهِ عُثْمانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وهو الوَقّاصِيُّ: مَتْرُوكُ الحَدِيثِ. وَقالَ ابْنُ حَجَرٍ في الأثَرِ المَذْكُورِ عَنْ أبِي بَكْرٍ: أنَّهُ كانَ يَأْخُذُ الزَّكاةَ مِن حَبِّ العُصْفُرِ، وهو القُرْطُمُ، لَمْ أجِدْ لَهُ أصْلًا، وقالَ في ”التَّلْخِيصِ“ أيْضًا في خَبَرِ أخْذِهِ ﷺ زَكاةَ العَسَلِ: أخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «في العَسَلِ في كُلِّ عَشْرَةِ أزْقاقٍ زِقٌّ»، وقالَ في إسْنادِهِ مَقالٌ، ولا يَصِحُّ، وفي إسْنادِهِ صَدَقَةُ السَّمِينُ، وهو ضَعِيفُ الحِفْظِ. وَقَدْ خُولِفَ، وقالَ النَّسائِيُّ: هَذا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ، ورَواهُ البَيْهَقِيُّ، وقالَ: تَفَرَّدَ بِهِ صَدَقَةُ، وهو ضَعِيفٌ، وقَدْ تابَعَهُ طَلْحَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مُوسى بْنِ يَسارٍ، ذَكَرَهُ المَرْوَزِيُّ، ونُقِلَ عَنْ أحْمَدَ تَضْعِيفُهُ، وذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ أنَّهُ سَألَ البُخارِيَّ عَنْهُ، فَقالَ: هو عَنْ نافِعٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مُرْسَلٌ، ونَقَلَ الحاكِمُ في تارِيخِ ”نَيْسابُورَ“، عَنْ أبِي حاتِمٍ، عَنْ أبِيهِ، قالَ: حَدَّثَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى الذُّهْلِيُّ بِحَدِيثٍ كادَ أنْ يَهْلِكَ، حَدَّثَ عَنْ عارِمٍ، عَنِ ابْنِ المُبارَكِ، عَنْ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: «أُخِذَ مِنَ العَسَلِ العُشْرُ» . قالَ أبُو حاتِمٍ: وإنَّما هو عَنْ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ كَذَلِكَ: حَدَّثَناهُ عارِمٌ، وغَيْرُهُ قالَ: ولَعَلَّهُ سَقَطَ مِن كِتابِهِ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، فَدَخَلَهُ هَذا الوَهْمُ. قالَ التِّرْمِذِيُّ: وفي البابِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قُلْتُ: رَواهُ أبُو داوُدَ والنَّسائِيُّ مِن (p-٥٠١)رِوايَةِ عَمْرِو بْنِ الحارِثِ المِصْرِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قالَ: «”جاءَ هِلالٌ“ أحَدُ بَنِي مُتْعانَ ”إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِعُشُورِ نَحْلٍ لَهُ، وسَألَهُ أنْ يَحْمِيَ وادِيًا لَهُ يُقالُ لَهُ“ سَلَبَةُ " فَحَماهُ لَهُ، فَلَمّا ولّى عُمَرُ كَتَبَ إلى سُفْيانَ بْنِ وهْبٍ، إنْ أدّى إلَيْكَ ما كانَ يُؤَدِّي إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن عُشُورِ نَحْلِهِ فاحْمِ لَهُ سَلَبَةَ، وإلّا فَإنَّما هو ذُبابُ غَيْثٍ يَأْكُلُهُ مَن يَشاءُ» . قالَ الدّارَقُطْنِيُّ: يُرْوى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الحارِثِ، وابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مُسْنَدًا، ورَواهُ يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ الأنْصارِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مُرْسَلًا، عَنْ عُمَرَ مُرْسَلًا، قُلْتُ: فَهَذِهِ عِلَّتُهُ، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وابْنُ لَهِيعَةَ لَيْسا مِن أهْلِ الإتْقانِ، ولَكِنْ تابَعَهُما عَمْرُو بْنُ الحارِثِ أحَدُ الثِّقاتِ، وتابَعَهُما أُسامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عِنْدَ ابْنِ ماجَهْ، وغَيْرِهِ كَما مَضى. قالَ التِّرْمِذِيُّ: وفِيهِ عَنْ أبِي سَيّارَةَ، قُلْتُ: هو المُتَعِيُّ، قالَ: «”قُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ إنَّ لِي نَحْلًا، قالَ:“ أدِّ العُشُورَ "، قالَ: قُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ احْمِ لِي جَبَلَها»، رَواهُ أبُو داوُدَ، وابْنُ ماجَهْ، والبَيْهَقِيُّ مِن رِوايَةِ سُلَيْمانَ بْنِ مُوسى، عَنْ أبِي سَيّارَةَ، وهو مُنْقَطِعٌ. قالَ البُخارِيُّ: لَمْ يُدْرِكْ سُلَيْمانُ أحَدًا مِنَ الصَّحابَةِ، ولَيْسَ في زَكاةِ العَسَلِ شَيْءٌ يَصِحُّ، وقالَ أبُو عُمَرَ: لا تَقُومُ بِهَذا حُجَّةٌ، قالَ: وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، قُلْتُ: رَواهُ البَيْهَقِيُّ، وفي إسْنادِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَرَّرٍ، وهو مَتْرُوكٌ، ورَواهُ أيْضًا مِن حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أبِي ذُبابٍ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ اسْتَعْمَلَهُ عَلى قَوْمِهِ، وأنَّهُ قالَ لَهم: ”أدُّوا العُشْرَ في العَسَلِ»، وأتى بِهِ عُمَرُ، فَقَبَضَهُ، فَباعَهُ، ثُمَّ جَعَلَهُ في صَدَقاتِ المُسْلِمِينَ“، وفي إسْنادِهِ مُنِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ضَعَّفَهُ البُخارِيُّ، والأزْدِيُّ، وغَيْرُهُما. قالَ الشّافِعِيُّ: وسَعْدُ بْنُ أبِي ذُبابٍ، يَحْكِي ما يَدُلُّ عَلى أنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَأْمُرْ فِيهِ بِشَيْءٍ، وأنَّهُ شَيْءٌ رَآهُ هو فَتَطَوَّعَ لَهُ بِهِ قَوْمُهُ، وقالَ الزَّعْفَرانِيُّ، عَنِ الشّافِعِيِّ: الحَدِيثُ في أنَّ في العَسَلِ العُشْرَ ضَعِيفٌ، واخْتِيارِي أنَّهُ لا يُؤْخَذُ مِنهُ، وقالَ البُخارِيُّ: لا يَصِحُّ فِيهِ شَيْءٌ. وَقالَ ابْنُ المُنْذِرِ: لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ ثابِتٌ، وفي ”المُوَطَّأِ“ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرٍ قالَ: ”جاءَ كِتابُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ إلى أبِي، وهو بِمِنًى: ألّا تَأْخُذْ مِنَ الخَيْلِ، ولا مِنَ العَسَلِ صَدَقَةً“، انْتَهى كَلامُ ابْنِ حَجَرٍ بِلَفْظِهِ. (p-٥٠٢)وَقالَ في ”التَّلْخِيصِ“ أيْضًا: إنَّ حَدِيثَ مُعاذٍ: أنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ زَكاةَ العَسَلِ، وأنَّهُ قالَ: ”لَمْ يَأْمُرْنِي فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِشَيْءٍ“، أخْرَجَهُ أبُو داوُدَ في ”المَراسِيلِ“، والحُمَيْدِيُّ في ”مَسْنَدِهِ“، وابْنُ أبِي شَيْبَةَ، والبَيْهَقِيُّ مِن طَرِيقِ طاوُسٍ عَنْهُ، وفِيهِ انْقِطاعٌ بَيْنَ طاوُسٍ ومُعاذٍ، لَكِنْ قالَ البَيْهَقِيُّ: هو قَوِيٌّ؛ لِأنَّ طاوُسًا كانَ عارِفًا بِقَضايا مُعاذٍ. قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ: ولا شَكَّ أنَّ إخْراجَ زَكاتِهِ أحْوَطُ، وهو مَذْهَبُ الإمامِ أحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ونَقَلَهُ صاحِبُ ”المُغْنِي“ عَنْ مَكْحُولٍ، والزُّهْرِيِّ، وسُلَيْمانَ بْنِ مُوسى، والأوْزاعِيِّ، وإسْحاقَ. وَحُجَّتُهُمُ الأحادِيثُ الَّتِي رَأيْتَ، ولا شَيْءَ فِيهِ عِنْدَ مالِكٍ، والشّافِعِيِّ في الجَدِيدِ، وابْنِ أبِي لَيْلى، والحَسَنِ بْنِ صالِحٍ، وابْنِ المُنْذِرِ، وغَيْرِهِمْ. وَحُجَّتُهم عَدَمُ صِحَّةِ ما ورَدَ فِيهِ، وأنَّ الأصْلَ بَراءَةُ الذِّمَّةِ، وأنَّهُ مائِعٌ خارِجٌ مِن حَيَوانٍ فَأشْبَهَ اللَّبَنَ. وَقالَ أبُو حَنِيفَةَ: إنْ كانَ في أرْضٍ لِلْعُشْرِ فَفِيهِ الزَّكاةُ، وإلّا فَلا زَكاةَ فِيهِ، ونِصابُ العَسَلِ، قِيلَ: خَمْسَةُ أفْراقٍ، وهو قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وقِيلَ: خَمْسَةُ أوْسُقٍ، وبِهِ قالَ أبُو يُوسُفَ، ومُحَمَّدٌ. وَقالَ أبُو حَنِيفَةَ: تَجِبُ في قَلِيلِهِ وكَثِيرِهِ، والفَرَقُ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا بِالعِراقِيِّ، وقِيلَ: سِتُّونَ رِطْلًا، وقِيلَ: مِائَةٌ وعِشْرُونَ رِطْلًا، وقِيلَ: ثَلاثَةُ آصُعٍ، وقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. قالَهُ في ”المُغْنِي“ . وَأمّا الحُبُوبُ: فَلا تَجِبُ الزَّكاةُ عِنْدَ الشّافِعِيِّ إلّا فِيما يُقْتاتُ ويُدَّخَرُ مِنها، ولا زَكاةَ عِنْدَهُ في شَيْءٍ مِنَ الفَواكِهِ الَّتِي لا تُقْتاتُ ولا تُدَّخَرُ، ولا في شَيْءٍ مِنَ الخُضْراواتِ، فَمَذْهَبُهُ يُوافِقُ مَذْهَبَ مالِكٍ، كَما قَدَّمْنا، إلّا أنَّ الشّافِعِيَّ لا يَضُمُّ بَعْضَ الأنْواعِ إلى بَعْضٍ، ومالِكٌ يَضُمُّ القَطانِيَّ بَعْضَها إلى بَعْضٍ في الزَّكاةِ، وكَذَلِكَ القَمْحُ، والشَّعِيرُ، والسُّلْتُ، كَما تَقَدَّمَ. * * * وَأمّا مَذْهَبُ الإمامِ أحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَهو وُجُوبُ الزَّكاةِ فِيما تُنْبِتُهُ الأرْضُ، مِمّا يَيْبَسُ، ويَبْقى، مِمّا يُكالُ. فَأوْصافُ المُزَكِّي عِنْدَهُ مِمّا تُنْبِتُهُ الأرْضُ ثَلاثَةٌ: وهي الكَيْلُ، والبَقاءُ، واليُبْسُ، فَما كانَ كَذَلِكَ مِنَ الحُبُوبِ والثِّمارِ وجَبَتْ فِيهِ عِنْدَهُ، سَواءٌ كانَ قُوتًا أمْ لا، وما لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ تَجِبْ فِيهِ؛ فَتَجِبُ عِنْدَهُ في الحِنْطَةِ، والشَّعِيرِ، والسُّلْتِ، (p-٥٠٣)والأرُزِّ، والذُّرَةِ، والدُّخْنِ، والقَطانِيِّ كالباقِلّا، والعَدَسِ، والحِمَّصِ، والأبازِيرِ كالكَمُّونِ، والكَراوْيا، والبَزْرِ كَبَزْرِ الكَتّانِ، والقِثّاءِ، والخِيارِ، وحَبِّ البُقُولِ كالرَّشادِ، وحَبِّ الفُجْلِ، والقُرْطُمِ، والسِّمْسِمِ، ونَحْوِ ذَلِكَ مِن سائِرِ الحُبُوبِ، كَما تَجِبُ عِنْدَهُ أيْضًا فِيما جَمَعَ الأوْصافَ المَذْكُورَةَ مِنَ الثِّمارِ، كالتَّمْرِ، والزَّبِيبِ، واللَّوْزِ، والفُسْتُقِ، والبُنْدُقِ. ولا زَكاةَ عِنْدَهُ في شَيْءٍ مِنَ الفَواكِهِ: كالخَوْخِ، والإجّاصِ، والكُمَّثْرى، والتُّفّاحِ، والتِّينِ، والجَوْزِ، ولا في شَيْءٍ مِنَ الخُضَرِ: كالقِثّاءِ، والخِيارِ، والباذِنْجانِ، واللِّفْتِ، والجَزَرِ، ونَحْوِ ذَلِكَ. وَيُرْوى نَحْوُ ما ذَكَرْنا عَنْ أحْمَدَ في الحُبُوبِ، عَنْ عَطاءٍ، وأبِي يُوسُفَ، ومُحَمَّدٍ، وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حامِدٍ: لا شَيْءَ في الأبازِيرِ، ولا البَزْرِ، ولا حَبِّ البُقُولِ. قالَ صاحِبُ ”المُغْنِي“: ولَعَلَّهُ لا يُوجِبُ الزَّكاةَ إلّا فِيما كانَ قُوتًا، أوْ أدَمًا؛ لِأنَّ ما عَداهُ لا نَصَّ فِيهِ، ولا هو في مَعْنى المَنصُوصِ؛ فَيَبْقى عَلى النَّفْيِ الأصْلِيِّ. ولا زَكاةَ في مَشْهُورِ مَذْهَبِ أحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيما يَنْبُتُ مِنَ المُباحِ الَّذِي لا يُمْلَكُ، إلّا بِأخْذِهِ: كالبُطْمِ، وشَعِيرِ الجَبَلِ، وبِزْرِ قُطُونا، وبِزْرِ البَقْلَةِ، وحَبِّ النَّمامِ، وبِزْرِ الأُشْنانِ، ونَحْوِ ذَلِكَ، وعَنِ القاضِي: أنَّهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكاةُ، إذا نَبَتَ بِأرْضِهِ. والصَّحِيحُ الأوَّلُ، فَإنْ تَساقَطَ في أرْضِهِ حَبٌّ كَحِنْطَةٍ مَثَلًا فَنَبَتَ، فَفِيهِ الزَّكاةُ؛ لِأنَّهُ يَمْلِكُهُ. ولا تَجِبُ الزَّكاةُ فِيما لَيْسَ بِحَبٍّ، ولا ثَمَرٍ، سَواءٌ وُجِدَ فِيهِ الكَيْلُ والِادِّخارُ أوْ لَمْ يُوجَدْ، فَلا تَجِبُ في ورَقٍ مِثْلِ ورَقِ السِّدْرِ، والخِطْمِيِّ، والأُشْنانِ، والصَّعْتَرِ، والآسِ، ونَحْوِهِ؛ لِأنَّهُ لَيْسَ بِمَنصُوصٍ عَلَيْهِ، ولا في مَعْنى المَنصُوصِ، ولا زَكاةَ عِنْدَهُ في الأزْهارِ: كالزَّعْفَرانِ، والعُصْفُرِ، والقُطْنِ؛ لِأنَّها لَيْسَتْ بِحَبٍّ، ولا ثَمَرٍ، ولا هي بِمَكِيلٍ؛ فَلَمْ تَجِبْ فِيها زَكاةٌ كالخُضْراواتِ. قالَ الإمامُ أحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَ في القُطْنِ شَيْءٌ، وقالَ: لَيْسَ في الزَّعْفَرانِ زَكاةٌ، وهو ظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِيِّ، واخْتِيارُ أبِي بَكْرٍ، قالَهُ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“ . واخْتَلَفَتْ عَنْ أحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الرِّوايَةُ في الزَّيْتُونِ: فَرَوى عَنْهُ ابْنُهُ صالِحٌ: أنَّ فِيهِ الزَّكاةَ، ورُوِيَ عَنْهُ: أنَّهُ لا زَكاةَ فِيهِ، وهو اخْتِيارُ أبِي بَكْرٍ، وظاهِرُ كَلامِ الخِرَقِيِّ يَقْتَضِيهِ، قالَهُ أيْضًا صاحِبُ المُغْنِي، وأمّا أبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإنَّهُ قائِلٌ بِوُجُوبِ الزَّكاةِ في كُلِّ ما تُنْبِتُهُ الأرْضُ، طَعامًا كانَ أوْ غَيْرَهُ، وقالَ أبُو يُوسُفَ عَنْهُ: إلّا الحَطَبُ، والحَشِيشُ، والقَصَبُ، والتِّبْنُ، والسَّعَفُ، وقَصَبُ الذَّرِيرَةِ، وقَصَبُ السُّكَّرِ. اهـ. والذَّرِيرَةُ: قَصَبٌ (p-٥٠٤)يُجاءُ بِهِ مِنَ الهِنْدِ، كَقَصَبِ النِّشابِ، أحْمَرُ يُتَداوى بِهِ، ومِمَّنْ قالَ مِثْلَ قَوْلِ أبِي حَنِيفَةَ النَّخَعِيُّ، ورُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، وهو قَوْلُ حَمّادِ بْنِ أبِي سُلَيْمانَ شَيْخِ أبِي حَنِيفَةَ، ونَصَرَهُ ابْنُ العَرَبِيِّ المالِكِيُّ في أحْكامِهِ، قالَ: وأمّا أبُو حَنِيفَةَ فَجَعَلَ الآيَةَ مِرْآتَهُ فَأبْصَرَ الحَقَّ. هَذا هو حاصِلُ مَذاهِبِ الأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - في تَعْيِينِ ما تَجِبُ فِيهِ الزَّكاةُ مِمّا تُنْبِتُهُ الأرْضُ، وسَنُشِيرُ إنْ شاءَ اللَّهُ إلى دَلِيلِ كُلِّ واحِدٍ مِنهم فِيما ذَهَبَ إلَيْهِ. أمّا أبُو حَنِيفَةَ: فَقَدِ احْتَجَّ عَلى وُجُوبِ الزَّكاةِ في كُلِّ ما تُنْبِتُهُ الأرْضُ مِن قَلِيلٍ وكَثِيرٍ بِعُمُومِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِها؛ لِأنَّ اللَّهَ قالَ فِيها: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ﴾ [الأنعام: ١٤١] الآيَةَ، وبِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أنْفِقُوا مِن طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ ومِمّا أخْرَجْنا لَكم مِنَ الأرْضِ﴾ الآيَةَ [البقرة: ٢٦٧]، وبِعُمُومِ قَوْلِهِ - ﷺ: «فِيما سَقَتِ السَّماءُ العُشْرُ»، الحَدِيثَ، ولَمْ يَقْبَلْ تَخْصِيصَهُ بِحَدِيثِ: «لَيْسَ فِيما دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَةٌ»؛ لِأنَّ القاعِدَةَ المُقَرَّرَةَ في أُصُولِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ: أنَّ العامَ قَطْعِيُّ الشُّمُولِ، والتَّناوُلُ لِجَمِيعِ أفْرادِهِ كَما أشارَ لَهُ في ”مَراقِي السُّعُودِ“ بِقَوْلِهِ: [ الرَّجَزُ ] ؎وَهُوَ عَلى فَرْدٍ يَدُلُّ حَتْما وفَهْمُ الِاسْتِغْراقِ لَيْسَ جَزْما ؎بَلْ هو عِنْدَ الجِلِّ بِالرُّجْحانِ ∗∗∗ والقَطْعُ فِيهِ مَذْهَبُ النُّعْمانِ فَما كانَ أقَلُّ مِن خَمْسَةِ أوْسُقٍ يَدْخُلُ عِنْدَهُ دُخُولًا مَجْزُومًا بِهِ في عُمُومِ الآياتِ المَذْكُورَةِ والحَدِيثِ، فَلا يَلْزَمُ عِنْدَهُ تَخْصِيصُ العامِّ بِالخاصِّ، بَلْ يَتَعارَضانِ، وتَقْدِيمُ ما دَلَّ عَلى الوُجُوبِ أوْلى مِن تَقْدِيمِ ما دَلَّ عَلى غَيْرِهِ لِلِاحْتِياطِ في الخُرُوجِ مِن عُهْدَةِ الطَّلَبِ. وَأمّا مالِكٌ والشّافِعِيُّ - رَحِمَهُما اللَّهُ تَعالى - فَحَجَّتُهُما في قَوْلِهِما: إنَّهُ لا زَكاةَ غَيْرُ النَّخْلِ والعِنَبِ مِنَ الأشْجارِ، ولا في شَيْءٍ مِنَ الحُبُوبِ إلّا فِيما يُقْتاتُ ويُدَّخَرُ، ولا زَكاةَ في الفَواكِهِ ولا الخُضْراواتِ؛ لِأنَّ النَّصَّ والإجْماعَ دَلّا عَلى وُجُوبِ الزَّكاةِ في الحِنْطَةِ، والشَّعِيرِ، والتَّمْرِ، والزَّبِيبِ، وكُلُّ واحِدٍ مِنها مُقْتاتٌ مُدَّخَرٌ، فَألْحَقُوا بِها كُلَّ ما كانَ في مَعْناها لِكَوْنِهِ مُقْتاتًا ومُدَّخَرًا، ولَمْ يَرَيا أنَّ في الأشْجارِ مُقْتاتًا ولا مُدَّخَرًا غَيْرَ التَّمْرِ والزَّبِيبِ؛ فَلَمْ يُشارِكْهُما في العِلَّةِ غَيْرُهُما مِنَ الثِّمارِ، ولِذا قالَ جَماعَةٌ مِن أصْحابِ مالِكٍ بِوُجُوبِها في التِّينِ (p-٥٠٥)عَلى أُصُولِ مَذْهَبِ مالِكٍ؛ لِأنَّهُ كالزَّبِيبِ في الِاقْتِياتِ والِادِّخارِ. وَقالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: الظّاهِرُ أنَّ مالِكًا ما كانَ يَعْلَمُ أنَّ التِّينَ كَذَلِكَ، وأمّا الحُبُوبُ فَيُوجَدُ فِيها الِاقْتِياتُ والِادِّخارُ، فَألْحَقا بِالحِنْطَةِ والشَّعِيرِ كُلَّ ما كانَ مُقْتاتًا مُدَّخَرًا، كالأرُزِّ، والذُّرةِ، والدُّخْنِ، والقَطانِيِّ، ونَحْوِ ذَلِكَ، فَهو إلْحاقٌ مِنهُما - رَحِمَهُما اللَّهُ - لِلْمَسْكُوتِ بِالمَنطُوقِ؛ بِجامِعِ العِلَّةِ الَّتِي هي عِنْدَهُما الِاقْتِياتُ والِادِّخارُ؛ لِأنَّ كَوْنَهُ مُقْتاتًا مُدَّخَرًا مُناسِبٌ لِوُجُوبِ الصَّدَقَةِ فِيهِ؛ لِاحْتِياجِ المَساكِينِ إلى قُوتٍ يَأْكُلُونَ مِنهُ ويَدَّخِرُونَ. وَأمّا أحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَحُجَّتُهُ في قَوْلِهِ: إنَّ الزَّكاةَ تَجِبُ فِيما يَبْقى ويَيْبَسُ ويُكالُ، أمّا ما لا يَيْبَسُ ولا يَبْقى، كالفَواكِهِ، والخُضْراواتِ، لَمْ تَكُنْ تُؤْخَذُ مِنهُ الزَّكاةُ في زَمَنِهِ ﷺ ولا زَمَنِ الخُلَفاءِ الرّاشِدِينَ. وَدَلِيلُهُ في اشْتِراطِهِ الكَيْلَ قَوْلُهُ - ﷺ: «لَيْسَ فِيما دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَةٌ»، قالَ: فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أنَّ مَحَلَّ الواجِبِ في الوَسْقِ، وهو خاصٌّ بِالمَكِيلِ، كَما سَيَأْتِي بَيانُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. أمّا دَلِيلُ الجُمْهُورِ مِنهم مالِكٌ، والشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - عَلى أنَّ الفَواكِهَ والخُضْراواتِ لا زَكاةَ فِيها فَظاهِرٌ؛ لِأنَّ الخُضْراواتِ كانَتْ كَثِيرَةً بِالمَدِينَةِ جِدًّا، والفَواكِهَ كانَتْ كَثِيرَةً بِالطّائِفِ، ولَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ ﷺ ولا عَنْ أحَدٍ مِن أصْحابِهِ أنَّهُ أخَذَ الزَّكاةَ مِن شَيْءٍ مِن ذَلِكَ. قالَ القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: وقَدْ كانَ بِالطّائِفِ الرُّمّانُ، والفِرْسِكُ، والأُتْرُجُّ، فَما اعْتَرَضَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ولا ذَكَرَهُ، ولا أحَدٌ مِن خُلَفائِهِ، قُلْتُ: وهَذا وإنْ لَمْ يَذْكُرْهُ في الأحْكامِ هو الصَّحِيحُ في المَسْألَةِ، وأنَّ الخُضْراواتِ لَيْسَ فِيها شَيْءٌ، وأمّا الآيَةُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيها: هَلْ هي مُحْكَمَةٌ أوْ مَنسُوخَةٌ، أوْ مَحْمُولَةٌ عَلى النَّدْبِ ؟ ولا قاطِعَ يُبَيِّنُ أحَدَ مَحامِلِها، بَلِ القاطِعُ المَعْلُومُ ما ذَكَرَهُ ابْنُ بُكَيْرٍ في أحْكامِهِ: أنَّ الكُوفَةَ افْتُتِحَتْ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ ﷺ وبَعْدَ اسْتِقْرارِ الأحْكامِ بِالمَدِينَةِ، أفَيَجُوزُ أنْ يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ، أوْ مَن لَهُ أدْنى بَصِيرَةٍ أنْ تَكُونَ شَرِيعَةٌ مِثْلُ هَذِهِ عُطِّلَتْ فَلَمْ يُعْمَلْ بِها في دارِ الهِجْرَةِ ومُسْتَقِرِّ الوَحْيِ، ولا خِلافَةِ أبِي بَكْرٍ حَتّى عَمِلَ بِذَلِكَ الكُوفِيُّونَ ؟ إنَّ هَذِهِ لَمُصِيبَةٌ فِيمَن ظَنَّ هَذا، أوْ قالَ بِهِ. قُلْتُ: ومِمّا يَدُلُّ عَلى هَذا مِن مَعْنى التَّنْزِيلِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ياأيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ وإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ﴾ [المائدة: ٦٧]، أتُراهُ يَكْتُمُ شَيْئًا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ (p-٥٠٦)أوْ بَيانِهِ ؟ حاشاهُ مِن ذَلِكَ، وقالَ تَعالى: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣]، ومِن كَمالِ الدِّينِ كَوْنُهُ لَمْ يَأْخُذْ مِنَ الخُضْراواتِ شَيْئًا، وقالَ جابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - فِيما رَواهُ الدّارَقُطْنِيُّ: إنَّ المَقاثِئَ كانَتْ تَكُونُ عِنْدَنا تَخْرُجُ عَشَرَةَ آلافٍ فَلا يَكُونُ فِيها شَيْءٌ. وقالَ الزُّهْرِيُّ والحَسَنُ: تُزَكّى أثْمانُ الخُضَرِ إذا أيْنَعَتْ وبَلَغَ الثَّمَنُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وقالَهُ الأوْزاعِيُّ في ثَمَنِ الفَواكِهِ، ولا حُجَّةَ في قَوْلِهِما لِما ذَكَرْنا. وَقَدْ رَوى التِّرْمِذِيُّ «عَنْ مُعاذٍ: أنَّهُ كَتَبَ إلى النَّبِيِّ ﷺ يَسْألُهُ عَنِ الخُضْراواتِ، وهي البُقُولُ، فَقالَ: ”لَيْسَ فِيها شَيْءٌ“»، وقَدْ رُوِيَ هَذا المَعْنى عَنْ جابِرٍ، وأنَسٍ، وعَلِيٍّ، ومُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، وأبِي مُوسى، وعائِشَةَ، ذَكَرَ أحادِيثَهُمُ الدّارَقُطْنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقالَ التِّرْمِذِيُّ: لَيْسَ يَصِحُّ في هَذا البابِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ شَيْءٌ، واحْتَجَّ بَعْضُ أصْحابِ أبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِحَدِيثِ صالِحِ بْنِ مُوسى عَنْ مَنصُورٍ، عَنْ إبْراهِيمَ، عَنِ الأسْوَدِ، عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ: «فِيما أنْبَتَتِ الأرْضُ مِنَ الخُضَرِ زَكاةٌ»، قالَ أبُو عُمَرَ: وهَذا حَدِيثٌ لَمْ يَرْوِهِ مِن ثِقاتِ أصْحابِ مَنصُورٍ أحَدٌ هَكَذا، وإنَّما هو مِن قَوْلِ إبْراهِيمَ. قُلْتُ وإذا سَقَطَ الِاسْتِدْلالُ مِن جِهَةِ السُّنَّةِ لِضَعْفِ أسانِيدِها، لَمْ يَبْقَ إلّا ما ذَكَرْناهُ مِن تَخْصِيصِ عُمُومِ الآيَةِ، وعُمُومِ قَوْلِهِ - ﷺ: «فِيما سَقَتِ السَّماءُ العُشْرُ»، بِما ذَكَرْنا. اهـ. كَلامُ القُرْطُبِيِّ. وَحُجَّةُ مَن قالَ: بِأنَّهُ لا زَكاةَ في غَيْرِ الأرْبَعَةِ المُجْمَعِ عَلَيْها الَّتِي هي: الحِنْطَةُ، والشَّعِيرُ، والتَّمْرُ، والزَّبِيبُ، هي الأحادِيثُ الَّتِي قَدَّمْنا في أوَّلِ هَذا المَبْحَثِ، وفِيها حَدِيثُ مُعاذٍ وأبِي مُوسى الَّذِي تَقَدَّمَ عَنِ البَيْهَقِيِّ أنَّهُ قَوِيٌّ مُتَّصِلٌ، وقالَ أبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ: لَيْسَ في شَيْءٍ مِنَ الخُضَرِ زَكاةٌ إلّا ما كانَتْ لَهُ ثَمَرَةٌ باقِيَةٌ، سِوى الزَّعْفَرانِ ونَحْوِهِ مِمّا يُوزَنُ فَفِيهِ الزَّكاةُ، وكانَ مُحَمَّدٌ يَعْتَبِرُ في العُصْفُرِ، والكَتّانِ، والبِزْرِ، فَإذا بَلَغَ بِزْرُهُما مِنَ القُرْطُمِ والكَتّانِ خَمْسَةَ أوْسُقٍ؛ كانَ العُصْفُرُ والكَتّانُ تَبَعًا لِلْبِزْرِ، وأُخِذَ مِنهُ العُشْرُ أوْ نِصْفُ العُشْرِ، وأمّا القُطْنُ فَلَيْسَ عِنْدَهُ فِيما دُونَ خَمْسَةِ أحْمالٍ شَيْءٌ، والحِمْلُ ثَلاثُمِائَةِ مِن بِالعِراقِيِّ، والوَرْسُ والزَّعْفَرانُ لَيْسَ فِيما دُونَ خَمْسَةِ أمْنانٍ مِنهُما شَيْءٌ، فَإذا بَلَغَ أحَدُهُما خَمْسَةَ أمْنانٍ كانَتْ فِيهِ الصَّدَقَةُ، وقالَ أبُو يُوسُفَ: وكَذَلِكَ قَصَبُ السُّكَّرِ الَّذِي يَكُونُ مِنهُ السُّكَّرُ، ويَكُونُ في أرْضِ العُشْرِ دُونَ أرْضِ الخَراجِ فِيهِ ما في الزَّعْفَرانِ، وأوْجَبَ عَبْدُ المَلِكِ بْنُ الماجِشُونِ الزَّكاةَ في أُصُولِ الثِّمارِ دُونَ البُقُولِ، وهو مُخالِفٌ لِما عَلَيْهِ أهْلُ مَذْهَبِهِ مالِكٌ وأصْحابُهُ. قالَهُ القُرْطُبِيُّ. * * * (p-٥٠٧)تَنْبِيهٌ مَن قالَ: لا زَكاةَ في الرُّمّانِ، وهم جُمْهُورُ العُلَماءِ، ومَن قالَ: لا زَكاةَ في الزَّيْتُونِ، يَلْزَمُ عَلى قَوْلِ كُلٍّ مِنهم أنْ تَكُونَ الآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِها الَّتِي هي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ﴾، مَنسُوخَةً أوْ مُرادًا بِها غَيْرُ الزَّكاةِ؛ لِأنَّها عَلى تَقْدِيرِ أنَّها مُحْكَمَةٌ، وأنَّها في الزَّكاةِ المَفْرُوضَةِ، لا يُمْكِنُ مَعَها القَوْلُ بِعَدَمِ زَكاةِ الزَّيْتُونِ والرُّمّانِ؛ لِأنَّها عَلى ذَلِكَ صَرِيحَةٌ فِيها؛ لِأنَّ المَذْكُوراتِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والنَّخْلَ والزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ والزَّيْتُونَ والرُّمّانَ مُتَشابِهًا وغَيْرَ مُتَشابِهٍ﴾، يَرْجِعُ إلى كُلِّها الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿كُلُوا مِن ثَمَرِهِ﴾ [الأنعام: ١٤١]، وقَوْلِهِ: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ﴾، كَما هو واضِحٌ لا لَبْسَ فِيهِ. فَيَدْخُلُ فِيهِ الزَّيْتُونُ والرُّمّانُ دُخُولًا أوَّلِيًّا لا شَكَّ فِيهِ، فَقَوْلُ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ بِعَدَمِ الزَّكاةِ في الرُّمّانِ يُقَوِّي القَوْلَ بِنَسْخِ الآيَةِ، أوْ أنَّها في غَيْرِ الزَّكاةِ المَفْرُوضَةِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ، وعَنْأبِي يُوسُفَ: أنَّهُ أوْجَبَ الزَّكاةَ في الحِنّاءِ، واعْلَمْ أنَّ مَذْهَبَ داوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الظّاهِرِيِّ في هَذِهِ المَسْألَةِ قَوِيٌّ جِدًّا مِن جِهَةِ النَّظَرِ؛ لِأنَّهُ قالَ: ما أنْبَتَتْهُ الأرْضُ ضَرْبانِ: مُوسَقٌ، وغَيْرُ مُوسَقٍ، فَما كانَ مُوسَقًا وجَبَتِ الزَّكاةُ فِيما بَلَغَ مِنهُ خَمْسَةَ أوْسُقٍ؛ لِقَوْلِهِ - ﷺ: «لَيْسَ فِيما دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَةٌ ولا زَكاةَ فِيما دُونَها مِنهُ»، وما كانَ غَيْرَ مُوسَقٍ فَفي قَلِيلِهِ وكَثِيرِهِ الزَّكاةُ؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - ﷺ: ”فِيما سَقَتِ السَّماءُ العُشْرُ“، ولا يُخَصَّصُ بِحَدِيثِ: «لَيْسَ فِيما دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَةٌ»؛ لِأنَّهُ غَيْرُ مُوسَقٍ أصْلًا. قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ: وهَذا القَوْلُ هو أسْعَدُ الأقْوالِ بِظاهِرِ النُّصُوصِ وفِيهِ نَوْعٌ مِنَ الجَمْعِ بَيْنَها، إلّا أنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ ما قَدَّمْنا مِن أنَّهُ ﷺ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْخُضْراواتِ مَعَ كَثْرَتِها في المَدِينَةِ، ولا الفَواكِهِ مَعَ كَثْرَتِها بِالطّائِفِ، ولَوْ كانَ العُمُومُ شامِلًا لِذَلِكَ لَبَيَّنَهُ ﷺ وإذا عَرَفْتَ كَلامَ العُلَماءِ في تَعْيِينِ ما تَجِبُ فِيهِ الزَّكاةُ، وأدِلَّةَ أقْوالِهِمْ مِمّا ذَكَرْنا. فاعْلَمْ أنَّ جُمْهُورَ العُلَماءِ قالُوا: لا تَجِبُ الزَّكاةُ إلّا في خَمْسَةِ أوْسُقٍ فَصاعِدًا؛ لِقَوْلِهِ - ﷺ: «لَيْسَ فِيما دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَةٌ» الحَدِيثَ. أخْرَجَهُ الشَّيْخانِ مِن حَدِيثِ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومُسْلِمٌ مِن حَدِيثِ جابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَمِمَّنْ قالَ بِهَذا الأئِمَّةُ الثَّلاثَةُ: مالِكٌ، والشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وأصْحابُهم، وهو قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وجابِرٍ، وأبِي أُمامَةَ بْنِ سَهْلٍ، وعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، وجابِرِ بْنِ زَيْدٍ، والحَسَنِ، وعَطاءٍ، ومَكْحُولٍ، والحَكَمِ، والنَّخَعِيِّ، وأهْلِ المَدِينَةِ، والثَّوْرِيِّ والأوْزاعِيِّ، وابْنِ أبِي (p-٥٠٨)لَيْلى، وأبِي يُوسُفَ، ومُحَمَّدٍ، وسائِرِ أهْلِ العِلْمِ، كَما نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدامَةَ وغَيْرُهُ. وَقالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“: لا نَعْلَمُ أحَدًا خالَفَ فِيهِ إلّا أبا حَنِيفَةَ، ومَن تابَعَهُ، ومُجاهِدًا، وقَدْ أجْمَعَ جَمِيعُ العُلَماءِ عَلى أنَّ الوَسْقَ سِتُّونَ صاعًا، وهو بِفَتْحِ الواوِ وكَسْرِها والفَتْحُ أشْهَرُ وأفْصَحُ، وقِيلَ: هو بِالكَسْرِ اسْمٌ وبِالفَتْحِ مَصْدَرٌ، ويُجْمَعُ عَلى أوْسُقٍ في القِلَّةِ وأوْساقٍ، وعَلى وُسُوقٍ في الكَثْرَةِ. واعْلَمْ أنَّ الصّاعَ أرْبَعَةُ أمْدادٍ بِمُدِّهِ ﷺ والمُدُّ بِالتَّقْرِيبِ: مِلْءُ اليَدَيْنِ المُتَوَسِّطَتَيْنِ، لا مَقْبُوضَتَيْنِ ولا مَبْسُوطَتَيْنِ، وتَحْدِيدُهُ بِالضَّبْطِ وزْنُ رِطْلٍ وثُلُثٍ بِالبَغْدادِيِّ، فَمَبْلَغُ الخَمْسَةِ الأوْسُقِ مِنَ الأمْدادِ ألْفُ مُدٍّ ومِائَتا مُدٍّ، ومِنَ الصِّيعانِ ثَلاثُمِائَةٍ، وهي بِالوَزْنِ ألْفُ رِطْلٍ وسِتُّمِائَةِ رِطْلٍ، والرِّطْلُ: وزْنُ مِائَةٍ وثَمانِيَةٍ وعِشْرِينَ دِرْهَمًا مَكِّيًّا، وزادَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ أرْبَعَةَ أسْباعِ دِرْهَمٍ، كُلُّ دِرْهَمٍ وزْنُ خَمْسِينَ وخُمُسَيْ حَبَّةٍ مِن مُطْلَقِ الشَّعِيرِ، كَما حَرَّرَهُ عُلَماءُ المالِكِيَّةِ، ومالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِن أدْرى النّاسِ بِحَقِيقَةِ المُدِّ والصّاعِ كَما هو مَعْلُومٌ، وقِيلَ فِيهِ غَيْرُ ما ذَكَرْنا. وَأمّا الحُكْمُ الثّالِثُ مِن أحْكامِ هَذِهِ المَسْألَةِ الثّالِثَةِ المَذْكُورَةِ في أوَّلِ هَذا المَبْحَثِ، وهو تَعْيِينُ القَدْرِ الواجِبِ إخْراجُهُ، فَلا خِلافَ فِيهِ بَيْنَ العُلَماءِ وهو العُشْرُ فِيما لَيْسَ في سَقْيِهِ مَشَقَّةٌ، كالَّذِي يَسْقِيهِ المَطَرُ، أوِ النَّهَرُ، أوْ عُرُوقُهُ في الأرْضِ، وأمّا ما يُسْقى بِالآلَةِ كالَّذِي يُسْقى بِالنَّواضِحِ فَفِيهِ نِصْفُ العُشْرِ، وهَذا ثابِتٌ عَنْهُ ﷺ مِن حَدِيثِ جابِرٍ، وابْنِ عُمَرَ، فَإنْ سَقى تارَةً بِمَطَرِ السَّماءِ مَثَلًا، وتارَةً بِالسّانِيَةِ فَإنِ اسْتَوَيا فَثَلاثَةُ أرْباعِ العُشْرٍ، بِلا خِلافٍ بَيْنَ العُلَماءِ، وإنْ كانَ أحَدُ الأمْرَيْنِ أغْلَبَ فَقِيلَ: يُغَلَّبُ الأكْثَرُ ويَكُونُ الأقَلُّ تَبَعًا لَهُ، وبِهِ قالَ أحْمَدُ، وأبُو حَنِيفَةَ، والثَّوْرِيُّ، وعَطاءٌ، وهو أحَدُ قَوْلَيِ الشّافِعِيِّ، وقِيلَ: يُؤْخَذُ بِالتَّقْسِيطِ، وهَذانِ القَوْلانِ كُلٌّ مِنهُما شَهَرَهُ بَعْضُ المالِكِيَّةِ، وحَكى بَعْضُهم رِوايَةً عَنْ مالِكٍ: أنَّ المُعْتَبَرَ ما حَيِيَ بِهِ الزَّرْعُ وتَمَّ، ومِمَّنْ قالَ بِالتَّقْسِيطِ مِنَ الحَنابِلَةِ: ابْنُ حامِدٍ، فَإنْ جَهِلَ المِقْدارَ وجَبَ العُشْرُ احْتِياطًا، كَما نَصَّ عَلَيْهِ الإمامُ أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رِوايَةِ عَبْدِ اللَّهِ، قالَهُ في ”المُغْنِي“؛ وعَلَّلَهُ بِأنَّ الأصْلَ وُجُوبُ العُشْرِ وإنَّما يَسْقُطُ نِصْفُهُ بِتَحَقُّقِ الكُلْفَةِ، وإذا لَمْ يَتَحَقَّقِ المُسْقِطِ وجَبَ البَقاءُ عَلى الأصْلِ وهو ظاهِرٌ جِدًّا. وإنِ اخْتَلَفَ السّاعِي ورَبُّ المالِ في أيِّهِما سَقى بِهِ أكْثَرُ ؟ فالقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ المالِ بِغَيْرِ يَمِينٍ؛ لِأنَّ النّاسَ لا يُسْتَحْلَفُونَ عَلى صَدَقاتِهِمْ، ولا وقْصَ في الحُبُوبِ والثِّمارِ، بَلْ كُلُّ ما زادَ عَلى النِّصابِ أُخْرِجَ مِنهُ بِحَسَبِهِ. * * * (p-٥٠٩)مَسائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذا المَبْحَثِ المَسْألَةُ الأُولى: قَدْ قَدَّمْنا إجْماعَ العُلَماءِ عَلى وُجُوبِ الزَّكاةِ في التَّمْرِ والزَّبِيبِ، وجُمْهُورِهِمْ عَلى أنَّهُما يُخْرَصانِ إذا بَدا صَلاحُهُما؛ لِأنَّ المالِكِينَ يَحْتاجُونَ إلى أكْلِ الرُّطَبِ والعِنَبِ؛ فَبِسَبَبِ ذَلِكَ شُرِعَ خَرْصُ التَّمْرِ والعِنَبِ، ويُخْرَصُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما شَجَرَةً شَجَرَةً، حَتّى يُعْلَمَ قَدْرُ ما في الجَمِيعِ الآنَ مِنَ الأوْساقِ، ثُمَّ يَسْقُطُ مِنهُ قَدْرُ ما يَنْقُصُهُ الجَفافُ، فَلَوْ كانَ فِيهِ خَمْسَةُ أوْسُقٍ مِنَ العِنَبِ أوِ الرُّطَبِ، وإذا جَفَّ كانَتْ أرْبَعَةَ أوْسُقٍ مَثَلًا، فَلا زَكاةَ فِيهِ؛ لِأنَّ النِّصابَ مُعْتَبَرٌ مِنَ التَّمْرِ والزَّبِيبِ اليابِسَيْنِ، لا مِنَ الرُّطَبِ والعِنَبِ، وإذا خَرَصَ عَلى الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنا خَلّى بَيْنَ مالِكِيهِ وبَيْنَهُ، وبَعْدَ الجِذاذِ يَأْتُونَ بِقَدْرِ الزَّكاةِ عَلى الخَرْصِ المَذْكُورِ تَمْرًا أوْ زَبِيبًا، وبِذَلِكَ يَحْصُلُ الجَمْعُ بَيْنَ الِاحْتِياطِ لِلْفُقَراءِ، والرِّفْقِ بِأرْبابِ الثِّمارِ، فَإنْ أصابَتْهُ بَعْدَ الخَرْصِ جائِحَةٌ، اعْتُبِرَتْ، وسَقَطَتْ زَكاةُ ما اجْتاحَتْهُ الجائِحَةُ، فَإنْ بَقِيَ بَعْدَها خَمْسَةُ أوْسُقٍ فَصاعِدًا أخْرَجَ الزَّكاةَ، وإلّا فَلا. ولا خِلافَ في اعْتِبارِ الجائِحَةِ بَعْدَ الخَرْصِ بَيْنَ العُلَماءِ. وَمِمَّنْ قالَ بِخَرْصِ النَّخِيلِ والأعْنابِ: الأئِمَّةُ الثَّلاثَةُ: مالِكٌ، والشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعالى - وعُمَرُ بْنُ الخَطّابِ، وسَهْلُ بْنُ أبِي حَثْمَةَ، ومَرْوانُ، والقاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، والحَسَنُ، وعَطاءٌ، والزُّهْرِيُّ، وعَمْرُو بْنُ دِينارٍ، وعَبْدُ الكَرِيمِ بْنِ أبِي المُخارِقِ، وأبُو عُبَيْدٍ، وأبُو ثَوْرٍ، وأكْثَرُ أهْلِ العِلْمِ كَما نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“، وحُكِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ: أنَّ الخَرْصَ بِدْعَةٌ، ومَنَعَهُ الثَّوْرِيُّ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ: الخَرْصُ ظَنٌّ وتَخْمِينٌ لا يَلْزَمُ بِهِ حُكْمٌ، وإنَّما كانَ الخَرْصُ تَخْوِيفًا لِلْقائِمِينَ عَلى الثِّمارِ؛ لِئَلّا يَخُونُوا، فَأمّا أنْ يَلْزَمَ بِهِ حُكْمٌ فَلا. قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ: لا يَخْفى أنَّ هَذا القَوْلَ تُبْطِلُهُ نُصُوصُ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ، فَمِن ذَلِكَ ما أخْرَجَهُ الشَّيْخانِ في ”صَحِيحَيْهِما“ مِن حَدِيثِ أبِي حُمَيْدٍ السّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: «خَرَجْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في غَزْوَةِ ”تَبُوكَ“ فَأتَيْنا وادِيَ القُرى عَلى حَدِيقَةٍ لِامْرَأةٍ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ: ”اخْرِصُوها“، فَخَرَصْناها، وخَرَصَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَشْرَةَ أوْسُقٍ، وقالَ: ”أحْصِيها حَتّى نَرْجِعَ إلَيْكَ، إنْ شاءَ اللَّهُ“، وانْطَلَقْنا حَتّى قَدِمْنا تَبُوكَ، فَذَكَرَ الحَدِيثَ. قالَ: ”ثُمَّ أقْبَلْنا حَتّى قَدِمْنا وادِيَ القُرى، فَسَألَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ المَرْأةَ عَنْ حَدِيقَتِها (p-٥١٠)كَمْ بَلَغَ ثَمَرُها ؟ قالَتْ: بَلَغَ عَشْرَةَ أوْسُقٍ“»، فَهَذا الحَدِيثُ المُتَّفَقُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ واضِحٌ عَلى مَشْرُوعِيَّةِ الخَرْصِ، كَما تَرى. وَعَنْ عَتّابِ بْنِ أسِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يَبْعَثُ عَلى النّاسِ مَن يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ كُرُومَهم وثِمارَهم» أخْرَجَهُ أبُو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، وابْنُ ماجَهْ، وابْنُ حِبّانَ. وَعَنْ عَتّابٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيْضًا قالَ: «أمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ يُخْرَصَ العِنَبُ، كَما يُخْرَصُ النَّخْلُ، فَتُؤْخَذُ زَكاتُهُ زَبِيبًا كَما تُؤْخَذُ صَدَقَةُ النَّخْلِ تَمْرًا»، أخْرَجَهُ أيْضًا أبُو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ، وابْنُ حِبّانَ، والدّارَقُطْنِيُّ. والتَّحْقِيقُ في حَدِيثِ عَتّابٍ هَذا: أنَّهُ مِن مَراسِيلِ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى؛ لِأنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ عَتّابًا؛ لِأنَّ مَوْلِدَ سَعِيدٍ في خِلافَةِ عُمَرَ، وعَتّابٌ ماتَ يَوْمَ ماتَ أبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - وقَدْ أثْبَتَ الحُجَّةَ بِمَراسِيلِ سَعِيدٍ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَقُولُونَ بِعَدَمِ الِاحْتِجاجِ بِالمُرْسَلِ، وقالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“: إنَّ مِن أصْحابِنا: مَن قالَ يُحْتَجُّ بِمَراسِيلِ ابْنِ المُسَيَّبِ مُطْلَقًا، والأصَحُّ أنَّهُ إنَّما يُحْتَجُّ بِمَراسِيلِهِ إذا اعْتَضَدَتْ بِأحَدِ أرْبَعَةِ أُمُورٍ: أنْ يُسْنِدَ، أوْ يُرْسِلَ مِن جِهَةٍ أُخْرى، أوْ يَقُولَ بِهِ بَعْضُ الصَّحابَةِ، أوْ أكْثَرُ العُلَماءِ، وقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ هُنا؛ فَقَدْ أجْمَعَ العُلَماءُ مِنَ الصَّحابَةِ، والتّابِعِينِ، ومَن بَعْدَهم عَلى وُجُوبِ الزَّكاةِ في التَّمْرِ، والزَّبِيبِ. قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ: وبِما ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ تَعْلَمُ اتِّفاقَ الشّافِعِيَّةِ عَلى الِاحْتِجاجِ بِهَذا المُرْسَلِ، والأئِمَّةُ الثَّلاثَةُ يَحْتَجُّونَ بِالمُرْسَلِ مُطْلَقًا، فَظَهَرَ إجْماعُ المَذاهِبِ الأرْبَعَةِ عَلى الِاحْتِجاجِ بِمِثْلِ هَذا المُرْسَلِ، ورَوى هَذا الحَدِيثَ الدّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ الواقِدِيُّ مُتَّصِلًا، فَقالَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ عَتّابِ بْنِ أسِيدٍ. وَعَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قالَتْ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَواحَةَ، فَيَخْرُصُ النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ قَبْلَ أنْ يُؤْكَلَ مِنهُ، ثُمَّ يُخَيِّرُ يَهُودَ يَأْخُذُونَهُ بِذَلِكَ الخَرْصِ، أوْ يَدْفَعُونَهُ إلَيْهِمْ بِذَلِكَ الخَرْصِ؛ لِكَيْ يُحْصِيَ الزَّكاةَ قَبْلَ أنْ تُؤَكِّلَ الثِّمارُ وتُفَرِّقَ»، أخْرَجَهُ أحْمَدُ، وأبُو داوُدَ، وقَدْ أُعِلَّ بِأنَّ فِيهِ واسِطَةً بَيْنَ ابْنِ جُرَيْجٍ والزُّهْرِيِّ، ولَمْ يُعْرَفْ، وقَدْ رَواهُ عَبْدُ الرَّزّاقِ والدّارَقُطْنِيُّ بِدُونِ الواسِطَةِ المَذْكُورَةِ، وابْنُ جُرَيْجٍ مُدَلِّسٌ؛ فَلَعَلَّهُ تَرَكَها تَدْلِيسًا، قالَهُ ابْنُ حَجَرٍ، وقالَ ذَكَرَ الدّارَقُطْنِيُّ الِاخْتِلافَ فِيهِ قالَ: فَرَواهُ صالِحُ بْنُ أبِي الأخْضَرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ المُسَيَّبِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، وأرْسَلَهُ مَعْمَرٌ، ومالِكٌ، وعَقِيلٌ: فَلَمْ يَذْكُرُوا أبا (p-٥١١)هُرَيْرَةَ، وأخْرَجَ أبُو داوُدَ مِن طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أخْبَرَنِي أبُو الزُّبَيْرِ أنَّهُ سَمِعَ جابِرًا يَقُولُ: خَرَصَها ابْنُ رَواحَةَ أرْبَعِينَ ألْفَ وسَقٍ. وَقالَ ابْنُ حَجَرٍ في ”التَّلْخِيصِ“ أيْضًا: رَوى أحْمَدُ مِن حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «أنَّهُ ﷺ بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَواحَةَ إلى خَيْبَرَ يَخْرُصُ عَلَيْهِمْ»، الحَدِيثَ. وَرَوى أبُو داوُدَ والدّارَقُطْنِيُّ مِن حَدِيثِ جابِرٍ: «لَمّا فَتَحَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ خَيْبَرَ أقَرَّهم، وجَعَلَها بَيْنَهُ وبَيْنَهم، فَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَواحَةَ فَخَرَصَها عَلَيْهِمْ»، الحَدِيثَ، ورَواهُ ابْنُ ماجَهْ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ. وَرَوى الدّارَقُطْنِيُّ «عَنْ سَهْلِ بْنِ أبِي حَثْمَةَ: ”أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَ أباهُ خارِصًا، فَجاءَ رَجُلٌ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أبا حَثْمَةَ قَدْ زادَ عَلَيَّ»“ الحَدِيثَ، ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ حَدِيثَ عَتّابٍ، وحَدِيثَ عائِشَةَ اللَّذَيْنِ قَدَّمْناهُما، ثُمَّ قالَ وفي الصَّحابَةِ، لِأبِي نُعَيْمٍ مِن طَرِيقِ الصَّلْتِ بْنِ زُبَيْدِ بْنِ الصَّلْتِ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اسْتَعْمَلَهُ عَلى الخَرْصِ، فَقالَ: ”أثْبِتْ لَنا النِّصْفَ، وأبْقِ لَهُمُ النِّصْفَ، فَإنَّهم يَسْرِقُونَ، ولا نَصِلُ إلَيْهِمْ“» . فَبِهَذا الَّذِي ذَكَرْنا كُلِّهِ تَعْلَمُ أنَّ الخَرْصَ حَكَمٌ ثابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لا ظَنٌّ وتَخْمِينٌ باطِلٌ، بَلْ هو اجْتِهادٌ ورَدَ بِهِ الشَّرْعُ في مَعْرِفَةِ قَدْرِ الثَّمَرِ، وإدْراكُهُ بِالخَرْصِ الَّذِي هو نَوْعٌ مِنَ المَقادِيرِ والمَعايِيرِ، فَهو كَتَقْوِيمِ المَتْلَفاتِ، ووَقْتُ الخَرْصِ حِينَ يَبْدُوَ صَلاحُ الثَّمَرِ، كَما قَدَّمْنا لِما قَدَّمْنا مِنَ الرِّوايَةِ: «بِأنَّهُ ﷺ كانَ يَبْعَثُ الخارِصَ، فَيَخْرُصُ عَلَيْهِمُ النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ قَبْلَ أنْ يُؤْكَلَ»، ولا خِلافَ في ذَلِكَ بَيْنَ العُلَماءِ. والجُمْهُورُ القائِلُونَ بِالخَرْصِ اخْتَلَفُوا في حُكْمِهِ، فَقِيلَ: هو سُنَّةٌ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يَأْمُرُ بِهِ، وقِيلَ: واجِبٌ؛ لِما تَقَدَّمَ في حَدِيثِ عَتّابٍ مِن قَوْلِهِ: «أمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ يُخْرَصَ العِنَبُ»، الحَدِيثَ المُتَقَدِّمَ، قالُوا: الأمْرُ لِلْوُجُوبِ، ولِأنَّهُ إنْ تَرَكَ الخَرْصَ قَدْ يَضِيعُ شَيْءٌ مِن حَقِّ الفُقَراءِ، والأظْهَرُ عَدَمُ الوُجُوبِ؛ لِأنَّ الحُكْمَ بِأنَّ هَذا الأمْرَ واجِبٌ يَسْتَوْجِبُ تَرْكُهُ العِقابَ يَحْتاجُ إلى دَلِيلٍ ظاهِرٍ قَوِيٍّ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. واخْتَلَفَ العُلَماءُ القائِلُونَ بِالخَرْصِ، هَلْ عَلى الخارِصِ أنْ يَتْرُكَ شَيْئًا ؟، فَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: عَلَيْهِ أنْ يَتْرُكَ الثُّلُثَ أوِ الرُّبْعَ، لِما رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ، وأصْحابُ السُّنَنِ إلّا ابْنَ ماجَهْ، وابْنَ حِبّانَ، والحاكِمَ، وصَحَّحاهُ عَنْ سَهْلِ بْنِ أبِي حَثْمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: قالَ (p-٥١٢)رَسُولُ اللَّهِ - ﷺ: «إذا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا، ودَعُوا الثُّلُثَ، فَإنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبْعَ»، فَإنْ قِيلَ في إسْنادِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ نِيارٍ الرّاوِي، عَنْ سَهْلِ بْنِ أبِي حَثْمَةَ، وقَدْ قالَ البَزّارُ: إنَّهُ انْفَرَدَ بِهِ، وقالَ ابْنُ القَطّانِ: لا يُعْرَفُ حالُهُ، فالجَوابُ: أنَّ لَهُ شاهِدًا بِإسْنادٍ مُتَّفَقٍ عَلى صِحَّتِهِ: " أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ أمَرَ بِهِ، قالَهُ الحاكِمُ، ومِن شَواهِدِهِ: ما رَواهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ عَنْ جابِرٍ مَرْفُوعًا: «خَفِّفُوا في الخَرْصِ»، الحَدِيثَ، وفي إسْنادِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ. وَمِمَّنْ قالَ بِهَذا القَوْلِ الإمامُ أحْمَدُ، وإسْحاقُ، واللَّيْثُ، وأبُو عُبَيْدٍ، وغَيْرُهم، ومَشْهُورُ مَذْهَبِ مالِكٍ، والصَّحِيحُ في مَذْهَبِ الشّافِعِيِّ: أنَّ الخارِصَ لا يَتْرُكُ شَيْئًا. قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ: والقَوْلُ بِأنَّهُ يَتْرُكُ الثُّلُثَ أوِ الرُّبْعَ هو الصَّوابُ؛ لِثُبُوتِ الحَدِيثِ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ حِبّانَ، والحاكِمُ بِذَلِكَ، ولَمْ يَثْبُتْ ما يُعارِضُهُ؛ ولِأنَّ النّاسَ يَحْتاجُونَ إلى أنْ يَأْكُلُوا ويُطْعِمُوا جِيرانَهم، وضُيُوفَهم، وأصْدِقاءَهم، وسُؤّالَهم؛ ولِأنَّ بَعْضَ الثَّمَرِ يَتَساقَطُ، وتَنْتابُهُ الطَّيْرُ، وتَأْكُلُ مِنهُ المارَّةُ، فَإنْ لَمْ يَتْرُكْ لَهُمُ الخارِصُ شَيْئًا، فالظّاهِرُ أنَّ لَهُمُ الأكْلَ بِقَدْرِ ما كانَ يَلْزَمُ إسْقاطُهُ، ولا يَحْسَبُ عَلَيْهِمْ. وَهَذا مَذْهَبُ الإمامِ أحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو مُقْتَضى ما دَلَّ عَلَيْهِ الحَدِيثُ المَذْكُورُ، فَإنْ زادَ الثَّمَرُ أوْ نَقَصَ عَمّا خَرَصَهُ بِهِ الخارِصُ، فَقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: لا زَكاةَ عَلَيْهِ فِيما زادَ، وتَلْزَمُهُ فِيما نَقَصَ؛ لِأنَّهُ حُكْمٌ مَضى. وَقالَ بَعْضُهم: يُنْدَبُ الإخْراجُ في الزّائِدِ، ولا تَسْقُطُ عَنْهُ زَكاةُ ما نَقَصَ. قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ، أمّا فِيما بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ، فَلا شَكَّ أنَّهُ لا تَجِبُ عَلَيْهِ زَكاةُ شَيْءٍ لَمْ يُوجَدْ، وأمّا فِيما بَيْنَهُ وبَيْنَ النّاسِ، فَإنَّها قَدْ تَجِبُ عَلَيْهِ، قالَ خَلِيلُ بْنُ إسْحاقَ المالِكِيُّ في ”مُخْتَصَرِهِ“: وإنْ زادَتْ عَلى تَخْرِيصِ عارِفٍ فالأحَبُّ الإخْراجُ، وهَلْ عَلى ظاهِرِهِ أوِ الوُجُوبِ ؟ تَأْوِيلانِ. قالَ شارِحُهُ المَوّاقُ مِنَ المُدَوِّنَةِ: قالَ مالِكٌ: مَن خَرَصَ عَلَيْهِ أرْبَعَةَ أوْسُقٍ فَرَفَعَ خَمْسَةَ أوْسُقٍ أحْبَبْتُ لَهُ أنْ يُزَكِّيَ ابْنُ يُونُسَ، قالَ بَعْضُ شُيُوخِنا: لَفْظَةُ أحْبَبْتُ ها هُنا عَلى الإيجابِ، وهو صَوابٌ كالحاكِمِ يَحْكُمُ بِحُكْمٍ، ثُمَّ يَظْهَرُ أنَّهُ خَطَأٌ صُراحٌ. ابْنُ عَرَفَةَ، عَلى هَذا حَمَلَها الأكْثَرُ، وحَمَلَها ابْنُ رَشِيدٍ، وعِياضٌ عَلى الِاسْتِحْبابِ. قالَ مُقَيِّدُهُ - عَفا اللَّهُ عَنْهُ: ووُجُوبُ الزَّكاةِ في الزّائِدِ هو الأظْهَرُ، وعَلَيْهِ أكْثَرُ المالِكِيَّةِ، وهو الصَّحِيحُ عِنْدَ الشّافِعِيَّةِ، وأمّا النَّقْصُ: فَإذا ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أنَّها نَقَصَتْ عَمّا خُرِصَتْ بِهِ، (p-٥١٣)فالظّاهِرُ أنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهُ زَكاةُ ما نَقَصَتْ بِهِ، وإنِ ادَّعى غَلَطَ الخارِصِ. فَقَدْ قالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: لَمْ تُقْبَلْ دَعْواهُ لِأنَّ الخارِصَ أمِينٌ، وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: تُقْبَلُ دَعْواهُ غَلَطَ الخارِصِ، إذا كانَتْ مُشَبَّهَةً، أمّا إذا كانَتْ بَعِيدَةً، كَدَعْواهُ زِيادَةَ النِّصْفِ أوِ الثُّلُثَيْنِ، فَلا يُقْبَلُ قَوْلُهُ في الجَمِيعِ، وهَذا التَّفْصِيلُ هو مَذْهَبُ الشّافِعِيِّ، وأحْمَدَ، إلّا أنَّ بَعْضَ الشّافِعِيَّةِ قالَ: يَسْقُطُ عَنْهُ مِنَ الكَثِيرِ الَّذِي ادَّعى قَدْرَ النَّقْصِ الَّذِي تُقْبَلُ دَعْواهُ فِيهِ، وأمّا إنِ ادَّعى أنَّ الخارِصَ جارَ عَلَيْهِ عَمْدًا، فَلا تُقْبَلُ دَعْواهُ عَلَيْهِ بِلا خِلافٍ، كَما لَوِ ادَّعى جَوْرَ الحاكِمِ، أوْ كَذِبَ الشّاهِدِ، وكَذا إذا ادَّعى أنَّهُ غَلِطَ في الخَرْصِ، ولَمْ يُبَيِّنْ قَدْرَ ما زادَ لَمْ يُقْبَلْ مِنهُ، نَصَّ عَلَيْهِ عُلَماءُ الشّافِعِيَّةِ، وإنِ ادَّعى رَبُّ الثَّمَرِ: أنَّهُ أصابَتْهُ جائِحَةٌ أذْهَبَتْ بَعْضَهُ، فالظّاهِرُ تَصْدِيقُهُ فِيما يُشْبِهُ قَوْلُهُ، كَما لَوِ ادَّعى أنَّ بَعْضَهُ سُرِقَ بِاللَّيْلِ مَثَلًا قِيلَ بِيَمِينٍ. وَقِيلَ: لا، وإنْ أضافَ هَلاكَ الثَّمَرَةِ إلى سَبَبٍ يُكَذِّبُهُ الحِسُّ، كَأنْ يَقُولَ: هَلَكَتْ بِحَرِيقٍ، وقَعَ في الجَرِينِ في وقْتِ كَذا، وعَلِمْنا أنَّهُ لَمْ يَحْتَرِقْ في ذَلِكَ الوَقْتِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلى كَلامِهِ، فَإنْ عُلِمَ وُقُوعُ السَّبَبِ الَّذِي ذُكِرَ، وعُمُومُ أثَرِهِ صُدِّقَ بِلا يَمِينٍ، وإنِ اتُّهِمَ حَلَفَ، قِيلَ: وُجُوبًا، وقِيلَ: اسْتِحْبابًا، وإنْ لَمْ يُعْرَفْ عَدَمُ السَّبَبِ المَذْكُورِ ولا وُجُودُهُ، فالصَّحِيحُ أنَّهُ يُكَلَّفُ بِالبَيِّنَةِ عَلى وُجُودِ أصْلِ السَّبَبِ، ثُمَّ القَوْلُ قَوْلُهُ في الهَلاكِ بِهِ، وهَذا التَّفْصِيلُ الأخِيرُ لِلشّافِعِيَّةِ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ في شَرْحِ المُهَذَّبِ، ووَجْهُهُ ظاهِرٌ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. وَجُمْهُورُ العُلَماءِ عَلى أنَّهُ لا يُخْرَصُ غَيْرُ التَّمْرِ، والزَّبِيبِ، فَلا يُخْرَصُ الزَّيْتُونُ، والزَّرْعُ، ولا غَيْرُهُما، وأجازَهُ بَعْضُ العُلَماءِ في الزَّيْتُونِ، وأجازَهُ بَعْضُهم في سائِرِ الحُبُوبِ. والصَّحِيحُ أنَّهُ لا يَجُوزُ إلّا في التَّمْرِ، والعِنَبِ لِثَلاثَةِ أُمُورٍ: الأوَّلُ: أنَّ النَّصَّ الدّالَّ عَلى الخَرْصِ لَمْ يَرِدْ إلّا فِيهِما كَما تَقَدَّمَ في حَدِيثِ عَتّابِ بْنِ أسِيدٍ، وغَيْرِهِ مِنَ الأحادِيثِ. الثّانِي: أنَّ غَيْرَهُما لَيْسَ في مَعْناهُما؛ لِأنَّ الحاجَةَ تَدْعُو غالِبًا إلى أكْلِ الرُّطَبِ قَبْلَ أنْ يَكُونَ تَمْرًا، والعِنَبِ قَبْلَ أنْ يَكُونَ زَبِيبًا، ولَيْسَ غَيْرُهُما كَذَلِكَ. الثّالِثُ: أنَّ ثَمَرَةَ النَّخْلِ ظاهِرَةٌ مُجْتَمِعَةٌ في عُذُوقِها، والعِنَبُ ظاهِرٌ أيْضًا مُجْتَمِعٌ في عَناقِيدِهِ، فَحَرْزُهُما مُمْكِنٌ، بِخِلافِ غَيْرِهِما مِنَ الحُبُوبِ، فَإنَّهُ مُتَفَرِّقٌ في شَجَرِهِ، والزَّرْعُ مُسْتَتِرٌ في سُنْبُلِهِ. (p-٥١٤)والظّاهِرُ أنَّ ما جَرَتِ العادَةُ بِالحاجَةِ إلى أكْلِهِ لا يُحْسَبُ؛ لِما قَدَّمْنا، وقالَ المالِكِيَّةُ: يُحْسَبُ عَلَيْهِمْ كُلَّما أكَلُوهُ مِنَ الحَبِّ، ولا يُحْسَبُ ما تَأْكُلُهُ الدَّوابُّ في دَرْسِها. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: لا يَجُوزُ إخْراجُ زَكاةِ الثِّمارِ إلّا مِنَ التَّمْرِ اليابِسِ والزَّبِيبِ اليابِسِ، وكَذَلِكَ زَكاةُ الحُبُوبِ لا يَجُوزُ إخْراجُها إلّا مِنَ الحَبِّ اليابِسِ بَعْدَ التَّصْفِيَةِ، وهَذا لا خِلافَ فِيهِ بَيْنَ العُلَماءِ، وأُجْرَةُ القِيامِ عَلى الثِّمارِ والحُبُوبِ حَتّى تَيْبَسَ وتُصَفّى مِن خالِصِ مالِ رَبِّ الثَّمَرَةِ والزَّرْعِ، فَإنْ دَفَعَ زَكاةَ التَّمْرِ بُسْرًا أوْ رَطْبًا، أوْ دَفَعَ زَكاةَ الزَّبِيبِ عِنَبًا، لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ؛ لِأنَّهُ دَفَعَ غَيْرَ الواجِبِ؛ لِأنَّ الواجِبَ تَمْرٌ وزَبِيبٌ يابِسانِ إجْماعًا. وَقَدْ قالَ ابْنُ قُدامَةَ في ”المُغْنِي“: فَإنْ كانَ المُخْرِجُ لِلرَّطْبِ رَبَّ المالِ لَمْ يُجْزِهِ، ولَزِمَهُ إخْراجُ الفَضْلِ بَعْدَ التَّجْفِيفِ؛ لِأنَّهُ أخْرَجَ غَيْرَ الفَرْضِ فَلَمْ يُجْزِهِ، كَما لَوْ أخْرَجَ الصَّغِيرَ عَنِ الماشِيَةِ الكِبارِ، وهو نَصٌّ صَرِيحٌ مِنهُ في أنَّ الرُّطَبَ غَيْرُ الواجِبِ، وأنَّ مَنزِلَتَهُ مِنَ التَّمْرِ الَّذِي هو الواجِبُ كَمَنزِلَةِ صِغارِ الماشِيَةِ مِنَ الكِبارِ الَّتِي هي الواجِبَةُ في زَكاةِ الماشِيَةِ. وَقالَ النَّوَوِيُّ في ”شَرْحِ المُهَذَّبِ“ ما نَصُّهُ: فَلَوْ أخْرَجَ الرُّطَبَ والعِنَبَ في الحالِ لَمْ يُجْزِئْهُ بِلا خِلافٍ، ولَوْ أخَذَهُ السّاعِي غَرِمَهُ بِلا خِلافٍ؛ لِأنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وكَيْفَ يَغْرَمُهُ فِيهِ وجْهانِ مَشْهُورانِ ذَكَرَهُما المُصَنِّفُ في آخِرِ البابِ. الصَّحِيحُ: الَّذِي قَطَعَ بِهِ الجُمْهُورُ، ونَصَّ عَلَيْهِ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّهُ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ. والثّانِي: يَلْزَمُهُ مِثْلُهُ وهُما مَبْنِيّانِ عَلى أنَّ الرُّطَبَ والعِنَبَ مِثْلِيّانِ أمْ لا، والصَّحِيحُ المَشْهُورُ أنَّهُما لَيْسا مِثْلِيَّيْنِ، ولَوْ جَفَّ عِنْدَ السّاعِي، فَإنْ كانَ قَدْرَ الزَّكاةِ أجْزَأ، وإلّا رَدَّ التَّفاوُتَ، أوْ أخَذَهُ، كَذا قالَهُ العِراقِيُّونَ وغَيْرُهم، وحَكى ابْنُ كَجٍّ وجْها أنَّهُ لا يُجْزِئُ بِحالٍ لِفَسادِ القَبْضِ، قالَ الرّافِعِيُّ: وهَذا الوَجْهُ أوْلى والمُخْتارُ ما سَبَقَ. انْتَهى كَلامُ النَّوَوِيِّ بِلَفْظِهِ، وهو صَرِيحٌ في عَدَمِ إجْزاءِ الرُّطَبِ والعِنَبِ بِلا خِلافٍ عِنْدِ الشّافِعِيَّةِ. وَقالَ صاحِبُ ”المُهَذَّبِ“ ما نَصُّهُ: فَإنْ أخَذَ الرُّطَبَ وجَبَ رَدُّهُ، وإنْ فاتَ وجَبَ رَدُّ قِيمَتِهِ، ومِن أصْحابِنا مَن قالَ: يَجِبُ رَدُّ مِثْلِهِ، والمَذْهَبُ الأوَّلُ لِأنَّهُ لا مِثْلَ لَهُ؛ لِأنَّهُ يَتَفاوَتُ، ولِهَذا لا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ. اهـ. مِنهُ بِلَفْظِهِ، وهو صَرِيحٌ في عَدَمِ إجْزاءِ (p-٥١٥)الرُّطَبِ في زَكاةِ التَّمْرِ، وهَذا الَّذِي ذَكَرْنا عَنْ عامَّةِ العُلَماءِ مِن أنَّ الزَّكاةَ لا تُؤْخَذُ إلّا مِنَ التَّمْرِ، والزَّبِيبِ اليابِسَيْنِ، هو مَذْهَبُ مالِكٍ وعامَّةِ أصْحابِهِ وفي المُوَطَّإ ما نَصُّهُ: قالَ مالِكٌ: الأمْرُ المُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنا أنَّ النَّخْلَ تُخْرَصُ عَلى أهْلِها وثَمَرُها في رُؤُوسِها إذا طابَ وحَلَّ بَيْعُهُ، ويُؤْخَذُ مِنهُ صَدَقَتُهُ تَمْرًا عِنْدَ الجِذاذِ، إلى أنْ قالَ: وكَذَلِكَ العَمَلُ في الكَرْمِ. انْتَهى مَحَلُّ الفَرْضِ مِنهُ بِلَفْظِهِ، وفِيهِ تَصْرِيحُ مالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأنَّ الأمْرَ المُجْتَمَعَ عَلَيْهِ مِن عُلَماءِ زَمَنِهِ، أنَّ الزَّكاةَ تُخْرَجُ تَمْرًا، وهو يَدُلُّ دَلالَةً واضِحَةً عَلى أنَّ مَنِ ادَّعى جَوازَ إخْراجِها مِنَ الرُّطَبِ أوِ البُسْرِ، فَدَعَواهُ مُخالِفَةٌ لِلْأمْرِ المُجْتَمَعِ عَلَيْهِ عِنْدَ مالِكٍ وعُلَماءِ زَمَنِهِ. وَمِن أوْضَحِ الأدِلَّةِ عَلى ذَلِكَ: أنَّ البَلَحَ الَّذِي لا يَتَتَمَّرُ والعِنَبَ الَّذِي لا يَتَزَبَّبُ كَبَلَحِ مِصْرَ وعِنَبِها، لا يَجُوزُ الإخْراجُ مِنهُ مَعَ تَعَذُّرِ الواجِبِ الَّذِي هو التَّمْرُ والزَّبِيبُ اليابِسانِ، بَلْ تُدْفَعُ الزَّكاةُ مِن ثَمَنِهِ أوْ قِيمَتِهِ عِنْدَ مالِكٍ وأصْحابِهِ، فَلَمْ يَجْعَلُوا العِنَبَ والرُّطَبَ أصْلًا، ولَمْ يَقْبَلُوهُما بَدَلًا عَنِ الأصْلِ، وقالُوا: بِوُجُوبِ الثَّمَنِ إنْ بِيعَ، والقِيمَةِ إنْ أُكِلَ. قالَ خَلِيلٌ في مُخْتَصَرِهِ: وثَمَنُ غَيْرِ ذِي الزَّيْتِ وما لا يَجِفُّ، ومُرادُهُ بِقَوْلِهِ: وما لا يَجِفُّ، أنَّ الرُّطَبَ والعِنَبَ اللَّذَيْنِ لا يَيْبَسانِ يَجِبُ الإخْراجُ مِن ثَمَنِهِما لا مِن نَفْسِ الرُّطَبِ والعِنَبِ، وفي المَوّاقِ في شَرْحِ قَوْلِ خَلِيلٍ، وإنْ لَمْ يَجِفَّ ما نَصُّهُ: قالَ مالِكٌ: إنَّ كانَ رُطَبُ هَذا النَّخْلِ لا يَكُونُ تَمْرًا، ولا هَذا العِنَبُ زَبِيبًا، فَلْيُخْرَصْ أنْ لَوْ كانَ ذَلِكَ فِيهِ مُمْكِنًا، فَإنْ صَحَّ في التَّقْدِيرِ خَمْسَةُ أوْسُقٍ أُخِذَ مِن ثَمَنِهِ. انْتَهى مَحَلُّ الفَرْضِ مِنهُ بِلَفْظِهِ، وهو نَصٌّ صَرِيحٌ عَنْ مالِكٍ أنَّهُ لا يَرى إخْراجَ الرُّطَبِ، والعِنَبِ في الزَّكاةِ؛ لِعُدُولِهِ عَنْهُما إلى الثَّمَنِ في حالِ تَعَذُّرِ التَّمْرِ والزَّبِيبِ اليابِسَيْنِ، فَكَيْفَ بِالحالَةِ الَّتِي لَمْ يَتَعَذَّرا فِيها. والحاصِلُ أنَّ إخْراجَ الرُّطَبِ والعِنَبِ عَمّا يَبِسَ مِن رُطَبٍ وعِنَبٍ، لَمْ يَقُلْ بِهِ أحَدٌ مِنَ العُلَماءِ، ولا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِن كِتابٍ ولا سُنَّةٍ ولا قِياسٍ، وأمّا الَّذِي لا يَيْبَسُ كَبَلَحِ مِصْرَ وعِنَبِها، فَفِيهِ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ عِنْدَ المالِكِيَّةِ بِإجْزاءِ الرُّطَبِ والعِنَبِ، ونُقِلَ هَذا القَوْلُ عَنِ ابْنِ رُشْدٍ، وسَتَرى - إنْ شاءَ اللَّهُ - في آخِرِ هَذا المَبْحَثِ كَلامَ الشّافِعِيَّةِ والحَنابِلَةِ فِيهِ، فَإنْ قِيلَ: فَما الدَّلِيلُ عَلى أنَّهُ لا يُجْزِئُ إلّا التَّمْرُ والزَّبِيبُ اليابِسانِ دُونَ الرُّطَبِ والعِنَبِ ؟ فالجَوابُ: أنَّ ذَلِكَ دَلَّتْ عَلَيْهِ عِدَّةُ أدِلَّةٍ: (p-٥١٦)الأوَّلُ: هو ما قَدَّمْنا مِن حَدِيثِ عَتّابِ بْنِ أسِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: «أمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ يُخْرَصَ العِنَبُ كَما يُخْرَصُ النَّخْلُ؛ فَتُؤْخَذُ زَكاتُهُ زَبِيبًا كَما تُؤْخَذُ صَدَقَةُ النَّخْلِ تَمْرًا»، وقَدْ قَدَّمْنا أنَّ هَذا الحَدِيثَ أخْرَجَهُ أبُو داوُدَ، والتِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ، وابْنُ حِبّانَ، والدّارَقُطْنِيُّ، وقَدْ قَدَّمْنا أنَّهُ مِن مَراسِيلِ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، وقَدَّمْنا أيْضًا أنَّ الِاحْتِجاجَ بِمِثْلِ هَذا المُرْسَلِ مِن مَراسِيلِ سَعِيدٍ صَحِيحٌ عِنْدَ الأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ، فَإذا عَلِمْتَ صِحَّةَ الِاحْتِجاجِ بِحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ هَذا، فاعْلَمْ أنَّهُ نَصٌّ صَرِيحٌ في: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أمَرَ بِخَرْصِ العِنَبِ والنَّخْلِ، وأنْ تُؤْخَذَ زَكاةُ العِنَبِ زَبِيبًا، وصَدَقَةُ النَّخِيلِ تَمْرًا»، فَمَنِ ادَّعى جَوازَ أخْذِ زَكاةِ النَّخْلِ رُطَبًا أوْ بُسْرًا، فَدَعْواهُ مُخالِفَةٌ لِما أمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؛ لِأنَّهُ أمَرَ بِأخْذِها في حالِ كَوْنِها تَمْرًا في النَّخْلِ وزَبِيبًا في العِنَبِ، ومَعْلُومٌ أنَّ الحالَ وصْفٌ لِصاحِبِها، قَيْدٌ لِعامِلِها، فَكَوْنُ زَكاةِ النَّخْلِ تَمْرًا وصْفٌ لَها أمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِإخْراجِها في حالِ كَوْنِها مُتَّصِفَةً بِهِ، وكَذَلِكَ كَوْنُها تَمْرًا قَيْدٌ لِأخْذِها، فَهو تَقْيِيدٌ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ لِأخْذِها بِأنْ يَكُونَ في حالِ كَوْنِها تَمْرًا، فَيُفْهَمُ مِنهُ أنَّها لا تُؤْخَذُ عَلى غَيْرِ تِلْكَ الحالِ، كَكَوْنِها رُطَبًا مَثَلًا، وإذا اتَّضَحَ لَكَ أنَّ أخْذَها رُطَبًا - مَثَلًا - مُخالِفٌ لِما أمَرَ بِهِ ﷺ فاعْلَمْ أنَّهُ قالَ في الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ: " «مَن أحْدَثَ في أمْرِنا هَذا ما لَيْسَ مِنهُ، فَهو رَدٌّ»، وفي رِوايَةٍ في الصَّحِيحِ: «مَن عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أمْرُنا فَهو رَدٌّ»، وفي الكِتابِ العَزِيزِ: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ﴾ الآيَةَ [النور: ٦٣] . وَمِمّا يُوَضِّحُ لَكَ أنَّ إخْراجَ الرُّطَبِ مَثَلًا في الزَّكاةِ مُخالِفٌ لِما سَنَّهُ وشَرَعَهُ ﷺ مِن أخْذِها تَمْرًا، وزَبِيبًا يابِسَيْنِ ما ذَكَرَهُ البَيْهَقِيُّ في ”السُّنَنِ الكُبْرى“ في بابِ ”كَيْفَ تُؤْخَذُ زَكاةُ النَّخْلِ والعِنَبِ“، فَإنَّهُ قالَ فِيهِ: وأخْبَرَنا أبُو الحَسَنِ بْنُ أبِي المَعْرُوفِ الفَقِيهُ المِهْرَجانِيُّ، أنْبَأ بِشْرُ بْنُ أحْمَدَ، أنْبَأ أحْمَدُ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ نَصْرٍ الحَذّاءُ، ثَنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثَنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، ثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إسْحاقَ، أخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - ﷺ: «أمَرَ عَتّابَ بْنَ أسِيدٍ أنْ يَخْرُصَ العِنَبَ كَما يَخْرُصُ النَّخْلَ، ثُمَّ تُؤَدّى زَكاتُهُ زَبِيبًا كَما تُؤَدّى زَكاةُ النَّخْلِ تَمْرًا»، قالَ: فَتِلْكَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في النَّخْلِ والعِنَبِ. اهـ مِنهُ بِلَفْظِهِ، وفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأنَّ: إخْراجَ التَّمْرِ والزَّبِيبِ هو سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَمُخْرِجُ الرُّطَبِ والعِنَبِ مُخالِفٌ لِسُنَّتِهِ ﷺ كَما تَرى. الدَّلِيلُ الثّانِي: إجْماعُ المُسْلِمِينَ عَلى أنَّ زَكاةَ الثِّمارِ والحُبُوبِ مِن نَوْعِ ما تَجِبُ الزَّكاةُ في عَيْنِهِ، والعَيْنُ الواجِبَةُ فِيها الزَّكاةُ هي: التَّمْرُ والزَّبِيبُ اليابِسانِ، لا الرُّطَبُ (p-٥١٧)والعِنَبُ بِدَلِيلِ إجْماعِ القائِلِينَ بِالنِّصابِ في الثِّمارِ، عَلى أنَّ خَمْسَةَ الأوْسُقِ الَّتِي هي النِّصابُ لا تُعْتَبَرُ مِنَ الرُّطَبِ، ولا مِنَ العِنَبِ، فَمَن كانَ عِنْدَهُ خَمْسَةُ أوْسُقٍ مِنَ الرُّطَبِ أوِ العِنَبِ، ولَكِنَّها إذا جَفَّتْ نَقَصَتْ عَنْ خَمْسَةِ أوْسُقٍ، فَلا زَكاةَ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ النِّصابَ مُعْتَبَرٌ مِنَ التَّمْرِ والزَّبِيبِ اليابِسَيْنِ، فَلَوْ أخْرَجَ الزَّكاةَ مِنَ الرُّطَبِ أوِ العِنَبِ لَكانَ مُخْرِجًا مِن غَيْرِ ما تَجِبُ في عَيْنِهِ الزَّكاةُ كَما تَرى، ويَدُلُّ لَهُ ما ذَكَرَهُ الزُّرْقانِيُّ في ”شَرْحِ المُوَطَّإ“، فَإنَّهُ قالَ فِيهِ في شَرْحِ قَوْلِ مالِكٍ: ثُمَّ يُؤَدُّونَ الزَّكاةَ عَلى ما خَرَصَ عَلَيْهِمْ، ما نَصُّهُ: ومَبْنى التَّخْرِيصِ أنْ يَحْزِرَ ما في النَّخْلِ، أوِ العِنَبِ مِنَ التَّمْرِ اليابِسِ إذا جَذَّ، عَلى حَسَبِ جِنْسِهِ، وما عَلِمَ مِن حالِهِ أنَّهُ يَصِيرُ إلَيْهِ عِنْدَ الإتْمارِ؛ لِأنَّ الزَّكاةَ إنَّما تُؤْخَذُ مِنهُ تَمْرًا. انْتَهى مَحَلُّ الفَرْضِ مِنهُ بِلَفْظِهِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ جَماهِيرِ العُلَماءِ أنَّ لَفْظَةَ إنَّما لِلْحَصْرِ وهو الحَقُّ، فَقَوْلُ الزُّرْقانِيِّ: لِأنَّ الزَّكاةَ إنَّما تُؤْخَذُ مِنهُ تَمْرًا، مَعْناهُ: حَصْرُ أخْذِ زَكاةِ النَّخْلِ في خُصُوصِ التَّمْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِن رُطَبٍ ونَحْوِهِ؛ مُعَلِّلًا بِذَلِكَ اعْتِبارَ النِّصابِ مِنَ التَّمْرِ اليابِسِ؛ لِأنَّ الإخْراجَ مِمّا تَجِبُ في عَيْنِهِ الزَّكاةُ مِنَ الثِّمارِ والحُبُوبِ وهو واضِحٌ، ولا يَرُدُّ عَلى ما ذَكَرْنا أنَّ وقْتَ وُجُوبِ الزَّكاةِ هو وقْتُ طِيبِ الثَّمَرِ قَبْلَ أنْ يَكُونَ يابِسًا؛ لِإجْماعِ العُلَماءِ عَلى أنَّهُ لا يَجِبُ إخْراجُها بِالفِعْلِ إلّا بَعْدَ أنْ يَصِيرَ تَمْرًا يابِسًا؛ ولِإجْماعِهِمْ أيْضًا عَلى أنَّهُ إنْ أصابَتْهُ جائِحَةٌ اعْتُبِرَتْ، فَتَسْقُطُ زَكاةُ ما أُجِيحَ، كَما تَسْقُطُ زَكاةُ الكُلِّ إنْ لَمْ يَبْقَ مِنهُ نِصابٌ، وسَيَأْتِي لَهُ زِيادَةُ إيضاحٍ. الدَّلِيلُ الثّالِثُ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يَأْخُذُها تَمْرًا بَعْدَ الجِذاذِ»، لا بَلَحًا، ولا رُطَبًا، واللَّهُ جَلَّ وعَلا يَقُولُ: ﴿لَقَدْ كانَ لَكم في رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ الآيَةَ [الأحزاب: ٢١]، ويَقُولُ: ﴿وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ الآيَةَ [الحشر: ٧]، ويَقُولُ: ﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطاعَ اللَّهَ﴾ الآيَةَ [النساء: ٨٠]، ويَقُولُ: ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي﴾ الآيَةَ [آل عمران: ٣١]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ. قالَ البُخارِيُّ في ”صَحِيحِهِ“، بابُ ”أخْذِ صَدَقَةِ التَّمْرِ عِنْدَ صِرامِ النَّخْلِ“: وهَلْ يُتْرَكُ الصَّبِيُّ فَيَمَسُّ الصَّدَقَةَ، حَدَّثَنا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ الأسَدِيُّ، حَدَّثَنا أبِي، حَدَّثَنا إبْراهِيمُ بْنُ طَهْمانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيادٍ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُؤْتى بِالتَّمْرِ عِنْدَ صِرامِ النَّخْلِ، فَيَجِيءُ هَذا بِتَمْرِهِ، وهَذا مِن تَمْرِهِ، حَتّى يَصِيرَ عِنْدَهُ كَوْمًا مِن تَمْرٍ، فَجَعَلَ الحَسَنُ والحُسَيْنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما - يَلْعَبانِ بِذَلِكَ التَّمْرِ، فَأخَذَ أحَدُهُما تَمْرَةً فَجَعَلَها في فِيهِ، فَنَظَرَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأخْرَجَها مِن فِيهِ، فَقالَ: " أما (p-٥١٨)عَلِمْتَ أنَّ آلَ مُحَمَّدٍ ﷺ لا يَأْكُلُونَ الصَّدَقَةَ» . اهـ. فَهَذا الحَدِيثُ الصَّحِيحُ نَصٌّ صَرِيحٌ في أنَّهُ ﷺ كانَ يَأْخُذُ صَدَقَةَ النَّخْلِ تَمْرًا بَعْدَ الجِذاذِ، وقَدْ تَقَرَّرَ في الأُصُولِ أنَّ صِيغَةَ المُضارِعِ بَعْدَ لَفْظَةِ كانَ في نَحْوِ: كانَ يَفْعَلُ كَذا، تَدُلُّ عَلى كَثْرَةِ التَّكْرارِ والمُداوَمَةِ عَلى ذَلِكَ الفِعْلِ، فَقَوْلُ أبِي هُرَيْرَةَ في هَذا الحَدِيثِ المَرْفُوعِ الصَّحِيحِ: «كانَ ﷺ ”يُؤْتى بِالتَّمْرِ عِنْدَ صِرامِ النَّخْلِ»“ . الحَدِيثُ يَدُلُّ دَلالَةً واضِحَةً عَلى أنَّ إخْراجَ التَّمْرِ عِنْدَ الجِذاذِ هو الَّذِي كانَ يَفْعَلُ دائِمًا في زَمَنِهِ ﷺ وهو الَّذِي يَأْخُذُ في الزَّكاةِ ذَلِكَ التَّمْرَ اليابِسَ، فَمَنِ ادَّعى جَوازَ إخْراجِ زَكاةِ النَّخْلِ رُطَبًا أوْ بَلَحًا، فَهو مُخالِفٌ لِما كانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ . وَقالَ ابْنُ حَجَرٍ في ”فَتْحِ البارِي“ في شَرْحِ هَذا الحَدِيثِ المَذْكُورِ آنِفًا ما نَصُّهُ: ”قالَ الإسْماعِيلِيُّ: قَوْلُهُ عِنْدَ صِرامِ النَّخْلِ، أيْ: بَعْدَ أنْ يَصِيرَ تَمْرًا؛ لِأنَّ النَّخْلَ قَدْ يُصْرَمُ وهو رُطَبٌ، فَيُتْمَرُ في المِرْبَدِ، ولَكِنَّ ذَلِكَ لا يَتَطاوَلُ، فَحَسُنَ أنْ يُنْسَبَ إلى الصِّرامِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ﴾، فَإنَّ المُرادَ بَعْدَ أنْ يُداسَ ويُنَقّى، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ“، اهـ. مِنهُ بِلَفْظِهِ وهو واضِحٌ فِيما ذَكَرْنا. وَبِما ذَكَرْنا تَعْلَمُ أنَّ ما يَدَّعِيهِ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ مِنَ المُتَأخِّرِينَ مِن جَوازِ إخْراجِ زَكاةِ النَّخْلِ رُطَبًا وبُسْرًا غَيْرُ صَحِيحٍ، ولا وجْهَ لَهُ، ولا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وأمّا إنْ كانَ التَّمْرُ لا يَيْبَسُ، كَبَلَحِ مِصْرَ، وعِنَبِها، فَقَدْ قَدَّمْنا عَنْ مالِكٍ وأصْحابِهِ: أنَّ الزَّكاةَ تُخْرَجُ مِن ثَمَنِهِ إنْ بِيعَ، أوْ قِيمَتِهِ إنْ أُكِلَ، لا مِن نَفْسِ الرُّطَبِ أوِ العِنَبِ. وَقَدْ قَدَّمْنا عَنِ ابْنِ رُشْدٍ قَوْلًا مَرْجُوحًا بِإجْزاءِ الرُّطَبِ والعِنَبِ في خُصُوصِ ما لا يَيْبَسُ، ومَذْهَبُ الشّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في زَكاةِ ما لا يَيْبَسُ: أنَّهُ عَلى القَوْلِ بِأنَّ القِسْمَةَ تَمْيِيزُ حَقٍّ لا بَيْعٌ، فَيَجُوزُ القَسْمُ، ويُجْعَلُ العُشْرُ أوْ نِصْفُهُ مُتَمَيِّزًا في نَخْلاتٍ، ثُمَّ يَنْظُرُ المُصَّدِّقُ، فَإنْ رَأى أنْ يُفَرِّقَ عَلَيْهِمْ فَعَلَ، وإنْ رَأى البَيْعَ وقِسْمَةَ الثَّمَنِ فَعَلَ، وأمّا عَلى القَوْلِ بِأنَّ القِسْمَةَ بَيْعٌ فَلا تَجُوزُ في الرُّطَبِ والعِنَبِ، ويَقْبِضُ المُصَّدِّقُ عُشْرَها مَشاعًا بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وبَيْنَها، ويَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ مِلْكُ المَساكِينِ، ثُمَّ يَبِيعُهُ ويَأْخُذُ ثَمَنَهُ ويُفَرِّقُهُ عَلَيْهِمْ، وهَكَذا الحُكْمُ عِنْدَهُ فِيما إذا احْتِيجَ إلى قَطْعِ الثَّمَرَةِ رُطَبًا، خَوْفًا عَلَيْها مِنَ العَطَشِ ونَحْوِهِ. وَحُكْمُ هَذِهِ المَسْألَةِ في المَذْهَبِ الحَنْبَلِيِّ فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ يُخَيِّرُ السّاعِي بَيْنَ أنْ يُقاسِمَ رَبَّ المالِ الثَّمَرَةَ قَبْلَ الجِذاذِ بِالخَرْصِ، (p-٥١٩)وَيَأْخُذَ نَصِيبَهم نَخْلَةً مُفْرِدَةً، ويَأْخُذَ ثَمَرَتَها، وبَيْنَ أنْ يَجُذَّها ويُقاسِمَهُ إيّاها بِالكَيْلِ، ويَقْسِمَ الثَّمَرَةَ في الفُقَراءِ، وبَيْنَ أنْ يَبِيعَها مِن رَبِّ المالِ أوْ غَيْرِهِ، قَبْلَ الجِذاذِ أوْ بَعْدَهُ، ويَقْسِمَ ثَمَنَها في الفُقَراءِ. القَوْلُ الثّانِي: أنَّ عَلَيْهِ الزَّكاةَ مِن تَمْرٍ وزَبِيبٍ يابِسَيْنِ، قالَهُ أبُو بَكْرٍ، وذَكَرَ أنَّ أحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ، قالَهُ صاحِبُ ”المُغْنِي“، وهَذا الَّذِي ذَكَرْنا هو حاصِلُ مَذْهَبِ أحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المَسْألَتَيْنِ، أعْنِي الثَّمَرَ الَّذِي لا يَيْبَسُ، والَّذِي احْتِيجَ لِقَطْعِهِ قَبْلَ اليُبْسِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب