الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهْلِها﴾
اعْلَمْ أنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا شَرَحَ بَعْضَ أحْوالِ الكُفّارِ وشَرَحَ وعِيدَهُ عادَ إلى ذِكْرِ التَّكالِيفِ مَرَّةً أُخْرى، وأيْضًا لَمّا حَكى عَنْ أهْلِ الكِتابِ أنَّهم كَتَمُوا الحَقَّ حَيْثُ قالُوا لِلَّذِينِ كَفَرُوا: هَؤُلاءِ أهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا، أمَرَ المُؤْمِنِينَ في هَذِهِ الآيَةِ بِأداءِ الأماناتِ في جَمِيعِ الأُمُورِ، سَواءٌ كانَتْ تِلْكَ الأُمُورُ مِن بابِ المَذاهِبِ والدِّياناتِ، أوْ مِن بابِ الدُّنْيا والمُعامَلاتِ، وأيْضًا لَمّا ذَكَرَ في الآيَةِ السّابِقَةِ الثَّوابَ العَظِيمَ لِلَّذِينِ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ، وكانَ مِن أجَلِّ الأعْمالِ الصّالِحَةِ الأمانَةٌ، لا جَرَمَ أمَرَ بِها في هَذِهِ الآيَةِ. وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: «رُوِيَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمّا دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْحِ أغْلَقَ عُثْمانُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الدّارِ - وكانَ سادِنَ الكَعْبَةِ - بابَ الكَعْبَةِ، وصَعِدَ السَّطْحَ، وأبى أنْ يَدْفَعَ المِفْتاحَ إلَيْهِ، وقالَ: لَوْ عَلِمْتُ أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ أمْنَعْهُ، فَلَوى عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَدَهُ وأخَذَهُ مِنهُ وفَتَحَ، ودَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وصَلّى رَكْعَتَيْنِ، فَلَمّا خَرَجَ سَألَهُ العَبّاسُ أنْ يُعْطِيَهُ المِفْتاحَ ويَجْمَعَ لَهُ السِّقايَةَ والسَّدانَةَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، فَأمَرَ عَلِيًّا أنْ يَرُدَّهُ إلى عُثْمانَ ويَعْتَذِرَ إلَيْهِ، فَقالَ عُثْمانُ لِعَلِيٍّ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَهَبَطَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وأخْبَرَ الرَّسُولَ ﷺ أنَّ السَّدانَةَ في أوْلادِ عُثْمانَ أبَدًا» . فَهَذا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ ومُحَمَّدِ بْنِ إسْحَقَ. وقالَ أبُو رَوْقٍ: «قالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعُثْمانَ: أعْطِنِي المِفْتاحَ فَقالَ: هاكَ بِأمانَةِ اللَّهِ، فَلَمّا أرادَ أنْ يَتَناوَلَهُ ضَمَّ يَدَهُ، فَقالَ الرَّسُولُ ﷺ ذَلِكَ مَرَّةً ثانِيَةً: إنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَأعْطِنِي المِفْتاحَ، فَقالَ: هاكَ بِأمانَةِ اللَّهِ، فَلَمّا أرادَ أنْ يَتَناوَلَهُ ضَمَّ يَدَهُ، فَقالَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - ذَلِكَ مَرَّةً ثالِثَةً، فَقالَ عُثْمانُ في الثّالِثَةِ: هاكَ بِأمانَةِ اللَّهِ، ودَفَعَ إلى النَّبِيِّ ﷺ، فَقامَ النَّبِيُّ ﷺ يَطُوفُ ومَعَهُ المِفْتاحُ، وأرادَ أنْ يَدْفَعَهُ إلى العَبّاسِ، ثُمَّ قالَ: يا عُثْمانُ خُذِ المِفْتاحَ عَلى أنَّ لِلْعَبّاسِ نَصِيبًا مَعَكَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعُثْمانَ: ”هاكَ خالِدَةٌ تالِدَةٌ لا يَنْزِعُها مِنكَ إلّا ظالِمٌ» “ ثُمَّ إنَّ عُثْمانَ هاجَرَ ودَفَعَ المِفْتاحَ إلى أخِيهِ شَيْبَةَ فَهو في ولَدِهِ اليَوْمَ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ نُزُولَ هَذِهِ الآيَةِ عِنْدَ هَذِهِ القِصَّةِ لا يُوجِبُ كَوْنَها مَخْصُوصَةً بِهَذِهِ القَضِيَّةِ، بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ أنْواعِ الأماناتِ، واعْلَمْ أنَّ مُعامَلَةَ الإنْسانِ إمّا أنْ تَكُونَ مَعَ رَبِّهِ أوْ مَعَ سائِرِ العِبادِ، أوْ مَعَ نَفْسِهِ، ولا بُدَّ مِن رِعايَةِ الأمانَةِ في جَمِيعِ هَذِهِ الأقْسامِ الثَّلاثَةِ.
أمّا رِعايَةُ الأمانَةِ مَعَ الرَّبِّ: فَهي في فِعْلِ المَأْمُوراتِ وتَرْكِ المَنهِيّاتِ، وهَذا بَحْرٌ لا ساحِلَ لَهُ، قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الأمانَةُ في كُلِّ شَيْءٍ لازِمَةٌ، في الوُضُوءِ والجَنابَةِ والصَّلاةِ والزَّكاةِ والصَّوْمِ. وقالَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما -: إنَّهُ تَعالى خَلَقَ فَرْجَ الإنْسانِ وقالَ: هَذا أمانَةٌ خَبَّأْتُها عِنْدَكَ، فاحْفَظْها إلّا بِحَقِّها. واعْلَمْ أنَّ هَذا بابٌ واسِعٌ، فَأمانَةُ اللِّسانِ أنْ لا يَسْتَعْمِلَهُ في الكَذِبِ والغَيْبَةِ والنَّمِيمَةِ والكُفْرِ والبِدْعَةِ والفُحْشِ وغَيْرِها، وأمانَةُ العَيْنِ أنْ لا يَسْتَعْمِلَها في النَّظَرِ إلى الحَرامِ، وأمانَةُ السَّمْعِ أنْ لا يَسْتَعْمِلَهُ في سَماعِ المَلاهِي والمَناهِي، وسَماعِ الفُحْشِ والأكاذِيبِ وغَيْرِها، وكَذا القَوْلُ في جَمِيعِ الأعْضاءِ.
وأمّا القِسْمُ الثّانِي: وهو رِعايَةُ الأمانَةِ مَعَ سائِرِ الخَلْقِ، فَيَدْخُلُ فِيها رَدُّ الوَدائِعِ، ويَدْخُلُ فِيهِ تَرْكُ التَّطْفِيفِ (p-١١٢)فِي الكَيْلِ والوَزْنِ، ويَدْخُلُ فِيهِ أنْ لا يُفْشِيَ عَلى النّاسِ عُيُوبَهم، ويَدْخُلُ فِيهِ عَدْلُ الأُمَراءِ مَعَ رَعِيَّتِهِمْ وعَدْلُ العُلَماءِ مَعَ العَوامِّ بِأنْ لا يَحْمِلُوهم عَلى التَّعَصُّباتِ الباطِلَةِ، بَلْ يُرْشِدُوهم إلى اعْتِقاداتٍ وأعْمالٍ تَنْفَعُهم في دُنْياهم وأُخْراهم، ويَدْخُلُ فِيهِ نَهْيُ اليَهُودِ عَنْ كِتْمانِ أمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ ونَهْيُهم عَنْ قَوْلِهِمْ لِلْكُفّارِ: إنَّ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ أفْضَلُ مِن دِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ، ويَدْخُلُ فِيهِ أمْرُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - بِرَدِّ المِفْتاحِ إلى عُثْمانَ بْنِ طَلْحَةَ، ويَدْخُلُ فِيهِ أمانَةُ الزَّوْجَةِ لِلزَّوْجِ في حِفْظِ فَرْجِها، وفي أنْ لا تُلْحِقَ بِالزَّوْجِ ولَدًا يُولَدُ مِن غَيْرِهِ. وفي إخْبارِها عَنِ انْقِضاءِ عِدَّتِها.
وأمّا القِسْمُ الثّالِثُ: وهو أمانَةُ الإنْسانِ مَعَ نَفْسِهِ، فَهو أنْ لا يَخْتارَ لِنَفْسِهِ إلّا ما هو الأنْفَعُ والأصْلَحُ لَهُ في الدِّينِ والدُّنْيا، وأنْ لا يُقْدِمَ بِسَبَبِ الشَّهْوَةِ والغَضَبِ عَلى ما يَضُرُّهُ في الآخِرَةِ؛ ولِهَذا قالَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: ”«كُلُّكم راعٍ وكُلُّكم مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» “ . فَقَوْلُهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ﴾ يَدْخُلُ فِيهِ الكُلُّ، وقَدْ عَظَّمَ اللَّهُ أمْرَ الأمانَةِ في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ مِن كِتابِهِ فَقالَ: ﴿إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ عَلى السَّماواتِ والأرْضِ والجِبالِ فَأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنها وحَمَلَها الإنْسانُ﴾ [الأحزاب: ٧٢] وقالَ: ﴿والَّذِينَ هم لِأماناتِهِمْ وعَهْدِهِمْ راعُونَ﴾ [المؤمنون: ٨] وقالَ: ﴿وتَخُونُوا أماناتِكُمْ﴾ [الأنفال: ٢٧] وقالَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: ”«لا إيمانَ لِمَن لا أمانَةَ لَهُ» “ وقالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرانَ: ثَلاثَةٌ يُؤَدَّيْنَ إلى البَرِّ والفاجِرِ: الأمانَةُ والعَهْدُ وصِلَةُ الرَّحِمِ. وقالَ القاضِي: لَفْظُ الأمانَةِ وإنْ كانَ مُتَناوِلًا لِلْكُلِّ إلّا أنَّهُ تَعالى قالَ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهْلِها﴾ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهَذِهِ الأمانَةِ ما يَجْرِي مَجْرى المالِ؛ لِأنَّها هي الَّتِي يُمْكِنُ أداؤُها إلى الغَيْرِ.
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الأمانَةُ مَصْدَرٌ سُمِّي بِهِ المَفْعُولُ؛ ولِذَلِكَ جُمِعَ فَإنَّهُ جُعِلَ اسْمًا خالِصًا. قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: قُرِئَ ”الأمانَةَ“ عَلى التَّوْحِيدِ.
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ: مِنَ الأماناتِ الوَدائِعُ، ويَجِبُ رَدُّها عِنْدَ الطَّلَبِ، والأكْثَرُونَ عَلى أنَّها غَيْرُ مَضْمُونَةٍ. وعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أنَّها مَضْمُونَةٌ، رَوى الشَّعْبِيُّ عَنْ أنَسٍ قالَ: اسْتَحْمَلَنِي رَجُلٌ بِضاعَةً، فَضاعَتْ مِن بَيْنِ ثِيابِي، فَضَمِنَنِي عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - . وعَنْ أنَسٍ قالَ: كانَ لِإنْسانٍ عِنْدِي ودِيعَةٌ سِتَّةُ آلافِ دِرْهَمٍ، فَذَهَبَتْ، فَقالَ عُمَرُ: ذَهَبَ لَكَ مَعَها شَيْءٌ ؟ قُلْتُ: لا، فَألْزَمَنِي الضَّمانَ. وحُجَّةُ القَوْلِ المَشْهُورِ ما رَوى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”«لا ضَمانَ عَلى راعٍ ولا عَلى مُؤْتَمَنٍ» “ وأمّا فِعْلُ عُمَرَ فَهو مَحْمُولٌ عَلى أنَّ المُودِعَ اعْتَرَفَ بِفِعْلٍ يُوجِبُ الضَّمانَ.
* * *
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -: العارِيَّةُ مَضْمُونَةٌ بَعْدَ الهَلاكِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -: غَيْرُ مَضْمُونَةٍ. حُجَّةُ الشّافِعِيِّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهْلِها﴾ وظاهِرُ الأمْرِ لِلْوُجُوبِ، وبَعْدَ هَلاكِها تَعَذَّرَ رَدُّها بِصُورَتِها، ورَدُّ ضَمانِها رَدُّها بِمَعْناها، فَكانَتِ الآيَةُ دالَّةً عَلى وُجُوبِ التَّضْمِينِ. ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: ”«عَلى اليَدِ ما أخَذَتْ حَتّى تُؤَدِّيَهُ» “ أقْصى ما في البابِ أنَّ الآيَةَ مَخْصُوصَةٌ في الوَدِيعَةِ، لَكِنَّ العامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ، وأيْضًا فَلِأنّا أجْمَعْنا عَلى أنَّ المُسْتامَ مَضْمُونٌ، وأنَّ المُودَعَ غَيْرُ مَضْمُونٍ، والعارِيَّةَ وقَعَتْ في البَيْنِ، فَنَقُولُ: المُشابَهَةُ بَيْنَ العارِيَّةِ وبَيْنَ المُسْتامِ (p-١١٣)أكْثَرُ؛ لِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما أخَذَهُ الأجْنَبِيُّ لِغَرَضِ نَفْسِهِ، بِخِلافِ المُودَعِ، فَإنَّهُ أخَذَ الوَدِيعَةَ لِغَرَضِ المالِكِ، فَكانَتِ المُشابَهَةُ بَيْنَ المُسْتَعارِ وبَيْنَ المُسْتامِ أتَمَّ، فَظَهَرَ الفَرْقُ بَيْنَ المُسْتَعارِ وبَيْنَ المُودَعِ. حُجَّةُ أبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: ”«لا ضَمانَ عَلى مُؤْتَمَنٍ» “ .
قُلْنا: إنَّهُ مَخْصُوصٌ في المُسْتامِ، فَكَذا في العارِيَّةِ؛ ولِأنَّ دَلِيلَنا ظاهِرُ القُرْآنِ، وهو أقْوى.
* *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إنَّ اللَّهَ نِعِمّا يَعِظُكم بِهِ إنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ .
وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ الأمانَةَ عِبارَةٌ عَمّا إذا وجَبَ لِغَيْرِكَ عَلَيْكَ حَقٌّ فَأدَّيْتَ ذَلِكَ الحَقَّ إلَيْهِ فَهَذا هو الأمانَةُ، والحُكْمُ بِالحَقِّ عِبارَةٌ عَمّا إذا وجَبَ لِإنْسانٍ عَلى غَيْرِهِ حَقٌّ فَأمَرْتَ مَن وجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الحَقُّ بِأنْ يَدْفَعَهُ إلى مَن لَهُ ذَلِكَ الحَقُّ، ولَمّا كانَ التَّرْتِيبُ الصَّحِيحُ أنْ يَبْدَأ الإنْسانُ بِنَفْسِهِ في جَلْبِ المَنافِعِ ودَفْعِ المَضارِّ ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِغَيْرِهِ، لا جَرَمَ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ الأمْرَ بِالأمانَةِ أوَّلًا، ثُمَّ بَعْدَهُ ذَكَرَ الأمْرَ بِالحُكْمِ بِالحَقِّ، فَما أحْسَنَ هَذا التَّرْتِيبَ؛ لِأنَّ أكْثَرَ لَطائِفِ القُرْآنِ مُودَعَةٌ في التَّرْتِيباتِ والرَّوابِطِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أجْمَعُوا عَلى أنَّ مَن كانَ حاكِمًا وجَبَ عَلَيْهِ أنْ يَحْكُمَ بِالعَدْلِ، قالَ تَعالى: ﴿وإذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ﴾ والتَّقْدِيرُ: إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم إذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ. وقالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ والإحْسانِ﴾ [النحل: ٩٠] وقالَ: ﴿وإذا قُلْتُمْ فاعْدِلُوا ولَوْ كانَ ذا قُرْبى﴾ [الأنعام: ١٥٢] وقالَ: ﴿ياداوُدُ إنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً في الأرْضِ فاحْكم بَيْنَ النّاسِ بِالحَقِّ﴾ [ص: ٢٦] وعَنْ أنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: ”«لا تَزالُ هَذِهِ الأُمَّةُ بِخَيْرٍ ما إذا قالَتْ صَدَقَتْ، وإذا حَكَمَتْ عَدَلَتْ، وإذا اسْتَرْحَمَتْ رَحِمَتْ» “ وعَنِ الحَسَنِ قالَ: إنَّ اللَّهَ أخَذَ عَلى الحُكّامِ ثَلاثًا: أنْ لا يَتَّبِعُوا الهَوى، وأنْ يَخْشَوْهُ ولا يَخْشَوُا النّاسَ، ولا يَشْتَرُوا بِآياتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا. ثُمَّ قَرَأ ﴿ياداوُدُ إنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً في الأرْضِ﴾ [ص: ٢٦] إلى قَوْلِهِ: ﴿ولا تَتَّبِعِ الهَوى﴾ [ص: ٢٦] وقَرَأ ﴿إنّا أنْزَلْنا التَّوْراةَ فِيها هُدًى ونُورٌ يَحْكُمُ بِها النَّبِيُّونَ﴾ [المائدة: ٤٤] إلى قَوْلِهِ: ﴿ولا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ . ومِمّا يَدُلُّ عَلى وُجُوبِ العَدْلِ الآياتُ الوارِدَةُ في مَذَمَّةِ الظُّلْمِ، قالَ تَعالى: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وأزْواجَهُمْ﴾ [الصافات: ٢٢] وقالَ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: ”«يُنادِي مُنادٍ يَوْمَ القِيامَةِ أيْنَ الظَّلَمَةُ، وأيْنَ أعْوانُ الظَّلَمَةِ، فَيُجْمَعُونَ كُلُّهم حَتّى مَن بَرى لَهم قَلَمًا، أوْ لاقَ لَهم دَواةً، فَيُجْمَعُونَ ويُلْقَوْنَ في النّارِ» “ وقالَ أيْضًا: ﴿ولا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ﴾ [إبراهيم: ٤٢] وقالَ: ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهم خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا﴾ [النمل: ٥٢] .
فَإنْ قِيلَ: الغَرَضُ مِنَ الظُّلْمِ مَنفَعَةُ الدُّنْيا.
فَأجابَ اللَّهُ عَنِ السُّؤالِ بِقَوْلِهِ: ﴿لَمْ تُسْكَنْ مِن بَعْدِهِمْ إلّا قَلِيلًا وكُنّا نَحْنُ الوارِثِينَ﴾ [القصص: ٥٨] .
* * *
(p-١١٤)المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ الشّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَنْبَغِي لِلْقاضِي أنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الخَصْمَيْنِ في خَمْسَةِ أشْياءَ: في الدُّخُولِ عَلَيْهِ، والجُلُوسِ بَيْنَ يَدَيْهِ، والإقْبالِ عَلَيْهِما، والِاسْتِماعِ مِنهُما، والحُكْمِ عَلَيْهِما، قالَ: والمَأْخُوذُ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُما في الأفْعالِ دُونَ القَلْبِ، فَإنْ كانَ يَمِيلُ قَلْبُهُ إلى أحَدِهِما ويُحِبُّ أنْ يَغْلِبَ بِحُجَّتِهِ عَلى الآخَرِ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ لا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ. قالَ: ولا يَنْبَغِي أنْ يُلَقِّنَ واحِدًا مِنهُما حُجَّتَهُ، ولا شاهِدًا شَهادَتَهُ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِأحَدِ الخَصْمَيْنِ، ولا يُلَقِّنُ المُدَّعِي الدَّعْوى والِاسْتِحْلافَ، ولا يُلَقِّنُ المُدَّعى عَلَيْهِ الإنْكارَ والإقْرارَ، ولا يُلَقِّنُ الشُّهُودَ أنْ يَشْهَدُوا أوْ لا يَشْهَدُوا، ولا يَنْبَغِي أنْ يَضِيفَ أحَدَ الخَصْمَيْنِ دُونَ الآخَرِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يَكْسِرُ قَلْبَ الآخَرِ، ولا يُجِيبُ هو إلى ضِيافَةِ أحَدِهِما، ولا إلى ضِيافَتِهِما ما داما مُتَخاصِمَيْنِ.
«ورُوِيَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ لا يَضِيفُ الخَصْمَ إلّا وخَصْمُهُ مَعَهُ» . وتَمامُ الكَلامِ فِيهِ مَذْكُورٌ في كُتُبِ الفِقْهِ، وحاصِلُ الأمْرِ فِيهِ أنْ يَكُونَ مَقْصُودُ الحاكِمِ بِحُكْمِهِ إيصالَ الحَقِّ إلى مُسْتَحِقِّهِ، وأنْ لا يَمْتَزِجَ ذَلِكَ بِغَرَضٍ آخَرَ، وذَلِكَ هو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿وإذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ﴾ .
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وإذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ﴾ كالتَّصْرِيحِ بِأنَّهُ لَيْسَ لِجَمِيعِ النّاسِ أنْ يَشْرَعُوا في الحُكْمِ، بَلْ ذَلِكَ لِبَعْضِهِمْ، ثُمَّ بَقِيَتِ الآيَةُ مُجْمَلَةً في أنَّهُ بِأيِّ طَرِيقٍ يَصِيرُ حاكِمًا ؟ ولَمّا دَلَّتْ سائِرُ الدَّلائِلِ عَلى أنَّهُ لا بُدَّ لِلْأُمَّةِ مِنَ الإمامِ الأعْظَمِ، وأنَّهُ هو الَّذِي يُنَصِّبُ القُضاةَ والوُلاةَ في البِلادِ، صارَتْ تِلْكَ الدَّلائِلُ كالبَيانِ لِما في هَذِهِ الآيَةِ مِنَ الإجْمالِ.
* * *
ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ نِعِمّا يَعِظُكم بِهِ﴾ أيْ نِعْمَ شَيْءٌ يَعِظُكم بِهِ، أوْ نِعْمَ الَّذِي يَعِظُكم بِهِ، والمَخْصُوصُ بِالمَدْحِ مَحْذُوفٌ، أيْ نِعْمَ شَيْءٌ يَعِظُكم بِهِ ذاكَ، وهو المَأْمُورُ مِن أداءِ الأماناتِ والحُكْمِ بِالعَدْلِ.
* * *
ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ أيِ اعْمَلُوا بِأمْرِ اللَّهِ ووَعْظِهِ، فَإنَّهُ أعْلَمُ بِالمَسْمُوعاتِ والمُبْصَراتِ يُجازِيكم عَلى ما يَصْدُرُ مِنكم، وفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرى، وهي أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ في هَذِهِ الآياتِ بِالحُكْمِ عَلى سَبِيلِ العَدْلِ وبِأداءِ الأمانَةِ قالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ أيْ إذا حَكَمْتَ بِالعَدْلِ فَهو سُمَيْعٌ لِكُلِّ المَسْمُوعاتِ يَسْمَعُ ذَلِكَ الحُكْمَ، وإنْ أدَّيْتَ الأمانَةَ فَهو بَصِيرٌ لِكُلِّ المُبْصَراتِ يُبْصِرُ ذَلِكَ، ولا شَكَّ أنَّ هَذا أعْظَمُ أسْبابِ الوَعْدِ لِلْمُطِيعِ، وأعْظَمُ أسْبابِ الوَعِيدِ لِلْعاصِي، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ -: ”«اعْبُدِ اللَّهَ كَأنَّكَ تَراهُ فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإنَّهُ يَراكَ» “ وفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرى، وهي أنَّهُ كُلَّما كانَ احْتِياجُ العَبْدِ أشَدَّ كانَتْ عِنايَةُ اللَّهِ أكْمَلَ، والقُضاةُ والوُلاةُ قَدْ فَوَّضَ اللَّهُ إلى أحْكامِهِمْ مَصالِحَ العِبادِ، فَكانَ الِاهْتِمامُ بِحُكْمِهِمْ وقَضائِهِمْ أشَدَّ، فَهو سُبْحانَهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الغَفْلَةِ والسَّهْوِ والتَّفاوُتِ في إبْصارِ المُبْصَراتِ وسَماعِ المَسْمُوعاتِ، ولَكِنْ لَوْ فَرَضْنا أنَّ هَذا التَّفاوُتَ كانَ مُمْكِنًا لَكانَ أوْلى المَواضِعِ بِالِاحْتِرازِ عَنِ الغَفْلَةِ والنِّسْيانِ هو وقْتُ حُكْمِ الوُلاةِ والقُضاةِ، فَلَمّا كانَ هَذا المَوْضِعُ مَخْصُوصًا بِمَزِيدِ العِنايَةِ لا جَرَمَ قالَ في خاتِمَةِ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿إنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ فَما أحْسَنَ هَذِهِ المَقاطِعَ المُوافِقَةَ لِهَذِهِ المَطالِعِ.
{"ayah":"۞ إِنَّ ٱللَّهَ یَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّوا۟ ٱلۡأَمَـٰنَـٰتِ إِلَىٰۤ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَیۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُوا۟ بِٱلۡعَدۡلِۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا یَعِظُكُم بِهِۦۤۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِیعَۢا بَصِیرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق